|
كتاب (الحركة الوطنية في العراق وإضراب عمال الزيوت النباتية)
عبد جاسم الساعدي
الحوار المتمدن-العدد: 2150 - 2008 / 1 / 4 - 11:26
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
الحركة الوطنية في العراق وإضراب عمال الزيوت النباتية الإهداء: إلى شهيد إضراب عمال شركة الزيوت النباتية النقابي "جبار لفتة" ورفاقه في الحركة العمالية. ع.ج الفهرست: المقدمة .................................................................7 الطبقة العاملة في العراق ونشأة الدولة وبناء السلم الاجتماعي .......... 11 الإضرابات العمالية في العراق: أهميتها ودلالاتها الثقافية والسياسية .... 29 الانتماء الشعبي لثورة 14 تموز 1958 وانجازاتها الوطنية ............ 35 العراق بين ثقافتين... ثقافة المجتمع المدني وثقافة العنف .............. 41 إضراب عمال شركة الزيوت النباتية ................................... 59 لماذا الإضراب؟ ...................................................... 60 الإضراب وعوامل بناء الثقة .......................................... 67 انتخاب اللجنة النقابية ................................................ 72 مذكرة الإضراب ..................................................... 75 لحظة الإضراب ...................................................... 79 الهجوم المسلح ...................................................... 82 صيدلية الشركة... الملاذ الآمن ....................................... 83 لحظة القبض عليه ................................................... 85 المعتقل .............................................................. 87 الإضراب عن الطعام ................................................. 89 ابراهيم زاير ......................................................... 89 جبار كردي .......................................................... 91 مذكرتنا الى رئيس الاتحاد العالمي لنقابات العمال ...................... 92 محكمة الجزاء الكبرى ................................................ 93 الإضراب والأحزاب السياسية في العراق ............................... 95 الحركة العمالية ودورها في التغيير ................................... 100 من وثائق الإضراب ................................................. 105 الهوامش .......................................................... 125
المقدمة: مضت على إضراب عمال شركة الزيوت النباتية في 5/11/1968، أربعة عقود. جاء بعد أقل من أربعة أشهر على الانقلاب العسكري البعثي، فقلب المعادلة البعثية وأحدث انكساراً في حملاتهم الإعلامية الرامية لتلميع صورتهم البشعة في انقلاب شباط عام 1963. حمل الإضراب في طياته الأخرى دلالات سياسية عبرت عن قلق العمال وهواجسهم من عودة حزب الخراب والموت والشعارات القومية البائسة التي كان يلتف بها ويجوّز الإقصاء والتصفيات الجسدية لمن يعترض عليها. فانضمّ الإضراب بفعل شروط إعداده والتنظيم الذي تحلّى به والانضباط العالي في الحفاظ على سرية خطواته وشعبيته التي فاقت تصورات اللجنة النقابية ولجنة الإضراب إلى الإضرابات العمالية الكبرى في العراق، إلا أنّ اختراقه الصمت الآخر ودخوله على أطراف اللعبة السياسية في محاولات التسوية وترقيع الخلافات لبسط مقدمات ما سميت بـ "الجبهة الوطنية..." قد أخلّ بموازين المعادلة، ما أدى إلى إهماله عن قصد، فأصبح على هامش الكتابات والدراسات التاريخية عن الحركة العمالية في العراق، كما أهملت مجزرة "السباع" للاحتفاء بذكرى ثورة أكتوبر الروسية، التي اقترفها النظام بعد يومين اثنين من إضراب عمال الزيوت النباتية. لقد أنعشت ذاكرة الإضراب الصلة بالعمال والموظفين الذين كانوا شهوداً على وقائعه، وكانت الاحتفالية الأولى في الهواء الطلق وفي فضاء الشركة نفسها، بعد سقوط النظام في الخامس من تشرين الثاني/ نوفمبر 2003 علامة جميلة على استعادة ذاكرة المكان ورائحة الدخان والعبث بالإنسان، اجتمعت في المكان نفسه أصوات عمالية من الشركة نفسها وأخرى كانت على صلة به، اشتغلت على إحياء ذاكرة الإضراب ونقحت الحروف المضطربة أو تلك التي تآكلت بتقادم السنين... فالكتاب كانت تنقصه وثائق وبيانات وشهادات لا تحتمل ظروف العراق الحصول عليها، كما أثرت محاولات إقصائه وطيّ صفحاته عن الذاكرة العراقية من ولوج مصادر الكتابة عنه، إذ يكاد يكون الإضراب نسيّاً منسيّاً طوال العقود الأربعة الماضية. لابدّ من الإشارة الاستثنائية للمطبوع الذي أصدره الكاتب "فهد ناصر" العام 1999 عن إضراب عمال الزيوت النباتية. حاولنا بالقدر الذي استطعنا إليه العودة إلى المجلات والصحف اليومية أن نلملم أوراقه وبعضاً من وثائقه وتوافرت لدى من بقي من عمال الشركة في اللجنة النقابية ولجنة الإضراب فرصة الحوار واستعادة الذاكرة المشتركة للإضراب. ضمّ الكتاب محاور رئيسة، تناولت نشأة الطبقة العاملة في العراق ودورها في بناء السلم الاجتماعي وما رافقها من حركات وإضرابات عمالية بلورت ملامحها الفكرية والنقابية وجعلها ذات أبعاد استراتيجية في بناء ثقافة المجتمع المدني على ثقافة العنف والخوف والاستبداد. وأخذت ذاكرة الإضراب وتجربة الاعتقال حيزاً مهماً من العودة إلى فضاءات "المكان" المغلق بما يحمله من عسف واستبداد وعزلة عن المحيط والعالم. لا تزال الصور القاتمة وأصوات الرعب اليومي والخوف ماثلة لا تغادر الذاكرة في ظل دولة "قومية" بائسة في شعاراتها والحروب التي اشتغلت عليها. جثمت على صدور العراقيين طوال أربعة عقود، لم نعرف منها غير زمر "المراهقين" والسلاح والعابثين بكرامة الإنسان والمجتمع. نأمل أن يأخذ إضراب عمال الزيوت النباتية مكانه في الدراسات العمالية وأن يحظى بقراءات نقدية تاريخية تناسب حجمه الثقافي واستقلاله من محاولات الاحتواء والضغوط السياسية. وبعد... فتحية لعمال الزيوت النباتية الذين صنعوا الإضراب وحافظوا على أسراره ودافعوا بعزيمة المناضلين عنه. وتحية لصديقنا العامل "غضبان أحمد" الذي رافقنا في الإضراب والاعتقال كما في إعداد الكتاب، وتحية للعامل "شنشل عبد الله" الأصغر عمراً وقتئذ في اللجنة النقابية ولجنة الإضراب. تحية لصديقنا العامل/ الوزير في حكومة إقليم كردستان "رحيم الشيخ علي" لما بذله من جهود عمالية قبل الإضراب وبعده... تحية لكل الأصدقاء والمناضلين في الحركة العمالية واللجان النقابية الذين آزروا الإضراب وحملوه على أكتافهم وفي مشاعرهم وذاكرتهم الجميلة الدافئة في الانتماء للطبقة العاملة وتاريخها المجيد... إلى الأصدقاء الذين أسهموا معنا في توفير المراجع المهمة للكتابة ونحن خارج العراق، منهم الصديق "أبو ذر" عقيل الخزاعي والصديق المحامي "هاشم مجلّي البهادلي". تحية إلى صديقنا المحامي "مؤيد الخطيب" لحضوره الجميل معنا طوال مراحل التحقيق. تحية لقائمة "كفاح العمال" الرائدة في دعم الإضراب وتوفير أجوائه العمالية والحفاظ على استقلاله من دون تدخل أو أي شكل من أشكال الاحتواء والهيمنة. نحيي القوى السياسية التي عبرت عن مواقف التضامن والتأييد، للأحزاب التي دفعت ضريبة الموقف في حملات الاعتقال والمداهمة وتعطيل صحيفة "التآخي" لافتتاحيتها الرائعة وشجاعة المواجهة الصارمة على استبداد النظام وطغيانه على إضراب عمالي قانوني سلمي.
عبد جاسم الساعدي تشرين الثاني/ نوفمبر 2007
الطبقة العاملة في العراق ونشأة الدولة وبناء السلم الاجتماعي
ينشأ سؤال جدلي عن العلاقة ونوعيتها بين طرفين غير متكاملين في المصطلح والمفهوم وفي الحدود المعرفية لكل منهما. وللعنوان ما يبرره من نواح عدة، أهمها: الحضور، حضور الاثنين معاً في ميدان النشأة والصراع، وبناء هياكل تنظيمية وقواعد سلوك وحوار ورؤى نقدية، كما أنّ كلاّ منهما كان يسعى لبناء فضاء ممتلئ يؤكد حضوره وشرعية وجوده واستمالة قوى وكيانات اجتماعية متنوعة. ومن العلامات التاريخية الجميلة في تاريخ العراق الحديث، بأن كلا الطرفين اللذين مرّا في صراعات حادة، كانا يميلان إلى بناء مجتمع مدني ومؤسسات دستورية قانونية من دون الدخول في نزاعات "طائفية" أو "عنصرية". فالطبقة العاملة في العراق، ذات ولادة طبيعية، وظهرت إلى الوجود من خضم الصراع والتنازع في الدفاع عن الحضور نفسه. وعبرت عن وجودها، باعتبارها طبقة تضمّ في سقيفتها اكبر فئة اجتماعية ذات مصالح مشتركة، لا تماثلها طبقة أو فئة أخرى، من حيث التجانس في الأهداف والامتداد الجغرافي من دون حدود أو عقبات طائفية أو عنصرية أو جهوية والسعي لبناء المستقبل وخصائصها المتميزة أبداً في الحركة والحضور والعمل كقوى أساسية في الإنتاج، وما تسمو به على الفئات الطفيلية. فالعمل يأخذ أشكالاً أخرى في بلورة الوعي والحوار والتواصل والكفاح المشترك، انه يشذّب عناصر التخلف والقبلية المتراكمة. تحلّ محلها إضاءات المدنية والعمل الجمعي وأسباب التضامن والشعور بالقوة والتأثير والحضور الإنساني. تأخذنا الوقائع التاريخية إلى قراءة الحركة العمالية في العراق بصورة تحليلية نقدية، تصاحبها تجربة عملية لا تخضع لموقف سياسي أو إصدار أحكام جاهزة أو إسقاط آراء يائسة أو منكسرة، بفعل التراجع السياسي والانكفاء الاجتماعي. فالطبقة العاملة خرجت من طوق العزلة ومرحلة الولادة والنشأة بامتدادات اجتماعية وثقافية مهمة وفاعلة في مرحلة بنائها والتعبير عن نفسها، قوة اجتماعية لها ما يؤهلها بتكوين علاقات نشطة مع المثقفين والأدباء والإعلاميين فكانت مركز الضوء في دائرة التفاعل والحيوية والنمو، للحركات الاجتماعية الوطنية والتقدمية والاشتغال لبناء مكونات العراق الجديد والانتماء إليه. واشتدّ عضد الطبقة العاملة إبانّ مرحلة الصراع والكفاح على الاستعمار والانتداب والمعاهدات الجائرة. السؤال، هل استطاعت الطبقة العاملة أن تحافظ على استقلاليتها وبناءاتها النقابية، أم أنها تعرضت إلى محاولات "البرجوازية" الحاكمة لضمّها والتأثير عليها؟ وكيف تعاملت مع التطورات السياسية اللاحقة والسريعة بعد ثورة 14 تموز 1958؟ سيجد القارئ في صفحات هذا البحث عناصر الجذب والتأثير الخارجية المتنوعة الأشكال لاحتواء الطبقة العاملة وعناصر أخرى تدخل في صلب تكوينها الاجتماعي والثقافي وتصاعد الضغوط للانقضاض عليها... يقول الخباز: (بُذلت محاولات جدّية لإنشاء اتحاد عام على عموم القطر، ولكنّ صعاباً جسيمة اعترضت هذه المساعي النبيلة، وكانت أهمها وقوع بعض النقابات تحت تأثير التيارات البرجوازية (الحرة) والبرجوازية التي كانت تحاول السيطرة الكاملة على الحركة النقابية أو توجهها وفق ما تتطلبه مصالحها المتمثلة اقتصادياً في بقاء جماهير العمال تحت وطأة ظروف وشروط العمل القاسية وانخفاض الأجور وتدني مستوى المعيشة والمتمثلة سياسياً في محاولتها إضعاف الدور القيادي للطبقة العاملة في الحركة الوطنية).[1] أجمع الباحثون والدارسون في ميدان الحركة العمالية والنقابية في العراق، على الريادة الأولى التي تمتع بها النقابي "محمد صالح القزاز" وثقة العمال به، وما أظهره من قدرات حيوية في الحوار والتفاوض وفضّ النزاعات والوعي بمسؤولياته، ابتداء من عشرينيات القرن الماضي. لقد كانت جمعية "أصحاب الصنائع في العراق" أول جمعية منظمة خاضت ميدان الصراع حتى أجيزت العام 1928. ولعبت دوراً قيادياً في تنظيم الحركة النقابية، واكتسبت التأييد المبكر من الشخصية الوطنية "جعفر أبو التمن" والحزب الوطني الذي كان يقوده، ومن خلالها انتشرت حركة تأسيس الجمعيات والنقابات العمالية، مثل: جمعية تعاون الحلاقين وجمعية البقالين وجمعية عمال المطابع وجمعية اتحاد المقاهي والمطاعم والفنادق في بغداد، وجمعيات عدة للعمال في الموصل، كجمعية الخشابين ونقابة البقالين... وقعت جمعية أصحاب الصنائع، تحت تأثير بعض المثقفين الثوريين الذين كان يوجد بينهم من بدأ يتلمس طريقه إلى الفكر الاشتراكي، في مقدمتهم القاص التقدمي محمود أحمد السيد وحسين الرحال وعبد الله جدوع وإبراهيم القزاز، يقول عنهم محمد صالح القزاز: (كانوا يشجعون الحركة العمالية ويساعدونها بكل ما توفر لديهم من سبل).[2] وتنامى الوعي النقابي للحركة العمالية في ثلاثينيات القرن الماضي وأربعينياته، فيما دخلت معترك الصراع برؤية نقدية اجتماعية. فالقراءة التحليلية، لتاريخ الحركة العمالية، تعيد إليها اعتباراتها الاجتماعية دون سواها، وتنفض عنها الغبار الذي راكمته القوى المضادة للطعن بحضورها ووعيها، الذي زحف إلى "المنتمين" إليها والمدافعين بالأمس عن تأريخها بفعل اليأس والتراجع والانكفاء السياسي على المستوى المحلي والدولي. طغى الفشل السياسي بسقوط "الحلم" والمشاريع الجميلة بفعل عوامل الديكتاتورية البشعة في العراق وشعاراتها "القومية" البائسة وحروبها على عناصر "البحث" في إعادة النظر بنسيج الطبقة العاملة ونبضها التاريخي والانتماء إليها. ما أدى إلى ظهور أزمات بنيوية في المجتمع، تشير إلى انتشار ظاهرة العنف والخوف والإرهاب بفعل الانقسامات الطائفية والعنصرية والصراع الحاد على السلطة. ففكر الطبقة العاملة وبناؤها الاجتماعي وتاريخها النضالي يشكل البديل الآخر الذي ينأى بالعراق من الدخول في وحل الصراعات الطائفية وثقافة الذبح والاستئصال. تسعى هذه الدراسة إلى استعادة النبض العراقي الجميل الذي تعلمنا منه ونشأنا في كنفه وفق ثقافة الحوار والانفتاح على ثقافات العالم والمحيط والاعتراف بالآخر والقبول به على مبدأ الحق بالاختلاف والصراع الثقافي. ويمكننا القول، إن تاريخ الطبقة العاملة في العراق منذ نشأتها ومراحل الصراع الاجتماعي الذي خاضته، كانت أحد المصادر المهمة لرفد الثقافة العراقية الجديدة بنزعاتها الإنسانية، ومحوراً من محاور البناءات الفنية في الإبداع على أنواعه في الشعر والقصة والرواية والمسرح والفنّ التشكيلي والنحت وفنّ المقالة... وعاملاً مؤثراً في الوعي والكتابة والانتماء والحضور في برامج الأحزاب الوطنية والمنظمات الاجتماعية والثقافية. فالامتدادات الثقافية والفكرية والاجتماعية للطبقة العاملة، كانت تعتبر من العوامل المهمة في استقلالها ونضجها ورفد حركة الإبداع والثقافة بطاقات خلاّقة، اشتغلت على تأسيس الجمعيات والمنظمات الاجتماعية والسياسية. يقول الدكتور كمال مظهر "نلاحظ تبلوراً واضحاً في عملية تكون الطبقة العاملة العراقية خلال سنوات الاحتلال والانتداب البريطانيين، بحيث يمكن التحدث عن فئة اجتماعية جديدة متميزة إلى حدّ كبير عن جميع الفئات الاجتماعية الأخرى عملاً وكماً ونوعاً"؟ اعتبر المثقفون والمبدعون والباحثون والأكاديميون ميادين الطبقة العاملة فضاءات في حرية الكتابة والانتماء والتواصل مع نسغ الحياة، وبلورة الرأي والموقف. لهذا نجد أعداداً هائلة من الشباب التواقين إلى الحرية، انغمروا في قراءة الصراع وإشكالياته بمستوياته النقابية والعمالية والاجتماعية والسياسية، على الرغم من تعدد انتماءاتهم. فالطبقة العاملة، كانت مدرسة بحق في الحوار وتبادل الرأي، من دون إقصاء، وتأسيس قواعد العمل المشترك والسلوك الاجتماعي والثقافي والانتماء الحقيقي لبناء عراق مستقل، متحرر من الهيمنة والاحتلال والاستبداد. ويمكن ملاحظة الطاقات العراقية المتنورة، ابتداء من عشرينيات القرن الماضي التي وجدت نفسها في خضم الصراع من الحركة العمالية، من دون "استعلاء" منها: عبد الفتاح إبراهيم، وعبد القادر إسماعيل، وحسين جميل وحسين الرحال ومحمود أحمد السيد وعبد الله جدوع وذو نون أيوب وجميل توما ومحمد مهدي الجواهري وكامل الجادرجي وجعفر أبو التمن ومحمد حديد ويوسف متي وروفائيل بطي... ويعتبر عبد الفتاح إبراهيم، أحد العلامات المضيئة في بناء المجتمع المدني في العراق، لما كان يتمتع به من حيوية وقدرات فكرية وثقافية وإمكانات في الحوار والتواصل مع الآخر، والإبداع في تكوين بناءات تنظيمية وتطوير أدائها. بدأ حياته السياسية مع جماعة "الأهالي" عند تأسيسها العام 1932 وأصدر مع جماعة من الشباب المثقف مجلة "العصر الحديث" العام 1936، وكتابه "على طريق الهند" صدر العام 1932، وأعيد طبعة العام 1935، يبين مواقفه الجريئة من الاستعمار وأساليبه، وكان مصدراً مهماً من مصادر البحث الأكاديمي والجامعي ، لما تميز به من طرق علمية في البحث والتحليل. "أما مساهمات عبد الفتاح إبراهيم الفكرية، بدأت بكراس صغير بعنوان "مبادئ الشعبية" ألفه عام 1930ـ1931، وهو الكراس الذي تدارسته جماعة الأهالي، قبل صدور جريدة "الأهالي" وصار يشكل برنامجاً لها أوضحت فيه مفهوم "الشعبية" ومبادئها السياسية والاقتصادية والاجتماعية،... واشترك مع محمد حديد وعلي حيدر سلمان بوضع أربعة فصول من كتاب " الشعبية "، اتخذ فيه الكثير من مبادئ الاشتراكية مع إشادة بها وترغيب بمبادئها معتبراً إياها المبادئ الوحيدة التي يمكنها أن تخدم الطبقات الاجتماعية المسحوقة... "[3] وواصل عبد الفتاح إبراهيم اهتماماته الفكرية في نظرية "الشعبية" فأصدر العام 1935 رسالة، عنوانها "مطالعات في الشعبية". "ولعلّ أخطر ما جاء فيها، ما يتعلق بمفهوم القومية يقول: "إنّ تاريخ القومية ملطخ بالدماء مملوء بالفضائح والمظالم محشو بالأخاديع والأكاذيب... وإن القومية كانت ولاتزال من الأساليب التي تستغل الشعوب بواسطتها لفائدة الفئات الحاكمة وحدها" المصدر نفسه. من المؤكد أنّ عبد الفتاح إبراهيم، استمدّ رأيه في موضوع القومية من حركة القوميات في العالم، وما جلبته من خراب ودمار على الشعوب وما عرف به القادة القوميون من نزعات متأصلة في الحروب والاستبداد وغطرسة عسكرية مضادة للحريات والإبداع. يرى خدوري (ان أفكار الشعبية لم تشق طريقها كما يجب وذلك يعود بصورة رئيسة إلى معارضة السياسيين الكبار والدعاية المضادة من قبل القوميين الذين أعلنوا بعنف أن الشعبية ليست سوى شيوعية تحمل اسماً مختلفاً، لهذا فإنها مناقضة للتقاليد القومية العربية وموجهة نحو تهديم تعاليم الإسلام...). ففي ظلّ القوميات، نشأت الديكتاتورية وثقافة الإقصاء وإلغاء الآخر بالقوة، إنها تمثل البيئة التي تقود إلى العنف والخوف وتحتضن القوى المناهضة للحريات والفئات الرجعية للمحافظة على امتيازاتها في الهيمنة على الزراعة والأرض وبالتالي "الدولة" وتضّم إلى جانبها "الجنرالات" العسكريين. واستوعب عبد الفتاح إبراهيم مبكراً، طبيعة الانقسامات الاجتماعية التي ظهرت في العراق، واعتراضات الإقطاعيين والمنتفعين من الاحتلال البريطاني وقتئذ على نشأة الحركة الاجتماعية الإصلاحية وتغليفها بالرداء القومي المحافظ كما يرددون دائماً شعار المحافظة على "التقاليد والأعراف الاجتماعية". فحينما أعلنت جمعية "الإصلاح الشعبي" برنامجها العام 1937 واجهت فئتين اجتماعيتين متضادتين: "كان واضحاً سواء عن طريق الاجتماعات أو العرائض أو الصحف، بأن العمال والتلاميذ وعامة الناس قد أظهروا حماستهم نحو (الجمعية الجديدة)، لكنّ عدداً كبيراً من ملاكي الأراضي وضباط الجيش والقوميين العرب والطبقات الغنية، عارضوا البرنامج..."[4] واصل القوميون العرب وبعض ملاكي الأراضي ومعظم ضباط الجيش عداءهم لجماعة الإصلاح الشعبي تحت شعار مناهضة الشيوعية...[5] يذكر، أن جمعية الإصلاح الشعبي اعتمدت على مبادئ (الشعبية، ودعت في برنامجها إلى سيطرة الحكومة على وسائل النقل والاتصالات والمواصلات وإسالة الماء والتنوير، وإلى القيام بالمشاريع الصناعية اللازمة للبلاد. ودعت أيضاً إلى سنّ القوانين لحماية العمال وتحديد ساعات العمل بما لا يزيد عن ثماني ساعات في اليوم...)[6] وسجل عبد الفتاح إبراهيم بمعية صاحبه عبد القادر إسماعيل سابقة تاريخية مهمة في المحافظة على استقلالهما الفكري ومواقفهما الإصلاحية في بناء المجتمع المدني الجديد من دون الخضوع للإغراءات الوظيفية والمناصب الحكومية، وعدم الانقياد للنزعات العسكرية الانقلابية، حينما رفضا بقوة قبولهما العرض الذي تقدم به "حكمت سليمان" في ضمّ جماعة "الأهالي" إلى تشكيلته الوزارية إثر ما سُمي انقلاب بكر صدقي العسكري العام 1936 الذي أطاح بحكومة ياسين الهاشمي. فأنهى إبراهيم علاقته مع زملائه حين سلمهم مذكرة تنبأ فيها بقوله "إنكم حطمتم حركتنا عندما مكنتم الجيش من حيازة السلطة ولسوف تدفعون ثمن ذلك".[7] ولعب عبد الفتاح إبراهيم دوراً ثقافياً وفكرياً في تطوير برامج "جماعة الأهالي" و"حزب الاتحاد الوطني" والمنظمات الاجتماعية التي أنشأها. يلاحظ بأنه أسهم في تعديل المادتين الثانية والرابعة من منهاج حزب الاتحاد الوطني في مؤتمره الثاني العام 1947... كانت المادة الثانية تنصّ على "توسيع مجال الحريات الديمقراطية وإنشاء مجتمع مدني ديمقراطي صحيح"، فأضاف إليها الفقرة "ورفع مستوى المرأة ومساواتها بالرجل في جميع الحقوق المدنية والسياسية"، كما أنّ المادة الرابعة التي نصّت على: "تحقيق المساواة بين جميع العراقيين في حقوق المواطنة وواجباتها من غير تمييز في القومية والدين والمذهب" أضيف إليها "وتوسيع المجال لأن يمارس الشعب الكردي في العراق حقوقه القومية في الإدارة المحلية والتعليم وإحياء لغته وسائر خصائصه القومية من دون إخلال بسلامة الوحدة العراقية..."[8] كانت الحركة النقابية والعمالية في العراق، منذ نشأتها في عشرينيات القرن الماضي ولعقود طويلة، مصدراً من مصادر الوعي والكتابة والانتماء إلى الفكر الاشتراكي والطبقي الاجتماعي. فلم تأخذها أو تؤثر على وحدتها الأفكار القومية أو الدينية. اشتغل المثقفون والصحافيون والباحثون في فضاءات الحركة العمالية، يبرزون مظاهر التمييز الاجتماعي والبطالة وتدني مستويات الأجور والمعيشة وتأثيرات الهجرة و أسبابها إلى مدينة بغداد وجور الإقطاع واستبدادهم على الفلاحين. "فوجد الرعيل الأول من الكتاب والمثقفين أنفسهم في خضم الحركة والصراع، يختبرون جدوى دراساتهم وبحوثهم التي أنجزوها في الخارج. وكانت خطط هذه الفئة طموحة، تستهدف الانعتاق من جميع أشكال التبعية للاستعمار، وهي كانت واقعة تحت تأثير الأفكار الديمقراطية للأوساط الليبرالية في الغرب، كما بدأت الآراء الاشتراكية تتسرب إلى صفوفها وتعبر عن وجودها منذ أواسط العشرينيات، وهكذا بدأ المثقفون يهتمون بقضايا العمال مثل غيرهم، كانوا السباقين في معالجة مشاكل البطالة وغزو الأيدي العاملة الأجنبية، من خلال ما نشروا من مقالات على صفحات الجرائد المحلية في وقت مبكر نسبياً".[9] وزخرت الحركة الثقافية بأسماء لامعة في الإبداع والكتابة والترجمة والأعمال الصحافية، باعتبارها رافداً من روافد الحركة العمالية يغذي عناصر وجودها ويدافع عن مطالبها. ويعتبر محمود احمد السيد وحسين الرحال وعبد القادر إسماعيل وسليم فتاح وعبد الفتاح إبراهيم وعبد الله جدوع وذو نون أيوب وأدمون صبري ويوسف متي من الأسماء المهمة التي شغلتها الكتابة في الأدب القصصي والمقالات الأدبية والفكرية، التي تستمد حضورها من الأفكار التقدمية في الدعوة إلى دعم الحركة العمالية وبناء مؤسساتها المستقلة والترويج للاشتراكية والوعي الاجتماعي/ الطبقي. "يمكن اعتبار القاص " ذو نون أيوب"، أول من رسخ تقاليد الواقعية الإنتقادية، وقصصه تمتاز بلغة بسيطة قد تصل إلى لغة الصحافة اليومية، وهي تقف عند معالجة قضايا اجتماعية وسياسية يومية بجرأة نادرة، وقد كتب كثيراً عن العلاقات الطبقية في الريف العراقي".[10] "ولعلّ ما كتب في الجرائد والمجلات ومن ثمّ في (الصحيفة) التي أسسها الرحال، خير مثال من ذلك ما كتب عن حال المرأة المتأخرة وعلاقة ذلك بالعمل، وإذا كانت الصحيفة وغيرها قد عالجت تنظيراً فقط، فانّ محمود أحمد السيد وهو أحد أفرادها قد عالج واقع العمال ومآسيهم من منطلق تقدمي، متأثراً بأفكار حسين الرحال الاشتراكية أحياناً وبأفكار الإصلاحيين الأتراك أحياناً أخرى".