كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 666 - 2003 / 11 / 28 - 05:04
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
عجبت لعالم لا يمنح علمه .. وجاهل منغلق عل نفسه!
حكمة مندائية
عاش العراق بحدوده الحالية تحت الهيمنة العثمانية ما يقرب من أربعة قرونٍ عجافٍٍ لم تنقذه منها سوى تلك الحرب الاستعمارية التي استهدفت إعادة توزيع مناطق النفوذ, حيث تخلص من الاستبداد والظلم والاستغلال الإقطاعي الشرقي, ومن التخلف والجهل والمرض وعصابات الجندرمة التي كانت تلاحق الناس لجبي الضرائب والإتاوات والتجنيد لحروب الدولة العثمانية. كانت فترة حكم الدولة العثمانية وما قبلها حتى قبل احتلال هولاكو لبغداد بمثابة انقطاع حضاري طويل جداً وغوص في التخلف والظلمات وهيمنة جمهرة من رجال الدين المتخلفين, وليس من علمائه, من مختلف الأديان والمذاهب على مصائر الناس وتحديد اتجاهات تطورهم العقلي والفكري بشكل عام.
لقد حررت الحرب الاستعمارية للفترة 1914-1918 العراق من هيمنة السلطنة العثمانية البغيضة, ولكنها وضعته تحت الاحتلال البريطاني الحديث حينذاك. ولم يكن هدف هذا التحرير إنقاذ الشعب العراقي , بل السيطرة عليه واستغلال موارده وخيراته والأيدي العاملة الرخيصة فيه, إضافة إلى احتكار أسواقه لتصريف السلع البريطانية. ومن أجل تحقيق هذه الأهداف الاستعمارية أجبرت الحكومة البريطانية و رؤوس الأموال البريطانية على التوظيف باتجاهات ثلاثة تخدم مصالحهم الأساسية, وهي:
1. تطوير الهياكل الارتكازية الضرورية لتحقيق الاستثمار الرأسمالي في الاقتصاد والمجتمع العراقي وتحقيق الأرباح المناسبة من اقتصاد النفط ومن المنتجات الزراعية وتسويق السلع البريطانية في السوق العراقي. وقد شملت في نشاطها إقامة طرق المواصلات الحديثة وربط العراق بالعالم الخارجي, ومد سكك الحديد وإنشاء شبكات الكهرباء والماء الصالح للشرب ونصب الجسور وتحسين مستوى النقل البري والنهري ...الخ.
2. المساهمة في تكوين الكوادر العراقية الضرورية المساعدة في إنجاز تلك المهمات وتوفير مستلزمات نشاط رؤوس أموالها وزيادة السيولة النقدية عبر تشغيل الأيدي العاملة لتأمين توسع في حركة الأسواق الداخلية لزيادة تسويق سلعها في العراق. وقد شمل هذا إنشاء المدارس المختلفة إقامة كيان الدولة الحديثة ووضع الدستور العراقي والبدء بإقامة مؤسسات الدولة والجيش والشرطة ...الخ.
3. البدء بتغيير الاقتصاد والمجتمع من خلال ثلاث إجراءات ملموسة رغم بطئها الشديد, وهي:
• الإجهاز على العلاقات الأبوية وتكريس العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية بالريف بهدف توسيع الملكيات الزراعية الخاضعة لكبار الإقطاعيين وجعل هذه الفئة تشكل قاعدة اجتماعية مساندة لها بحكم تأثيرها على الفلاحين, وأغلبهم من أبناء العشائر.
• غلغلة العلاقات الإنتاجية الرأسمالية في الاقتصاد العراقي من خلال رؤوس الموال الأجنبية, وخاصة في قطاعات النفط الخام والتجارة والبنوك وشركات التأمين والرأسمال الربوي.
• فتح الأبواب بحدود ضيقة أمام نمو الرأسمال الوطني والبرجوازية الصناعية وبقية فئات البرجوازية المحلية وبدء نشوء علاقات أولية للمجتمع المدني, سواء من حيث الدستور أو المؤسسات أو المنظمات غير الحكومية والمحاكم ...الخ.
لم تكن هذه الإجراءات كلها تهدف خدمة مصالح الشعب العراقي, بل كانت موجهة لخدمة مصالح بريطانيا والقوات البريطانية ورؤوس الأموال البريطانية في العراق, ولكن استفاد منها الشعب العراقي كنتاج عرضي لتلك السياسات, كما كانت لها نتائج كبيرة جداً, منها على سبيل المثال لا الحصر:
1. دخول الفكر البرجوازي الأوروبي الحديث إلى العراق, بعد أن كان مغلقاً عليه كلية تقريباً, وهو الذي حرك الفكر العراقي, أو بتعبير أدق حرك المياه الراكدة في الفكر والمجتمع والاقتصاد العراقي, وفتح على تلك البحيرة بربخاً صغيراً أو ساقية ضيقة لمياه جديدة تدفع بالمياه الآسنة لتتسرب من البحيرة من الطرف الثاني لها ولو ببطء شديد.
