غريب عسقلاني
الحوار المتمدن-العدد: 2152 - 2008 / 1 / 6 - 02:28
المحور:
القضية الفلسطينية
المنطار كائن في المكان
هل غادر المكان المكان
رابية هي الأعلى عن مستوى منبسط السهل ومستوى سطح البحر، تطل على دينا الله في الجهات الأربع.. يذهب الإنسان ويبقى المنطار يجدد الرحلة مواسم وعادات وطقوس تتجدد وتتطور بتجدد الأزمنة ويظل المكان حاضنة وقابلة تستقبل المواليد مع أشواق الحياة..
المنطار حكاية وموروث نحمله كما نحمل الدم في الأوردة والشرايين، نبحث عنه في الحواكير والطوابين ومواويل العشاق، وتضرعات الأولياء الصالحين، في كواشين الأرض وأنين السواقي، وتسابيح مياه الآبار العميقة، والمزاريب التي تنظم غيث الله، إلى جداول ومساقٍ تنبه أجنة البذور الغافية في مرابعها، فتورق وتزهر وتفتح وتنتشر أريجاً من زعتر ونعناع وحناء وقرنفل وماء ورد وعبق ليمون وبرتقال, وجنون أعناب ولوز..نبحث عنه في الدروب والزوايا والتكايا، ومجالس الدواوين، ورايات مشايخ يصعدون إلى الضريح حيث المرقد والمقام..
يصبح المكان عادة ومشهد,.فكيف يعود المشهد إلى صدر المكان وقد غابت صواريف الصبر/التين الشوكي وأسيجة الغيلانا، ورائحة الطوابين, وحاووز تتقاعد عن العمل منذ قام لأن أنابيب المياه غيرت سبلها عنه، وفي ظل الخزان ركام بناية إذاعة بثت الأغاني وأشعلت الصدور..قصفوها في الاجتياح ,كما قصفوا الموسم يوم غارة المورتر في 1956،فهل تفتحت العادة بعد خمسين عام مع دم شهداء الشجاعية, والمنطار صام على عشقه.. سكن الأجندة ليعود مع الأبناء والأحفاد الذين أخذوه عن الآباء حكاية, صارت الحكاية مبادرة أطلقت نفيرها وزارة الثقافة النفير فاستجابت لها الوزارات، وابتهجت بها بلدية غزة، وتقاطرت نحوها مؤسسات المجتمع المدني, وكل من له صلة وبه شوق ورغبة
هلتعود الطقوس.
ويصبح الحضور عودة وحقيقة,ويستقبل ويستوعب المكان الأشواق.
هل يعود المشهد.
وكيف ستكون الأجوبة ا بعد نصف قرن ذهب مع الأحزان الكثيرة، والقليل من الأفراح.
موسم المنطار يعود, رغم الإمكانات المحدودة والظرف الاقتصادي الضاغط وتعدد الأولويات والواقع السياسي المعقد الذي يقف عن عقده مفصل تاريخي لئيم..
تعود العادة, تصبح حاله, والميدان شاهد, ويشهد على ذلك، نكهة الغداء الشعبي وتتربع سُماقية الشجاعية الغزية على المائدة تقص الحكايات حتى الشبع.
المنطار يقول: تعالوا ولا تغضوا الطرف عن المهرجان..
لعبت فرقة الدبكة القادمة من دير البلح، وأظهرت فرقة الأقصى بأغانيها ورقصاتها الشعبية أن جيل الشبيبة لم ينقطع عن وريد الأجداد، وأنه شرب الحكاية مع حليب الرضاعة وتمكن منها قبل أن تنبت أسنانه, وقبل أن ينبثق شعر الوجه عند عتبات الرجولة.. الأغاني والأهازيج توالدت وانطلقت مع عفويتها بتلقائية معبرة، حتى في تعثرها أحياناً..