[11] زخرت الصحافة بحركة ثقافية وإعلامية لفائدة الطبقة العاملة ومطالبها المشروعة، لتحسين شروط العمل وتوفير الأجواء الصحية ورفع مستويات الأجور وتشريع قانون عمل يوفر للعمال حقوقهم ويحميهم من الاستغلال. كتبت جريدة "الأهالي" مقالة عنوانها "متى يوضع حدّ لشقاء الطبقة العاملة"، حملت فيه الدولة مسؤولية بؤس هذه الطبقة وما تقاسيه من استغلال وجوع وحرمان، وطالبت بوضع حدّ لكل ذلك، في 9 تموز 1934...[12] كانت الصحافة في العقود الأولى من القرن الماضي منبراً للكلمة والرأي ونشر الوعي التقدمي، باحتضان الكتاب الشباب واستيعاب آرائهم وبالدعوة المتواصلة إلى الاستقلال الوطني وتحرير الكادحين والفلاحين والفئات الشعبية الأخرى من الجور والاضطهاد والحرمان، فباشرت بخلق وعي عمالي اجتماعي وسياسي، تناولت أهم القضايا الاجتماعية من زاوية نقدية واقعية وتحريضية، واعتبرت نفسها جزءاً من حركة الوعي والكفاح بمسؤولية الدفاع بالأدلة والحوار والوقائع التاريخية والاجتماعية والانتماء إلى عراق الكادحين والمضطهدين. فكانت النواة الأولى لبناء الأفكار الحرّة والتواقة إلى العدالة الاجتماعية، وتميزت الصحافة نفسها بالتنوع في الكتابة من دون حساسية أو مخاوف، كالتي نجدها عند "القوميين" العرب الذين عرفوا بضيق الأفق والعزلة والاعتكاف عن الآخر، في بعده الثقافي والجماهيري وامتداداته الشعبية. جاء في كتاب "الأهالي في العراق"... إن تطبيق المبدأ القومي لم يفد إلا فئة معينة من الشعب، وهي الطبقة الرأسمالية أو المتوسطة، وأن نصيب العامل أو الفلاح من كده بقي كما كان سابقاً وزادت مسؤوليته...[13] ويمكن ملاحظة ما انشغلت به جريدة "الأهالي" و"صوت الأهالي" و صحيفة "الصحيفة" ومجلة "الحاصد" ومجلة "عطارد". بالإضافة إلى الصحافة العمالية، كان بعضها بمبادرات ذاتية مثل جريدة "العامل"... فما أن حصل صاحبها على امتياز بتاريخ 9 آب 1930 حتى بادر إلى تنظيم مستلزمات إصدارها ووزع بياناً مطبوعاً بهذا الخصوص على الصحافة والأوساط السياسية والاجتماعية، يعلن فيه عزمه على إصدار جريدة العامل، وهي أسبوعية مصورة تخدم العمال وتنظر في شؤونهم والدفاع عن حقوقهم. كان صاحب الجريد عبد المجيد حسن عاملاً في إحدى المطابع الأهلية وعضواً نشطاً في "جمعية عمال المطابع العراقية"، وبقي عنصراً ثابتاً في الحركة العمالية يومذاك..."[14] وجدت القوى الجديدة التوّاقة إلى الاستقلال والحرية وبناء مجتمع جديد نفسها في خضم الصراعات الاجتماعية والسياسية التي تشتغل عليها الحركة العمالية والنقابية بفعل وجودها المباشر وحضورها في ميادين العمل، فامتزجت تجربتان هامتان، إحداهما: ذات أبعاد نظرية بمفاهيم اجتماعية إنسانية ذات صلة بالحركات الثقافية والسياسية في العالم، تكونت من خلال البعثات الدراسية إلى العالم والجهود الذاتية، وتتمثل الثانية، بنشوء طبقة الكادحين وخروجها التدريجي من الأطر الاجتماعية التقليدية، بحسب الكفاح اليومي والمنظم في سياقات تنظيمية، وإن كانت في بداياتها هشّة، إلا أنّ النهضة الاجتماعية وتصاعد وتيرة النضالات المتنوعة على الاستعمار والانتداب والانتهاكات على الحركة النقابية الناشئة، جعلتها أكثر قوة ورسوخاً في المجتمع باعتبارها طرفاً لا يعادله طرف آخر في المجتمع سوى "الدولة" الجديدة. لهذا سنلحظ درجات اقتراب فئات من المثقفين والسياسيين من الحركة العمالية وابتعادها بحسب الإشكاليات الاجتماعية التي تفرضها الطبقة العاملة من جديد بخاصة بعد الحرب العالمية الثانية. تصبح الدعوة إلى مكافحة الأمية في العراق التي دعا إليها "عبد الفتاح إبراهيم" شعاراً اجتماعياً وإنسانياً، يكاد يستجيب إليه جميع المثقفين ورجال الدولة منهم: جعفر أبو التمن ونصرة الفارسي وكامل الجادرجي وفخري الجميل ومحمد حديد وعلي حيدر سليمان ومحمد يونس السبعاوي وعبد القادر إسماعيل وفاضل الجمالي وعبد الكريم الازري وباقر الشبيبي مع عشرات من المثقفين والشخصيات الوطنية والاجتماعية والدينية والسياسية "لا توجد امرأة واحدة بينهم". أذنت وزارة الداخلية لهم بتأسيس "جمعية السعي لمكافحة الأمية في 25 أيلول 1933. تشير إحصاءات العام 1957، أن نسبة السكان الأميين كانت 81.7 في المئة من مجموع السكان فوق سن الخامسة، ثم انخفضت بمقدار 11.8 في المئة خلال السنوات العشر التالية، وأن نسبة الأمية بين الإناث أعلى بكثير مما كانت عليه بين الذكور.. وارتفعت نسبة الأمية في الأرياف إلى 83.9 من مجموع السكان فوق سن الخامسة وما يزيد على نسبتهم في الحضر بمقدار 27 في المئة...[15] وحينما استطاعت الطبقة العاملة في العراق والقوى الاجتماعية الفاعلة تكوين منظمات واتحادات ونوادٍ اجتماعية وثقافية وأصبحت قوة مؤثرة في الاتجاهات السياسية والعمالية، تغيرت أنماط العلاقة بينها وبين القوى الأخرى التي انكفأت على نفسها في شعارات (قومية، تستظلّ بقيادات عسكرية وعشائرية) ابتداء من نوري السعيد وياسين الهاشمي وجميل المدفعي وعدد كبير من الإقطاعيين. بقيت شعاراتها متهافتة غير قادرة على التجديد، بعيدة عن الانتماءات الشعبية وإمكانات استشراف المستقبل لعراق آخر. وظلّ العراق يعاني لعقود طويلة من تلك الشعارات والرهانات على أطراف عربية وأجنبية مضادة أصلاً للحركات الاجتماعية الشعبية. ويمكن القول أنَّ الثقافة في العراق، كانت قاصرة في تحليل الأزمة علمياً وثقافياً بخلق رؤية نقدية تسهم في تحليل ظاهرة "العنف" والخوف واستخدام "الجيش" أداة لقمع حركات التمرد والانتفاضة والاحتجاجات الشعبية، والتاريخ في العراق زاخر بمثل تلك الأدلة التي خرج بها عملياً على الأرض "الجنرال" ياسين الهاشمي في وزارته الثانية العام 1935 إذ استخدم حزبه السياسي "الإخاء" وموظفي الحكومة ورؤساء العشائر "وأبناءهم المسلحين" وبعض قادة رجال الدين من أجل تعزيز قيادته وسلطته الشخصية باتجاه التسلط والديكتاتورية. كما كان حزبه أداة لقمع الحركة النقابية والعمالية والتصدي للإضرابات والاحتجاجات الشعبية، مثلما استخدم انقلابيو العام 1936 الجيش لشنّ هجوم على عشائر الفرات كردة فعل على حكومة ياسين الهاشمي الذي كان يمثل بعض رؤساء العشائر هناك مثل: محسن أبو طبيخ وعلوان الياسري وعبد الواحد الحاج سكر. ولم يتوان "الهاشمي" عند رئاسته الوزارة عن حلّ ما سُمي بـ "البرلمان" وتعطيل الصحف واضطهاد جماهير الشعب. وكانت الشعارات القديمة/ الحديثة، القائلة باسم "الوطنية" والحفاظ على وحدة العراق، لا تعني سوى قمع الحركات الشعبية والمطالب العمالية من أجل تعزيز سلطة الحكومة وتهديد قوى المعارضة. "كادت انتفاضة الشعب في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 1952، أن تقضي على النظام الملكي. ولكن البلاط ووعاظ السلاطين سارعوا إلى امتصاص الثورة الشعبية بإدخال الجيش إلى الشارع لإخمادها... لم يجد الوصي على العرش بدّاً من أن يستخدم الجيش للقضاء على التظاهرات الاجتماعية الشعبية الصارخة، فاستقال مصطفى العمري وأسندت رئاسة الوزارة إلى رئيس أركان الجيش نوري الدين محمود في 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 1952..."[16] فالثقافة في تلك المرحلة قد غلبت عليها الحماسة والانتماء السياسي في الكتابة بطابعها التعبوي التحريضي الذي يسعى للسباق مع الزمن بطيّ مراحل النمو والتدرج الطبيعي في المجتمع، بفعل عوامل الصراع المتسارعة والنشطة في بناء الحركة العمالية والنقابية لإقامة مجتمع جديد، معاصر في علاقاته وانفتاحه على ثقافات العالم، بخاصة في العقود الأولى من القرن الماضي. فكانت الكتابة في حدّ ذاتها متفائلة حالمة، كأنها تقبض على الآتي بلغة رومانسية ومفردات شعبية تستمدّ جذوتها من عناصر التحدي والتظاهرات الشعبية والإضرابات العمالية بما حققته من انجازات كبيرة، أكدت وحدة الطبقة العاملة وإمكاناتها في الحركة والامتداد في العراق كله. فكانت الكتابة على مستوى القصة والرواية لا تخرج عن تأملات الكاتب الواقعية لأزمات الصراع الاجتماعي، أقرب إلى الكتابة الصحافية منها إلى الإبداع. يلحظ القارئ، اختفاء الأبعاد الفنية في الكتابة كاختفاء الكتابة نفسها واندثارها، لخلّوها من نسغ التواصل والامتداد والحوارات أو التأملات الفكرية في عالم ممتلئ بالحيوية والتجديد. فالكتابة في العراق لا تحمل سمات الحوار والمناقشة والعمق في خلق ثقافة حوار ومساجلات فكرية ونقدية، لكونها اعتمدت على أبعاد سياسية بمفاهيم سطحية "جامدة" وشعارات تكاد تكون "مقدسة" بقيت تلازم الصراعات وتخلق العنف والاغتيال والتصفيات السياسية في حملات "العمالة والتخوين" والارتباطات المشبوهة باستخبارات "محلية ودولية" وما إلى ذلك، ما أدى إلى تصفيات جسدية. لا يخلو الأمر من التركة الثقيلة من مضاعفات العمل "السري" والبطش الحكومي والقهر الاجتماعي منذ تأسيس الدولة العراقية. لقد ظهرت طاقات فنية عالية في مستوياتها الفنية والجمالية على مستوى الإبداع والنقد، إلا انها مالت إلى الانحسار لطغيان الثقافة السياسية المباشرة والسريعة في الأداء. وأثرت الثقافة السياسية المحلية القائمة على ردود الأفعال والحماسة في الاعتراض من دون تروٍ أو الأخذ في الاعتبار مستقبل العراق وبناء مكوناته الثقافية والفكرية ودعم الطاقات الفردية المتمردة على الرتابة والجمود والخضوع للظاهرة السياسية، على حركة الإبداع والثقافة بمعناها الجمالي، مثلما أثرت على حركة "النقد". فبقيت الثقافة في العراق محصورة في إطار النصّ الشعري، وغالباً ما كان يعود إلى النصّ التقليدي لإيقاعه الموسيقي ورنينه في القوة والتحدي... لذا يمكن القول، أن الثقافة في العراق قد خلت من الظاهرة النقدية والمساجلات الفكرية التي ظهرت مبكراً في مصر وأخذت أبعادها في الثقافة العربية والثقافات المحلية. فقراءة النصّ النقدي في الشعر الحديث يمكن أن تجده في مصر بآراء ومواقف متنوعة وذات طبيعة فكرية وثقافية وتأملات تدلّ على الهدوء والتروي واحترام الآراء المتنوعة، إلا أن نصّ الإبداع نفسه يمكن أن تجده في العراق... وتطالعنا انجازات الحركة النقابية والعمالية في العراق على مستوى الأحزاب والاحتجاج والمطالبة بتشريعات عمالية تضمن الحقوق الأساسية للعمال والسمات الوطنية في الموقف من الاستعمار والاحتلال وتكوين رأي وطني تقدمي متحرك في خضم الكفاح والنضالات العمالية، طوال العقود الأربعة من تأسيس الدولة العراقية، إذ أنها احتسبت في خانة "اليسار" واليساريين بل و"الحزب الشيوعي" العراقي. فلم يسعَ إليها الآخرون أو يعتبرونها انجازاً وطنياً عراقياً يدخل في صلب النهضة والتحول الاجتماعي في العراق، بل أرادوها قاعدة ووسيلة لشعاراتهم السياسية، وحينما كانت عصّية على الضم والاحتواء، ناصبوها العداء والتحريض بخاصة أن أعداداً كبيرة من رؤساء العشائر والأحزاب والإقطاعيين وقادة الجيش، قد غاضهم الحضور العمالي بطابعه التحرري. عندما أدرك أقطاب المعارضة القوة الكامنة في جماهير العمال وصغار الحرفيين، حاولوا احتواء الجمعيات التي كانت تعمل من أجلها أو تنطق باسمها، وقد بلغ الأمر بزعيم الاخائيين، ياسين الهاشمي، أنه خطط لتحويل "جمعية أصحاب الصنائع" إلى أداة فاعلة بيد المعارضة عندما عرض على رئيسها القزاز الموافقة على تحويل الجمعية إلى فرع تابع لحزب الإخاء الوطني".[17] لقد أدت سياسة الاصطفاف والخانات السياسية إلى إهمال الآخر وتجاهله والانقضاض عليه إذا ما دعت الضرورة وتوافرت الفرص الممكنة. لهذا لم تستفد الحركة النقابية والعمالية في العراق من الطاقات الوطنية والثقافية العراقية في أبعادها الاجتماعية والنقدية، وكأنها كانت تعاني الانحسار نفسه باستثناء مدة قصيرة أطلت بها جماعة "الأهالي" باتجاهاتها الوطنية المعروفة، إلا أنها تراجعت في دعم الحركة العمالية بفعل الانقسامات التي ظهرت بشأن الموقف من الحركة نفسها. … أعلن عمال شركة كركوك إضرابهم الرائع في 1/7/1946، بعد أن رفضت الشركة الاحتكارية مطالبهم المشروعة التي كان من أهمها: إجازة النقابة وزيادة الأجور وتوفير وسائط النقل... أطلقت قوات الشرطة الرصاص على المحتجين ووجهت النار إلى صدور وظهور العمال، فقتلت ستة عشر عاملاً وجرحت العشرات واعتقلت قادة الأحزاب... نظم العمال في اليوم التالي للمجزرة 13 تموز 1946 إضراباً سياسياً عاماً في كركوك، حملوا شهداءهم على الأكتاف وساروا في تظاهرة...[18] إلا أنّ حزب "الاستقلال" كان له رأي آخر (... نشير إلى ما تركه انقسام حزب الاستقلال على أثر موقفه من حادثة كاورباغي التي سقط فيها عدد كبير من العمال بين قتيل وجريح برصاص الشرطة والتي استقالت حكومة أرشد العمري بسببها... حاول الحزب أن يستنكر موقف الحكومة ويدين فعلتها فوجد نفسه منقسماً، إذ استقال بعض أعضاء لجنته العليا على احتجاجه واستنكاره للجريمة! ومع أنّ الحزب كان معتدلاً في موقفه ولهجة احتجاجه، إلا أنّ خليل كنه أحد الأعضاء المستقيلين لم يكتف بالاستقالة من الحزب، بل أعلن معارضته لموقف أعضاء اللجنة العليا الذين نددوا بموقف الحكومة وأدانوا تصرفها...[19]
الهوامش: 1) نصف قرن من تاريخ الحركة النقابية في العراق، الخباز، ط1، بغداد 1971، ص54. 2) الطبقة العاملة العراقية/ التكون وبدايات التحرك، د. كمال مظهر، دار الرشيد ـ بغداد، 1981، ص142. 3) جذور الفكر الاشتراكي والتقدمي في العراق 1920ـ1934، عامر حسن فياض، بيروت 1980، ص167. 4) محمد جعفر أبو التمن، الوراق للدراسات والنشر، د. خالد التميمي، دمشق 1996، ص408. 5) المصدر السابق نفسه، ص411. 6) كامل الجادرجي ودوره في السياسة العراقية، د. محمد الدليمي، بيروت 1999، ص83. 7) محمد جعفر أبو التمن، الوراق للدراسات والنشر، د. خالد التميمي، دمشق 1996، ص397. 8) أحزاب المعارضة العلنية في العراق 1946ـ1954، د. عادل غفوري، ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشرـ1984، ص92. 9) الطبقة العاملة العراقية/ التكون وبدايات التحرك، د. كمال مظهر، دار الرشيد ـ بغداد، 1981، ص234. 10) قصاصون من العراق: دراسة ومختارات، سليم عبد القادر السامرائي، بغداد 1977. 11) دراسات عن الطبقة العاملة في البلدان العربية، العدد 3، الجزائر1982، ص586. 12) جذور الفكر الاشتراكي والتقدمي في العراق 1920ـ1934، عامر حسن فياض، بيروت 1980، ص234. 13) جريدة الأهالي، 1/7/1932. 14) الطبقة العاملة العراقية/ التكون وبدايات التحرك، د. كمال مظهر، دار الرشيد ـ بغداد، 1981، ص156. 15) مشكلة السكان... العراق، الأنصاري، دمشق 1980، ص309. 16) جماعة الأهالي في العراق، فؤاد حسين الوكيل، دار الرشيد للنشر ـ بغداد 1979، ص73. 17) الطبقة العاملة العراقية/ التكون وبدايات التحرك، د. كمال مظهر، دار الرشيد ـ بغداد، 1981، ص228. 18) نصف قرن من تاريخ الحركة النقابية في العراق، الخباز، ط1، بغداد 1971، ص58. 19) تطور الحركة النقابية في العراق، هاشم علي محسن، الجزء الثالث، ص43.
الإضرابات العمالية في العراق أهميتها ودلالاتها الثقافية والسياسية
اتسمت الحركة النقابية في العراق منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 وطوال العهد الملكي بأشكال متنوعة من النضال والصراعات الاجتماعية بدلالاتها الثقافية والسياسية، لأنها كانت تهدف أولاً إلى تأسيس قواعد عمل تنظيمية، سواء أكانت سرية أم علنية، الغاية منها الإحاطة بالعمل النقابي وتوسيع المشاركة فيه والاستجابة لمطالب العمال جميعاً. فالبدايات لا تخرج عن هذا الفضاء، ابتداءً من تأسيس "جمعية أصحاب الصنائع" وبروز الشخصية النقابية المستقلة (محمد صالح القزاز)، الذي كان نموذجاً للعمل النقابي بطابعه الوطني واستشرافه المستقبل. "... إن القوى الرجعية التي رفضت منحهم ترخيصاً بفتح نادٍ باسم "نادي العمال" رفضت أيضاً منحهم الإجازة باسم "جمعية العمال العراقيين" وطلبت منهم حذف اسم العمال من الجمعية. فعلوا ذلك بقصد الحصول على الإجازة وظفروا بالإذن الرسمي المطلوب لجمعيتهم "جمعية أصحاب الصنائع العراقية"... " كانت لولب حركة الجمعيات وقائدة لاتجاهها الوطني وكان على رأسها الحاج محمد صالح القزاز عام 1931، وكان يُنتخب لرئاستها سنوياً...[1] ولعبت الجمعية دوراً قيادياً رائداً في نشر المعرفة العمالية والقانونية لضمان حقوق العمال وعوائلهم، وكان ذا أثر ثقافي واجتماعي يتخطى الحدود المحلية إلى الثقافة العمالية في العالم، إذ نصّ مشروع قانون العمل العراقي الذي قدمه محمد صالح القزاز في 13/3/1931 إلى رئاسة مجلس الوزراء والنواب ووزراء الداخلية والعدلية والاقتصاد والمواصلات على تحسين شروط العمل وتحديد ساعاته وتقديم ضمانات اجتماعية لهم ولعوائلهم، ثم أضاف مواد جديدة تدخل فيها مواد تدريب العمال وبعثات توفدها الحكومة إلى الخارج. وكانت المادة (13) دعت إلى تقسيم البعثات التي توفدها الحكومة على حسابها إلى صناعية وعلمية وتكليف الشركات النفطية وإدارتي الميناء والسكك الحديد بإيفاد عدد معين من العمال سنوياً لتحصيل العلوم المختصة على حساب تلك الشركات... واشتملت المادة (15): زيادة عدد المدارس الصناعية في القطر وإنشاء شعب ليلية عالية لتدريس العلوم الميكانيكية مجاناً للعمال المستخدمين في العمل نهاراً. أما المادة الثانية عشرة، فاحتوت على بناء منازل بشروط صحية للعمال الذين يعيشون خارج المدينة والاعتناء بأحوالهم...[2] استطاعت الحركة النقابية أن تبلور ملامحها وتحدد أهدافها في خضم الصراع والمواجهة الدائمة، كطرف كان الأولى والطبيعي جداً أن يكون مع "الإدارات" والمؤسسات المحلية للشركات والمصانع وأصحاب العمل، إلا أن تطور أشكال النضال الاجتماعي والطبقي جعلها تواجه "الحكومة" بكل وسائلها وأدوات قهرها وإجراءاتها والتشريعات والقوانين المضادة التي كانت تصدرها بين الحين والآخر، بل بلغ الأمر أحياناً، أن الحكومة نفسها قد ترحل إلى مكان الإضراب والاعتصام وتتابعه لحظة لحظة، كما حدث في إضرابات السكك والميناء والنفط، وتصدر أوامرها القمعية في الحال. فاكتسبت الحركة النقابية بعداً إضافياً مكنها من الحضور والتفاعل مع الحركة الوطنية، باعتبارها مصدراً من مصادر الوعي والتعبئة والنضال والتحرر الوطني واستقلال العراق. "اتسع تأثير الحركة النقابية وتعاظم نفوذها الجماهيري وامتد إلى القوى الوطنية، فعندما تشكلت الجبهة الوطنية للانتخابات النيابية، كانت الحركة النقابية من أهم أركانها. إن الحركة النقابية كانت منظمة في حلقات ولجان نقابية قيادية، وتمارس نشاطها العلني، رغم أنّ نقاباتها غير مجازة رسمياً، وتقودها نخبة من أبرز النقابيين المعروفين..."[3] ومما له أهمية في هذا الشأن أنّ التفاعل بين النقابي والسياسي كان يجري باضطراد ايجابي ـ في مراحله الأولى، إلا أنه سيتعرض إلى الانحسار في مراحل لاحقة بفعل الصراعات والانقسامات الاجتماعية والسياسية والحزبية التي تجد تأثيراتها في العمل النقابي. لابدّ من القول، أنّ قيادات عراقية وطنية ومثقفين، كانوا يعتبرون الظهير السياسي والثقافي للحركة النقابية، يغذون روح العمل والتفاؤل والتعاون بين العمال لبناء حركتهم النقابية، وينشرون آراء ومبادئ ومطالب العمال بالانفتاح على الحركة النقابية العربية والعالمية، لأنّ القيادات العمالية كانت ناشئة وحديثة العهد بالعمل النقابي وشروطه، كما أن الظروف السياسية المحلية القائمة على القمع والاضطهاد لم توفر الفرص المناسبة للتطور والتفاعل مع الحركات النقابية في العالم، لهذا كانت محاصرة، تعاني من انتهاكات الدوائر الأمنية وملاحقاتها الدائمة على العمال النقابيين. ومما له دلالته الثقافية والفكرية اهتمام الأدباء والمثقفين والنقابيين والصحافيين في الحركة النقابية في العراق، ولعلّ جريدة "نداء العمال" في عددها الأول 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 1930 يعبر عن هذا الطموح والمؤازرة، صاحبها عباس حسين آل الجلبي، رئيس جمعية عمال المطابع العراقية ومديرها المسؤول المحامي توفيق الفكيكي، عرّفت نفسها بأنها "صحيفة اجتماعية انتقادية أدبية نصف شهرية مصورة" وهي "لسان حال العمال الناطق وسلاحهم الأدبي غايتها خدمة العمال في جميع البلدان العربية". تصدر صفحتها الأولى "على سواعد العمال يشاد كيان الشعوب وبنهضتهم تذاب قيود الظلم وأغلال الظلالة "الضلالة". جاء في افتتاحيتها "نداء العمال": "كان بودنا منذ زمن غير يسير أن ننشئ جريدة تنطق بلسان العمال وتخدم مصالحهم وتروج مقاصدهم وتعبر عن آرائهم منذ رأينا في هذه البلاد جمعيات للعمال تؤلف وأندية تقوم وحركة يدوي دويها ونهضة تورق أغصانها، ولكن حالت دون ذلك حوائل وقامت في وجهنا عقبات كأداء استطعنا بفضل اليقظة العامة والثبات والمثابرة على المبدأ أن نتغلب عليها في النهاية. … تصدر هذه الجريدة على أسس المبادئ الصحيحة وعلى قاعدة، التضحية في سبيل طبقة نحن من أبنائها ونحن أدرى بحاجتها وآذاننا أرهف من كل أذن لاستماع "شكاياتها" وقلبنا أكثر حزناً من كل قلب لأناتها، فجريدتنا جريدة مبدأ وتضحية واعتزام على كل شيء في سبيل خدمة الوطن المقدس"[4] ويبدو أنّ مؤسس الحزب الشيوعي العراقي "فهد" يوسف سلمان يوسف، كان "مدرسة" نقابية عمالية ذات طبيعة ثقافية فكرية تعنى بإعداد الكادر النقابي وتربيته وبث روح العمل الجماعي لتأسيس مبادئ وقيم عمالية تصلح أن تكون عناوين للنضال والكفاح في سبيل إنشاء حركة نقابية متطورة تعتمد على نفسها في انجاز مهامها النقابية والعمالية. وساعدته في ذلك النتائج العامة التي انتهت إليها الحرب العالمية الثانية بانتصار "الحلفاء" على دول المحور فاتجه نحو الحركة الإصلاحية كاسلوب من أساليب الانغمار بالعمل النقابي والدفاع عن واقع العمال ومصالحهم... فبدأ نضال الحزب العملي بعد العام 1943، يتخذ شكلاً اقتصادياً إلى حدّ ما، فجمع الحزب العمال في نقابات وقادهم إلى الإضرابات وجاهد لتحسين أوضاعهم المعيشية وكسبهم من خلال هذه العملية إلى جانب قضيته. من أصل 16 نقابة عمالية مرخصة في الفترة 1944ـ1945 كانت هنالك اثنتا عشرة نقابة واقعة تحت السيطرة المباشرة للحزب وكانت مسودات برامج هذه النقابات قد كتبت بخطّ يد "فهد" نفسه...[5] كان خطاب "فهد" النقابي يتسم بلغة إصلاحية تقريرية برزمة من التوجيهات والمطالب والدعوات الإصلاحية "إننا نطلب إلى رفاقنا العمال الذين قدموا طلبات بتأليف نقابات أن: 1) يميزوا طلبهم بعريضة يرفعونها إلى رئيس الوزراء مصحوبة بمضابط تأييد من مئات وألوف العمال المستعدين على توقيعها. 2) تأليف وفد كبير من المؤسسين ومن عمال صناعاتهم لمقابلة المراجع المسؤولة ـ وربما من الأوفق أن يحمل هذا الوفد عريضة التمييز إلى رئيس الوزراء. 3) أن يحدد عمال بغداد يوم الإضراب ويسموه يوم النقابة في حالة عدم إجابة طلباتهم خلال مدة معلومة لا تزيد على الخمسة عشر يوماً...[6] … على الراغبين في الحركة النقابية الراهنة، بعد أن يتفهموا جيداً صفتها النقابية وطابعها التنظيمي والظروف المحيطة بها أن يبدأوا جهودهم لإتمام الشروط (الواجبات) التي تتطلبها الحركة في مرحلتها الأولى وهي تأسيس وتثبيت النقابات وهذه الشروط هي: فمن الضروري أن تضمّ الحركة النقابية جميع المشاريع وجميع أصناف العمال وأن تصبح كلمة "النقابة" شعار العمال اليوم وأن يتغلغل الواعون بين جميع أقسام العمل وفي جيوبهم قانون العمال ونظام أحدى النقابات فيشرحون لهم فوائد النقابة وضرورتها، بالنسبة لحياة العمال في الحال والاستقبال وعليهم أن يحملوهم على تأليف النقابات ويرشدوهم ويساعدوهم على وضع أنظمة النقابات ويبسطوا لهم كيفية تقديمها والمراجعة المستمرة المقتضية للحصول على الرخصة...[7]
الهوامش: 1) تطور الحركة النقابية في العراق، هاشم علي محسن، بغداد 1966، الجزء الأول، ص21 و25. 2) الطبقة العاملة العراقية/ التكون وبدايات التحرك، د. كمال مظهر، دار الرشيد ـ بغداد، 1981، الملحق رقم 3. 3) نصف قرن من تاريخ الحركة النقابية في العراق، الخباز، ط1، بغداد 1971، ص101. 4) جانب من النضالات العمالية، تاريخ الطباعة في العراق، شهاب أحمد الحميد، الجزء الثالث، 1929ـ1958. 5) العراق، حنا بطاطو، الجزء الثاني، ص264. 6) من وثائق الحزب الشيوعي العراقي/ كتاب الرفيق فهد، الفارابي ـ بيروت 1976. 7) العراق، حنا بطاطو، الجزء الثالث، ص304.