2. البدء بالتعلم التدريجي للصبية والشباب والإطلاع على ما هو حديث من كتب ومجلات وجرائد في البلاد العربية أو في غيرها, ودخول الفكر التقدمي والديمقراطي, بما فيه الفكر البرجوازي الثوري الفرنسي والفكر الماركسي إلى البلاد.
3. البدء بطرح أفكار جديدة حول حرية المرأة ودورها في الحياة والاقتصاد وحول العباءة والسفور وموقف الإسلام منها. ونشب صراع اجتماعي سياسي حاد ومديد بين المتخلفين من رجال الدين والمتفتحين من علمائه, وبين الشخصيات الاجتماعية والسياسية العراقية التي كانت مع حرية المرأة وتعلمها ومساهمتها في الحياة العامة وتخلصها من قيد العباءة والبيت والمطبخ وبين من كان ضد حرية المرأة وتعلمها وما إلى ذلك. وانقسم المجتمع على نفسه وبدأ الوعي الاجتماعي الديمقراطي والتقدمي يتغلغل في صفوفه وتحرك المجتمع بشكل عام بالاتجاه الصحيح في هذه القضية المهمة أيضاً.
4. وفي حينها بدأت لأول مرة تبرز إلى الواقع الاجتماعي النوادي العراقية ومنظمات المجتمع المدني التي تحاول بلورة الأفكار الديمقراطية وتنظيم حياة الإنسان العراقي. ثم برزت من جديد النقابات بصيغتها الحديثة بعد انقطاع طويل جداً.
5. وكان للاحتكاك مع الإنجليز, عسكريين ومدنيين, بالرغم من كونهم ضمن القوات الاستعمارية ومن غير المتواضعين عموماً, دوره المباشر وغير المباشر على تغيير جملة من أخلاقيات وتصرفات الفرد العراقي والمجتمع في المدينة بشكل خاص.
6. حصول تحولات جديدة في بنية المجتمع الطبقية. فإلى جانب الفلاحين بمختلف فئاتهم توسعت قاعدة برزت فئة العمال الأجراء في المشاريع الأجنبية والعراقية, ونمت فئة المثقفين والمتعلمين والمؤثرين على الحياة الفكرية والسياسية, كما اتسعت قاعدة ووزن البرجوازية المتوسطة, ومنها البرجوازية الصناعية. ونشأت مع هذه التحولات الأحزاب السياسية التي سعى كل منها إلى التعبير بهذا القدر أو ذاك عن مصالح تلك الفئات الاجتماعية وعموم الشعب العراقي, إضافة على نشوء أحزاب مدافعة عن مصالح الهيمنة الأجنبية والفئات المالكة لوسائل الإنتاج وبشكل خاص فئتي الإقطاعيين والكومبرادوريين.
لقد فتحت هذه السيطرة الاستعمارية غير المرغوب بها من جانب الشعب الذي قاومها في ثورة العشرين, للعراق نافذة مهمة على العالم, بغض النظر عن الأهداف الأساسية لتلك السيطرة, ولجت منها رياح التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي, الفكري والثقافي والتقني الحديث. ولا بد من الإشارة إلى أن جهوداً كبيرة قد بذلت من جانب النخبة الحاكمة, وبدعم ملموس من الحكومة البريطانية,من أجل الحد من سرعة التطور والتحولات الجديدة في العراق, خشية من حركة التحرر الوطني التي كانت تريد التخلص من السيطرة الاستعمارية المباشرة أولاً وغير المباشرة فيما بعد مع تسريع عملية التطور والتحولات الاقتصادية والاجتماعية المنشودة. ومع أهمية ثورة تموز عام 1958 وما أنجزته في البدء, فأن عصياً غليظة وضعت في طريقها وأعاقت سيرها وتقدمها ثم أطاحت بها وسمحت لوقوع ردة في المجتمع على القيم المدنية في المجتمع التي لم تكن قد استكمل بناء وتكريس تلك المؤسسات والقيم المدنية في العراق الملكي والجمهوري الأول منذ انقلاب شباط عام 1963. ومنذ أن جاء البعث للمرة الثانية إلى الحكم في انقلاب القصر في تموز 1968, بدأت عمليتان متوازيتان جنباً إلى جنب, إحداهما محاولة بناء الاقتصاد والقوة العسكرية من جهة, ومصادرة كل مظاهر المجتمع المدني المتبقية وفرض الاستبداد والهيمنة المطلقة للفكر الشوفيني والعنصري في البلاد من جهة ثانية. وعاش الشعب مأساة الدكتاتورية والحروب والحصار والموت والقتل الجماعي والحرمان والتخلف الواسع النطاق والغوص في مستنقع المياه الراكدة من جديد طيلة ثلاثة عقود ونصف العقد.