من حضر إلى المنطار ومن غاب؟
هل غابت الخيّالة؟
هل تراجع سباق الجمال وفرسان الهجانة؟
هل غاب صوت الشبّابة أمام غزو الآلات الموسيقية؟
هل تعثرت طوابير الكشافة؟
وهل اعتصم مشايخ الطرف الصوفية في صحن الجامع, ولم يخرجوا إلى الدروب صعداً إلى المنطار؟.
لم تغب الشبّابة وأصدرت مباهجها وأنينها.
ورحبت الدروب بالخيالة والهجانة، رغم عدم جاهزية المكان، وخرج أحباب الله خرجوا بالرايات يضمخهم أريج الذكرى, ويملأ صدورهم نفح الحالة.. غاب المنطار وعاد، والشاهد راية أبو الكاس ترفرف وتنتظر الموكب…
الحالة تعود والمكان لم يغادر المكان.
شيخ اكتفى من المشهد بكرسي عند عرق جدار يلتمس بعضاً من دفء وشيئاً من رائحة ظل الجدار, سألته وقد مضى من عمره أكثر من نصف قرن على آخر موسم شارك فيه:
- هل تصدق أن المنطار سيعود هذا اعلام.
قال الرجل الذي قدرت انه لويحًا أو لاعب دبكة شاطر:
- وهل يعود ما كان؟
تنهد الشيخ, ورقصت على شفتيه ابتسامة قديمة جللت وجهه بالبهاءً، ما الذي طاف بخياله!؟ هل تفتحت في صدره زهرة العمر من جديد, كان في ريعان الشباب يوم تحول الموسم إلى مأتم كبير وبيت عزاء مقيم.. ضحك الرجل وأخذ يراقب الموجودات، يقام غبش عينيه، يظلل جبهته براحة يده, يوجه اشعاعات النهار إلى ناظريه, تضئ على صدره صبابة، يفتقد شبابته، وشبرتيه وحزامة الجلدي العريض, يشتاق إلى حطة وعقال وقمباز معطر بماء الورد.. يستحلب ريقاً عتيقاً هجع على طعم المعمول والكعك وأقراص الغريبة المستحية من هشاشتها وهي تذوب بين شفتيه المولهتين، وكأنها مراسيل شوق وانتظار للأشواق والشهوات..
هذا العام"2006" يعود الموسم, وتدق العدة، ويخرج الناس خلف المشايخ بعد صلاة العصر من جامع عثمان بن عفان باتجاه التل إلى الضريح المبارك/ المبروك.
شيء لله يا سيدي المنطار.
شيء لله يا خميس المنطار.
وشيء لله من كرامة أربعاء أيوب لكل للصابرين والصابرات على البلاء, وضيم الأيام ولهفة انتظار الذرية القادمة من بطن الغيب, والغيب عند علام الغيوب. وما على الناس غير التطهر في ماء البحر حتى سابع موجه, ليبارك الله الحمل وطهور الولد, وأسبوع الزواج يطرد عقما قاسياً.. فالبحر يا غزة هاشم يعمّد الإنسان والحيوان والطير وكل الموجودات, وسيدنا الشيخ رضوان على السوافي شمالاً شاهد مع زنابق الربيع البيضاء مشرعة كؤوس بتلاتها بانتظار الموسم.. ويشهد الشيخ عجلين جنوباً في الكروم البحرية ذات التربة الشقراء وما تجود به من أعناب وفواكه وخضار..
المنطار عرس يتنادى اليه الناس من كل المطارح, ينتظره الناس من الحول إلى الحول، من مضارب بدو السبع إلى دروب يافا بعد روبين إلى حواري الرملة بعد النبي صالح، ووادي النمل عند مقام الشيخ عوض في مجدل عسقلان.
وتل المنطار مرقد ومرصد ومشهد ينداح عند قدميه بساط السهل حتى تخوم النقب بسنابلها ومراح أغنامها، ونايات رعاتها، وهواء سوافي الشيخ رضوان الشمالي المغمس بعبق ملوحة البحر.. ومن الجنوب الغربي يلوح الشيخ عجلين ملوحاً بالسلام والأمان.