الانتماء الشعبي لثورة 14 تموز 1958 وانجازاتها الوطنية
تمدّنا تجربة النشأة والوعي والانتماء لثورة الرابع عشر من تموز العام 1958 في العراق حرية الكتابة واستعادة الماضي لتكون فضاء نقدياً واسعاً للبحث والدرس والمقارنة من أجل الإسهام في إعادة بناء العراق وإعادة الاعتبار لجماهيره الشعبية بعد عقود طويلة من الحرمان والقمع والخوف وفي خضم هذا الذي يجتاح العراق ويهدد وجوده وأبعاده الحضارية والإنسانية وبناءاته الوطنية. ولعلّ التجربة الطويلة بين بزوغ فجر الثورة وتجربة اليوم، تمنح الباحثين من ذوي المناهج العلمية في البحث أهمية العودة إلى مضاعفات "التطرف" ونتائجه في شعاراته "القومية" الحادة برفض المشروع الوطني العراقي والدخول الطوعي في مشاريع دول أجنبية وعربية وإقليمية في العمل لإجهاض الثورة الفتية والانقضاض عليها. وكذلك الشعارات "الإسلامية" التي بلغت حدّ إصدار "الفتاوى" الدينية "للاجتهاد" في تصفية الآخر واستئصال وجوده بضمانات وضغوط سياسية محلية ودعائم إقليمية لتخريب العراق، وتحويله إلى "بؤرة" للفتن والجهل والاقتتال الطائفي. وإن استثنِ طرفاً فلا استثنِ "الاحتلال" الأجنبي بمشاريعه الإستراتيجية لإعادة احتلال المنطقة بكاملها والاستحواذ على مواردها النفطية، ناهيك عن الانتهاكات اليومية التي تمارسها على المواطنين وسلب حرياتهم مثلما فعلت في الاشتغال عملياً على هدم ما بقي من مؤسسات الدولة وتخريبها من دون أن يرفّ لها جفن! إنّ هذه المقدمة، إنما تمثل حصيلة الألم والمعاناة لا على مستوى الأفراد فحسب، بل الجماعات البشرية المتآلفة في العراق بسحق قيمها الاجتماعية والدينية والثقافية والأخلاقية، فهي لا تقوى على المواجهة ولا تساعدها على إنقاذ جار من هجرة قسرية ولا إمكان التحدث أو نقد الظاهرة. لقد أصبح الانسحاب إلى "الذات" والاعتكاف في الدار أولى للسلامة من الظهور بقامة الإنسان و"فحولته" الممتلئة بالقيم والتعاليم الدينية والأخلاقية والتجربة الإنسانية. فكفّ اللسان عن الحديث خشية "العلاّسيين"* إنّ الحال التي يشهدها العراق اليوم لا تخلو من بعض عناصرها من تأثيرات دولية وظاهرة عنف إسلامية متطرفة، يمكن أن تماثلها ظاهرة الذبح والموت في الجزائر التي ظهرت بعد إلغاء الحكومة نتائج الانتخابات العامة، إذ حققت "جبهة الإنقاذ" فيها فوزاً واضحاً في بداية التسعينيات من القرن الماضي، واستمرت على أشدّها لحوالي عشر سنين متتالية ولاتزال أحداث الموت تتكرر بين الحين والآخر، وكذلك في "مصر" و"سورية" في أوائل الثمانينيات وفي "اليمن" و"السعودية"، بمعنى أن ظاهرة التطرف الإسلامي أصبحت ذات سمة وملامح دولية. إننا إذ نذكر ذلك، إنما للتدليل على أنّ "التطرف" السياسي والديني بكل أنواعه وشعاراته لا يمتّ إلى الحركة الجماهيرية بصلة، بل ينتزع منها المكاسب والإنجازات التي حققتها ويشتغل على انحسارها وتجريدها من حقها في التمتع بالحياة، فالتطرف يتناقض مع الأبعاد الإنسانية في الحضور الاجتماعي والثقافي والإضافات الممكنة التي تقدمها الحركات الجماهيرية إلى الإنسان والحياة ويحرمها من حقّ ممارسة دورها في التنظيم الاجتماعي والنقابي والتطور المعرفي وتحقيق الضمانات الاجتماعية والقانونية في الحضور المتساوي والمتكافئ مع أبناء الوطن الواحد، لا أمام "القانون" فحسب، بل في العدالة الاجتماعية وتوفير فرص المعرفة والتعليم والتدريب والإعداد العلمي الصحيح في الاندماج بالمجتمع من دون فوارق اجتماعية وثقافية... لقد كانت ثورة الرابع عشر من تموز العام 1958 واضحة في هويتها الاجتماعية والثقافية والوطنية، قبل التنازع السياسي المتطرف على حملها هدية إلى بلدان عربية وإقليمية وأجنبية لاغتيالها والانقضاض المنظم على إجهاضها منذ الشهور الأولى لولادتها الطبيعية. فجماهير العراق وحدها التي حملتها بدمائها تدافع عن حضورها وانتمائها الاجتماعي تردّ عنها كيد المتربصين للإطاحة بها، لأنها كانت معبأة طوال عقود بمشاعر الضيم والجور وانتهاكات الإقطاعيين وأعوانهم ولا شكّ أنّ "بؤس" هؤلاء المفجع كان عاملاً من عوامل المرارة الكثيفة التي أدت إلى الهيجان الجماهيري الذي أطبق على العاصمة العراقية بعد ثورة 14 تموز 1958...[1] فاستقبلت الجماهير الثورة، كما شاهدتها بنفسي وعشت لحظات الانغمار والبهجة عند الساعات الأولى للإعلان عنها في بغداد. وكما تؤكد الدراسات والبحوث العلمية أهمية الحضور الجماهيري لتحقيق كرامتها وحريتها، إذ انخرطت بشكل تلقائي مع الثورة وأهدافها تعزز وجودها وتدافع عنها أمام أرتال هائلة من "طوابير" الاستعمار وأعوانه المستفيدين من "نعمه". "… والواقع أن 14 تموز/ يوليو أتى معه بأكثر من مجرد تغيير في الحكم. فهو لم يدمر الملكية أو يضعف كل الموقع الغربي في المشرق العربي بطريقة جذرية وحسب، بل أنّ مستقبل طبقات بأسرها ومصيرها تأثر بعمق. ولقد دمرت إلى حد كبير السلطة الاجتماعية لأكبر المشايخ ملاكي الأراضي وكبار ملاكي المدن. وتعزز نوعياً موقع العمال المدينيين والشرائح الوسطى والدنيا في المجتمع وتغير كذلك نمط حياة الفلاحين لانتقال الملكية من ناحية ولإلغاء أنظمة النزاعات القبلية وإدخال الريف في صلب القانون الوطني من ناحية أخرى..."[2] فالثورة لم تكن حركة عسكرية طائشة، إنما أنضجتها ظروف ونضالات طويلة عبر حركات جماهيرية منظمة في التعبير عن نفسها وشهدت شوارع بغداد والمدن العراقية الأخرى تظاهرات سلمية أدت إلى بلورة الوعي والانتقال إلى مرحلة جديدة إذ "كادت انتفاضة الشعب في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 1952 أن تقضي على النظام الملكي، ولكنّ البلاط ووعاظ السلاطين سارعوا إلى امتصاص الثورة الشعبية بإدخال الجيش إلى الشارع لإخمادها..."[3] فأهمية الثورة لا تكمن في انتمائها الاجتماعي فحسب، بل في آفاقها السياسية، إذ قلبت موازين القوى كاملة في منطقة الشرق الأوسط وأحدثت رجّة هائلة في عنصر "المباغتة" من جهة واحتضان جماهير العراق التلقائي، وكذلك تتابع الإجراءات الثورية والإصلاحية في التحرر الاقتصادي من التبعية والهيمنة الأجنبية والتخلص من نفوذ الاستعمار وقيوده ومعاهداته. ولعلّ قانون رقم (80) النفطي كان من أهم القوانين جرأة ووضوحاً في استعادة حقول النفط إلى العراق، ويمكن أن يكون في الوقت نفسه، عاملاً مهماً من عوامل الإطاحة بالثورة الوطنية. وأصدرت الثورة تشريعات وقوانين أخرى لعبت دوراً في تشجيع الحركات الجماهيرية على تنظيم نفسها والدخول في عالم جديد مثل: قانون الإصلاح الزراعي وقانون العمل وقانون الأحوال الشخصية، الذي يعتبر نموذجاً مهماً في احترام "المرأة" وردّ الاعتبار إليها وتخفيف القيود الاجتماعية الثقيلة التي كانت ترزح تحت أعبائها وقانون الجمعيات الفلاحية وتنظيم مؤسسات الدولة ودعم الحركة الطلابية والثقافية والإعلامية. فانجازات الثورة كانت كبيرة وبناءة في المجتمع على كل المستويات بمدة زمنية قصيرة، وكانت للقوى الوطنية والتقدمية المستشرفة آفاق العراق وأهميته الجغرافية والإستراتيجية دور فعّال ومؤثر في ما وصلت إليه من بناءات ثقافية واقتصادية وعلمية وصحية واجتماعية، ولعلّ ذلك يعود أصلاً إلى الامتدادات السياسية والثقافية التي نهض بها العراق في مطلع القرن الماضي بإمكانات فردية وجماعية زاخرة بالمعرفة والتواصل مع جماهير العراق وحركته النقابية والعمالية كما ذكرنا في صفحات سابقة ويمكن القول أنّ ثورة الرابع عشر من تموز العام 1958، كانت نقطة تحوّل تاريخية في الثقافة العراقية والبرامج التعليمية ومؤسسات الإدارة والبحث العلمي وأنها أضافت رصيداً مهماً إلى ثروة العراق العلمية، تصلح أن تكون نموذجاً جميلاً في الإقتداء به والإطلاع عن كثب على الإنجازات التي تحققت في ميادين الفنّ والإبداع والكتابة والتأليف والنصّ الشعري والتطور الأكاديمي والبحث الأدبي. فنحن الآن في غنى عن سرد الأسماء اللامعة، لأن تراثها وإنجازاتها وحضورها الثقافي في ميادين الحياة على تنوعها يكفي للدلالة على انتمائها إلى العراق من دون تعصب مذهبي أو قومي، ولا نبالغ إذا قلنا أن العقود الأربعة الماضية لم تستطع أن تنجب نخبة تتمتع بتلك المزايا والسمات العراقية الجميلة مثلما حظيت بها أجيال الرابع عشر من تموز وما كانوا يتمتعون به من تواضع ومعرفة وتواصل مع ثقافات العالم والمحيط وإدراك لأهمية الحرية والحوار والنقد لبناء مجتمع يخلو من الخوف والعنف والتطرف، إنهم أشاعوا ثقافة المحبة والتسامح وثقافة "السؤال" والمساواة واشتغلوا على تحرير المجتمع من قيود التخلف والتهميش وأسهموا في إصدار قوانين جديدة ذات طابع إنساني متطور مثل قانون الأحوال الشخصية العام 1959 الذي يعتبر حتى الآن نموذجاً تدافع "المرأة" في العراق لإعادة العمل به، وكذلك قانون العمل وحرية "القضاء" و"الصحافة"... نشير بإيجاز إلى أهمية الثورة في مجال "التعليم" إذ "ارتفع عدد طلاب الكليات الحكومية من 1218 طالباً في العام 1940ـ1941 إلى 8568 في العام 1958ـ1959، وارتفع عدد طلاب المدارس الثانوية الحكومية من 13969 إلى 73911 في الأعوام نفسها. وارتفع عدد العراقيين المرسلين إلى الخارج من أجل التعليم الجامعي من 9 أشخاص في العام 1921ـ1922 إلى 66 في العام 1938ـ1939 والى 859 في العام 1958ـ1959.
الهوامش: * العلاّسون: مصطلح شعبي لعله مشتق من "العلس" و"المضغ" في اللسان، غايته الإيقاع بالآخرين والتنكيل بهم. 1) العراق، حنا بطاطو، الجزء الأول، ص70. 2) العراق، حنا بطاطو، الجزء الثالث، ص116. 3) أسرار ثورة 14 تموز وتأسيس الجمهورية العراقية، اسماعيل العارف، لندن 1986، ص49.
العراق بين ثقافتين ثقافة المجتمع المدني وثقافة العنف يأخذ العنوان دلالاته الواقعية برموزها وشعاراتها وامتداداتها التاريخية في العراق ومضاعفات الأزمة العضوية التي تلمّ به على امتداد حوالي نصف قرن بخاصة بعد إجهاض ثورة الرابع عشر من تموز وإشاعة ثقافة السلاح والعنف والموت التي نعيش ذروتها في العراق. يصلح الموضوع لدراسات نقدية تحليلية يتولاها أهل الاختصاص في مراكز البحث العلمي والأكاديمي والمؤسسات الثقافية لأنها ذات جدوى مهمة على المستوى الثقافي الاستراتيجي في العراق ومنطقة الشرق الأوسط والعالم. إن البحث في العراق قد تراجع إلى أبعد الحدود ولم يعد فاعلاً بل يعبر عن أزمة ثقيلة في عناصرها لأنه يفتقر إلى الحرية وتوافر الشروط العلمية المناسبة في البحث. نحاول في الصفحات التالية فتح هذا الملف وقراءة أبوابه ومضامينه السياسية والاجتماعية والمذهبية كذلك، بالاستفادة من مراجع التأليف العراقية وكتب "المذكرات" والشهادات التاريخية لأسماء إما لأنها فاقت من غيبوبتها وشعرت بثقل المسؤولية وكأنها تبحث عن كلمة تخفف عنها وزر الأعباء التي حملتها في مواقع الحزب أو الدولة، أو لأن البعض منها كان يجد حريته في نشر آرائه المخطوطة بعد مماته! وتظلّ في كل الأحوال نقطة ضوء ايجابية في نقد الذات والتجربة من أجل إعادة بناء الإنسان والمجتمع على أسس جديدة بعيداً عن تلك المخالب السوداء التي ماانفكت تنهش بالعراق والعراقيين وتعبث بشعارات طواها الزمن. تعترض الباحث في الملف السياسي في العراق ظروف نشأة الدولة العراقية وقيام المؤسسة العسكرية بالتكوينات "القومية" التي احتوتها وصارت قاعدة دائمة لها في النزاعات والاستحواذ على العراق كله واستخدامها في حلّ الصراعات والخلافات بين القادة العسكريين وقمع حركات الاحتجاج والتمرد والانتفاضات الشعبية وظهور النزعة "الانقلابية" والتكتلات والعلاقات الشخصية و"المناطقية" ويمكن أن يكون العنصر "الطائفي" قد لعب دوراً مؤثراً في احتواء المؤسسة العسكرية والهيمنة عليها، بزجها في الصراعات السياسية ومسك زمام الأمور بيد تلك القيادات "القومية". فالبيئة الثقافية لأولئك الضباط القوميين كانت محدودة في إطار مناصبهم الوظيفية من خلال الثقافة العسكرية التي حصلوا عليها في مراتبهم العليا في الجيش العراقي وكذلك الدولة العثمانية أو من خلال انتماءاتهم الاجتماعية لعوائل "اقطاعية" وعشائرية، كانت لها امتيازات خاصة لدى بريطانيا باعتبارها احدى الدعائم الأولى والمهمة للاحتلال والنظام الملكي في العراق منذ نشأته وحتى اسقاطه في ثورة تموز الوطنية العام 1958. ... ظهر الجيش العراقي في السادس من كانون الثاني العام 1921 ببغداد قدره (2000) رجل. اعتمدت النشأة الأولى للجيش العراقي على ضباط سابقين في الجيش العثماني وعلى المدرسة البريطانية في الاسلوب والتنظيم والتدريب والتجهيز... وقدمت الحكومة البريطانية استثناءات خاصة في الانتماء للكلية العسكرية "لأبناء رؤساء العشائر الاقطاعيين الموالين للحكم من شروط الحصول على الشهادة المدرسية... إذ خصصت ما يقارب 25% من مجموع الضباط إلى أبناء رؤساء العشائر...". فالمؤسسة العسكرية في العراق بكبار قادتها كانت ذات بنية فكرية محدودة، عرفت بالاضطراب والتردد والعزلة عن جماهير الشعب، حاكت حولها معاني وشعارات في الوطنية والوحدة العربية والتحرر من الاستعمار والاحتلال، إلا أنها كانت تمارس سياسة الاضطهاد المباشر على حركات الاحتجاج والتمرد كما حدث في قمع انتفاضة حركة الشيخ محمود الحفيد العام 1919 والانتفاضة البرزانية العام 1932، إذ شاركت القوة الجوية البريطانية باخماد حركات العشائر في 130 مرة ومناسبة... واستخدم الجنرال "ياسين الهاشمي" الجيش لأغراضه الشخصية في محاصرة خصومه واحراجهم، كما فعل في اثارة الاضطرابات على حكومة "حكمت سليمان" بالاتفاق مع بعض رؤساء عشائر الوسط والجنوب مثل: محسن أبو طبيخ وعلوان الياسري وعبد الواحد الحاج سكر، وقمع انتفاضات أخرى وقاد الجنرال "بكر صدقي" حملته العسكرية المعروفة على الانتفاضة "الآشورية" العام 1933. إن المعطيات التاريخية والأبعاد النقدية بعيداً عن الشعارات الزائفة التي روجتها المؤسسة العسكرية وصارت جزءاً من بضاعتها في الوطنية والقومية لا تخرج عن نزعة استئصال الآخر بالصفة "الانقلابية" التي توارثتها من جيل إلى جيل حتى إذا أخذت شكلاً تنظيمياً في حزب أو كتلة أو جماعة، فانها تشكل القاعدة الرئيسة المهمة في حياتهم السياسية والحزبية، ولم تكن الحياة المدنية والاشكال الاجتماعية سوى وسيلة لعبورهم إلى صفة "الانقلاب" العسكري وإلغاء الآخر، كما فعل "ياسين الهاشمي" مرات عدة منها خلال وزارته العام 1935 باستخدام حزبه السياسي "الاخاء" لاستدراج عدد من "موظفي الحكومة ورؤساء العشائر (واتباعهم المسلحين) وبعض قادة رجال الدين من أجل تعزيز قيادته وسلطته الشخصية والسير أكثر وأكثر باتجاه التسلط والدكتاتورية".[1] لهذا لا تجد عند هؤلاء الضباط القوميين رؤية واضحة أو فكراً يمكن أن نجد صداه بين العراقيين، لأنهم كانوا عرضة للاحتواء والصراعات الدولية، سواء تلك التي حدثت بعد الحرب العالمية الأولى أو الحرب العالمية الثانية فتارة نجدهم مع رجال الاحتلال الأول "نوري السعيد" وتارة مع "ياسين الهاشمي" المعروف بعدائه لحركات الاحتجاج السياسية والاجتماعية والأشكال التنظيمية في الحركة العمالية وثالثة مع "رشيد عالي الكيلاني" ودول "المحور"، بحثاً عن مظلة ونفوذ مع الدول الكبرى... "كان أولئك الضباط من ذوي الأفكار القومية وقد تعاطف معهم عدد من الضباط الذين خدموا في الجيش العثماني خلال السنوات الأخيرة من الحرب أبرزهم: صلاح الدين الصباغ وفهمي سعيد وعبد الرزاق حسين ومحمود الدرة وعبد المجيد الهاشمي وأكرم مشتاق. ربط هؤلاء مصيرهم في بداية تكوينهم... ببعض السياسيين القدامى الذين عرفوا باتجاهاتهم القومية أمثال: ياسين الهاشمي ونوري السعيد ورشيد عالي الكيلاني..."[2] فالنيات الطيبة لدى بعض القيادات العسكرية "القومية" لم تكن كافية لتكوين فضاء شعبي ورؤية قومية، للتحرر من هيمنة الاستعمار والاحتلال والنفوذ الأجنبي، لأنها كانت محدودة الآفاق ضيقة في أبعادها، تميل إلى الاعتكاف والانحسار خاصة إذا علمنا أنّ البنية الاجتماعية لعدد كبير من القيادات العسكرية كانت تنتمي لفئات "اروستقراطية" حظيت بامتيازات استثنائية على مستوى الأفراد والعشيرة من "بركات" الحكومة البريطانية وأدواتها في العراق فيكفي أن تعلم ماذا كانت تعني العوائل والقبائل التالية "الهاشمي والعمري والباجه جي والكيلاني والنقيب والمدفعي والأيوبي..." بما تملكه من أملاك وأراضٍ اقتطعتها الحكومة البريطانية لترضية رؤساء العشائر والقبائل لمؤازرة الاحتلال ودعمه وقدمت استثناءات لأبنائهم في الوظائف الادارية العليا والمراتب العسكرية. أرادوا أن يضفوا عليها سمة دينية وتشريعية للاستحواذ والهيمنة على الأرض والبشر بقولهم: "انها هبة من الله أنعم عليهم بها فلا يجوز للحكومة وقانون الاصلاح الزراعي تقسيمها بين المستحقين من الفلاحين...". … إنّ درجة تركيز الملكية الزراعية في العراق، تكاد تكون فريدة من نوعها في العالم. فانّ (1) في المئة من سكان الريف يستحوذون على ثلاثة ارباع الأراضي. فحسب الاحصاء العام لسنة 1957، بلغ سكان الريف 4.100.000 نسمة. إنّ 104 ملاكين يملك كلّ منهم 20 ألف مشارة فما فوق بعضهم يملك أكثر من مليون مشارة أي ما يعادل ربع مساحة لبنان الكلية...[3] وأنّ إحصاءات رسمية تقول: "إن اثنين من كبار الملاك يستحوذون على 69 في المئة من مساحة الأراضي الصالحة للزراعة..." فمفاهيم القومية العربية في العراق بشعاراتها "الوحدوية" بقيت لعقود طويلة "هلامية" فارغة من أي محتوى شعبي أو مضامين اجتماعية أو فكرية وغير قابلة للحوار والمناقشات وكأنها اكتسبت صفة "القداسة" والعقيدة، لكونها دخلت مع بعض الضباط القوميين بعد تأسيس الدولة العراقية بما لا تتوافر لها سمة ثقافية يمكن استيعاب دلالاتها وأهدافها وامكانات تحقيقها على المستوى العملي والشعبي. فكانت حمالة "أوجه" عدة تبعاً للصراعات الدولية ونفوذها في العراق ومنطقة الشرق والمصالح الشخصية والحزبية... ويلاحظ الباحث ارتباط تلك المفاهيم "العربية" و"الوحدوية" بالمؤسسة العسكرية "الفوقية" وبشعارات سياسية ظلت تلازمها بما يؤكد تاريخياً وثقافياً تعارضها الحاد والمنظم مع أي بعد ديمقراطي يسعى إلى التنظيم الاجتماعي وبناء مؤسسات مدنية لاقامة نظام اجتماعي متوازن يحقق للجماهير حضورها وحريتها ويوفر لها فرص التعبير عن ذاتها في مجالات العمل والتعليم والحياة المتعددة الأوجه، من دون قهر أو خوف أو اضطهاد اجتماعي وطبقي. يقول خدوري: "إنّ أفكار الشعبية لم تشق طريقها كما يجب، وذلك يعود بصورة رئيسة إلى معارضة السياسيين الكبار والدعاية المضادة من قبل القوميين الذين أعلنوا بعنف أن الشعبية ليست سوى شيوعية تحمل اسماً مختلفاً، ولهذا فانها مناقضة للتقاليد القومية العربية وموجهة نحو تهديم تعاليم الاسلام...."[4] ويختزل الباحث "التميمي" عناصر العداء للشعبية والأفكار الاصلاحية بقوله: "واصل القوميون العرب وبعض ملاكي الأراضي ومعظم ضباط الجيش عداءهم لجماعة الاصلاح الشعبي تحت شعار مناهضة الشيوعية..."[5] يلخص "محمد مهدي كبة" رئيس حزب "الاستقلال"، أصبح عضو مجلس السيادة بعد ثورة 14 تموز 1958، رؤية حزبه الفكرية والثقافية وموقف حركتهم القومية من الشيوعية والاشتراكية بقوله: علينا أن نفرق بينها وبين الاشتراكية أو الوطنية التي لا تتعارض مبادئها وطبيعة حركتنا القومية... تتفق والمبادئ القومية القائمة على فكرة العشيرة التي يتكافأ أفرادها في النسب ويتساوون في الحقوق والواجبات... أما المبادئ الشيوعية والاشتراكية العالمية، وهي والمبادئ القومية على طرفي نقيض أو قل هما ضدان لا يجتمعان على صعيد واحد في أية ناحية من النواحي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها... فمن المؤسسة العسكرية والبناءات السياسية التي استظلت بها بدأت المواجهة بين ثقافتين اثنتين، واحدة تشتغل على شعارات "عاطفية" خذلتها اصلاً وتنكرت لها حينما توافرت لها فرصة استلام السلطة، كما حدث العام 1963 والعام 1968، ووضعتها جانباً لتؤسس "دكتاتوريتها" ومصالح أفرادها، سنتحدث عن الموضوع في صفحات قادمة... ومن العلامات المفيدة في هذا السياق الامتدادات التاريخية والفكرية والسياسية بين حزب "الاستقلال" وحزب "البعث" في العراق من جهة و"المؤسسة العسكرية" من جهة أخرى التي تقدم نموذجاً لا مناص منه لقراءة واقع العراق ومضاعفات أزماته السياسية والثقافية في الصراعات التي أكدت "النزعة الانقلابية" لتلك الأطراف والعداء المستحكم للديمقراطية وحقوق الإنسان وبناء مؤسسات المجتمع المدني، وكما لاحظنا سابقاً موقف حزب "الاستقلال" السلبي من إضراب عمال النفط في كاورباغي العام 1946 ومن الاتجاهات والأفكار السياسية الأخرى ومن المفيد أيضاً الاستشهاد برأي أحد القياديين في حركة القوميين العرب النقابي الراحل "هاشم علي محسن" إذ يقول بشأن حزب الاستقلال ومواقفه من الحركة العمالية والحريات المدنية والاجتماعية: "لقد كان منهاج الحزب حافلاً في المطالب القومية والتحررية الوطنية، إلا أنه لم يشر لا من بعيد ولا من قريب للحريات النقابية وحقّ العمال في تأليف النقابات. ترجم الحزب هذا الصمت بالعزلة التامة التي ظلّ يعيشها بالنسبة لحركة النقابات العمالية طوال تصديه لقيادة حركة النضال القومي في العراق. ولم ينحصر اهمال الحزب للطبقة العاملة وحقها في ممارسة الحريات النقابية في منهاجه فحسب، بل أنّ نشاط العمال النقابي لم ينعكس حتى على صحافة الحزب، ولو قدر له أن يحكم لما وقف عند حدّ رفض السماح بقيام النقابات، بل لحارب العمال تحت ذريعة اتهامهم بالشيوعية... إنّ أبرز ظاهرة رافقت نشوء الحركة القومية في العـراق هو انغلاقها على نفسـها وعزلتها عن جماهير العمال وحركتهم النقابية..."[6] تقودنا الصفحات السابقة عن الائتلافات الفكرية والثقافية والعلاقات المتشابكة والحميمة بين قادة المؤسسة العسكرية والتيارات القومية على اختلافها والاقطاعيين وبعض رجال الدين وممن قوّضت الثورة مصالحهم والارتباطات بالدول الكبرى وبذات النفوذ والدول الاقليمية والعربية المجاورة، بأنها كانت وراء الانقضاض على الثورة منذ ساعة اعلانها. لكنّ الذي يهمنا في هذا الباب قراءة أبعاد العنف الذي أفرزته "المؤسسة العسكرية" بطابعها القومي والصراعات التي نخرت جسم المؤسسة وحولته إلى اشلاء خاوية، هيمنت على جزء كبير منها مصالحها الذاتية فصارت تبحث عن كتلة أو جماعة أو "خلاص" كانوا يسمونه قومياً بانقلاب عسكري أو عمل تحريضي أو دعوة علنية للتدخل الأجنبي والاقليمي وبالذات "العربي" الذي كان رابضاً خلف الحدود مع "الجمهورية العربية المتحدة" يغذي عناصر الفتنة والانقسامات وإلغاء الآخر بالقوة. فالمؤسسة العسكرية التي تحولت إلى مجموعات من "الضباط الأحرار" قبيل إندلاع ثورة تموز الوطنية العام 1958، كانت تفتقر إلى المبادئ الأولية في الحوار والنقاش والمشورة وتبادل الرأي في وضع برنامج وطني يجيب على الأسئلة الملحة والمتوقعة وكان من أهمها سؤال "الوحدة العربية" الذي أشعل العراق لهيباً من دون جدوى وحوله إلى ساحة بشعة للانقسامات والاغتيالات، الأمر الذي شكل أحد عناصر "العنف" التاريخية في العراق. يبدو أنّ تشكيلة الضباط الأحرار كانت متحمسة على اسقاط النظام الملكي وإقامة النظام الجمهوري من دون تفصيلات ومواثيق عهد والتزامات... انهم كانوا مهتمين بالسبل والوسائل الكفيلة بتحقيق الثورة أكثر من اهتمامهم بأهدافها وأغراضها، حتى أنهم لم يضعوا مخططاً متكاملاً يعنى بشؤون استراتيجية الثورة أو تعيين ساعة الصفر لها. ومن أقدم المخططات التي وضعت للبدء بالثورة، كان المخطط الذي وضعه عبد الكريم قاسم عندما كان في الأردن، ولعلّ ذلك كان بالتعاون مع عبد السلام عارف...[7] إنّ غالبية الضباط "الأحرار" كانوا محافظين، فهم أقرب إلى الولاءات القومية و"العروبية" المحافظة، لا يؤيدون السياسة الحديثة ذات السمة الثورية في الاصلاحات الاجتماعية والثقافية منها الاصلاح الزراعي وتوزيع الأراضي على مستحقيها من الفلاحين وتأميم صناعة النفط، وسنجدهم بعد الثورة مباشرة يواجهون أزمات ويصطدمون بوقائع جديدة أفرزتها الثورة بعد سني الخوف والاضطهاد والقهر الاجتماعي. لقد هالهم أن يجدوا جماهير العراق كلها وبصورة تلقائية تعبر عن نفسها في التنظيم والحركة والحضور والمبادرات الشعبية والمشاركة في حماية الثورة والدفاع عن انجازاتها، فقدوا عنصر الاستئثار والهيمنة ومواقع اصدار القرار السياسي، شعروا بأن تلك الجماهير تهدّد مصالحهم وتزحف لإحتلال الشارع بحرية، انتفضت لإعادة سماتها الإنسانية بعد أن كانت أداة للسخرية والاستخدام المهين، تعاني طوال حياتها كلها من العوز والاضطهاد الاجتماعي، خرجت من الكهوف المظلمة وبيوت الطين الواطئة تقف على "السدة الشرقية"، وتشرف على بغداد الثورة والحلم والحرية لتشارك العراقيين فرحتهم في بزوغ فجر الخلاص من الاحتلال والاستعمار وقيوده الاجتماعية الجائرة... فكان الصدام يعبر عن نفسه بقوة بعد وقوف الجماهير بقامتها وحريتها تطالب بحقوقها، أنه عنصر جديد أضافته الثورة إلى بنيتها وتركيبتها الاجتماعية فظهرت علامات المماحكات بين ثقافتين اثنتين، ثقافة "المؤسسة العسكرية"، ذات المنابت القومية والأصول الاجتماعية المحافظة التي لم تغادر فضاءاتها الضيقة وشعاراتها "القومية" ولم تحمل مشروعاً اجتماعياً يلبي طموح الغالبية الغالبة من المقهورين والمضطهدين يحقق كرامتهم الاجتماعية ويعيد اليهم اعتباراتهم الإنسانية، كما أنهم لم يقدموا مشروعاً وطنياً يعالج الأزمات ومضاعفات الاحتلال ويسهموا ببناء اقتصاد وطني واستراتيجية لآفاق العراق وتقدمه وعلاقاته بمحيطه والبلدان العربية والعالم. كانوا مع الأسف "يتقافزون" بتوتر وعاطفية في شعارات "الوحدة الفورية" لا صلة لها بواقع العراق وأزماته وكيفية النهوض به. كان هذا الاتجاه أشدّ خطراً على العراق وترك مضاعفات على النسيج الاجتماعي والوطني لكونه يتناغم مع مصالح الاقطاعيين وفئات من البرجوازية والمنتفعين من العهد الملكي. ولجأ الاتجاه القومي في العراق إلى سياسة العنف والمواجهة في وقت مبكر من قيام الثورة، بعد أن شعر بالانحسار والتراجع، أمام مدّ شعبي، اكتسح حال الجمود والسكون والانغلاق فكان التصدي للتظاهرات الجماهيرية السلمية في بغداد وتفريقها بقوة "السلاح" احدى أهم ركائز ثقافة العنف التي صحبتها حملات الاغتيالات والاعتداءات والتهديد واقتحام التجمعات الشعبية، وكانت محاولة اغتيال "عبد الكريم قاسم" في (رأس القرية) في شارع الرشيد في تشرين الثاني/ اكتوبر العام 1959، علامة على دخول قيادة "حزب البعث" في نفق التآمر على الثورة باعتباره شكل دائرة الاستجابة غير المشروطة لجميع الفئات والجماعات و"طوابير" اعداء الثورة، وحمل لواء "الاغتيال والسلاح والتصفيات الجسدية" وإمكان التعاون مع أطراف أجنبية وعربية وبخاصة "مصر" عبد الناصر تحت شعار "الوحدة الفورية"، من جهة أخرى توالت يوماً بعد آخر تحقيق انجازات شعبية ذات سمات استراتيجية في تشريع قوانين جديدة منها: اصدار الدستور المؤقت وقانون العمل وقانون الأحوال الشخصية وقانون الاصلاح الزراعي وقانون الأحزاب والمطبوعات وقانون النفط رقم (80) والاشتغال على استكمال سيادة العراق واستقلاله من الناحية الاقتصادية والسياسية والخروج من نفوذ الدول الكبرى. أشاد "كامل الجادرجي" بالمكاسب التي حققتها الثورة بخاصة فيما "يتعلق بقانون الاصلاح الزراعي الذي وصفه، بأنه ثورة، أزالت عهداً اقطاعياً، كان وجوده من أهم الأسباب التي أعاقت التطور الاجتماعي والاقتصادي في العراق وإلغاء حلف بغداد وانتهاج سياسة الحياد وقبول مبدأ التصنيع في القطاع العام" كامل الجادرجي ودوره في السياسة العراقية.[8] وانفتحت آفاق التعليم للعراقيين جميعاً سواء في داخل العراق وخارجه، فبدأت نهضة تعليمية وثقافية وفنية وعلمية كانت لها تأثيرات مهمة في منطقة الشرق الأوسط والبلدان العربية والعالم. وأصبح العراق يزخر بتلك الطاقات والامكانات العلمية والثقافية والاقتصادية، وصار نموذجاً تخشاه حكومات البلدان المجاورة، لكنه في الوقت نفسه كانت له امتدادت ثقافية مع الأدباء والكتاب والفنانين والتقدميين في تلك المجتمعات... ومما له أهمية في هذا الشأن، أن ثقافة الكلمة والمجتمع المدني والحوار وثقافة الابداع والفنّ والكتابة كانت ذات أنساغ حيوية وإنسانية ممتلئة بالعلاقات والانفتاح على الثقافات العراقية على تنوعها واستفادت من غنى تراثها، وثقافات المحيط والعالم، فأرست دعائم المحبة والتآلف الإنساني وشجعت الناس على القراءة والحوار وخلق منتديات ثقافية وفكرية كانت لها امتداداتها بالمفكرين والمثقفين الأوائل في بدايات القرن العشرين وبقيت ذات جذوة وحضور في المستويات العلمية والأكاديمية والاقتصادية والفكرية، تمدّ العراق بنبض الحياة والسمو على الأشكال الأخرى من ثقافة الكراهية واستئصال الآخر. يقول زكي خيري في كتابه (صدى السنين): "حاولنا أن نزيل التوتر بيننا وبين القوميين ولاسيما حزب "البعث"، جاء الجواب في جريدة البعث السرية "الاشتراكي" تحت عنوان "نقطع اليد التي تمتد إلى الشيوعيين"، ويضيف زكي بأنّ برقية البعث العراقي إلى انقلاب سورية في 8 آذار العام 1963 حسمت الموقف "اسحق حتى العظم" في حين لم تكن أمامه أية مقاومة... قدم "حسن سريع"، قائد انتفاضة الجنود في 3 تموز العام 1963 على سلطة البعث في 8 شباط العام نفسه، نموذجاً آخر في ثقافة الجماهير وآمالها عند النجاح في عقد محاكمات شعبية عادلة أمام الرأي العام المحلي والعالمي على النقيض تماماً من ثقافة السلطة البعثية/ القومية الممتلئة في قهر الآخر وسحقه واغتصاب النساء فيه من دون وازع أخلاقي أو اجتماعي أو وديني، وتلك ظاهرة تاريخية اقترفها بعثيون في دلالات الانتقام والثأر من ذلك العراقي الآخر. يقول طالب شبيب: "تجمهر أمام أبواب معسكر الرشيد حشد من الجنود وضباط الصف وبعض الضباط والمدنيين يهتفون "ماكو زعيم إلا كريم" و"عاشت الجمهورية العراقية الخالدة". نادى "أنور الحديثي" على أحد الهاتفين وطلب منه إعادة هتافه، ولما أعاده أطلق عليه أنور الرصاص من مسدسه الذي صوبه نحو رأس الجندي مباشرة فسقط على الفور ميتاً..." ويقول أيضاً "كنا نسمع عن جثث تطفو على سطح دجلة... وكان صالح مهدي عماش (وزير الدفاع) يستغل الفرصة في كل مرة نسافر فيها إلى خارج البلاد، فيقوم باعدام مجموعة جديدة من الشيوعيين ولم يسلم منه حتى النادمون والمعترفون والمتعاونون مع أجهزة التحقيق... وأعلن عبد السلام عارف بصراحة رغبته في أن يستمر نهج تصفية وإعدام الشيوعيين بنفس الوتيرة، وهدّد بأنّ أي توانٍ سيؤدي إلى استقالته من رئاسة الجمهورية..."[9] قال "حسن سريع" لرفاقه: "لاتقتلوا أحداً، بل اعتقلوهم وسنقدمهم للمحاكمة". اعتقل ثوار 3 تموز 1963 في الساعة الأولى من إعلان الحركة وزير الداخلية حازم جواد وطالب شبيب وزير الخارجية وقائد الحرس القومي منذر الونداوي ونائبه نجاد الصافي وخليل العزاوي، وهم باستثناء طالب شبيب المسؤولون مباشرة عن جهاز الأمن وعن ذراع الدولة والحزب القوية الحرس القومي وهيئاته التحقيقية المنتشرة في كل المدن والنواحي والقرى والأحياء..." لقد جاءت تركيبة ثوار حركة 3 تموز 1963 الاجتماعية، تقريباً من نفس النسيج الاجتماعي والقومي والديني والمذهبي العراقي العربي والكردي والآشوري والمسلم والمسيحي... الخ، كما لم تتحكم في تصرفاتهم أية مثيرات طائفية أو عنصرية أو دينية...[10] نرصد تفكير الجندي حسن سريع قائد الحركة والمشير الركن عبد السلام عارف رئيس الجمهورية، الأول علم رفاقه عدم إنزال العقاب قبل المحاكمة... وبالمقابل أشرف الثاني بنفسه مباشرة على عمليات قتل وإذلال جماعية راح ضحيتها خلال الساعات الأولى من فشل التمرد بين 150 إلى 200 جندي ومدني قتيلاً بعد استسلامهم!!!...[11] كان مركز طه الشكرجي في معسكر الرشيد في مقر اللواء 19 (لواء عبد الكريم قاسم) قد شهد في الأيام الأولى بعد 8 شباط 63 وبعد فشل حركة حسن سريع مهرجانات من التعذيب والقتل لعدد كبير من الضباط الأحرار القادة كالزعيم الركن داود الجنابي والمقدم إبراهيم الموسوي والعميد عبد المجيد خليل والعقيد حسين خضر الدوري الذي قلع له الشكرجي أذنيه بكلابتين قبل رميه بالرصاص بأمر من صالح مهدي عماش، انتقاماً من توقيعه قرار الحكم باعدام ناظم ورفعت...