وجاءت الحرب الأخيرة التي شنتها الإدارة الأمريكية والبريطانية ضد النظام العراقي الدكتاتوري وأطاحت به وحررت الشعب العراقي من ربقة العبودية للطاغية صدام حسين وزمرته الحاكمة, واحتلت العراق, ووافق مجلس الأمن الدولي على الاحتلال كأمر واقع لتحميل هذه القوات مسؤولية ضمان حماية أرواح وممتلكات وثروات العراق من العبث والتلاعب والنهب من أي طرف كان بمن فيهم المحتلون... الخ.
هل يعيد التاريخ نفسه ولكن بطريقة وقوى واتجاهات وظروف أخرى؟ هذا ممكن ولكن على مستويات واتجاهات أخرى.
إن إسقاط النظام الدكتاتوري فتح الأبواب على جملة من المسائل المهمة نشير إلى بعضها فيما يلي:
1. فتحت الأبواب واسعة أمام حرية الصحافة والفكر والتعبير والتنظيم والتجمع والتظاهر والعبادة وممارسة الطقوس والتقاليد لجميع الأديان والمذاهب والاتجاهات الفكرية والسياسية.
2. فتحت الأبواب أمام دخول وخروج العراقيين بكل حرية ودون قيود أو خشية, وبالتالي فتحت المجال للإطلاع والتعرف على مستجدات الحضارة الحديثة وإمكانية دخولها إلى العراق من أوسع الأبواب.
3. تحريك المياه الراكدة جداً في البحيرة العراقية وفتح المزيد من السواقي الواسعة السريعة الجريان التي تصب في البحيرة الراكدة لتزيح المياه العفنة منها من مختلف الاتجاهات, كما فتحت أبواباً لتسرب سريع ممكن لتلك المياه الآسنة. إن الفكر العراقي الذي كان مغيباً ومتقوقعاً ومحبوساً قد انطلق,وربما انطلق بفوضوية عالية في القول والممارسة, ولكن مع ذلك ستساهم الحياة والعملية الجارية بتنقيته وسيذهب الزبد جفاء وسيبقى ما ينفع الناس على أرض الواقع. إن نوافذ كثيرة فتحت على العراق وعلينا استثمارها لصالح تقدم العراق لذي عاد في فترة البعث إلى ظروف العشرينات والثلاثينات في بعض أهم المسائل الاجتماعية وفي فكر بعض الجماعات الدينية المتعصبة والمتخلفة والمتطرفة وفي الفكر العشائري البدوي.
4. وسوف يتمكن العراق من دفع عجلة التطور الرأسمالي في البلاد, شاء الإنسان ذلك أم أبى. ومن المفيد أن نفهم ونؤثر إيجابياً على وجهة التطور الاجتماعي للعملية الاقتصادية في البلاد بدلاً من أن نضع العصي الغليظة في عجلة التطور الجديدة. ومن المهم جداً أن نسمح بتطور الرأسمال المحلي وأن لا نمنع مشاركة الرأسمال الأجنبي للتعجيل بهذه العملية وفق أسس وضوابط نافعة للاقتصاد والمجتمع في العراق, ولكنها غير معرقلة لمشاركة الرأسمال الأجنبي.
5. إن العراق أمام فرصة جديدة لا تمنحها الحرب ولا يحققها الاحتلال, رغم أنهما فتحا الأبواب لتحقيق مهمات معينة لهما, ولكن في مقدور العراقيات والعراقيين الاستفادة منها لصالح العراق واقتصاده ومجتمعه وتطوره المعجل. إنها عملية معقدة وصعبة ولكنها متوفرة وعلى طريقة تعاملنا مع الأحداث تتحدد إمكانية العراق على الاستفادة من الظرف الجديد.
6. إن القوى التي تمارس العنف والإرهاب في الوقت الحاضر باسم المقاومة لقوات الاحتلال كانت هي السبب في الاحتلال, كما كانت السبب وراء كل المآسي والمحن التي عانى منها الشعب العراقي وما يزال يعاني من تركتها الثقيلة. وفي نشاطها الراهن تحاول إعاقة عملية الاستفادة من الظرف الجديد لصالح بناء المجمع الحر الديمقراطي المزدهر وسيادة مبادئ وشرعة حقوق الإنسان والحقوق القومية المشروعة وإقامة الجمهورية الاتحادية الديمقراطية العراقية.
إن الحرب والاحتلال ووجود القوات الأجنبية حرك المياه الراكد والآسنة, ثم أسقط الخوف إلى حدود غير قليلة, رغم أنه ما يزال عالقاً بأذهان الناس لبشاعته, وأطلق القمقم من سبات طويل, رغم أنه ما يزال يترنح من هول الصدمة والسبات العميق, وما علينا إلا أن نوجه الوضع الوجهة السليمة والديمقراطية في تحركه وتطوره وخدمته للمجتمع العراقي على طريق الحضارة الحديثة وبعيداً عن الفكر المتزمت والمتعصب والمنغلق على نفسه أياً كان مصدره ومقاصده. إنه الطريق الذي يفتح الباب على مصراعيه صوب الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وإنهاء الاحتلال واستعادة العراق لاستقلاله وسيادته الوطنية بأسر وأقرب وقت ممكن.
برلين في 27/11/2003
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