يرتبط الخوف ارتباطا وثيقا بغريزة البقاء, مما يجعله أحد المشاعر النفسية التي تولِّد إحباطا وتثبيطا عميقين لردود الأفعال, وانحراف هذه الردود عن السبيل السوي لتتلوى في اللاشعور قبل أن تجد لها مخارج لا سوية. وبالتالي فإن الخوف أحد أهم العوامل المعيقة لتطور الشخصية بصورة طبيعية, فتبقى في مستوى اللارشد القسري. والخوف عند الخائف الفاعل (المستبِد) يدفع صاحبه إلى التحفز المستمر لتعزيز السيطرة ودوامها, بينما هو عند الخائف المنفعل (المستبَد به) تقية يعبر عنها بسلوكيات معاوضة. وفي مثل هذه العلاقة بين البشر ينحدر التعايش إلى مستوى بدائي يبتعد بالإنسان عن كل عهود التنوير, ويغرقه في الفقر الروحي... وخلافه.
تتمثَّل العلاقة السابقة بوضوح في ظروف الاستبداد والطغيان. والمستبد يبرر لنفسه الاستحواذ على الآخرين أرواحا وأجسادا. فالعالم يدور في فلكه, ويتحول خوفه إلى جبروت متأهب لسحق من يتجاسر على معارضته. فتدور الرعية - الجماهير مخبولة سكرى, وتغترب في حضورها مثلما تحضر في اغترابها. ولا يمكن لعلاقات الاستبداد أن تحفز الطاقات إلا في حدود صيغ هروبية وهشة يمكن أن تتعرض للانهيار في أية لحظة.
وحتى تستمر الحياة لابد من تحقيق التوازن. وعلى المستبد الأوحد أن يحمل في شخصه أو يُحمَّل تلك الثنائيات المعشعشة في وعي العامة, كالخير والشر والعدل والظلم, وينوس صنمه بين خوف منه وتقديس لشخصه. إنه الملاذ في الحقيقة والوهم, في السراء والضراء.
وهو العريس الأوحد, تدق له الطبول في جوقة هيستيريا جماعية تعبر فيها الجماهير المحشودة عن خوفها وحزنها بالفرح والصخب, وتنكر ذاتها إجلالا لهيبته وجبروته. فالرمز لا يُمس, وهو كائن في كل مكان, فكلماته مسموعة ومقروءة, وصورته حاضرة, وشبحه يحوم, وتجسيداته فزَّاعات تذكِّر به. ومن حوله تستعر نار الغرائز, فالظلم لا حدود له, والعدل مفقود إلا في رمزيته المسكونة فينا, والفقر قدرٌ ينتظر عطاياه وسخاءه, والفساد يحاذي مقامه العالي. نموت ليحيا... ويحيا لأننا أموات.
وعندما يزول المستبد يبقى شبحه متغلغلا في نفوسنا, نلمُّه حين يتبعثر ونفتقده حين يتلاشى! ونحاول التخلص من خوفنا... فنخاف. وتخلصنا منه ولادة صاخبة وخطرة ... مؤلمة ولذيذة...خوف يقطر فرحاً.
في ذروة أحلامنا نتوسد الخوف... فتهرب رؤانا. نرزح تحت عقدة الذنْب, ونقايض بعض الخوف ببعض الأمن, و...نصمت. لا يبرحنا الخوف, فهو فينا, وخارجنا... جنٌّ بلا قمقم.