حزب البعث واستراتيجية العنف في العراق تفيد التجربة والمشاهدة والقراءة لحوالي خمسة عقود خلت، اعتباراً من ثورة 14 تموز العام 1958، وما رافقها من صراعات واحتدام دموي شديد وفق شعارات لاتزال بقاياها حاضرة حتى يومنا هذا، بأنّ ثقافة "العنف" والسلاح والقوة وما تحمله من مرادفات واشتقاقات كانت صفة عضوية في بناءات حزب البعث واستراتيجيته العامة وشرطاً من شروط الإنتماء إليه، ويعتبرها جزءاً من "فحولة" الحزب و"رجولة" أبنائه في قهر خصومة واستئصالهم عند الضرورة. وتؤكد الوثائق ومصادر قيادة "البعث"، بأنّ زخم إنتماء الشباب لحزب البعث في مرحلة ما بعد تموز 1958، كان مبعثه القوة والمواجهة والردّ المباشر الذي اتسم به، لا القضايا الفكرية والثقافية. ولعلّ الفرصة تتوافر يوماً للبحث العلمي في هذا المجال لقراءة الخلفية الثقافية والبيئة الاجتماعية لعدد كبير من الجماعات الارهابية التي التحقت بحزب البعث بعد ثورة تموز 1958 في بغداد وفي محلات كانت موئلاً "للشقاوات" و"عصابات" بغداد قبل الثورة، وكأنها وجدت الملاذ والرعاية والاحتواء في كيان الحزب وتنظيماته فاستخدمها البعث، ركائز لتفريق التظاهرات الشعبية المسالمة بقوة الرصاص. نسعى في هذا الباب لأن نضع تجربتنا من أجل عراق خال من ثقافة العنف والموت وإلغاء الآخر. لكننا في هذا الجزء من أوراقنا ستظهر ثقافة السلاح والعنف باعتبارها جزءاً من ثقافة "المؤسسة العسكرية" بانتماءاتها القومية وشعاراتها "الوحدوية". حمل حزب البعث لواء العنف وسحق الآخر باعتباره امتداداً للتيارات القومية في العراق بخاصة حزب "الاستقلال" الذي انزوى تدريجاً وانتهت مرحلة حضوره ونشاطه السياسي. فاشتغل على استقطاب المؤسسة العسكرية وزجها في الصراع في وقت مبكر. يقول هاني الفكيكي: في "1961ـ1962، لم يكن عمل الحزب داخل الجيش يتجاوز حدود توسيع عدد الضباط المتعاونين معه، وخاصة ذوي الرتب الرفيعة وقادة الوحدات الضاربة القريبة من العاصمة. وكان هذا يتمّ على حساب الإعداد الفكري والسياسي لهؤلاء الذين تحركهم كراهيتهم لقاسم والشيوعيين ويعجبهم البعث كمؤسسة قوية تتحدى الحكم بشجاعة، وحيال التأييد والشعبية اللذين تمتع بهما قاسم في أوساط الجنود والطبقات الشعبية الفقيرة وبالأخص في مدينة "الثورة" والريف الجنوبي، أضيفت إلى العوامل المذكورة مشاعر سنية دفعت بالضباط نحو الحزب"[12] اتخذت الأحزاب القومية في العراق بعد تموز 1958، المؤسسة العسكرية باعتبارها القاعدة الأمامية والركن الركين في العمل والتخطيط لتصفية حساباتها السياسية مع الخصوم، فكانت الشغل الشاغل لهم جميعاً، وأعادوا إلى الذاكرة صراعاتهم الأولى في تلك "المؤسسة" أيام احتدام النزاعات بين الجنرال ياسين الهاشمي ونوري السعيد ورشيد عالي الكيلاني وحكمت سلمان فلا تعنيهم الثقافة الفكرية والاجتماعية ومبادئ الحوار أو المشروع الوطني، لهذا لم يؤسسوا طوال تلك الحقبة فضاء للحرية والنقد والمساءلة وبناء المجتمع والإنسان، لأنّ الغالبية منهم قد تآكل حضورها بفعل الجمع بين الحزب والسلطة والمؤسسة العسكرية التي انتهت إلى الدكتاتورية وسياسة الغطرسة والبطش والتوسع "القومي" والقوة! وتعتبر تجربة استلام حزب "البعث" السلطة في بغداد في انقلاب 8 شباط 1963 وما رافقها من حملات بطش وإبادة امتدت إلى انتفاضة الجنود وثوارها في حركة 3 تموز 1963، ذروة التعبير عن ثقافة الحقد والكراهية وسحق الآخر فحملت المؤسسة العسكرية بين دفتيها هذا الكمّ المتراكم من الضغينة وضيق الأفق على الرغم من أنّ السلطة كانت في قبضتهم. فاتخذ "الإلغاء" معاني عدة في الاستباحة وإلغاء ثقافة القانون والعدالة والإنتماء إلى بناء مستقبل العراق. وصحوة "الاعتراف" في كتابة المذكرات والادلاء بتصريحات من داخل المؤسسة العسكرية وحزبها "القومي" في العام 1963، تبين الامتدادات التاريخية لثقافة العنف التي تدرب عليها "بعثيون" في ابتداع أشكال جديدة في تعذيب المعتقلين وإذلالهم والاعتداءات "الجنسية" على عدد من المعتقلات، إلا أنّ ما يؤسف له حقاً هو غلبة الجانب السياسي في أشكاله "الانتهازية" على جانب البحث والتحليل ونشر ثقافة النقد والتوعية الجماهيرية مما أدى إلى طي تلك الصفحات والسكوت عليها لخلل في البنية الثقافية والفكرية في مفهوم النقد والتحليل لظاهرة العنف التي أخذت العراق ابتداء من انقلاب شباط 1963 نحو تأسيس ثقافة العنف والفصل بين الثقافة المدنية والديمقراطية التي اشتغل عليها مفكرون ومثقفون وأكاديميون، كانون يتألقون مع العراق والإنسان والحرية، إذ نستعين الآن بمذكرات هاني الفكيكي في كتابه "أوكار الهزيمة" وطالب شبيب وكتاب "المنحرفون" وغيرهم، إلا أنّ هذا الكمّ الهائل من مشاهد الموت والخوف والتعذيب لم تأخذ طريقها في بحوث أكاديمية ونقدية. "كان التعذيب يجري بأكثر أشكاله بدائية وثأرية... وفي ذلك التعذيب كانوا يستخدمون العصي والأنابيب المطاطية والتهديد بالقتل عن طريق عصب أعين المتهم... وقد سمعت قصصاً عن التعليق بالمراوح السقفية وغيرها من الأساليب التي ربما استخدمت ولم نكن على بينة منها..."[13] يقول الضابط محمد علي سباهي الذي كان عضواً وأحد مؤسسي المكتب العسكري لحزب البعث قبل 8 شباط: "في عام 1963 زرت في قصر النهاية عمار علوش وكان مشرفاً على التحقيقات، فرأيت عنده عبد الكريم الشيخلي (وزير خارجية فيما بعد) وأيوب وهبي وخالد طبرة، وفوجئت بالصحافي عبد الجبار وهبي ممدداً على الأرض وكان على وشك الموت ويطلب الماء، ويجيبه خالد طبره (مدير عام فيما بعد): "ها گواد تريد مي (ماء)" ولم يعطه. وكان الدكتور فؤاد بابان قد أخبرني بمدينة السليمانية عام 2001 قائلاً: "كنت معتقلاً في قصر النهاية فرأيت عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) منشور الرجل من تحت الركبة بآلة نشر خاصة، وكان إلى جانبه شخص آخر لديه يد واحدة معلق منها..."[14] "الملازم أيوب وهبي (الملقب بابن شيتا)، كان مهووساً، دخل يوماً إلى النادي الأولمبي الذي تحول بعد 8 شباط إلى معتقل ومركز تحقيق وتعذيب فرأى مجموعة من الضباط يقفون جانباً، فقال مَنْ هؤلاء؟ فقالوا هذا الرائد حافظ علوان مرافق عبد الكريم قاسم وهذا الملازم نوري ناصر أحد مرافقي قاسم والملازم الطيار محمد صالح إبن أخت عبد الكريم قاسم والملازم الطيار كريم صفر والرئيس غازي شاكر الجبوري، فسحب أيوب وهبي أقسام رشاشته ورماهم جميعاً دون تردد، فلم ينج غير حافظ علوان الذي احتمى بعامود كونكريتي وغازي الجبوري الذي اكتشفه فيما بعد ناقل الجثث بسيارة الاسعاف إنه مازال حياً، فأخذه إلى مستشفى الرشيد العسكري حيث أنقذه أطباؤها باعجوبة. جاء في الهامش "الرئيس غازي الجبوري روى بنفسه هذه الحادثة لـ "عبد النبي جميل" في سجن نقرة السلمان، حديث خاص بين المؤلف والطيار عبد النبي جميل عام 2001"...[15] يذكر أن أيوب وهبي كان طياراً فاشلاً، وبسبب سوء سلوكه هرب إلى الجمهورية العربية المتحدة، وعاد قبيل 8 شباط، بعد أن عفا عنه عبد الكريم قاسم، وفوراً بعد 8 شباط نسبه صالح مهدي عماش للعمل مع ضباط الحرس القومي. تطوع لتعذيب أكثر السياسيين الذين دخلوا قصر النهاية والنادي الأولمبي وأسهم في الاعتداء على سلام عادل واغتصب خلال التحقيق سيدة شيوعية وكثيرات غيرها، وبدل محاكمته كوفئ بتعيينه مستشاراً دبلوماسياً للسفارة العراقية برومانيا... "عبد الكريم فرحان، لقاء خاص مع المؤلف عام 1973". "كانت الدعوة مندفعة وغريبة للقتل الجماعي صادرة عن شدة توتر الروح الثأرية... لكن المبالغة والعصبية الشديدة التي ظهرت على عبد السلام عارف وأحمد حسن البكر وعبد الغني الراوي... وبعد نقاش وجدال دام حتى ساعة متأخرة من تلك الليلة وافق أحمد حسن البكر (والذي لم يكن حتى ذلك الحين عضواً في القيادة القطرية لحزب البعث) على إلغاء فكرة إعدام الجميع، بشرط موافقة القيادة القطرية على أن يسافر عبد الغني الراوي بعد حين إلى معتقل نقرة السلمان للإشراف على إعدام عدد محدود من الضباط فأعطوه الموافقة. وبعد تعديل البكر لموقفه، إضطر عبد السلام عارف إلى تغيير اقتراحه من قتل الجميع إلى إعدام 150 ثم تراجع إلى ثلاثين ضابطاً فقط... عبد الغني رفض تنفيذ الأمر لقلة العدد"[16] يؤكد "الفكيكي" هذا المشهد بقوله: "أما المفاجأة الثانية، فكانت اصرار العسكريين وفي مقدمتهم عارف والبكر على إعدام 450 ضابطاً قاسمياً وشيوعياً بذريعة تواطئهم مع حسن سريع ورفاقه ومشاركتهم في الحركة المسلحة ضد الثورة... إن عبد السلام طلب إلى عبد الغني الراوي عند مغادرته القاعة التحضير لإعدام 150 ضابطاً شيوعياً، الأمر الذي رفضه الراوي بسبب قلة العدد وتواضعه"[17] لعلّ الدراسة حققت بعض أهدافها في فتح نافذة عراقية بحتة لقراءة مصارد العنف في العراق، وهي كثيرة ومتعددة الجوانب والأغراض، نأمل أن تتواصل مع دراسات أخرى في سبر ميادين العنف والخوف والانكسارات الاجتماعية والنفسية في العراق.
الهوامش: 1) كامل الجادرجي ودوره في السياسة العراقية، د. محمد الدليمي، بيروت 1999، ص385. 2) أسرار ثورة 14 تموز وتأسيس الجمهورية العراقية، اسماعيل العارف، لندن 1986، ص49. 3) ثورة 14 تموز بعد أربعة عقود، سعاد خيري، السويد 1998، ص145. 4) العراق الجمهوري، د. مجيد خدوري، ط1، الدار المتحدة للنشر ـ بيروت 1974. 5) محمد جعفر أبو التمن، الوراق للدراسات والنشر، د. خالد التميمي، دمشق 1996، ص411. 6) تطور الحركة النقابية في العراق، هاشم علي محسن، بغداد 1966، الجزء الثاني، ص34. 7) العراق الجمهوري، د. مجيد خدوري، ط1، الدار المتحدة للنشر ـ بيروت 1974، ص29. 8) كامل الجادرجي ودوره في السياسة العراقية، د. محمد الدليمي، بيروت 1999، ص249. 9) عراق 8 شباط 1963/ مراجعات في ذاكرة طالب شبيب، د. علي كريم سعيد، ط1، دار الكنوز الأدبية ـ بيروت 1999، ص192ـ195. 10) العراق/ البيرية المسلحة/ حركة حسن سريع وقطار الموت 1963، د. علي كريم سعيد، ط1، الفرات للنشر والتوزيع 2002، ص128. 11) المصدر السابق نفسه، ص70. 12) أوكار الهزيمة، هاني الفكيكي، ط1، رياض الريس للكتب والنشر ـ لندن 1993، ص218. 13) المصدر السابق نفسه، ص258. 14) العراق/ البيرية المسلحة/ حركة حسن سريع وقطار الموت 1963، د. علي كريم سعيد، ط1، الفرات للنشر والتوزيع 2002، ص59. 15) المصدر السابق نفسه، ص142. 16) المصدر السابق نفسه، ص245. 17) أوكار الهزيمة، هاني الفكيكي، ط1، رياض الريس للكتب والنشر ـ لندن 1993، ص280.
إضـراب عمـال شـركة الزيوت النباتيـة
تعتبر الكتابة عن إضراب عمال شركة الزيوت النباتية في 5/11/1968 مغامرة في البحث والاستقصاء ومحاولة لاسترجاع تفاصيل ماضٍ نسعى للقبض على لحظة إعداده وتنظيمه والإحاطة بمكوناته والأسباب التي شكلته، لا لحظة الكتابة عنه. حاولنا جمع بعض وثائقه وتنشيط الذاكرة الفردية والجماعية من خلال أدلة وعلامات ولقاءات متنوعة، أهمها كانت مع بعض أعضاء لجنة الإضراب واللجنة النقابية ومشاركين في الأجواء العمالية لازال بعضهم يعمل في الشركة نفسها... رمانا البحث لنطلع على صحف عراقية وبيانات سياسية وعلى مضاعفات أدت إلى تغيير قانون العمل وقانون تنظيم الأرباح وقانون انتخابات مجلس الإدارة وتشريعات وإجراءات أخرى، ستعرض أوراقنا بعض تفاصيلها. لاحظنا، أنّ الإضراب على أهميته العمالية والسياسية، كان يقصى عن عمد من العناوين والدراسات التي يقع ضمن مرحلتها التاريخية، كما يحاول آخرون إقصاءه عن الذاكرة العراقية، لخروجه على التقاليد والحسابات الحزبية والسياسية والرهانات التي كانت تتردد خلف الأبواب المغلقة. وجدنا أنفسنا بعد خمسة وثلاثين عاماً في فضاء الإضراب ومساحاته نجدد وشائج العلاقة الحميمة في احتفالية اتسمت بطابع عاطفي، نظمها العمال أنفسهم في ميدان الصراع والنضال، وكأنّ الأصوات والحركة ومعالم الشدّ والتوتر والانتخابات العمالية والإضراب ولعلعة الرصاص تأتينا، ترسل إشارات الوفاء والولاء لهؤلاء العمال الذين كنت أشعر دائماً أنهم فضائي ومصدر قوتي وتماسكي في غربة طويلة تجاذبتها عوامل من الهدم والانحدار والعزلة. لقد تعلمت منهم، وكان عمري لم يبلغ العشرين عاماً، فتشكلت خطوط الوعي الأولى من الدخول التلقائي مع عالمهم الجميل في البساطة والوضوح والصدق والانتماء إلى العراق، الذي كنّا نحلم به في الفرح والتغيير والحوار وغنى التعدد القومي والثقافي والمذهبي من دون أن نشعر بفوارق أو تمايزات، تبعدنا عن أجوائنا العمالية وعلاقاتنا الاجتماعية. كنّا في همّ عمالي مشترك نجتمع على الكلمة والألفة وتبادل الرأي والمشورة والحوار والبيان النقابي والسياسي والخبر العمالي، ننتظم في لجنة أو لجان نقابية، نهدف من خلالها إلى بناء الثقة بين العمال وتحسين شروط العمل من دون عسف أو ضيم. لقد فوجئت في الاحتفالية الأولى للإضراب، بعد سقوط النظام في 5/11/2003, بحيوية الذاكرة العمالية وبالحكايات والسرد القصصي لصور حقيقية وأخرى بدت لي متخيلة، يصوغها فرط الإعجاب بإضراب عمالي، كان مفعماً بالوحدة العمالية والشجاعة وروح التحدي.