***
المنطار الاسم والدلالة:
المنطار أو المناطير من النطرة أو الحراسة والمتابعة والمعاينة، هي تلال ترصد البر والبحر من جميع الجهات, اختارها القائد الفذ صلاح الدين الأيوبي نقاط رباط, ومراصد مراقبة ومحطات تنبيه مبكر عند غزو العدو أو حدوث الهجوم المباغت، حيث يشعل النواطير النار فيتصاعد الدخان ويأخذ الجيش الاستعداد.
ولأن القيادة العظيمة تعتمد على فكر عظيم، يبتكر المناسبات الشعبية والدينية لاجتماع الناس والفرسان, واستعرض فنون الحرب والقتال, وألوان الرياضة البدنية والذهنية والروحية، ومساجلات الفنون الشعبية, وشعراء الربابة، مع الرقص والدبكات، ليكون الموسم كرنفالاً بهيجاً يتجاور فيه الاجتماعي مع الديني والعسكري والرياضي والتجاري. يكون العرض والبازار, وتكون مواكب المشايخ والطرق الصوفية سألت المختار أبا علي:
- كيف كان الموسم في سالف الزمان؟
أخذه الشوق, قال:
يتهيأ الناس منذ فجر الخميس الذي يعقب أربعاء أيوب، بأبهى الحلل يخرجون، ينشر الباعة البسطات، والجوالون منهم يحملون أباريق الشراب القضية والنحاسية والفخارية, كل حسب بضاعته ومستواه الاقتصادي.
مشاريب منها المثلج مثل شراب السوس والتمر هندي والخروب، ومنها الساخن مثل القهوة والشاي والسحلب والقرفة المخلوطة بالزنجبيل.
بائعوا الذرة المشوية والمسلوقة، والترمس والفول النابت والبزر والفستق والتمور والعجوة والكسبة الطالعة طازجة من معصرة الهندي في شارع فهمي بيك..
فواكه الموسم والمكسرات على مختلف أنواعها، حلويات الدور من كعك ومعمول وبرازق وغريبة وقرشلة، والعوامة وكرابيج حلب المغمسة بالقطر الساخن الدبق الفواح برائحة العنبر والمستكة.. كل شئ يُعرض في الموسم.. بضائع ربما لا يلتفت اليها الناس الا يوم الموس, كل الأسواق تدلق بضائعها على أرصفة المنطار.. وكل الفنون تعرض هواياتها وغواياتها..الخيالة والهجانة ولاعبوا التبان، وبهلوانات الألعاب النارية والمجاذيب الذين يقرضون الزجاج ويسفون الرمل ويبلعون المسامير ويبصقون اللهب.. المشهد مثير وغريب عجيب يستمر حتى آذان العصر، حيث يأخذ المشهد بدقات الصدور والقلوب، لتدخل حالة الوجد والاشتياق لأن أحباب الله المشايخ أصحاب الطرق الصوفية سيخرجون بعد الصلاة، يدقون المزاهر والطبول ويرفعون رايات الأولياء الصالحين, ويلعبون بالسيوف والشيش والسنج وينشدون المدائح النبوية على ايقاع ذكر الله ورسوله الحبيب صلى الله عليه وسلم, يشهدون ويجددون البيعة والولاء، تقرباً، يسلمون أمرهم في الدنيا والآخرة لمالك السموات والأرض الذي يقول للشئ كن فيكون..
يسير الموكب صعداً في الدروب الترابية, يتقدمه حملة الرايات ومشايخ الطرق والأتباع والمريدون، ويحيط بهم البهاليل، وأصحاب الكرامات ولاعبوا السيوف السنج الذين يأخذهم الوجد وتحل فيهم الحالة حتى فوران الزبد من الأشواق, فيقعون في العشق حتى يغيبون عن الموجودات, لا مراد لهم غير محبة الحبيب المصطفى ورحمة مالك السموات والأرض..
قال أبو علي:
- سقى الله أيام زمان..
قلت وقد أخذتني الحالة:
- ها هو الموسم عاد والمكان والمطار لم يغادر المكان..
#غريب_عسقلاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