لماذا الإضراب؟ تفرض علينا القراءة النقدية لإضراب عمالي مضت عليه حوالي أربعة عقود، أن نلمّ بالأطراف التي كونته واشتغلت عليه من الداخل ونعني بها المشاعر الإنسانية والوعي الاجتماعي والثقافي، فالإضراب وإن كان يحمل عنواناً "مطلبياً" رئيسياً في توزيع الحصة المقررة من أرباح التأميم إلى العمال، إلا أنها تخفي في طيّاتها كمّاً غير قليل من الأسئلة في السياسة والحركة النقابية وردود الفعل من الانقلاب البعثي في تموز 1968. ولماتزل بشاعة الانقلاب البعثي الأسود في شباط 1963 طريّة في الأذهان ماثلة في الأدلة والذاكرة لما عرف عنه من صفحات سوداء في تاريخ العراق الحديث في الاستبداد البعثي/ القومي والقهر وحملات الثأر والتعذيب واغتصاب النساء. وأكاد أجزم بشهادة تاريخية في هذا الباب، بأن الغالبية الغالبة من عمال شركة الزيوت النباتية، يزيد عددهم عن ألف ومئتي عامل، كانوا يحملون كراهية لا تعادلها كراهية على حزب البعث ظهرت جلّية في الانتخابات العمالية وانتخاب ممثل العمال في مجلس الإدارة في شركة الزيوت النباتية، بعد مجيئهم ببضعة أشهر. ولعلّ ذلك يعود في بعض دلالاته، أنّ صورة الزعيم الوطني "عبد الكريم قاسم" كانت حاضرة في حياتهم، فاغتياله يعني اغتيال الحلم والأمل عندهم. فبدا الامتعاض والغضب والتمرد الداخلي على الانقلاب البعثي في 1968، وكأنهم أتوا ليستأصلوا انجازات الحركة العمالية في الإضراب والتنظيم النقابي والمكاسب التي تحققت لهم. فاستعادت الذاكرة العراقية المشاهد القاتمة في الرعب والخوف والوحشية للحرس "القومي" البعثي، الذي عبث بهيبة العراقيين وكرامتهم وخلق الكراهية والاستبداد، لمجموعات "متشابهة" وجدت نفسها في السلطة والسلاح وفرض القوة على الآخرين. دخلت الحركة النقابية والعمالية في العراق، بعد سقوط انقلاب شباط 1963، مرحلة جديدة من النشاط والحيوية والاشتغال لإعادة تنظيم ما خربته التجربة البعثية، إذ بقي الوضع العام في العراق في إطار التيارات القومية المتعددة الأشكال والانتماءات الفكرية والاجتماعية. أدرك بعض تلك التيارات أهمية إعادة النظر في تجربتها السابقة بانقيادها إلى حزب البعث، فيبدو أنها شعرت بالخيبة والندم على مشاركتها واندفاعها في حملات الثأر والانتقام والاستباحة، وكشفت الانتهازية السياسية الكامنة خلف الشعارات القومية من الوحدة العربية، التي خربت النزعات الوطنية بالانتماء إلى العراق والتآلف الاجتماعي والتعدد الثقافي والقومي، واتخذته ستاراً وشعاراً زائفاً في الصراعات الدموية والاستيلاء على السلطة بالقوة وتصفيات الآخرين، لأنها أخفقت أصلاً في العمل نحو تحقيق الوحدة العربية، بل، خلقت نزاعات وصراعات إقليمية، ألحقت ضرراً كبيراً لا بشعارات الوحدة الوطنية فحسب، بل بالحركة العمالية العربية والمؤسسات الشعبية. اتسمت المرحلة بصراعات، كان من أهمها، انقسام التيار القومي ذي النزعة الحديثة إلى جماعة محافظة تقليدية تمثلت في السيطرة على الاتحاد العام لنقابات العمال، بقيادة النقابي الراحل "هاشم علي محسن" وبزوغ تيار آخر من صلب الحركة القومية نفسها، اتسم بالوضوح والاقتراب من الاشتراكية والمنهج الماركسي، لعبت المجموعة على صغر حجمها دوراً مهماً في الحركة العمالية وفي الانتشار والحضور السياسي والاشتغال الجاد بمستقبل العراق. حاولت التيارات القومية المدنية، الاستفادة من التجربة "الناصرية" في قرارات "التأميم" والإجراءات القانونية والتشريعية المرافقة لها وبخاصة قانون العمل وقانون مجلس الإدارة وقانون توزيع الأرباح. هذا نموذج من التعاون والتنسيق بين الحركة النقابية والعمالية[1]: الاتحاد العام يؤيد نقابة الميكانيك في الإنذار للإضراب. نائب الرئيس عمر عيسى البجاوي اللجنة النقابية في شركة الغزل والنسيج ترفع مذكرة بالإضراب. نقابة الطرق والجسور تؤيد نقابة النفط. بيان نقابة عمال ومستخدمي الكهرباء حول مساعدات النقابة. نقابة البرق والبريد تؤيد نقابة النفط. نقابة المطابع تقدم مذكرة إلى مديرية العمل العامة. نقابة الزراعيين تطالب بالكفّ عن تغريم العمال. الاتحاد العام يؤيد نقابة النفط، بالإنذار والإضراب. وفقاً لأحكام قانون العمل رقم 1 لسنة 1958 المعدل. يبدو أن الأربع سنين التي سبقت انقلاب تموز 1968، كانت تجري في داخلها صراعات حادة لا تخلو من تدخلات عربية بخاصة "مصرية" وأجنبية لتقرير مصير العراق السياسي، بعد أن ظهرت هشاشة النظام العارفي الثاني واضطرابه والتنازع العسكري للقبض على السلطة. كانت تضطرب فيه ثلاثة اتجاهات متضادة، يتمثل الأول في الإعداد المسعور للبعثيين لاستلام السلطة، وظهر الثاني في المحاولات الانقلابية المتعددة لقيادات التيار القومي في المؤسسة العسكرية من داخل السلطة نفسها، وكانت تبعث على السخرية وتدني المستوى الفكري والثقافي لقيادات لا يهمها سوى الانقلاب والسلطة لفرض الرعب والهيمنة... أما الاتجاه الثالث، فهو تيار مدني، لم يستطع أن يبلور معالمه وحضوره السياسي والفكري لحداثته وخروجه من الدوائر المغلقة لحركة القوميين العرب، فالعسكرية والنزعة الانقلابية باعتبارها شكلاً من أشكال الاستبداد والمفاهيم العشائرية كانت أقرب إلى التنازع على السلطة لتصفية الآخر واجتثاثه من التيارات الشعبية والمدنية، بل أنّ كثافة النشاطات العمالية والثقافية واتساع حركة الإضرابات قد حفزت المؤسسة العسكرية لاستخدام "الدبابة" واستلام السلطة. شهد العراق تحولاً شعبياً مثيراً للاهتمام على المستوى النقابي والعمالي والثقافي والسياسي، إذ اتسعت مساحة الإضرابات العمالية ورافقتها في الوقت نفسه حركة إعلامية وصحافية كانت تتابع ما يجري في كل أنحاء العراق، كثفت المطالبة بتشريع جديد لقانون العمل وإجراء انتخابات عمالية والدفاع عن حقوق العمال ومواجهة الأشكال المتعددة للعسف والفصل ومحاولات تفكيك الحركة العمالية والمطالبة بضمانات اجتماعية وصحية وإلغاء اللجان النقابية المتواطئة مع الإدارات وجهازي الأمن والاستخبارات العسكرية... لقد وضع الاتحاد العام لنقابات العمال بقيادة الراحل "هاشم علي محسن" خطة لوقف الإضرابات العمالية، ونشر بياناً وزعه في إطار محدود بحجة أنّ "المعركة القومية" تقتضي إيقاف حركة الإضرابات لمواجهة "العدو الصهيوني" ولأننا في معركة تشترط "شدّ الحزم" على البطون، وكانت مفارقة أحرجت قيادة اتحاد النقابات، حينما وقع بأيدينا البيان، عند زيارتنا اتحاد النقابات، وفي الشأن نفسه، أبدى وزير العمل والشؤون الاجتماعية "عبد الكريم هاني" أسفه لموجة الإضرابات العمالية، واشترط إيقافها حتى تجرى الانتخابات العمالية، عند اجتماعه بممثلي القوائم العمالية في 13/7/1968: هاشم علي محسن/ قائمة اتحاد العمال. أكرم حسين/ قائمة وحدة العمال. محمد عايش/ القائمة العمالية التقدمية الاشتراكية. محمود العبيدي/ قائمة العمال النقابيين. عبرت صحافة النظام العارفي عن امتعاضها من الامتدادات العمالية والطلابية والسياسية وتبلور حركة احتجاج سلمي لم تألفها من قبل، إذ عززت الحركة الطلابية التآلف الجديد بين القوى المدنية والاجتماعية، بانتخابات أعادت للعراق وجهه الحضاري، أكدت الحوار والنشاط الثقافي والتضامن بين القوى الطلابية على تنوعها، واستطاعت عزل تيار "الحرس القومي" وأتباعه في الجامعة العراقية الممثلين بما كان يسمى "جناح البكر/ البعث". فألغت الحكومة العارفية نتائج الانتخابات، بحجة انها جرت في النصف الثاني من العام الدراسي. إنّ القراءة النقدية التاريخية للمرحلة التي سبقت عودة البعث إلى السلطة العام 1968، جديرة بالبحث والتأمل وكشف صفحاتها، إذ أنها عبرت عن "هوس" قيادة البعث لانحساره وعزلته ولهاثه لحلّ أزماته من خلال الإعداد المحموم لانقلاب عسكري يعيده إلى السلطة. وفي الجانب الآخر، كانت الأجواء السياسية تجري باتجاه التحالفات والاقتراب لتكوين مظلة لقوى اليسار والاشتراكية، وكان ظهور القيادة المركزية في الحزب الشيوعي العراقي يمثل أهم علامات التحول الجديد في الإضرابات العمالية والحركة النقابية والطلابية والمنظمات والنقابات المهنية. ولاتزال التجربة على ضخامة حجمها وتأثيراتها في مدة زمنية محدودة في أسباب نشوئها واتساعها ثم اضمحلالها بحاجة إلى قراءة نقدية معمقة لواقع العراق واضطراباته السياسية والاجتماعية وما يعتمل في داخل قواه/ اليسارية من ضيم وجور وتنكيل لحق بها على مدى عقود طويلة من تاريخ العراق السياسي الحديث. سنجد في صفحات لاحقة، بأنّ إضراب عمال الزيوت النباتية قد جرى في تلك الأجواء ومن خلالها في قائمة "كفاح العمال" التي كانت صوتاً آخر يختلف عن الأصوات التقليدية والمألوفة في الشارع العراقي والحركة الشعبية. فامتاز الإضراب باستقلاليته وحرية العمال في تنظيمه وإعداد خطواته من دون تدخل أحد، على الرغم من أنّ مقر كفاح العمال، كان المكان الملائم الذي اختاره العمال لاجتماعات لجنة تنظيم الإضراب. وكانت أجواء الحوار والنقد وإعادة النظر في المناهج والمصطلحات السياسية تجري على قدم وساق على المستوى الأكاديمي وبين الباحثين والمفكرين وظهرت دعائم مهمة في الصحافة وحركة الإعلام، وتعمقت ظاهرة الحوار والقراءة والانفتاح على ثقافات العالم. فشهدت الساحة الثقافية في العراق أبان الستينيات، حركات نشطة في الكتابة والإبداع والسينما والفن التشكيلي والمسرح، وأعيد للطبقة العاملة في العراق اعتباراتها الاجتماعية والإنسانية بوصفها طبقة اجتماعية ذات امتدادات تاريخية طوال عقود من تاريخ العراق السياسي والنقابي والثقافي. فليس غريباً أن نجد الأكاديمي والباحث المعروف الأستاذ "إبراهيم كبة" يدخل في الأجواء الثقافية نفسها ويصبح أحد النقاد البارزين في معالجة الأزمة السياسية بالاعتماد على الطبقة العاملة، ولأهمية الرأي والحوار الذي نشرته جريدة التآخي: … أطلعت اليوم على المقدمة التي كتبها الأخ الأستاذ عبد الوهاب محمود لكراس الأخ الدكتور محمد سلمان حسن، نحو تأميم النفط العراقي، داعياً إلى صيغة عملية لـ "الجبهة التقدمية" في العراق، من حقّ الأستاذ أن يدعو للآراء التي يؤمن بها، ولكنه أشار في مقدمته إلى مذكرة 4 أيلول 1966. … إنّ جوهر المذكرة هو رفض جميع صيغ الاحتكار السياسي رفضاً قاطعاً واقتراح منهاج متكامل، أهم ما فيه جزؤه السياسي. … إن السبيل إليها لا يمكن أن يتم عبر التنازلات المبدئية والسياسات التوفيقية والاتجاهات الانتخابية، بل عبر النضال الجماهيري الطويل النفس، تشنه الطبقة العاملة وقيادتها السياسية، بالتعاون مع حلفائها من الطبقات المنتجة الأخرى وفق منهاج علمي يلائم ظروف المرحلة، مستمد من الاشتراكية العلمية وإستراتيجيتها العامة بالشكل الذي حددته مذكرة أيلول، أما الدعوة للتعاون مع فئات لاتزال تعتبر نفسها وصية على الطبقة الكادحة وتحرم عليها حق التنظيم السياسي العلني المستقل فهي دعوة لجرّ الجماهير ـ موضوعياً ـ لذيلية جديدة هي ذيلية البرجوازية الصغيرة، وهو اتجاه رفضته الجماهير في العراق نهائياً، وأدانت أصحابه بالتحريفية والتصفوية، كما هو معلوم فضلاً عن انكشاف آثاره المدمرة في بعض البلاد العربية. … عليهم أن يعترفوا للطبقات الكادحة بحقها غير المشروط في التنظيم السياسي المستقل.[2] ربّ يوم بكيت منه فلما صرت في غيره بكيت عليه
الإضراب وعوامل بناء الثقة شاءت الظروف أن تكون شركة "الرافدين لصناعة المنظفات" الفتية و"الأنيقة جداً" ببصمات أمريكية في الإدارة والتنظيم والإشراف على الإنتاج إلى جانب موقع شركة الزيوت النباتية. كان عمال الأولى لا يتجاوز المئة وثلاثين عاملاً، اختيروا بشروط واختبارات علمية واجتازوا في غالبيتهم دورات تأهيل وإعداد خاصة. ووضعت الإدارة في اعتبارها تطبيق القوانين والإجراءات الخاصة بالعمال من دون عنت بالمقارنة مع شركة الزيوت النباتية. تمتع عمال شركة الرافدين لصناعة المنظفات ابتداء من تأسيسها في مطلع ستينيات القرن الماضي بممارسة حقهم في إجراء الانتخابات العمالية والنقابية ومجلس الإدارة، ويكاد لا يخلو يوم من الحوار والمناقشات المفتوحة في قضايا ومطالب عمالية تشمل الحركة النقابية في العراق وكذلك السياسية. يتداول العمال الصحف اليومية والبيانات السياسية وكأنها "ورشة عمل" دائمة ممتلئة بالأخبار المحلية والدولية يتآلفون وينشرون المحبة والتآخي والعلاقات الاجتماعية في زيارات ومناسبات وحملات دعم وتضامن. تكونت في شركة المنظفات لجنة نقابية منتخبة، أخذت على عاتقها مسؤولية الدفاع عن العمال وأقامت صلات اجتماعية ونقابية جادة مع عمال شركة الزيوت النباتية، ومع نقابة المواد الغذائية والاتحاد العام لنقابات العمال. وحينما تم دمج الشركتين اعتباراً من 1/10/1967، بحسب قرار المجلس الأعلى للمؤسسات العامة ومجلس إدارة المؤسسة العامة للصناعة، أصبح الاسم الجديد هو شركة استخراج الزيوت النباتية. فظهر الصراع على أشدّه بين لجنة نقابية متواطئة مع مدير شركة الزيوت النباتية "نبيه مهدي" ومع الأمن والاستخبارات العسكرية يقودها "جياد عبد الرحمن" ومع لجنة نقابية تمتعت بمهارة العمل النقابي واكتسبت مشروعية وجودها عبر الانتخابات، إذ يمكن ملاحظة مستوى الحوار والمناقشة في مذكرة رفعتها اللجنة النقابية في شركة الرافدين لصناعة المنظفات في 13/10/1967 عن الحصة المتراكمة لأرباح العمال إلى رئيس المؤسسة العامة للصناعة، لاحظ وثيقة رقم (3). لقد بلغت هستيريا الانتقام ذروتها لدى ما سميت اللجنة النقابية المتواطئة مع الإدارة والاستخبارات العسكرية بالاعتداء المسلح في 15/11/1967 على العامل "عبد جاسم" رئيس اللجنة النقابية في شركة المنظفات، إذ أطلق "جياد عبد الرحمن" مع زمرته المكونة من: هاني إسماعيل وكامل محمد وهادي عبود من مدخل كراج شركة الزيوت النباتية الرصاص عليه فأصابته في ساقه، مما أدى إلى إضراب عمال الشركتين مباشرة استنكاراً للجريمة وطالبوا بضمانات تمنع تكرار الاعتداء على العمال في الشركة والقبض عليهم لإحالتهم على القضاء وفصلهم عن العمل... وتعهد رئيس نقابة المواد الغذائية "حمودي عيدان الجبوري" بتنفيذ مطالب العمال المشروعة. اجتمعت لدى العمال ثلاث قضايا عمالية متصلة وفي حقبة زمنية واحدة، تفاعلت مع الأجواء العمالية والثقافية في تنشيط الوعي والمسؤولية وخلق علاقات تضامن جديدة بعد دمج شركة الرافدين لصناعة المنظفات بشركة الزيوت النباتية. وكان انتخاب ممثل العمال في مجلس الإدارة ومتابعة تنفيذ قانون توزيع الأرباح في الشركات وانتخاب اللجنة النقابية الجديدة من أهم موضوعات التي شغلت العمال ثقافياً وحركت مشاعر الوحدة والتآلف، إذ كانت مقدمات طبيعية للإضراب في 5/11/1968. يعتبر قانون توزيع الأرباح في الشركات رقم (101) لسنة 1964، خطوة مهمة، أنعشت الحياة الاجتماعية والاقتصادية للعمال، وجعلتهم يشعرون بحضورهم الإنساني في المشاركة والآراء وتفعيل عناصر المراقبة الذاتية والجماعية والمنافسة في الإنتاج. "ازدادت طاقة الإنتاج في شركة الرافدين لصناعة المنظفات من دون زيادة عدد العمال فيها...، إذ بلغت الطاقة الإنتاجية الجديدة للمعمل (14000) طن كل سنة، بينما كانت (5500) طن كل سنة قبل التوسع"[3]. وواجهت تطبيق القانون عقبات كثيرة، كان من أهمها ضيق أفق بعض الإدارات وتخلفها الثقافي في مساواة توزيع الأرباح بين العمال والموظفين، إذ نص القانون على النحو التالي: " 25% تخصص للعمال والموظفين ويكون توزيعها على النحو التالي: 10% توزع على العمال والموظفين عند توزيع الأرباح على المساهمين ويوزع نصفها على جميع المشتغلين على أساس عدد أيام العمل خلال السنة دون اعتبار لنوع الوظيفة أو الأجر، الذي يتقاضاه الشخص...". فقانون توزيع الأرباح وتشكيل مجالس الإدارة في المنشآت والمشاريع الصناعية وكذلك نظام انتخاب ممثلي العمال والموظفين في مجالس إدارة الشركات والمشاريع الصناعية التي ظهرت العام 1964، كان يعدّ انجازاً مهماً في تنظيم الحركة العمالية وتنشيط دورها، لأنها خلقت فضاءات جديدة في الحوار والنقد والمشاركة وتنمية الوعي والمسؤولية من خلال الانتخابات. إلا أن تلك التجربة قد تعثرت ولم يحالفها النجاح لأنها "فوقية" ونسخة من قوانين التأميم والتحولات "الاشتراكية" في مصر، كما لم تأخذ طريقها الطبيعي في توفير كفاءات وقدرات تستوعب القوانين وتدافع عنها. وتعرضت إلى طرق شتى من الابتزاز والسرقات وتزوير الوثائق أو حجبها عن الجهات المسؤولة في الدولة، ولم تنفذ تلك القوانين إلا بعد مضي بضعة أعوام على صدورها. ومما له أهمية في هذا الباب، وبعد دمج شركة الرافدين لصناعة المنظفات بشركة الزيوت النباتية في 1/10/1967، جرت انتخابات عمالية لاختيار ممثل العمال في مجلس ادارة الشركة قبيل استلام البعثيين السلطة في تموز العام 1968. ووقع اختيار العمال على العامل النقابي "فاضل صبار" وفاز بانتخابات ديمقراطية حرّة وبنسبة عالية على منافسه البعثي "حسين الظفيري" وكلا العاملين هما من شركة الرافدين لصناعة المنظفات. فشكلت نتيجة الانتخابات تحولاً مهماً في بناء الثقة بين العمال وزرعت الآمال في تحقيق مطالبهم والتخلص من اللجنة النقابية المتواطئة مع إدارة الزيوت النباتية. شعر العمال بعد دمج الشركتين بتحررهم من كوابيس الإدارة وضغوطها وأساليب القسر والكراهية التي كانت تمارسها عليهم. رفضت حكومة "البعثيين" الموافقة على نتيجة الانتخابات التي جرت قبيل عودتهم إلى السلطة، فأعادت الانتخابات بوجود المرشحين العامل "فاضل صبار" و" حسين الظفيري" في شركة الزيوت النباتية. كانت نسبة المشاركين عالية وظهرت روح التحدي والوحدة بين العمال على الرغم من أجواء الرعب التي نشرتها وحدات من الشرطة والاستخبارات واستخدام أساليب الضغط والتهديد. فاز العامل "فاضل صبار" للمرة الثانية، فكان العمال بالمرصاد لأي محاولة للتلاعب بالانتخابات. وجرى اعتقال العامل "عبد جاسم" بتهمة الاعتداء على ممثل الحكومة في الانتخابات ابتداء من 17/8/1968 حتى 21/8/1968 في مركز شرطة "المسبح"، لأنه احتج مع عمال آخرين على محاولة تزوير الانتخابات، أُطلق سراحه بغرامة قدرها (4) دنانير في محكمة جزاء الكرادة الشرقية. يلاحظ أنّ قانون تشكيل مجالس الإدارة في المنشآت والمشاريع الصناعية رقم (102) لسنة 1964، أنظر وثيقة رقم (2)، قد أطلق الاختيار للعمال من دون حواجز أو شروط تحول دون ترشيح العمال، وميز القانون بين عضوية اللجان النقابية وعضوية مجالس الإدارة، واعتبر الاقتراع بالطريقة السرية المباشرة وبإشراف وزارة العمل. فجرى التنويع في الانتخابات وتوسيع المشاركة العمالية، واستبعدت اللجان النقابية من حق الجمع بينها وبين الترشيح لمجالس الإدارة، فأضفى الإجراء بعداً ديمقراطياً على الحياة العمالية. إلا أن حكومة "البعث" ألغت القانون وحولته إلى ملحق من ملاحقها السيئة الصيت في الهيمنة والاستحواذ، لأنها لا تحتمل وجود ممثلين "غير بعثيين" في عضوية مجالس الإدارة. فكان قانون العمل رقم 151 لسنة 1970، يمثل ذروة التراجع والنكوص عن الالتزامات القانونية بالتدخل في النظام النقابي وطرق الانتماء إلى النقابة، ففي مادة العضوية والانتساب... "إذا حكم على العامل النقابي بالفصل، وأصبح الحكم قطعياً، لا يجوز له الانتساب مجدداً إلى أية نقابة، ما لم تزل الأسباب التي أدت للحكم عليه..." ألغى القانون رقم (194) لسنة 1970، القانون رقم (102) لسنة 1964 وحصر اختيار ممثل العمال في مجلس الإدارة بمجلس إدارة النقابة، كما في المادة الثانية: "يجب أن لا يزيد عدد أعضاء مجلس إدارة المشروع أو الشركة على سبعة أعضاء من بينهم عضوان يمثلان العمال، يجري اختيارهما من قبل مجلس إدارة النقابة المختصة من بين منتسبي الشركة أو المشروع وآخر ينتخب عن الموظفين بالاقتراع السري المباشر تحت إشراف الوزارة وتكون مدة العضوية لهم سنتين". واشترط القانون كما في المادة الرابعة باقتران اختيار ممثلي العمال بمصادقة الاتحاد العام لنقابات العمال، حيث جاء فيها: يضاف ممثلان عن العمال إلى أعضاء مجالس إدارة المؤسسات والمصالح الحكومية التي يديرها مجلس إدارة، يجري اختيارهما من قبل النقابة المختصة من بين منتسبي المؤسسة والمصالح المعنية، على أن يقترن الاختيار بمصادقة الاتحاد العام لنقابات العمال..." وجاء في المادة السابعة: يلغى قانون تشكيل مجالس الإدارة رقم (102) لسنة 1964.. المعدل... إننا نعتقد أنّ هذا الإجراء كان يهدف إلى إقصاء العمال الآخرين عن ميادين العمل والمشاركة في الحياة العمالية وحصر النشاطات العمالية والنقابية بدوائر "البعث" القمعية، كما أنها لا تخرج عن التجربة العمالية المثيرة التي حققها عمال شركة الزيوت النباتية في إعادة انتخاب العامل "فاضل صبار". وتراجعت حكومة "البعث" في تطبيق قانون تنظيم الأرباح واعتبرته يخلّ بالتوجهات "الاشتراكية"، وجاء في القرار (457) في 1/4/1971: تحول جميع المبالغ المتراكمة المستحقة من نسبة الـ 50% من أرباح الشركات المخصصة للخدمات الاجتماعية والاسكان بموجب أحكام الفقرة ب/2 من المادة الأولى من القانون رقم (101) لسنة 1964 التي لم تسدد إلى مؤسسة الاستثمارات العمالية سواء ما هو مودع منها لدى المصرف العقاري أو ما هو باق في ذمة المكلفين من أصحاب العمل إلى الاتحاد العام لنقابات العمال. وظهرت تغيرات أخرى أجرتها حكومة "البعث" على قانون العمل وعلى المواد الخاصة بحق الإضراب...[5،4]
انتخاب اللجنة النقابية كانت الفرصة مواتية لعمال الشركتين بعد دمجهما لانتخاب لجنة نقابية جديدة تمثل إرادتهم. حاول العمال المرشحون التفاهم مع العمال "البعثيين" لانتخاب لجنة نقابية واحدة من دون التنافس بقائمتين اثنتين. رفض المرشحون في قائمة "كفاح العمال" طلبهم بالحصول على الغالبية من أعضاء اللجنة النقابية وقرروا الذهاب إلى صناديق الاقتراع. وصلت سيارات نقل العمال إلى مقر نقابة المواد الغذائية في البتاويين عند عودتهم إلى بيوتهم. احتشد العمال أمام مقر النقابة بجمع عمالي هائل، يهتفون بحياة الطبقة العاملة وكفاحها المجيد ويحملون معهم أسماء العمال المرشحين في القائمة. اضطر رئيس النقابة "حمودي عيدان الجبوري" إلى الإعلان عن فوز القائمة من دون منافس. أبلغت النقابة وزارة العمل وإدارة الشركة تحريرياً، بفوز قائمة "كفاح العمال" إلا أنّ وزارة العمل والشؤون الاجتماعية رفضت النتيجة واعتبرتها ـ كالعادة ـ "غير قانونية". ردّ عمال الشركتين على قرار وزارة العمل، بعدم الاعتراف بنتيجة الانتخابات العمالية بحملة تواقيع شاملة، ضمّت ما يزيد على 700 توقيع، ما أدهش الوزارة والإدارة في آن، وصارت الردود المتبادلة بطرق سلمية تعلق في لوحات الإعلان في الشركة، فازدادت اللجنة النقابية الجديدة ثقة وتوطدت علاقاتها بالعمال. إلا أنّ التوتر بين الطرفين، قائمة "البعثيين" وقائمة كفاح العمال في الشركة، صار على أشده، من دون حوار أو نقاش وكانت اللجنة النقابية المنتخبة، تمثل تحدياً للسلطة وجلاوزة حزب "البعث" في الإطار السياسي العام. مارست اللجنة النقابية أعمالها ونشاطاتها العمالية والنقابية بعقد الاجتماعات وتنشيط عملية الحوار والمناقشات مع الوزارة المذكورة. فاختفت لجنة البعثيين عن الأنظار ولجنة الإدارة والاستخبارات العسكرية التي كان يتولاها "جياد عبد الرحمن". تشكلت اللجنة النقابية الجديدة لعمال الشركتين من: • جبار لفتة • عبد جاسم • غضبان أحمد • شنشل عبد الله • فاضل حبيب • مجيد مومن • عبد العظيم حميد • حسين گاطع • كرم مشجل • محمد موسى اخلاطي • مليح گطيف • شاكر حلو • محمد حسن فاللجنة النقابية بتشكيلتها الشابة النشطة من كلا الشركتين حققت حضوراً عمالياً جميلاً في توطيد علاقة الثقة وبناء أسس نقابية جديدة مع العمال، وكان مديرها الإداري "نبيه مهدي" يحرض حاشيته على اللجنة المنتخبة ويخلق العقبات عليها. إنّ وجود لجنة نقابية جديدة، تعني لدى عمال الشركتين وبخاصة عمال الزيوت النباتية، الاشتغال لتحريرهم من ضغوط الإدارة وتخفيف حدة الكراهية والملاحقات عليهم، وإعادة الاعتبار الإنساني/ العمالي لوجودهم. فكان قضية توزيع نسبة 5% من الأرباح العامة البالغة 25% يشكل هاجساً إنسانياً، تزيح عنهم كاهل الشعور بمرارة الجور والتمييز الاجتماعي، إذ أنّ عمال شركة الرافدين لصناعة المنظفات المجاورة لشركتهم، يحققون مطالبهم ويحصلون على نسبة الأرباح من دون عنت كبير، بالإضافة إلى أنّ النسبة المقررة، تساعد العمال على إنعاش حياتهم الاقتصادية والاجتماعية.
مذكرة الإضراب انتشرت اللجنة النقابية المنتخبة بين العمال بصورة حيوية تستطلع آراءهم، فكان التأييد العمالي على أشده. وكنا نفاجأ بعدد العمال ووعيهم واستعدادهم للمضي قدماً من أجل إعداد مذكرة الإضراب بحسب قانون العمل وتقديمها إلى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية ووزارة الصناعة. عرفت اللجنة النقابية بانفتاحها على العمال جميعاً وبالاستشارة والحوار والمناقشات، فعرضت مسودة المذكرة عليهم، وصارت تتابع اجتماعاتها في مقر قائمة "كفاح العمال" في ساحة النصر. شهدت تلك الحقبة نهضة عمالية من طراز جديد، في الحركة والتضامن وتقديم أسئلة الوعي والموقف، وظهرت ثلاث قوائم عمالية لخوض الانتخابات هي: • قائمة كفاح العمال/ الحزب الشيوعي العراقي/ قيادة مركزية. • قائمة نضال العمال/ الحزب الشيوعي العراقي. • القائمة العمالية التقدمية الاشتراكية/ قائمة حزب السلطة (البعث). وبمراجعة نقدية متواضعة لحملة الانتخابات العمالية وما أفرزتها من مضاعفات على الحركة النقابية، تتضح الأخطاء الإستراتيجية في زجّ العمال بانتخابات بائسة ومعروفة النتائج سلفاً، ما يدلل على أهمية استقلال الحركة العمالية والنقابية من الدخول في الصراعات السياسية/ الحزبية. مارس النظام البعثي، سياسة الجور والاستبداد والضغط على العمال لعزلهم عن ساحة الانتخابات، ونظم فرق مطاردة، يقودها "بدن فاضل" وبإشراف الجلاد "ناظم گزار" تلاحق العمال في محال عملهم، وإن لم يخضعوا لذلك يمارسون الجور والتهديد على عوائلهم... لهذا أخذ "الجلاّد" الآخر "أنور عبد القادر الحديثي" مسؤولية الإشراف على الانتخابات العمالية بنفسه، باعتباره وزيراً للعمل والشؤون الاجتماعية، نقرأ الخبر التالي: "جرت صباح أمس الانتخابات العمالية في شركة دخان الرافدين، أشرف عليها "أنور عبد القادر الحديثي" وزير العمل والشؤون الاجتماعية ولجنة مؤلفة من الحاكم "فؤاد التكرلي" وممثل عن وزارة العمل والشؤون الاجتماعية وممثلون عن القوائم المتنافسة، فازت القائمة العمالية الاشتراكية بـ (248) صوتاً في انتخابات شركة الدخان الأهلية وحصلت قائمة نضال العمال على (16) صوتاً و(52) صوتاً لقائمة كفاح العمال...[6] … فوز القائمة العمالية الاشتراكية لنقابات العمال ومستخدمي المطابع... بالتزكية، لإنسحاب كافة القوائم المنافسة لها...[7] … انسحاب من قوائم نضال العمال وكفاح العمال في النفط...[8] جاء في بيان الحزب الشيوعي العراقي تعليقاً على حادث الهجوم المسلح على الاعتصام السلمي "المجاز" في 7/11/1968 في ساحة السباع في ذكرى ثورة أكتوبر الروسية: "لقد مسخت الانتخابات النقابية مسخاً لم يسبق له مثيل في جميع الفترات الدكتاتورية السابقة..." ومما له أهمية في هذا المجال، أنّ العمال في الشركتين وبخاصة عمال شركة الرافدين لصناعة المنظفات قرروا الإضراب في حال التجاوز أو اعتقال أيّ من أعضاء اللجنة النقابية. فمذكرة الإضراب التي تقدم بها العمال في 27/10/1968 إلى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، وصل ردّ الوزارة السلبي بعد يوم واحد فقط من تقديمها، باعتبارها غير "قانونية". وفي 31/10/1968، داهمت قوة من شرطة "المسبح" برفقة بعثيين منهم "حميد السامرائي" المرشح لنقابة المواد الغذائية، من شركة "بيبسي كولا" شركة الرافدين لصناعة المنظفات فاعتقلت العامل "عبد جاسم"، ما أدى إلى إضراب عمال الشركة في الحال، وتم اعتقال العمال: "محسن حسين" و"مليح گطيف" و"فاضل صبار"... وجرى حوار غير متكافئ بين مدير أمن بغداد "مهدي صالح الرفاعي" والعمال المعتقلين، طالب بسحب مذكرة الإضراب والعودة إلى العمل بصورة طبيعية، رفض العمال رأيه وطالبوا بضرورة تجريد "البعثيين" الموجودين في الشركتين من "السلاح" وإيقاف الانتهاكات اليومية التي يمارسونها على العمال، وتنفيذ مطالب العمال باعتبارها مشروعة نصّ عليها قانون تنظيم الأرباح، كما أن الإضراب نفسه سلمي وبحسب قانون العمل، بمعنى ليس هناك تجاوز على نصّ قانوني... وبلغة تهديد واضحة عبر عن استعدادهم لاستخدام القوة إذا نُفذ الإضراب... شعر العمال المعتقلون بقلق السلطة واضطرابها من خلال المكالمات الهاتفية أثناء ساعات حوار السلطة مع العمال. أُطلق سراح المعتقلين في المساء، وعاد العمال إلى العمل... إلا أنّ وزير العمل والشؤون الاجتماعية طلب اللقاء باللجنة النقابية، قبيل تنفيذ الإضراب ببضعة أيام. وصلت اللجنة النقابية إلى الوزارة بواسطة "القارب" النهري تجنباً لاحتمال الاعتقال، لوجود "بعثيين" ورجال أمن ينتظرون العمال عند جسر الشهداء... كانت اللجنة النقابية تمتلئ ثقة وإصراراً على الإضراب ما دامت المطالب قانونية وعادلة، فتوزع العمال في قاعة الاستقبال، إلا أنّ البعثي الجلاد "مبدر سطّام" كان يقف إلى جانب الوزير، شعر العمال بتوتر الأجواء. طالب الوزير كالعادة بسحب مذكرة الإضراب، وأن الحكومة تنوي تنفيذ مشاريع اجتماعية وسكنية وتوفير ضمانات كافية للعمال من خلال استثمار نسبة الأرباح في القانون... تعدّ شركة الزيوت النباتية من الشركات الواسعة جداً في بغداد تطلّ على نهر دجلة في طرفها الجنوبي، وتحاذي "معسكر الرشيد" وتقع بين شركة "البيبسي كولا" وشركة "الرافدين لصناعة المنظفات" وتضمّ معامل الصابون والزيوت ومخازن ضخمة من القطن. وكانت تعتبر من الشركات المنتجة بطاقات تكفي للاستهلاك المحلي وتصدر بعض منتجاتها إلى الدول المجاورة. وكان للعمال دور مهم في الحركة الوطنية تمثل في دعم حركات التحرر في البلدان العربية والمشاركة في الانتفاضات الشعبية والوطنية في العراق. لعب العمال العراقيون دورهم البارز في حرب القتال والاعتداء الثلاثي على مصر 1956، خرج عمال الزيوت النباتية في مظاهرة عارمة ساخطة في بغداد، كانت بالمنطقة الصناعية، فانضم إليهم عمال المياه الغازية متضامنين، كما اشترك معهم عمال مختلف المهن.[9] طوقتها مفارز الشرطة والأمن والاستخبارات والجيش وفرضت حصاراً عسكرياً على كلّ مداخلها، فكان يعتبر تهديداً مباشراً إذا نفذ العمال إضرابهم. اجتمعت اللجنة النقابية مرة أخرى في قائمة "كفاح العمال" وقرروا بأنفسهم ومن دون وصاية أن يعلنوا "للتمويه" إلغاء الإضراب لوجود "ضمانات" من الوزير بتحقيق مطالب العمال، غايتها تخفيف حال التوتر، ولعلها تؤدي إلى سحب القوات العسكرية من مواقعها حول الشركة. إلا أنّ اللجنة النقابية، كانت اتخذت كل التدابير والخطوات العملية لتنفيذ الإضراب، فشكلت لجاناً عمالية عدة، تتولى الحراسة و"لحم" الأبواب ومراقبة "البعثيين" من العمال والموظفين بطردهم من الشركة ولجنة "التفاوض" وأخرى حماية المعامل من احتمالات العبث والحرائق ولجنة "الطعام". فحاولت اللجنة النقابية أن تظهر وكأنها تؤدي دوراً تمثيلياً، يفرض عليها الهدوء والاتزان والحفاظ على سرية القرار بالإضراب. اتفق العمال على ساعة الإضراب، فصار 5/11/1968 بدلاً من 6/11/1968 في إتمام مدة الأيام العشرة بالإنذار، وإخبار الوجبة المسائية بوقت قصير للبقاء مع عمال الوجبة الصباحية، وعهد الى المسائية إعداد إجراءات الحماية ولحم الأبواب إلا أنّ القوات العسكرية انسحبت من مواقعها وكأنها اطمأنت إلى "الإلغاء" والعودة إلى العمل، مثلما اطمأن "البعثيون" وجلاوزتهم في الشركة. فازدادت الثقة بين العمال لعدم تسريب الخطة إلى الآخرين.
لحظة الإضراب... وصلت سيارات نقل العمال كلها إلى الشركة، انسحبت القوات العسكرية قبل يومين، ولا يبدو أن خبر تقديم موعد الإضراب يوماً واحداً قد تسرب إلى السلطة وأعوانها... مسؤولية الإعلان عن الإضراب في تلك اللحظة، كانت معقدة وصعبة في ظل ظروف سياسية، كان الحزب الحاكم فيها يراهن إعلامياً في الشهور الأولى من انقلابه العسكري، بأنه لن يكرر جرائمه التاريخية البشعة في 8 شباط العام 1963، وأنه يدعو إلى حكومة "ائتلافية وجبهة موحدة" و"انفتاحات" على القوى السياسية! كانت لغته تميل إلى "التهدئة" و"جبر الخواطر" المنكسرة بالاقتراب من الأحزاب والجماعات السياسية لتثبيت خطوات وجوده الأولى وإجراء "حوارات" ولقاءات سياسية في ظلّ مشروع هيمنة "الحزب الحاكم" و"عروس الثورات" شباط 1963. فإعلان الإضراب، كان يعتبر تحدياً وامتحاناً لكل تلك "الإعلانات" السياسية ومحاولات التواصل معها وبناء علاقات ثقة وشكل "إحراجاً" لقوى سياسية تواطأت مع الحزب "الحاكم" قبل انقلابه وبعده. والإضراب من جهة ثانية، كان يمثل الحركة العمالية والنقابية في العراق، من حيث الوعي والتنظيم والإدارة والالتزام بقانون العمل، فهو ليس إجراء مؤقتاً أو تعبيراً عن لحظة غضب استثنائية، لأنه استكمل الإجراءات القانونية وخطوات الإعداد والتحضير. خلق الإضراب طوال مدة الاشتغال به فضاءً جميلاً للمحبة والوعي والحوار والمناقشات، فكنا نفاجأ في لجنة الإضراب، بحماسة العمال واستعدادهم للانضمام إلى اللجان الداخلية للإضراب. أخذت لجنة "لحم الأبواب" على عاتقها إعداد مستلزمات الغلق في الوجبة المسائية من دون صعوبات تذكر، إذ كنا ندرك احتمالات الهجوم على العمال المضربين من خلال الأبواب المتوزعة حول الشركة... ولجنة "صيانة الشركة" وحمايتها من الأعمال التخريبية لأن معامل شركة الزيوت النباتية قابلة للاشتعال بخاصة "قسم الهدرجة" والمخازن و"بالات" القطن... طلبت تلك اللجنة من العمال والموظفين البعثيين مغادرة الشركة على الفور حفاظاً على سلامة الشركة وسلامتهم أيضاً... أغلق العمال الباب الرئيس المواجه لشركة الرافدين لصناعة المنظفات... هتفوا بحياة الطبقة العاملة وتاريخها المجيد وكتبوا مطالبهم على لوحات خشبية، كانت تنصّ على ما جاء في مذكرة الإضراب، بتنفيذ حصة العمال من قانون توزيع الأرباح ومطالب نقابية وعمالية. بعد حوالي عشرين دقيقة على لحظة إعلان الإضراب، استخدم عدد من العمال البعثيين منهم "مبدر سطام" السلاح على العمال المضربين من جهة الباب الرئيس، واستمر إطلاق الرصاص من دون ردّ عليهم، لأن العمال المضربين كانوا مسالمين، يعتمدون على نصّ قانوني... أضاف العمال مطالب جديدة على مطالبهم السابقة في لوحات خشبية منها: إحالة المجرمين بأسمائهم إلى القضاء. ازداد انتشار قوات الشرطة والأمن والاستخبارات وقوات عسكرية، يقودها آمر معسكر الرشيد "فهد جواد الميرة" فصار العمال تحت قبضة الجيش والشرطة فحوصرت الشركة من كل مداخلها وأبوابها... وكان صوت "صلاح عمر العلي" يلعلع في سيارة البيبسي كولا، ويهدد ويتوعد العمال المضربين، مما قاله: "إن القائمة العمالية الاشتراكية تؤيد مطالبكم، لكنها تحذركم من العناصر التخريبية بين صفوفكم..." أنظر وثيقة رقم (8). وقف مع زمرته المتوترة جداً، وبصحبته ممثل وزارة العمل والشؤون الاجتماعية وآخرون... ـ نريد التفاهم والحوار... ـ نحن أيضاً نريد حلّ قضيتنا... ـ افتحوا لنا الباب لنتفاوض معكم في داخل الشركة... ـ اكتبوا وثيقة توقعها وزارة العمل والشؤون الاجتماعية بالاعتراف بحقنا أولاً مع مدة زمنية للتنفيذ. ـ كيف نتفاوض ونحن خارج الشركة... فهد جواد الميرة ـ مذكرة الإضراب واضحة وقانونية... ـ لا، ليست قانونية... ممثل وزارة العمل. ـ تستطيع أن تضع هذا القانون الذي بين يديك، تحت إبطك الآن!! ـ أنا معروف بمواقفي "اليسارية" اسألوا رفاقكم عني كم قضيت في السجون والمعتقلات من أجلكم، ثم بسط راحة يده الممتلئة للدلالة على "نزاهته"!! جاء العامل "علي عبو" يشكو من اعتداءات جرت عليهم من جهة الباب الجنوبي للشركة جانب "النهر". تزداد كثافة الحضور العسكري والحكومي والزمر البعثية خارج الشركة، يبقى "صلاح عمر العلي" بحسب مكانته في الدولة والحزب ومسؤوليته في "التنظيم العمالي" صاحب الرأي الأخير في التعامل مع الإضراب... بدت الأزمة تميل نحو استخدام "العنف" على العمال المضربين كنت استمع إلى أحاديثهم وتعليقاتهم، خلف الباب... قالوا: نريد أن نتحدث إلى "عبد جاسم" و"غضبان أحمد"... ـ نحن العمال نمثل الجميع، كانوا يردون عليهم... اقتربت من الباب الرئيس وجهاً لوجه مع "صلاح عمر العلي" وزمرته، كان إلى جانبه "فهد جواد الميرة". ـ هل تعرفني أنا "صائب" زميلك في المتوسطة النظامية، لماذا الإضراب؟ دعنا نتفاهم إلى حلّ الإضراب وعودة العمال إلى أعمالهم. أدركت أن زميلي "صائب" يتحدث باسم "أمن بغداد"!! لا ترى خلف جدار الشركة غير "طوابير" من المسلحين وقوات الشرطة والجيش وسيارات إسعاف وسيارات النجدة، وعدداً من "الدبابات" كانت تستطلع موقع الإضراب في ساعته الأولى.
الهجوم المسلح بدأت لحظة إطلاق الرصاص على العمال في الواحدة إلا عشرين دقيقة ظهراً. شاهدت بنفسي مشاهد الجريمة، إذ وقف العامل البعثي "مبدر سطام" الذي أطلق الرصاص على العمال في الساعة الأولى من الإضراب، يكرر جريمته مرة ثانية بوقوفه على "مرتفع" عند الباب الرئيس للشركة ويصوب الرصاص بصورة عشوائية، كان إلى جانبه صلاح عمر العلي وفهد جواد الميرة وآخرون من "أزلام" الحزب والسلطة!! سقط العامل النقابي "جبار لفتة" شهيداً أمامي رافقت إطلاق الرصاص حملة الهجوم على العمال من جهة "النهر" بدخول زمر من "البعثيين" وقوات الشرطة والأمن، واجه العمال عصابات العنف والاعتداءات بالزجاج وأسلاك الحديد والطابوق... إلا أنّ قوة البطش، أعادت للذاكرة، الصفحات السوداء من تاريخ العراق الحديث في 8 شباط 1963. اعتقلت قوات الأمن والاستخبارات عشرات العمال وزجتهم في مركز شرطة "المسبح" وأمن بغداد، كان منهم العمال: غضبان أحمد، شنشل عبد الله، فاضل حبيب، شاكر حلو، هاشم حسن، حسين گاطع، كرم مشجل، مجيد مومن، علي عبو، حسين جخير، محمد عبد، هاشم حمدي، خلف محمد. يُذكر أن حملات اعتقال أخرى جرت مباشرة على العمال المضربين في مداهمة بيوتهم ممن لم يعتقلوا بعد الهجوم المسلح على العمال، استخدموا أساليبهم الوحشية في الاعتداء على عوائلهم وإدخال الرعب عليهم، كان منها أن فقد العامل النقابي "فاضل حبيب" ابنه "نعمان" الذي لم يكمل عامه الأول عند العبث بفراش نومه. تركزت إجراءات التحقيق في اتهام "عبد جاسم" بأنه هو الذي قتل العامل النقابي "جبار لفتة" أو في اضعف الاحتمالات بأنه كان يحمل مسدساً وقت الإضراب!! إنّ القصص التي يسجلها العمال المعتقلون وبخاصة "غضبان أحمد" والعامل النقابي "شنشل عبد الله" وآخرون، تعبر عن الوحشية التي كانوا يمارسونها على العمال لانتزاع اعترافات كاذبة، مفادها أن العامل "عبد جاسم" هو الذي قتل النقابي "جبار لفتة".
صيدلية الشركة... الملاذ الآمن... إنها مصادفة لا غير، إذ طلبت في وقت مبكر من صباح الإضراب من أحد العاملين في "الصيدلية" مغادرة الشركة لعدم الاطمئنان إليه، فوضعت مفتاحها في "جيبي". تفرّق العمال، بعد انتشار الرعب وسقوط عدد من الجرحى واستشهاد العامل النقابي "جبار لفتة" فآثر قسم منهم السلامة بالخروج من الشركة، واعتقل آخرون... وضعني المشهد العمالي بكل تفاصيله، أن أبقى شعورياً في الشركة وإلا أخرج منها لحظة الهجوم المسلح، ولا بعده، على الرغم من إلحاح زملائي بالخروج معهم، لإنقاذ نفسي من الآتي!! أخرجت المفتاح من "جيبي"، دخلت غرفة الصيدلية الصغيرة جداً، لا تتسع حتى لسرير واحد. أسدلت الستارة الكثيفة بالتمام، وأغلقت الباب، جلست على "الكرسي" الوحيد فيها عند الباب، من دون صرير أو حركة. عليك أن تحافظ على الهدوء والاتزان، دع عنك الخوف والقلق! مشهد تمثيلي لا محال من الاستغراق في تفاصيله والنهايات مفتوحة على كل الاحتمالات. تأتيك أصوات رعب، سيارات إسعاف، نجدة، سحب أقسام أسلحة، حركة جند، شرطة... ـ قف، لا تتحرك! ـ إنه هنا في الصيدلية... ـ أخرج منها لك الأمان... مضت ثلاث ساعات على وجودي، اضطرابي، الساعة الرابعة مساءً. بدأ العدّ التنازلي في البحث عن مخرج، إلى متى سأبقى في الصيدلية. ـ لماذا لم يقتحموا الصيدلية إذا كانوا مقتنعين بوجودي فيها! إنهم لا يريدون ارتكاب حماقة جديدة، كانوا يتصورون بأنني أحمل سلاحاً! تقع غرفة الصيدلية في جهة منعزلة عن معامل الشركة والإدارة، لكنها بالقرب من مغاسل الشركة. ـ ماذا يجري لو خرجت من "الصيدلية" إلى عمال الوجبة المسائية وحصلت على بذلة عمل، ألبسها لحين الخروج من الشركة... بلغت الساعة الخامسة مساءً ـ كل العمال طيبون، سيوفرونها ويبحثون عن مخرج لي من الأزمة... هدأت الأصوات خارج الصيدلية، بدأت تختفي، لا يحتمل البقاء في هذا المكان أكثر من أربع ساعات، مزقت كل الأوراق أتلفتها، عن الإضراب واللجان، وما يتعلق بأسماء المشاركين وقصاصات أخرى...
لحظة القبض عليه... وضعت خطواتي الأولى بحذر شديد، خارج الصيدلية. صرخ أحد الموظفين البعثيين: "هذا...". سحبوا أقسام أسلحتهم، وأخذوا حال الانبطاح. واجهت شرطياً ممدداً، كان يعاني من النهوض؛ لأن "كرشه" لا يساعده على الحركة. ـ لا سلاح معه... قال أحدهم. وجدت نفسي بين ثلة من الشرطة والنجدة والانضباط العسكري، تعالت أصوات الاتصال: ـ نعم سيدي، ألقينا القبض على المجرم الأول. وضعوا القيد في معصمي منذ لحظة الاعتقال. بدت الشركة حزينة، شاحبة، تحولت إلى ثكنة عسكرية. تحركت سيارات النجدة مع عدد من سيارات الشرطة والانضباط العسكري إلى مركز شرطة "المسبح". يشهد المكان حركة من الفوضى والاضطراب، تأتيك أصوات التعذيب والرعب. ـ مَنْ قتل العامل "جبار لفتة"؟ ـ أين الأسلحة التي كانت معكم في الشركة؟ ـ لا سلاح معنا، نحن عمال مسالمون، وإضرابنا قانوني في كل مراحله. ـ الأدلة التي بين أيدينا تؤكد بأنك أنت الذي قتلت العامل "جبار لفتة". ـ إنه من أعضاء اللجنة النقابية ولجنة الإضراب... انتقلنا جميعاً من التحقيقات الأولية في مركز شرطة المسبح إلى معتقل أمن بغداد. ـ كن مطمئناً، نحن محققون مهنيون، غير حزبيين... ـ ينادي ضابط التحقيق على العمال المعتقلين، واحداً واحداً. كنت مقيداً في سلسلة خلف المحقق. ـ هل شاهدت "عبد جاسم" يحمل مسدساً أو يطلق الرصاص؟ ـ لا، لم أشاهده. كنت أشعر بفرح غامر، عند متابعتي التحقيق مع العمال وأبعث إليهم إشارات محبة واعتزاز لمواقفهم وصمودهم. تكرر السؤال على عامل، ضعيف بصره، يعمل في مخازن القطن. ـ هل شاهدته؟ ـ لا، لا سيدي، أنا لا أعرفه، سيدي، إنه سبب المشاكل كلها... ـ هل تعرفه، إذا عرضته عليك؟ ـ لا، لا أعرفه، ولكنني أسمع به كثيراً. وضعت في غرفة "انفرادية" صغيرة جداً، في ما كان يسمى الموقف "الصغير" ووضعوا زملائي العمال في الموقف "الكبير". زجوا أصدقاءنا من قيادة الحركة الاشتراكية العربية في اليوم الثاني من الإضراب في غرفة ضيقة، لبيان الاحتجاج والاستنكار المملوء غضباً وتضامناً مع إضراب عمال الزيوت النباتية، فكانت له الريادة والوضوح في إدانة الهجوم الوحشي المسلح على إضراب سلمي، إلى جانب بيان الحزب الشيوعي العراقي/ القيادة المركزية، أنظر وثيقة رقم (7). زارني في غرفة التوقيف "الانفرادي" زميلي في متوسطة "النظامية" ضابط الأمن "صائب" للمساعدة في إخبار عائلتي بالاعتقال والسلامة. نادى على رئيس العرفاء "جبر" بمراعاتي بخلاف آمر معسكر الرشيد "فهد جواد الميرة"، الذي قال: "اعتقلت أفراد الانضباط العسكري لأنهم لم يقبضوا عليك، وقعت بيد شرطة النجدة، أنت محظوظ! وقال آخر: "اختر الطريقة التي تناسبك في الموت"!
المعتقـل أمضيت عاماً في معتقل مديرية الأمن العامة في بغداد، أشعر بالحيوية والثقة بالعمال والناس والحياة، في خضم حركة وحضور وانتماء اجتماعي. نجوت من الموت في لحظة إطلاق الرصاص علينا، كنت إلى جانب رفيقنا الراحل "جبار لفتة"، بقيت واقفاً، كأنها لحظة غضب على وحشية الهجوم. كان الخياط "سلامة" اللبناني الجنسية "مختار" المعتقل، يسأله المعتقلون الجدد، يقدم إليهم المساعدات. اتهم بأنه سرب معلومات عن انقلاب عسكري ينظمه البعثيون على الحكم العارفي، لأن محله كان يرتاده عدد من العسكريين القوميين. وقف ذات يوم أمام غرفتي الانفرادية، وبسؤال استفزازي، قال: ـ ألا فكرت يوماً بأنهم سيقتادونك إلى الإعدام؟ كان الموقوفون في معظمهم يتجنبون الوقوف والكلام معي، خشية العيون التي تترصدهم. كنت أتسلى بجهاز الراديو الصغير وقراءة صحف الحكومة. لكنّ شاباً يهودياً لم يبلغ العشرين من عمره، كان يقضي ساعات معي، يحكي قصة اعتقاله وأفراد أسرته، لوجود نيّة في مغادرة العراق. إنه من الطلاب الأوائل في الثانوية وجامعة "الحكمة". كانت العائلة تضع برامج شهرية للقراءة والحوار والمناقشات لمعالجة أزمة العزلة. أدهشني الشاب لمعلوماته العامة في التاريخ والجغرافية، يضع خارطة العالم بكل تفاصيله في ذهنه. كان الموقف يكتظ بالقادمين إليه، من السياسيين والمعارضين وما يسمون بالجناح السوري لحزب البعث، ورجال الدين والعشائر والخارجين على البعث نفسه أو الذين تعاونوا عليه مع النظام العارفي... إنهم خليط غريب من المجتمع، يمكن أن تجد المهربين وتجار "الحشيش" و"المقاولين" الذين لم يخضعوا كما يجب لفروض "الإتاوة" ومن رجال الاستخبارات العربية والدولية... كانت موجات الاعتقال تجري على الجبهات كلها، ولعلّ من أهمها في ذلك الحين، مطاردة الجناح السوري لحزب البعث في العراق وحملات الاعتقال على طلبة المدارس الدينية في النجف. يحتجّ البعثي الشقي "قيس الجندي" على الاكتظاظ، يهزّ باب المعتقل بعنف مع شتائم وألفاظ قاسية على جماعته. تصل المعتقل بعد ساعة زمرة شابة مسلحة من ثلاثة أشخاص، تلوي يديه على ظهره وتقوده خارج المعتقل من دون أن يتفوه بكلمة واحدة، عاد الجميع بصمت موحش إلى أماكنهم. كان "ناظم گزار" رجل البعث في الشارع لملاحقة الجناح الآخر، يعرفهم فرداً فرداً. ولعلّ حادثة اغتيال العقيد "عبد الكريم مصطفى نصرة" من العمليات الأولى في التصفيات الجسدية. كان الجندي (س) يعذّب يومياً بوصفه مرافقاً للعقيد، ليردد كلمات في التلفزيون العراقي، لا يقوى على اتهام نفسه بها، بأنه قتل "العقيد" ليسرق ماله وسيارته ويتجه بها نحو الحدود مع السعودية!! كان العدد كبيراً من الشباب البعثيين/ جناح سورية، تآلفوا مع المعتقلين جميعاً من دون أزمات، تلقفوا أغنية "حسين نعمة" الجديدة "لا خبر.. لا جفية.. لا حامض حلو.. لا شربت..." يرددونها بين حين وآخر، خلقوا أجواء مرح في المعتقل. شعروا بالإحراج من التهمة الأخلاقية التي وجهها البعث الحاكم إلى العقيد ومرافقه للتنكيل به وتصفيته جسدياً وأخلاقياً. تصل بين الحين والآخر أعداد من قيادات الحزب الشيوعي العراقي/ القيادة المركزية، بعد انهيارات "عزيز الحاج" العلنية واعترافاته، خطفهم جلادو النظام وغاب بعضهم في التعذيب، إلا أنّ قصة اعتقال إحدى اللجان التنظيمية المهمة في قيادة الحزب الشيوعي العراق، كانت ذات شأن خاص، كان منهم: مهدي عبد الكريم وحسين سلطان و"أبو شلال"، روج البعثيون عند التحقيق معهم تهمة دنيئة وخبيثة للسخرية بهم، بأنهم كانوا يظنون بأن المنزل التي داهموها كانت داراً للبغاء في مدينة "الثورة"، أطلقوهم بعد أيام، وأبقوا "مهدي عبد الكريم" لأيام أخرى، ثم أطلقوه بكفالة مالية لحيازته مسدساً!
الإضراب عن الطعام... أضربت عن الطعام في غرفتي الانفرادية لمدة خمسة عشر يوماً. طالبت بإجراء تحقيق عادل وتقديمنا إلى المحكمة، والسماح بالزيارات وفتح باب الانفرادي، الذي دام اعتقالي فيه حوالي أربعة أشهر، غضبت إدارة الأمن العامة، واستخدم "المدير" بنفسه أساليب من التعذيب في مكتبه. كان الطبيب يعاودني بين الحين والآخر، حتى تحققت مطالبنا، فكانت الزيارة الأولى لعائلتي واندمجت مع المعتقلين.
إبراهيم زاير... دخل المعتقل شاب طويل القامة، أفصح في الحال عن اسمه ومهنته، إنه الصحافي في جريدة الجمهورية "إبراهيم زاير"، قرأت له وسمعت عنه فاستقبلته بما يليق به، وكان صديقنا الكاتب "جمعة اللامي" البداية الأولى في الحديث عن الكتابة والصحافة وبناء علاقة ومودة مع القادم الجديد. كان مضطرباً، قلقاً، وجدت نفسي قريباً منه، تحدث عن عموده الصحافي في الجريدة والأسباب التي ساقته إلى المعتقل، انتقد الصحافيين الذين يبالغون في المديح من دون فائدة أو تروٍ، فإقامة المعارض الفنية في خارج العراق لابد أن تعتمد على الكفاءات الفنية، لا على العلاقات الشخصية، لكنهم "قادرون على إدخال الجمل في خرم الإبرة..."، ذهب المثل في تفسيرات أخلاقية، كان يراد بها الإشارة إلى وجود علاقات شخصية بين وزير الخارجية "عبد الكريم الشيخلي" والفنانة التشكيلية "......". بقي الفنان والكاتب "إبراهيم زاير" في المعتقل حتى عودة الوزير إلى العراق، فكان يستدعى بين مديرية الأمن العامة والقصر الجمهوري، ليوضح مقصده من إدخال الجمل في خرم الإبرة!! تعمقت العلاقة بيني وبين "إبراهيم" في المعتقل، أطلعته على كلمة الدفاع التي أعددتها أمام المحكمة الكبرى. كان يشطب على كل كلمة يرد بها "سيدي الحاكم" أو سادتي، فوافقت في الحال وشطبت "السادة" جميعاً. كان "إبراهيم" حيوياً ولعله حال استثنائية في الرسم والكتابة والنقد والحضور، متمرداً، تكمن في داخله قدرات هائلة للتعبير عن قهر تاريخي وظلم اجتماعي، يشعر برغبة جامحة في هدم الأشكال التقليدية القديمة، لعل ثورة 14 تموز العام 1958، كانت أحد العوامل التي فجرت طاقاته في الإبداع والتمرد. كانت شخصيته جذابة ومؤثرة في أبعادها الفنية والنقدية ومتابعاته للحركة المسرحية، كان الفنان "يوسف العاني" يستأنس به ويدعوه إلى مشاهدة المراحل الأولى للعروض المسرحية. ويمكن قراءة شخصيته في رواية "الأنهار" للروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي. تبدأ الرواية به وتنتهي كذلك، لصعوبة "ترويضه". كان انتحاره في بيروت في أوائل السبعينيات، يمثل الانسحاب إلى روحه، بعد أن تساقطت الأحلام الكبيرة؟
جبار كردي... عرفته شوارع بغداد، مثلما عرفت أخاه "ستار كردي"، وبخاصة منطقة "الفضل"، في أوائل الستينيات، شاباً ممتلئاً بالعنف والقوة إلى جانب أشخاص آخرين يشاركونه "العنفوان" والتحدي نفسه، وكأنهم يمثلون الامتداد التاريخي لما كان يعرف بـ "شقاوات" بغداد في العهد الملكي، لهؤلاء الجماعات قيم وعادات اجتماعية محلية وعلاقات فيما بينهم. انقسموا بعد ثورة الرابع عشر من تموز العام 1958 إلى قسمين اثنين، يناصر أحدهما الثورة ومنجزاتها، وكانت لهم علاقات ودّية مع شيوعيين وتقدميين ويساريين في السجون أبان العهد الملكي، فمنهم "خليل أبو الهوب" الذي اغتيل في بغداد في خضم الصراعات السياسية بين البعثيين والشيوعيين. و"فوزي عباس" "شقي" من منطقة "الكريمات" دخل صفوف الحزب الشيوعي العراقي، وصار يتحدث عن الحوار والتنظيم والوطن والوحدة الوطنية، وقاد "المقاومة" في بغداد في 8 شباط 1963. أما "جبار كردي" وفاضل جلعوط وقيس الجندي ومحيي مرهون وناظم گزار وآخرون، وجدوا أنفسهم في الصراعات الدموية، لتنفيذ حملات الاغتيال والتصفيات الجسدية وتنظيم فرق التهديد على الأشخاص والنقابات والانتخابات والمنظمات، كانوا أداة حزب "البعث" في العراق وخارجه وبخاصة في البلدان المجاورة ومنها سورية ولبنان، يستخدمهم "الحزب" لتفريق تظاهرات جماهيرية سلمية بقوة "الرصاص"، كما حدث مرات بعد ثورة تموز 1958. واستلموا مهمة التحقيق والتعذيب في "قصر النهاية" السيئ الصيت والمقار الأخرى في باب المعظم "محكمة الشعب" وباب الشيخ والفضل والأعظمية في "النادي الرياضي" واتحاد نقابات العمال... شاهدت "جبار كردي" في معتقل شرطة "الفضل" مع "ناظم گزار" وآخرين في شباط 1963، يمارسون هوايتهم في التعذيب وإطلاق الرصاص على المعتقلين وهم "مخمورون". وظهر في معتقل مديرية الأمن العامة بعد حادثة السباع في 7/11/1968، للحفاظ على حياته بعد المجزرة البشعة التي ارتكبها على المتظاهرين في ذكرى ثورة أكتوبر الروسية. كان يجوب المعتقلين: الكبير والصغير في "دشداشة" بيضاء وبيده "مسبحة" من الطراز الأول، وفرت إدارة الأمن له ولزوجته غرفة خاصة. ساقتني الأيام أن ينضم معصمي إلى معصمه في قيد واحد إلى المحكمة "العسكرية" في معسكر الرشيد، جاءت التوصية من رئيس عرفاء شرطة إلى ضابطه، لأن القيادة المركزية/ الحزب الشيوعي العراقي، كما بلغه قررت اغتياله، فالجمع بيننا في سلسلة واحدة تحول دون التنفيذ... وربطوا معهم زميلي غضبان أحمد مع "شرطي" بلباس مدني.
مذكرتنا إلى رئيس الاتحاد العالمي لنقابات العمال... وجد حزب البعث الحاكم نفسه في "ورطة" لمضاعفات إضراب عمال الزيوت النباتية والحملة العالمية لدعم الإضراب وإدانة الهجوم المسلح والمطالبة بإطلاق سراحنا، لأن ذلك يتعارض أصلاً مع حملات البعث الإعلامية لتلميع صورته البشعة في 8 شباط 1963. قررنا الاستفادة من زيارة رئيس الاتحاد العام لنقابات العمال إلى بغداد، ويبدو أنّ قضيتنا كانت في صلب اهتمامه. حررنا مذكرة وافية وتفصيلية عن الإضراب وخطواته القانونية وما رافقه من اعتقالات وتعذيب وإجراءات فصل ونقل وتضييق على الحركة النقابية والعمالية. كان صديقنا العامل "رحيم علي" يزورنا بين الحين والآخر، حمل المذكرة معه ووجدت صداها الإعلامي على المستوى الدولي والعربي والعراقي... بأبعاد دولية ومحلية.
محكمة الجزاء الكبرى... تقع محكمة الجزاء الكبرى في منطقة "السراي" القشلة التاريخية، تطل على نهر دجلة. تطوع عدد من المحامين اليساريين للدفاع عنا منهم: الأستاذ الصديق مؤيد الخطيب، تسلم أوراق القضية منذ بدايتها وسار في مراحل التحقيق حتى نهايتها من دون أن تصدر منه آهة أو شكوى، شارك معه المحامي "حكمت العزاوي" والمحامي "كاظم الطائي". كنّا نساق إلى المحكمة بين الحين والآخر، إلا أن الذاكرة لا تزال تحمل في طياتها بعض الأحداث المثيرة. كان عدد من أصدقائنا العمال في الشركة وغيرها يحضرون جلسات المحكمة ويتابعون تفاصيلها، وكانوا يزودوننا بما تنشره الأحزاب والنقابات والمنظمات من بيانات وحملات دعم... ويصرّ عدد آخر من العمال البعثيين ورجال الأمن والاستخبارات على مراقبة المشهد والتضييق على العمال النقابيين، فاعتدوا مرات على عمال الشركة في ساحة المحكمة نفسها. كانت عوائلنا تحضر تلك الجلسات أيضاً. لاحظنا خارج غرفة الانتظار "المجاورة" للمحكمة غياب جميع أصدقائنا ممن أتوا لزيارتنا. اقتصرت الغرفة ساعتئد علينا نحن "الاثنان"، أدركنا في الحال أن ضرراً لحق بهم جميعاً، جمعنا كل البيانات والأوراق السياسية والعمالية ووضعناها في "شق" عميق بجدار الغرفة. وبعد بضع دقائق طلب ضابط المحكمة منا الدخول علينا للتفتيش، رفضنا طلبه ما لم نطلع على موافقة المحكمة بتفتيشنا، فقدم إلينا الموافقة. وعاد يجرّ أذيال الخيبة، احتفلنا في ذلك اليوم عند عودتنا إلى المعتقل، لأننا ضيعنا عليهم فرصة التحقيق والاتهام ومحاولات نقل قضيتنا إلى مسألة حزبية أو سياسية. كنا نشعر طوال عام الاعتقال والمحاكمة باحتمالات إطلاقنا في أية لحظة، لأن قضيتنا اكتسبت طابعاً محلياً ودولياً ولأن قوى سياسية واجتماعية، أخذت على عاتقها الدفاع عنا، وازداد الوضع تعقيداً على حكومة البعثيين، بعد مجزرة "السباع" الوحشية. ولابدّ من القول، أن المحكمة وبخاصة رئيسها "عبد الحميد السعدي"، اقتنعت منذ البداية، بعدم جدوى صحة لائحة الاتهام علينا، وأن جميع إفادات الشهود الموالين للبعث اقتصرت على "السماع"، بأن "عبد جاسم" كان يحمل مسدساً يوم الإضراب. كما فشلت محاولات "البعثيين" للضغط على عائلة الشهيد النقابي "جبار لفتة" للإدلاء بالشهادة علينا ولم يفلحوا بتحويل القضية إلى نزاع "عشائري" فأضاف موقف العائلة بما اتسمت به من وعي ومسؤولية بعداً إنسانياً ووطنياً خارج كل الإغراءات المالية التي كانت تلوح للعائلة لتغيير رأيها، فحققت بذلك الامتداد والاستجابة الجميلة للمبادئ التي كان "جبار لفتة" يكافح من أجلها...
الهوامش: 1) جريدة التآخي 27/4/1968. 2) جريدة التآخي، إيضاح الدكتور إبراهيم كبة، 23/10/1967. 3) جريدة التآخي 13/10/1967. 4) موسوعة التشريعات العمالية في القطر العراقي، المجلد الأول 1968ـ1978، مطبعة مؤسسة الثقافة العمالية/ بغداد. 5) مجلة الغد، العدد21، تشرين الثاني 1987. 6) جريدة الجمهورية 1/10/1968. 7) جريدة الثورة 21/11/1968. 8) جريدة الجمهورية 2/10/1968. 9) نصف قرن من تاريخ الحركة النقابية في العراق، الخباز، ط1، بغداد 1971، ص102.
الإضراب والأحزاب السياسية في العراق
شكل إضراب عمال شركة الزيوت النباتية في بغداد انعطافة سياسية وثقافية وعمالية حادة في الوعي واستعادة ذاكرة الموت التي اقترفها انقلابيو شباط 1963. وجاءت مجزرة "السباع" بعد يومين من الإضراب لتؤكد النهج الدموي للانقلابيين. فالإضراب حرك مشاعر الغضب على حكام حزب البعث واقترن بحملات إعلامية على المستوى المحلي والدولي فصار موضوعاً للحوار والمناقشات والمقارنة بين إعلام الحكومة وافتراءاتها وبين مشاهد الاستبداد والجريمة التي ارتكبتها حكومة "البعث". انقسمت الأحزاب العراقية على نفسها، فشعر بعضها بالإحراج بين محاولات الاقتراب وعقد تحالفات مع الحزب الحاكم وبين الموقف من إضراب سلمي، اتسم بالشرعية وبالخطوات القانونية، لكنه واجه العنف وقسوة الهجوم "البعثي"، وإن بعضها حسم الموقف منذ بدايته في دعم الإضراب وتأييد العمال وإدانة ممارسات البعث الوحشية كما نجده في بيانات الحزب الشيوعي العراقي/ القيادة المركزية والحركة الاشتراكية العربية. ولعلّ افتتاحية جريدة "التآخي" في الثامن من تشرين الثاني/ نوفمبر العام 1968،أنظر وثيقة رقم (4)، كانت أكثر هدوءاً ومسؤولية واتسمت بسعة الأفق والمقدرة على المناقشة والحوار على ضوء البيان الذي أصدرته قائمة حزب البعث "القائمة العمالية الاشتراكية" في 6/11/1968. عنوان الافتتاحية: "قمع الحركة العمالية بالقوة لا يتفق والادعاءات بتمثيلها"، جاء فيها: … تضمن البيان تبريراً لأعمال العنف التي وقعت ضد العمال المضربين بقوله: "في 5/11/1968 قامت بعض العناصر في شركة الزيوت النباتية بإكراه العمال على الإضراب عن العمل وقد كشفت ذلك الوسائل التي لجأ إليها أولئك من غلق لأبواب المعمل ولحمها واستخدام الهراوات وقضبان الحديد إضافة إلى الأسلحة النارية...". في حين أنّ الرأي العام العراقي لم يسمع وجهة النظر العمالية الأخرى... إن المعلومات المتوفرة والتي يعرضها المضربون أنفسهم، تدلّ على أن العمال الذين يضمهم المعمل المذكور يبلغ 1200 عامل وقد أضرب معهم 950 عاملاً، وان أنصار القائمة المذكورة قاموا بكسر الإضراب... كان لافتتاحية "التآخي" أهمية خاصة باعتبارها جريدة يومية واسعة الانتشار، وضعت الجميع أمام مسؤولياتهم، ما أدى إلى أن يصدر "عبد الله سلوم السامرائي" وزير الثقافة والإعلام أمراً بتعطيل الجريدة لمدة خمسة عشر يوماً، اتهمها بأنها "اتخذت محوراً لتجمع رجعي لا يخدم الأهداف الوطنية العليا في شيء ولم تتجاوب مع الموقف العربي في فلسطين، كما أن الجريدة في أغلب ما نشر فيها لم تتبع اسلوب النقد البناء الذي يهدف إلى التسديد والإصلاح بقدر ما تحرض على الإثارة والإرباك... وظهر بيان الحزب الشيوعي العراقي/ القيادة المركزية عنوانه: "المجزرة الرهيبة في شركة الزيوت النباتية!". شمل البيان تفاصيل الحركة العمالية والنقابية في شركة الزيوت النباتية وأشكال الصراع بين العمال من جهة واستبداد البعث وزمرته، ليؤكد أن الإضراب كان حصيلة كفاح طويل على المستوى النقابي والإعداد له. واتجه بيان الحركة الاشتراكية العربية في المسار نفسه، ما أدى إلى حملة اعتقالات هستيرية على قيادة الحركة ومحاولات تفكيكها*. أما في ما يخصّ موقف الحزب الشيوعي العراقي من الإضراب وحادثة السباع، يمكن الاستدلال عليه من خلال مقتطفات ذكرتها جريدة "الثورة" في تعليق على بيان اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي. ورد التعليق في جريدة "الثورة" العدد 87 في 25/11/1968، يقول البيان: "إن الحرس القومي قد أعيد تشكيله بصورة سرية وبأنه "هو الذي ارتكب حادثتي الزيوت والسباع...". يردّ حزب البعث بالقول: فيما يتعلق بحادثة الزيوت فان القائمة العمالية التقدمية الاشتراكية، أصدرت بياناً أوضحت فيه كل ملابسات القضية وطالبت بمحاسبة المسؤولين عن جرائم القتل التي وقعت، واعتبرت القتلى من العمال شهداء مما يستوجب الاقتصاص والثأر لهم. ثانياً، فيما يتعلق بحادثة السباع والتي قتل من جرائها ثلاثة أشخاص فان اللجنة المركزية ذاتها تعلم كم اتخذت السلطة الثورية من الإجراءات الفورية الصارمة بحق الفاعلين، وهي تعلم أيضاً حقّ العلم بأن المتهمين في حادثة السباع هم الآن رهن التوقيف ويجري التحقيق معهم بشكل صارم. وقال بيان اللجنة المركزية: "فلقد مسخت الانتخابات النقابية مسخاً لم يسبق له مثيل في جميع الفترات الدكتاتورية السابقة". وجاء في عدد "الجمهورية" نفسه: حادثتا الزيوت والسباع حلقتان في سلسلة مخطط تآمري ضد الانفتاح قبل أن يكون موجهاً ضد أية جهة أخرى... يقول ردّ حزب البعث في الجريدة:"… إننا نتفق إلى أقصى الحدود مع ما ورد في قائمة بيان اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي… بقولها "… إن حكومة ائتلافية ديمقراطية هي التي تستطيع في الوقت الراهن أن تعبئ قوى الشعب من أجل المساهمة في المعركة ضد الاستعمار وإسرائيل...". أكدت الوقائع والأدلة على الأرض، بأن الهجومين الوحشيين على عمال الزيوت النباتية في إضرابهم التاريخ العادل وعلى الاحتفالية السلمية "المجازة" من قيادة النظام في ساحة "السباع" في ذكرى ثورة أكتوبر الروسية دبرتها وأشرفت عليها أجهزة النظام القمعية المدربة. ويعرف الحزب الشيوعي العراقي جيداً بأن "جبار كردي" هو الذي قاد الهجوم وقتل "وليد الخالدي" بنفسه، بعد أن انتزعه من التظاهرة السلمية، وأن حكومة البعث، وفرت له أسباب الراحة وخصصت له ولزوجته "غرفة" في مديرية الأمن العامة. امتلأت بيانات حزب البعث وصحافته بالافتراءات والكذب ومحاولات طمس الحقيقة، سواء فيما يتعلق بإضراب الزيوت أو حادثة السباع. "اعتبرت قائمة حزب البعث العمالية القتلى من العمال شهداء مما يستوجب الاقتصاص والثأر لهم، وأن المتهمين في حادثة السباع هم الآن رهن التوقيف ويجري التحقيق معهم بشكل صارم...". وعادت جريدة "النور" في عددها (47) الصادر في الرابع من كانون أول/ ديسمبر العام 1968، بعد حوالي شهر على إضراب عمال الزيوت بقولها: "لا نظن إننا نخالف الحقيقة إذ قلنا أن البيان الصادر باسم الحزب الشيوعي العراقي/ القيادة المركزية بمناسبة الحوادث المؤسفة في الخامس والسابع من الشهر المنصرم في معمل الزيوت النباتية وساحة السباع، يمتاز بضيق الأفق وفقدان التوازن وانعدام المقاييس… ويمتاز أيضاً بأعراض كاملة ومتزايدة لمرض اليسارية". لاشكّ أنّ الدعم الحقيقي لإضراب عمال الزيوت النباتية ظهر بفعاليات ونشاطات عمالية وشعبية وطلابية سواء في يوم الإضراب أو بعده، عبرت عنه لجان نقابية في نقابة المواد الغذائية والصناعات الخفيفة والسجائر. شكلت لجان عمالية لمتابعة إجراءات التحقيق وحضور جلسات المحاكمة، على الرغم من التهديدات "البعثية" والاعتداءات على بعض العمال المتابعين لفصول المحاكمة العلنية في محكمة الجزاء الكبرى. وقدمت مساعدات متنوعة إلى عوائل العمال المعتقلين. فكان الإضراب والمحاكمة خبراً يومياً يسري بين العمال والقوى الشعبية والنقابات والحركة الطلابية التي اعتبرت الإضراب جزءاً من نضالها على الاستبداد ولإطلاق سراح العمال المعتقلين، إذ يمكن ملاحظة هذه المواقف على تنوعها وأهميتها التاريخية في النشرات والوثائق العمالية والطلابية والشعبية التي ساندت الإضراب ودافعت عنه.
الهوامش: * دعونا الأحزاب العراقية التي كانت معنية بالإضراب ومضاعفاته أن تزودنا بنسخ من بياناتها لحادثتي الإضراب والسباع، إلا أننا لم نستلم ولو رداً بالاعتذار على رسالتنا إليهم.
الحركة العمالية ودورها في التغيير
حققت الطبقة العاملة في العراق حضورها وتفاعلت مع الأحداث بوصفها طبقة فاعلة وحيوية، ابتداء من تشكيل الدولة العراقية الحديثة. فرضت وجودها بفعل النهضة الاجتماعية والسياسية العامة في العراق، فكانت محوراً مهماً في النشاط الاقتصادي والسياسي والنقابي. ولا يمكن تجاهله أو التقليل من شأنه. فأهم سمة تميزت بها وحدتها العمالية وسعة أفقها وحضورها على مستوى العراق كله. فهي الطبقة التي اجتمعت فيها شروط الانتماء العراقي بكل تفاصيله، بحيث لم تجتمع عند غيرها، طبقة كانت أو حزباً أو فئة اجتماعية أو "مذهبية" أو "قومية" لأنها "جامعة مانعة". فالعمل وحده الذي حقق لها طموحها وبلور شروط تكوينها وصدّ عنها نوازع الاستئثار ومحاولات إضعافها. أخذت الانكسارات الاجتماعية منها مأخذاً خلال عقود الخوف والاستبداد والحروب والحصار الاقتصادي والاجتماعي التي ألمت بالعراق طوال العقود الأربعة الماضية. تحاصرها اليوم البطالة والعزلة والانحسار عن عالمها الجميل في العمل والإنتاج والتواصل مع الحياة. صارت مركزاً لاستقبال الأزمات الاجتماعية والنفسية والصحية والمضاعفات الأخرى التي أنهكت وجودها على مستوى الأفراد والأسرة والمحيط الاجتماعي. فكأن العراق، يعود إلى العصور المظلمة في التخلف والجهل والأمية وهبوط مستويات التعليم إلى أدناه، وانتشار الأمراض والبطالة وتسكع الشباب، واعتبار العراق من الدول ذات الارتفاع العالمي في نسبة "المطلقات" و"الأرامل" والمشردين أيضاً، والمتضررين والمعوقين من الحروب والصراعات "الطائفية" والاحتلال! إنّ الطبقة العاملة في العراق تحتاج إلى إرادة وطنية وانتماء عراقي حقيقي بسمات اجتماعية، لا شعارات "خاوية" و"مزايدات" سياسية أكل الدهر عليها وشرب، وصارت جزءاً من الغثيان السياسي، ليتعزز وجودها ويفعّل نشاطها وحيويتها في إعادة النظر بقانون العمل أولاً والتشريعات التي أصدرها النظام السابق واللاحق...! وأن تترافق مع حركة إصلاح وطنية اجتماعية، تأخذ في اعتبارها أهمية إعادة تأهيل قطاع الصناعة، وحماية المنتجات العراقية وإعادة المفصولين وتعويض جميع العمال المتضررين من جراء غلق المصانع والمعامل، إذ لا يعقل أن يتم إعادة وتعويض العسكريين وإهمال العمال وعوائلهم لأنهم "مسالمون" وغير محسوبين على ملاكات "الجيش"!... يبدو أنّ انتقال العراق إلى مرحلة جديدة على أنقاض البؤس والتخلف والصراعات الطائفية واستشراء ظاهرة الفساد الإداري والمحاصصات السياسية السيئة الصيت، ومضاعفات الاحتلال والعنف الذي يضرب أطنابه في العراق، لا يتم إلا بحسب الاشتغال الجاد لتوفير الشروط الذاتية والموضوعية لحركة إصلاح شاملة، تكتسي طابع "الاستقلالية" أولاً ووضوح الرؤية والمقاصد والانتشار ثانياً. يمكن أن تحقق حركة الإصلاح الاجتماعي والثقافي والاقتصادي جدواها في وضع مسافة بينها وبين مشاريع الحكومة وسياساتها، لأن "الحكومات" الحالية في العراق لا تحمل في طياتها شيئاً من آفاق الإصلاح، بل، تنزع إلى سياسة التضييق على الحريات الفردية والعامة، ومخالفة "الدستور" فيما تقتضي مصالحها ذلك، كالذي ظهرت به وزارة النفط أخيراً بحسب المادة 150 العام 1987 لتفعيل إجراءات القمع والتصدي على الإضرابات العمالية وحركات الاحتجاج على قانون "استثمار النفط والغاز" وعلى البطالة والفساد الإداري والتدهور في الخدمات العامة للشعب، ومشروع "قانون الأحوال الشخصية" الجديد الذي يفرّق ولا يوحد بين العراقيين والعراقيات لاحتوائه على النزعات الطائفية في تقسيم محاكم الأحوال الشخصية! وتتوجه الحكومة من دون منازع نحو اقتصاد السوق والخصخصة، وبيع أملاك الدولة إلى القطاع الخاص وتوفير الشروط المناسبة للشركات الأجنبية والعملاقة في استثمار النفط والغاز في العراق، الأمر الذي يؤكد إهمال الحكومة المقصود للشركات والمصانع وتعطيل حركة الإنتاج الوطني، لتفعيل قوانين الاقتصاد الحر، ما يعني ارتفاع نسبة البطالة والحرمان وغياب الضمانات الاجتماعية والصحية والتعليمية. فالعراق الذي نطمح إليه، بتجاوز الأزمات المعقدة والتدخلات الإقليمية والدولية المتعددة الأوجه، لا تنهض به غير قوى الإصلاح الاجتماعي ، بالانفتاح على الطاقات الإصلاحية الكامنة في الأحزاب الوطنية والمنظمات الاجتماعية والثقافية، بخاصة منظمات المجتمع المدني، والنقابات والمؤسسات غير الحكومية و"الإعلام" الذي يشكل أهم أركان الحركة والانتشار والحوار وتعبئة الرأي العام العراقي، تأخذ في اعتبارها مقومات نهضة اجتماعية، تكون "الطبقة العاملة" أحد أهم محاورها، لأنها مؤهلة تاريخياً لأن تسهم في معالجة الأزمة من مواقع انتماءاتها العراقية من دون نزعات طائفية أو عرقية أو "جهوية" فتكون بدايات الشروع المنظم والعملي من داخل الحركة العمالية، على أسس علمية صحيحة في وضع برنامج عمل مشترك لكل القوى والجهات مهما كان حجم تمثيلها، والتخلص من احتكار الادعاء بتمثيل الطبقة العاملة لجهة ما من دون سواها. وتفرض الضرورات العمالية والاجتماعية الاتفاق بين القيادات العمالية على صوغ مشروع قانون انتخاب النقابات العمالية وقانون العمل والاشتغال الجاد لإعادة بناء المؤسسات والمعامل الصناعية ووضع إستراتيجية عمالية، ترتقي إلى مستوى حماية العمال والدفاع عنهم وتوفير الضمانات الاجتماعية والصحية لهم ولعوائلهم. ويبدو من المفيد جداً، بعد رحلة طويلة من استقبال المؤثرات والتجاذبات الأجنبية والإقليمية على الحركة العمالية بخاصة، بعد احتلال العراق، أن تتجه القيادات العمالية إلى صلب التكوينات النقابية من دون الادعاء بتمثيلها في ندوات ومؤتمرات دولية ومحلية ومنح مالية "مغرية" لإلغاء الآخر وتهميشه. يمرّ العراق بمرحلة معقدة، تداخلت فيها ضروب من الطائفية والعصبية والقبلية وحساسيات سياسية تتنازع على السلطة، لا يمكن تفكيكها ومواجهة الخراب الذي أحدثته على مستوى الفرد والجماعة والمجتمع ما لم تتجه الأنظار بحسب برامج عملية إلى إعادة تنظيم الطبقة العاملة على أسس "ديمقراطية" تتوافر لها حرية الاختيار والانتخاب وسنّ قانون عمل جديد، على أنقاض قانون العمل القديم والإجراءات التشريعية التي أنهكت الطبقة العاملة وحولتها إلى دوائر وظيفية فاترة في حضورها وفعاليتها. لهذا يقتضي أن يسعى جميع المعنيين بمستقبل العراق ودور الطبقة العاملة في الحقلين الاقتصادي والاجتماعي إلى جمع شمل العمال ببناء الثقة أولاً ورفض إجراءات الابتزاز والتهديد بالطرد والنقل والعقوبات الأخرى والاشتغال لتكوين حركة عمالية نقابية تتمتع بخبرتها وتجاربها النضالية لتؤسس كياناً نقابياً جديداً من نوع آخر، لا يكون ملحقاً بهذا الحزب أو تلك الجماعة للتخلص من المساومات السياسية والابتزاز، تقرر مصيرها بنفسها ولا تكون في الوقت نفسه واجهة لمؤثرات أجنبية وإقليمية، تشتغل على "أجندة" سياسية في إغراءات مالية، تذهب لحساب أشخاص يراهنون في غير فضاءاتهم العمالية الحقيقية. إنّ العراق القادم بحسب البرامج الاقتصادية المعدة أصلاً للخصخصة وانتشار الشركات العملاقة في حقول النفط العراقية، يعني نشوء طبقات وفئات اجتماعية جديدة تربط مصيرها بالعالم الخارجي، من دون نهضة إصلاحية أو مشاريع عمل تعالج البطالة وتسكع الشباب وتدني المستويات الأخرى في الصحة والتعليم والضمانات الاجتماعية، لهذا سيواجه العراق أزمات اقتصادية تؤدي إلى بيع ممتلكات قطاع الدولة وتشجيع القطاع الخاص، إذا ما استتب الوضع الأمني في العراق.
من وثائق الإضراب وثيقة رقم (1) قانون رقم (101) لسنة 1964 قانون تنظيم توزيع الأرباح في الشركات
باسم الشعب رئاسة الجمهورية استناداً إلى أحكام الدستور المؤقت وبموافقة مجلس الوزراء والمجلس الوطني لقيادة الثورة. صدق القانون الآتي:ـ المادة الأولى: توزع الأرباح المعدة للتوزيع للشركات المساهمة والشركات ذات المسؤولية المحدودة والمشاريع الصناعية الفردية المشمولة بقانون التنمية الصناعية والمشاريع الصناعية الحكومية والشركات والمؤسسات التابعة للمؤسسة الاقتصادية المنصوص عليها في قانون المؤسسة الاقتصادية على الوجه الآتي:ـ أ) 75% توزع على المساهمين أو على مالكي المشروع. ب) 25% تخصص للعمال والموظفين ويكون توزيعها على النحو التالي:ـ 1) 10% توزع على العمال والموظفين عند توزيع الأرباح على المساهمين ويوزع نصفها على جميع المشتغلين على أساس عدد أيام العمل خلال السنة دون اعتبار لنوع الوظيفة أو الأجر الذي يتقاضاه الشخص ويوزع النصف الآخر على أساس الأجور المدفوعة خلال العام على إلا يتجاوز ما يخص الفرد الواحد منهم من النصفين على مائة دينار سنوياً فاذا تبقى بعد التوزيع على هذا الأساس شيء من الـ 10% يتم توزيعه بذات الطريقة على من لم يتجاوز ما خصه 100 دينار بشرط إلا يتجاوز ما يحصل عليه من التوزيعين مائة دينار وما يزيد على ذلك يودع لدى البنك المركزي في حساب خاص ويجوز لمجلس الوزراء أن يخصص جزءاً من هذا الفائض يوزع على العمال والموظفين في المشاريع التي لم تحقق أرباحاً بسبب طبيعة عملها أو لأسباب خارجة عن إرادة عمالها وموظفيها ويصدر نظام يبين كيفية التوزيع وإدارة الحساب الخاص والتصرف به. 2) 5% تخصص للخدمات الاجتماعية والإسكان طبقاً لما يقرره مجلس إدارة المشروع أو إدارته بالاتفاق مع نقابة عمال الشركة. 3) 10% تخصص لخدمات اجتماعية مركزية للعمال والموظفين وتحدد كيفية التصرف في هذه المبالغ وأداء الخدمات والجهة الإدارية التي تتولاها أو تشرف عليها بنظام. المادة الثانية: يجب أن لا تقل نسبة الأرباح الصافية المعدة للتوزيع لغرض احتساب حصة أرباح العمال والموظفين منها عن 75% من صافي الأرباح بعد استقطاع ضريبة الدخل. المادة الثالثة: على الوزراء تنفيذ هذا القانون. المادة الرابعة: ينفذ هذا القانون اعتباراً من 14 تموز 1964 ويطبق على الأرباح التي توزع بعد هذا التاريخ. كتب ببغداد في اليوم الخامس من شهر ربيع الأول لسنة 1384 المصادف لليوم الرابع عشر من شهر تموز لسنة 1964.
التواقيع
وثيقة رقم (2) قانون رقم (102) لسنة 1964 قانون تشكيل مجالس الإدارة في المنشآت والمشاريع الصناعية
باسم الشعب رئاسة الجمهورية استناداً إلى أحكام الدستور المؤقت وبموافقة مجلس الوزراء والمجلس الوطني لقيادة الثورة. صدق القانون الآتي:ـ المادة الأولى: يجب أن لا يزيد أعضاء مجلس إدارة أي شركة مساهمة صناعية على سبعة أعضاء من بينهم عضوان ينتخبان عن العمال والموظفين فيها على أن يكون أحدهما عن الموظفين والآخر عن العمال. ويتم انتخاب العضوين المذكورين بالاقتراع السري المباشر تحت إشراف وزارة العمل والشؤون الاجتماعية وتكون مدة العضوية لهما سنتان. المادة الثانية: يشترط في ممثلي العمال والموظفين أن يكونوا ممن يجيدون القراءة والكتابة وأن يكونوا حاصلين على شهادة الدراسة الابتدائية على الأقل. المادة الثالثة: تطبق أحكام المادة الأولى على جميع المشاريع الصناعية التابعة للمؤسسة الاقتصادية أيضاً. المادة الرابعة: تجرى الانتخابات اللازمة لاختيار ممثلي العمال والموظفين في مجالس الإدارة في موعد لا يتجاوز 1/1/1965. المادة الخامسة: تؤسس بقانون خاص مؤسسة للثقافة العمالية تودع إليها مهمة إعداد دورات تثقيفية خاصة لممثلي العمال والموظفين المنتخبين لتمثيل العمال والموظفين في مجالس الإدارة. المادة السادسة: يمارس ممثلو العمال والموظفين أعمالهم في مجالس إدارة الشركات والمؤسسات المشار إليها في المادتين الأولى والثانية ابتداء من 1/4/1965، على أن يكونوا قد اجتازوا الدورات المشار إليها في المادة الخامسة قبل ذلك التاريخ. المادة السابعة: يصدر نظام وتعليمات لتسهيل تنفيذ هذا القانون. المادة الثامنة: على الوزراء تنفيذ هذا القانون. المادة التاسعة: ينفذ هذا القانون اعتباراً من تاريخ 14 تموز 1964. كتب ببغداد في اليوم الخامس من شهر ربيع الأول لسنة 1384 المصادف لليوم الرابع عشر من شهر تموز لسنة 1964.
التواقيع
وثيقة رقم (3) جريدة (التآخي) في 13/10/1967 السيد رئيس المؤسسة العامة للصناعة المحترم: الموضوع: الحصة المتراكمة لأرباح العمال
بالنظر لقرار المؤسسة العامة للصناعة المتضمن دمج شركة الرافدين لصناعة المنظفات بشركة استخراج الزيوت النباتية، ترجو اللجنة النقابية أن توجه عنايتكم إلى الأمور التالية: أولاً: إنّ حصة العمال من الأرباح الخاصة بالسكن والخدمات الاجتماعية قد تراكمت لأربع سنوات مضت، دون أن يستفيد منها العمال بالرغم من أنّ المؤسسة قد وافقت على تأليف لجنة لدراسة الموضوع من قبل العمال ومجلس الإدارة وانتهت اللجنة على وضع مشروع للإسكان وقد عرضته على مؤسستكم في حينه لكنه جُمد، ولم نحصل على نتيجة بخصوصه لحد الآن. ثانياً: بالنظر إلى أنّ مسألة الدمج، هي إلغاء الشخصية القانونية للشركة وبالنظر إلى أنّ الأرباح المتراكمة للخدمات الاجتماعية والإسكان هي حقّ العمال الذين ساهموا بتحقيقها كما نصّ عليه قانون تنظيم الأرباح، ولأنها تُصرف بالاتفاق مع العمال وإدارة الشركة لذا نودّ أنّ نؤكد على ما يلي: أ) إن هذه الأرباح لا يمكن إضافتها إلى ميزانية الشركة الجديدة فهي حقّ لعمال الرافدين الذين ساهموا بتحقيقها لا ينازعهم عليها أحد. ب) إنّ قراركم بالدمج يستلزم تصفية هذه الأرباح عن طريق الاتفاق بين العمال والإدارة دون تأخير. ثالثاً: أما بخصوص حصة العمال من الأرباح للسنة الحالية من 1/4/1967 ولغاية تاريخ الدمج، سواء كانت الحصة النقدية أو حصة الإسكان والخدمات الاجتماعية فنرى أنّ حقّ العمال في توزيعها عليهم لا تشوبه شائبة، كما أنّ الدمج لا يمكن أن يكون ذا أثر رجعي، باعتبار أن المؤسسة لا يمكن أن تتصرف بأرباح العمال التي هي حقّ قانوني، لا يمكن أن يتغلب عليه أمر إداري حيث أنّ القانون لا يلغيه إلا قانون. وأخيراً، ترجو اللجنة النقابية في الشركة أن تصدر المؤسسة ما يطمئن العمال إلى مصير أرباحهم. تحتفظ اللجنة النقابية بحقها في عرض هذه المشكلة على الجهات الإدارية والقضائية أو أيّ سبيل قانوني يؤدي إلى تحقيق هذا الغرض.
عن اللجنة النقابية في شركة الرافدين لصناعة المنظفات المؤممة عبد جاسم وعبد الوهاب أحمد وحسن السامرائي
وثيقة رقم (4) جريدة (التآخي) الجمعة 8 تشرين الثاني 1968 الإفتتاحية: قمع الحركة العمالية بالقوة لا يتفق والادعاء بتمثيلها
تعرضت الطبقة العاملة العراقية لامتهانات متعددة وتعرضت حقوقها إلى الهدر والحرمان وذاقت مرارة الإرهاب الأسود في العديد من العهود التي توالت على هذه البلاد، ورغم أنّ بعضها اتخذ من هذه الطبقة سبيلاً للدعاية ومنطلقاً لتبرير دكتاتوريته وفرديته وقمعه لحريات المواطنين باعتباره يقيم حكماً لمصلحتها والدفاع عن حقوقها فقد تميز بعنف إرهابه للطبقة العاملة وغمطه لمصالحها الحقيقية. ورغم كل أساليب الإرهاب فقد صمدت الطبقة العاملة العراقية واستطاعت أن تفرض إرادتها وتنظم نفسها وتصون حقوقها وزالت العهود وتوالت التغييرات والعمال يزدادون رسوخاً وقوة وتأثيراً في المجتمعات التي يعيشون في ظلالها. أن ظهور الطبقة العاملة كقوة مؤثرة ومنتجة وذات نفوذ ومكانة أوجد في المجتمع صراعاً حاداً من أجل القضاء على الاستغلال والتحكم والإثراء غير المشروع على حساب هذه الطبقة التي هي أهم عنصر من عناصر الإنتاج وأثمن رأسمال لولاه لما كان هناك إنتاج ولا استقل العلم... إنّ تبني أصوات الطبقة العاملة والدفاع عن مصالحها يستدعي بالضرورة الإيمان بحرياتها الأساسية والثقة بقدراتها على التمييز بين الخير والشر بين الصالح والطالح بين العاملين الحقيقيين لمصلحتها وبين المتاجرين بتلك المصالح. كما أن الإيمان بالطبقة العاملة يتطلب إطلاق حرياتها الديمقراطية وتمكينها من تنظيم نفسها بنقابات مهنية وممارسة حقها في انتخابات قياداتها دون تدخل أو إرهاب. إنّ العمال كجزء من أبناء الشعب لهم شعورهم الوطني كما أنّ الآراء والمعتقدات السياسية تنعكس عليهم، لذلك فان احتكار تمثيل الطبقة العاملة والتحدث باسمها أو إقامة الوصاية عليها ينافي ويعارض مصالح العمال ويسلبهم حرياتهم ويقعدهم عن إمكانية تطوير أحوالهم المعاشية ويعيق كفاحهم من أجل مستقبل أفضل... إن انعدام الحريات الديمقراطية وغيابها في أيّ بلد من بلدان الدنيا يعني اضطهاد الطبقة العاملة كفصيلة حيّة ومنتجة ومؤثرة من فصائل الشعب كله في ذلك البلد، كما أنّ غياب تلك الحياة يسلب الطبقة العاملة حقها في التعبير عن آرائها وانتخاب ممثليها وتصبح النقابات في ظل الحكم الدكتاتوري مجرد واجهات يلتقي تحتها مؤيدو الحكم ومريدوه والمنتفعون من وجوده. أما الطبقة العاملة وإرادتها فلا مكان لها إلا النضال الحتمي من أجل مستقبلها وحرياتها الأساسية. إنّ الطبقة العاملة العراقية لعبت دوراً بارزاً في حركات التحرر الوطني وكانت الطليعة التي أنارت طريق الكفاح الديمقراطي وقدمت أعزّ الضحايا وأغزرها على مذبح التحرر الوطني ولاقت عنتاً وإرهاباً وتعرضت إلى زج العديد من أبنائها البررة في السجون والمعتقلات وواجهت صدورهم المفعمة بالإيمان رصاص الغدر والخيانة والعقوق وظلت الطبقة العاملة العراقية صامدة والتنظيم النقابي في العراق تعرض إلى شتى ضروب الإرهاب وعُطل أكثر من مرة وغُلقت إدارات النقابات وخُتمت بالشمع الأحمر وزُج بأعضائها وقادتها في غياهب السجون وزمجر الرصاص أكثر من مرة في وجوه الطبقة العاملة لقمع إضراب نظمه العمال الأشاوس مطالبين بحق مشروع أو تصدّ لمظاهرة وطنية وقومية نظمها العمال دفاعاً عن حقوق شعبهم وحرياته الديمقراطية. … وفي ظلّ العهد السابق بلغ الإرهاب والتزييف ذروته في انتخابات العمال وقياداتهم ونقاباتهم وفرض نوع من التنظيم المشلول واعتبر المنطلق للعمل السياسي والنشاط الاجتماعي والمهني وعُطلت الانتخابات وأُجلت أكثر من مرة كمحاولة يائسة لإرغام الطبقة العاملة على الانصياع والانصهار في أتون ذلك التنظيم الكريه، ولكن الطبقة العاملة العراقية المؤمنة بحقوقها وحرياتها وبالنظام الديمقراطي أبت الانصياع والاستسلام لأنها تعادي بحكم وعيها وتمرسها في النضال كل ضروب الدكتاتورية والحزب الواحد المعادي للشعب وطموحه، ولم تصدق الدعوات العريضة التي كان ينتحلها حكام ذلك العهد البغيض بأنهم يشرعون في إقامة حكم الكادحين وأن نظريتهم الاقتصادية والسياسية تقوم على أساسه إدراكاً منها أن حكم الكادحين هو حكم الشعب كله، الحكم الذي ترفرف فوقه رايات المحبة والإخاء والديمقراطية وتغيب من ظله الدكتاتورية والفردية والتسلط. وعندما قدر لحزب البعث العربي الاشتراكي أن يغير ذلك النظام ويستولي على ناصية المسؤولية عن طريق السابع عشر من تموز ثم الثلاثين منه، أعلن العهد الجديد عن نيته في السماح للعمال بممارسة حقهم الانتخابي وأعلن وزير العمل والشؤون الاجتماعية التعليمات اللازمة لهذه الانتخابات وسمح للقوائم المختلفة بالترشيح ولم تمضِ أيام إلا وظهر سير الانتخابات، فالطريقة التي أجريت فيها لا تتسم بالحرية مطلقاً، إذ خصص لكل قائمة صندوقاً معيناً واحتضن تلك الصناديق العديد من المسؤولين، كما أنّ مختلف الوسائل أُستعملت لحمل بعض مرشحي تلك القوائم المنافسة على الانسحاب من قوائمهم. وفي الوقت الذي تضمنت تعليمات الجهات الحكومية المسؤولة السماح لكل القوائم في نشر بياناتها وآرائها في صحيفة معينة فأنها لم تمكن من ذلك. ويوم أمس طالعتنا جريدة "الجمهورية" الغراء "ببيان إلى الجماهير العمالية حول ما حدث في شركة الزيوت النباتية" أصدرته القائمة العمالية التقدمية الاشتراكية، تضمن هذا البيان وجهة نظرها في الإضراب الذي وقع في الخامس من الشهر الجاري في شركة الزيوت النباتية والذي استشهد بسببه أحد أبناء الطبقة العاملة وجرح آخر على حدّ ما ورد في البيان المذكور، وقد تضمن البيان المذكور تبريراً لأعمال العنف التي وقعت ضد المضربين بقوله: "في 5/11/1968 قامت بعض العناصر في شركة الزيوت النباتية بإكراه العمال على الإضراب عن العمل وقد كشفت ذلك الوسائل التي لجأ إليها أولئك من غلق لأبواب المعمل ولحمها واستخدام الهراوات وقضبان الحديد إضافة إلى الأسلحة النارية..." في حين أنّ الرأي العام العراقي لم يسمع وجهة النظر العمالية الأخرى، إذ أنّ الحرص على مصلحة الطبقة العاملة والإيمان بها وبحكمها يقتضي عدم التفرقة بينها بسبب الرأي والمعتقد، إنّ المعلومات المتوفرة والتي يعرضها المضربون أنفسهم، تدل على أنّ العمال الذين يضمهم المعمل المذكور يبلغ 1200 عامل وقد أضرب منهم 950 عاملاً، وإنّ أنصار القائمة المذكورة قاموا بكسر إضرابهم. هذا ما يعلنه المضربون وهو كما يبدو يعارض ويخالف وجهة النظر الأخرى، ولما سُمح للقائمة التقدمية بعرض وجهات نظرها فكان الأجدر أن يُسمح للمضربين بنشر وجهات نظرهم أيضاً. وإننا مع القائمة التقدمية، إنّ الإضراب سلاح هام من أسلحة الطبقة العاملة في ظروف النضال من أجل تحقيق مصالح طبقية. ونحن نضيف إلى ذلك أن قمع هذا الحقّ بالقوة وباختلاق المبررات لذلك، ينافي الدعوة لإنصاف الطبقة العاملة أو السعي إلى تمكينها من حكم نفسها والمسك بناصية الأمور في مجتمعها، كما أنّ هذا الحقّ لا يمكن أنّ يُستخدم لمصلحة جهة واحدة فقط، لتبرره في ظروف معارضتها وتتخذ منه سبيلاً لإدانة معارضيها في الحكومات السابقة وتعتبره كما تقول "سلاح ذو حدين" وقد لا يخدم مصالح العمال إذ لم تحسن القيادة النقابية شهره وتوجيهه. إنّ حادث شركة الزيوت النباتية لم يكن الأول من نوعه لا في الشركة ولا في غيرها.
وثيقة رقم (5) جريدة (الثورة) العدد 72 في 7/11/1968 إلى جماهير العمال أيها الأخوة العمال: في 5/11/1968، قامت بعض العناصر في شركة الزيوت النباتية بإكراه العمال على الإضراب عن العمل وقد كشفت ذلك الوسائل التي لجأ إليها أولئك من غلق لأبواب المعمل ولحمها واستخدام الهراوات وقضبان الحديد إضافة إلى الأسلحة النارية. وليس من شك أنّ الإضراب سلاح هام من أسلحة الطبقة العاملة في ظروف النضال من أجل تحقيق مصالح طبقية أو لصدّ محاولات البرجوازية من سلب حقوق العمال وإجهاض مكتسباتهم، ولكن الإضراب يبقى الوسيلة الوحيدة التي تملكها الطبقة العاملة لضمان حقوقها ومصالحها إذا (استنفذت)! "استنفدت" كامل الوسائل المشروعة الأخرى، وعجزت أن تجد حلاً سواه. كما أنّ استخدام الإضراب لا يجيز مطلقاً اللجوء إلى التخريب واستعمال العنف والإضرار بأموال الشعب وممتلكاته. كما أنّ تحقيق الإضراب يجب أن يتمّ عن قناعة ذاتية بجدواه كاسلوب في انتزاع الحقوق، وليس من الجائز سلوك سبل القوة والإرهاب لإرغام العمال على قبوله، لأن مثل هذا الضغط يشكل إهانة للإرادة الحرة للطبقة العاملة ومجانبة للروح الديمقراطية في العمل النقابي. كما أنّ الإضراب سلاح ذو حدين وقد لا يخدم مصالح العمال إذا لم تحسن القيادة النقابية شهره وتوجيهه، وأنّ العنف والإرهاب ليس صفة ملازمة للإضراب الذي هو تعبير عن ضغط عمالي قوي على الطرف الآخر. بل أنّ أعداء العمال قد يندسون لتحويل مقاصد الإضراب من تحقيق مطالب عمالية إلى عمل تخريبي يقصد به الإساءة للحركة النقابية ونسف مكتسبات العمال الثورية.
أيها الأخوة العمال: إنّ القائمة العمالية التقدمية الاشتراكية المؤمنة بأهدافكم المدافعة عن مصالحكم الملتزمة حقوقكم كانت ومازالت وستبقى المدافعة عن كل الحقوق المشروعة لكم. ولكن من المؤسف حقاً أنّ تلجأ بعض العناصر لإكراه العمال على قبول إضراب لم يتفق العمال على إقرار استخدامه، الأمر الذي أدى إلى رفض الكثير من العمال لهذا الاسلوب وخلق نزاعاً بين عمال الشركة أنفسهم وقد أدى ذلك إلى استشهاد أحد أخواننا العمال وجرح آخر. إن القائمة العمالية التقدمية إذ تستنكر وتشجب كلّ الأساليب الهادفة إلى خلق الفوضى وتصديع وحدة الحركة العمالية، تطالب السلطة بإجراء تحقيق عن المسؤولين عن قتل وجرح العاملين وتطالب بإنزال العقاب العادل بحقهم. ولتعش إرادة العمال في بناء غد أفضل والموت لأعداء الطبقة العاملة القائمة العمالية الاشتراكية 6/11/1968
وثيقة رقم (6) جريدة (الجمهورية) 12/11/1968 تعطيل جريدة التآخي لمدة 15 يوماً
قررت وزارة الثقافة والإعلام تعطيل جريدة "التآخي" لمدة 15 يوماً اعتباراً من يوم أمس. وقد وجه السيد عبد الله سلوم السامرائي وزير الثقافة والإعلام كتاباً بهذا المعنى إلى رئيس تحرير الجريدة المذكورة فيما يلي نصّه: أُجيزت جريدة "التآخي" تعزيزاً للأخوة العربية الكردية ودعماً للصف الوطني ولتشدّ من أزر حركة التحرر من ترسبات وتراكمات الماضي السيئة، وقد لاحظنا أن جريدة "التآخي" تتمسك بموقف سلبي من جميع الخطوات والانجازات الايجابية التي قامت بها الحكومة على الصعيد الوطني واتخذت محوراً لتجمع رجعي لا يخدم الأهداف الوطنية العليا في شيء ولم تتجاوب مع الموقف العربي في فلسطين، كما أنّ الجريدة في أغلب ما نُشر فيها لم تتبع اسلوب النقد البناء الذي يهدف إلى التسديد والإصلاح بقدر ما تحرص على الإثارة والإرباك... وثيقة رقم (7) عن جريدة (طريق الشعب) الجريدة المركزية للحزب الشيوعي العراقي ـ القيادة المركزية السنة (25) العدد (5)، كانون الأول 1968: المجزرة الرهيبة في شركة الزيوت النباتية!
عمال الزيوت الأبطال يرفعون عالياً راية النضال! عاش نضال الطبقة العاملة وعاشت وحدتها! والمجد لشهدائها الميامين! كانت في شركة استخراج الزيوت النباتية التي يبلغ عدد عمالها حوالي (1200) لجنة "نقابية" واحدة معظم أفرادها ولاسيما رئيسها (جياد عبد الرحمن)، أدوات طيعة في أيدي الاستخبارات العسكرية وأجهزة الأمن، وكانت تعمل ضد مصالح العمال بمساعدة مدير إدارة المعمل المدعو (نبيه مهدي). والأخير معروف بعدائه ومحاربته للعمال منذ 1959 وتسبب في اعتقال وسجن العديد منهم. وقد توجّت هذه العصابات أعمالها في 15/11/1967 حين أطلق المجرم (جياد عبد الرحمن) اطلاقات نارية على العامل (عبد جاسم) نقل على أثرها للمستشفى. وقد أضرب في الحال عمال شركة الزيوت والمنظفات احتجاجاً واستنكاراً. وقد انتهى الإضراب حين صدر قرار بفصل العصابة لحين انتهاء نتيجة المحاكمة. إلا أن أفرادها سرعان ما رجعوا إلى المعمل رغم إرادة العمال. وقد جرت بعد الاعتداء المذكور انتخابات لعمال الزيوت، فازت فيها بالتزكية لجنة نقابية تتمتع بثقة العمال. وقد عملت الجهات الحكومية بكل السبل لإبطال نتيجة الانتخابات حتى اعتبروها غير شرعية. فعادت العصابة الإجرامية للصولان والجولان رغم أن العمال نزعوا علناً ثقتهم منها. وقبل انقلاب 17 تموز 1968 جرت انتخابات لعضوية مجلس الإدارة فاز فيها العامل (فاضل صبار) على منافسه البعثي (حسين الظفيري). ولكن بعد الانقلاب أعيدت الانتخابات مجدداً واستخدم فيها أنصار القائمة البعثية أساليب التهديد والاستفزاز، وهم مسلحون علناً. وقد رد العمال الشجعان على استفزازاتهم بحزم، مما اضطر الحكام إلى تأجيل الانتخابات. وفي 6/9/1968 رفع العمال إلى وزير العمل مذكرة تنذره بالإضراب لمدة عشرة أيام حول توزيع الأرباح. وأخذت القائمة البعثية الحكومية تهدد باللجوء للقوة في حالة الإضراب. وقبل انتهاء موعد المذكرة بيوم. وزعت الشركة الأرباح على العمال، فحققوا بذلك مكسباً بفضل تلاحمهم ونضالهم. وفي 26/10/1968 جمع العمال مئات التواقيع وقدموا مذكرة إنذاراً بالإضراب ما لم يحصلوا على نسبة الـ 5% من الأرباح المخصصة للعمال والتي تبلغ 25% من مجموع الأرباح، والمعروف أن عمال شركة المنظفات التي أُدمجت بشركة الزيوت منذ عام، قد حصلوا على الأرباح المذكورة بعد تقديم مذكرة بالإضراب. وقد وزعت عليهم مواد غذائية من منتجات الشركة. وبتاريخ 27/10/1968 ردّ مدير العمل العام على مذكرة عمال الزيوت زاعماً أنها باطلة وغير قانونية. وهنا ردّ العمال بمذكرة أخرى اعتبروا مذكرته غير قانونية. إذ ليس من حقه رفض مطاليب عمالية بل يمكن إحالتها إلى لجنة التحكيم. وألصق العمال مذكرتهم هذه بلوحة إعلانات الشركة وأقسامها. فاتصل أنصار الحزب الحاكم بأمن منطقة المسبح ونظموا استفزازاً فمزقوا بعض هذه المذكرات. وكان من البارزين من بينهم بعثي معروف هو (طالب حسين) من المنظفات. وقد ناقشه العامل (عبد جاسم) وفضحه أمام العمال. فهرع هذا إلى شرطة المسبح بعد مشاورة مدير الإدارة (نبيه مهدي) الذي هيأ له سيارة من الشركة لنقله إلى معاونية أمن المسبح. وقد دخل رجال الأمن مع قسم من البعثيين إلى شركة المنظفات، وأخذوا العامل (عبد جاسم)، وسجلت ضده دعوى التحريض على الإضراب... وسب البعثيين... الخ. وظهر أن أسماء أكثر من عشرين عاملاً من الزيوت والمنظفات كانت مسجلة في أمن المسبح. وبعد إطلاق سراح (عبد جاسم) أرسل وراءه مدير أمن بغداد للتحقيق معه. وفي تمام الساعة الثانية من بعد ظهر 31/10/1968 أضرب عمال المنظفات احتجاجاً على اعتقال (عبد جاسم) واستنكاراً لأساليب البعثيين وتعاونهم السافر مع رجال الأمن ضد العمال. ولابد من الإشارة هنا أن عاملاً بعثياً وقف مع العمال واستنكر أعمال جماعته. وقد أضرب عمال الزيوت أيضاً لنفس المطلب ـ أي الاحتجاج على أساليب الاستفزاز ـ وبعد حوالي 20 دقيقة داهمت شركة المنظفات زمرة واسعة من رجال أمن المنطقة. إضافة لتجمع البعثيين ومن بينهم حميد السامرائي المرشح لرئاسة نقابة المواد الغذائية، إضافة لرجال الاستخبارات وبلغ عددهم أكثر من ستين شخصاً مسلحين جميعاً علناً. وداهموا العمال المضربين شاهرين المسدسات ومهيئين السيارات لاعتقال أنشط العمال. لقد برز في الأعمال العدوانية المسلحة هذه (حسين الظفيري) و(جمعة حسين) و(حافظ سطام) و(غفار سلوم) و(هاني إسماعيل زبالة) و(محمد إسماعيل زبالة) وغيرهم إضافة إلى المجرم (عبد الستار) معاون أمن المسبح. وقد اعتدوا على العامل (فاضل صبار) ممثل العمال في مجلس الإدارة وعلى العامل (علّو كطيف) المقصود "مليح گطيف" والعامل (محسن حسين) وغيرهم، واقتادوا (فاضل) إلى الاستخبارات العسكرية حيث اعتدوا عليه بالضرب الشديد وقادوا العاملين (فليح ومحسن) "مليح" إلى أمن المسبح حيث اعتدى عليهم المعاون ثم جروهم إلى أمن بغداد. وقد اعتدى المهاجمون السفلة أيضاً على العامل (طنشا عبد الله). واستمر إضراب العمال وتحديهم، واحتجاجهم الجماعي، فاضطرت السلطات لإطلاق سراح العمال الأربعة في مساء 31/10/1968. وقد ظلت العصابة الحكومية مرابطة في باب الشركة خوفاً من تجدد الإضراب وللإيضاح فإن (حسين الظفيري) و(غفار سلوم) و(جمعة حسين) و(زنزل كوسج) من رجال العصابة محالون إلى محكمة جزاء الكرادة الشرقية لأنهم سرقوا أموال العمال البالغة أكثر من عشرة آلاف دينار حينما استلموا بعد شباط 1963 جمعية بناء المساكن التعاونية لعمال الزيوت والصابون. وهناك نية لغلق الدعوى وتسليم هذه الجمعية ثانية إلى السرّاق المجرمين الذين نهبوا من كل عامل (7.060) دينار بحجة توزيع أراضي عليهم. أما قضية الأرباح البالغة نسبتها 5% من الـ 25% فهناك عملية التفاف عليها قصد سرقة أموال العمال وتكوين رصيد على حساب العمال. أن نفس هؤلاء السرّاق لعبوا دوراً قذراً في الهجوم على العمال.
مجزرة 5/11/1968 لقد عاد العمال للإضراب واعتصموا، وفي الساعة السابعة من الصباح أُغلقت الأبواب وبعد عشر دقائق تجمع أكثر من ثمانين مدنياً مسلحاً بالمسدسات والرشاشات وحاولوا النفاذ من الأبواب لرمي العمال بالرصاص. غير أنهم فشلوا. ثم حاولت هذه العصابة المجرمة اقتحام الباب الرئيسية ولكن العمال تجمعوا خلفها وأغلقوها وقد أصلى المجرمون بصليات المسدسات والرشاشات العمال ومن بين الذين أطلقوا الرصاص كل من (جبار عواد) و(جبار سلوم) و(جاسم حمودي) و(مجيد زبالة) و(يونس حسن) وكلهم عمال في الشركة ومن القائمة البعثية فأجابهم العمال بالقناني الفارغة واستطاعوا إبعاد العصابة عن سياج المعمل وأخذت هتافات العمال تتعالى وتشق عنان السماء. وفي حوالي الساعة الثامنة والنصف جاءت قوة من رجال الأمن والاستخبارات والقوة السيارة والانضباط العسكري مع أكثر من مصفحتين. وأخذ أفراد البعث يزدادون وهم مدججون بالرشاشات ووقفت زمرة منهم مع معاون أمن المسبح يشخصون العمال ويسجلون أسماء الناشطين منهم وبعدها جلبوا سيارة مجهزة بمكبرات الصوت (تابعة لشركة البيبسي كولا) وأخذ ممثل القائمة البعثية يردد صرخات مسعورة ضد العمال، ويشتم الإضراب والمضربين ويدعي أن الإضراب قد "فرض" على العمال! ولكن العمال استهزؤوا بصرخاته الحاقدة وارتفعت هتافاتهم بحياة الطبقة العاملة وسقوط الفاشست. وفي الساعة الثانية عشرة والنصف جاء بعض الأشخاص ومعهم ضابط برتبة مقدم باسم التفاوض. وكان الحديث يجري بينهم وبين العمال وأثناء المناقشة أخذ جماعة من العصابة يتجمعون عند الباب الثانية وهم مسلحون. فرموا العمال المكلفين بالحراسة واستطاعوا تفريقهم بالنار. وقد دخلوا إلى المعمل كالغزاة الفاتحين المستهترين يتقدمهم المجرم حميد السامرائي (مرشح القائمة البعثية في البيبسي كولا) ومعه طارق النجار والمعاون ستار. وأخذوا يطلقون النار دون انقطاع من الرشاشات والمسدسات فقتلوا العامل البطل (جبار لفتة) وجرحوا آخرين، واعتقلوا العشرات واعتدوا على الجميع بالضرب والشتائم. أن العشرات من العمال الأبطال المعتقلين ومن بينهم العامل النقابي عبد جاسم مازالوا رهن الاعتقال وتحت رحمة جلادي البعث وعصابات الأمن. إن الدكتاتورية البعثية تحاول ارتكاب جريمة جديدة بمحاولتها إلصاق تهمة قتل العامل الشهيد (جبار لفتة) بأخيه العامل (عبد جاسم)!! وهكذا سجل الانقلابيون مجزرة جديدة إضافة لسجل مجازرهم عام 1963! وهكذا فضحوا حقيقة "جماهيريتهم" المزعومة بين العمال وزيف ادعاءاتهم وشعاراتهم "التقدمية" و"الاشتراكية". فيا أيها العمال، هذا هو منطق الصراع الطبقي. فلا تنتظروا من أعدائكم الطبقيين سوى المزيد من التنكيل وإراقة الدماء. والمزيد من استنزاف قوة عملكم ليحولوها إلى أرباح فاحشة تغدق على ملذاتهم ونعمهم وانتم لا تحصلون إلا على الجزء القليل والضئيل مما تنتجه سواعدكم ولتجديد قوة عملكم لكيما تقدمون من جديد أكثر فأكثر من الأرباح للمالكين الجشعين البيروقراطيين والمرتزقة. إن واقع نظام الحكم البرجوازي وأجهزته القمعية وقوانينه الرجعية، هو الذي يحمي بقوة الحديد والنار العلاقات الاستغلالية التي تحرمكم من الحياة اللائقة بالإنسان وتسبب لكم المجاعة والحرمان والبطالة والمآسي والآلام لكم ولعوائلكم ولأطفالكم. وتمتص دماءكم وتسفكها من أجل الحصول على الربح والربح فقط. أن العنف البرجوازي وتنظيماته وتشكيلاته، لا يدحرها إلاّ العنف البروليتاري الثوري وتشكيلاته وتنظيماته السياسية والنقابية الثورية. أن إرادة الطبقة البرجوازية الرجعية ومأجوريها وحرّاس "فردوسها"الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، من المرتزقة وعصابات القتلة لا تقهرها سوى إرادة الطبقة العاملة المنظمة الواعية والثورية، فهي إرادة الأكثرية وإرادة الحياة التي لا تقهر. أيها العمال أن تنظيمكم الثوري ووحدتكم الطبقية هو سلاحكم الفعّال، وان استخدام هذا السلاح من وجهة الردّ الثوري على العنف الرجعي البرجوازي تمليه متطلبات الصراع الطبقي وقوانينه. والذي يستهدف بالأساس انتزاع السلطة من أيدي أعدائكم الطبقيين ولإقامة سلطتكم السياسية العادلة. فليس بمقدور العنف الرجعي أن يوقف نضالات الطبقة العاملة، فبدماء شهداء الطبقة العاملة يزداد تأجيجها وتصاعدها. إن الطبقة العاملة العراقية لا ولن تغفر للمجرمين القتلة وستنزل بحقهم وبحق حكم الإجرام والجاسوسية والاستغلال القصاص العادل. كان (صلاح عمر التكريتي)، هو الشخص الأول المسؤول عن معالجة الإضراب وهو الذي كان يطلق صيحات التحذير والتهديد من سيارة البيبسي كولا... وأعطى الأوامر إلى أصحابه وتابعيه من الجيش والشرطة والمرتزقة بشنّ الهجوم المسلح على العمال المضربين... أما الشخص العسكري الآخر، فهو (فهد جواد الميرة) آمر معسكر الرشيد، وكان يحوم للانقضاض على الإضراب عسكرياً.
وثيقة رقم (8) برنامج شهادة على العصر قناة (الجزيرة)... مع تحياتي
سؤال إلى السيد صلاح عمر العلي أرجو أن توضح في شهادتك التاريخية على العصر ما حدث بالضبط لإضراب عمال شركة الزيوت النباتية في بغداد في الخامس من تشرين الثاني (نوفمبر) 1968 وكنت عضواً في القيادة القطرية لحزب البعث الحاكم. لقد قلت بأنك لم تستعمل العنف ضد أي مواطن عراقي، وأنا العامل وأحد المسؤولين في لجنة قيادة الإضراب يومئذ... أشهد للتأريخ شهادة صادقة وأتحمل مسؤوليتها الكاملة بأنك كنت المسؤول الأول عن معالجة الإضراب والهجوم المسلح عليه وقد أوعزت كما رأينا إلى رجال الأمن والشرطة والجيش بالإضافة إلى البعثيين المسلحين والمنتمين إلى قائمة السلطة العمالية بالهجوم على إضراب سلمي وقانوني حسب نصوص قانون العمل وكان يرافقك في إدارة المعركة مع العمال المضربين آمر معسكر الرشيد "فهد جواد الميرة". لقد حاولنا التفاهم معك لحل مشكلة الإضراب حسب القانون، لكنك وقد كنت مدعوماً بجيش جرار من الجنود والانضباط العسكري والأمن والبعثيين المسلحين والأسلحة الثقيلة التي شملت دبابات وكانت إحداها تقف أمام المصنع من جهة النهر، لكنك بدلاً من القبول بحل سلمي للإضراب خطبت في مكبر الصوت مهدداً متوعداً واتهمتنا بالخروج على الدولة والحكم والقانون، وبصقت أمام الجميع على عضو لجنة الإضراب "رحيم الشيخ علي" ثم أصدرت الأوامر بإطلاق النار على العمال المضربين واقتحام المصنع لفك الإضراب الذي كان يحرجكم كثيراً وانتم أدعياء الاشتراكية والثورة البيضاء يومذاك. وقد صرحت أنت مراراً كما صدرت بيانات من مؤسسات حزبكم الإعلامية بأن خصومات وقعت بين عمال الزيوت المضربين فقتلوا العامل الشهيد "جبار لفتة" وأصيب عشرات العمال الآخرون بجروح مختلفة. وحقيقة الأمر أن النار التي أطلقت بأمر منك قتلت العامل "جبار لفتة" الذي سقط مضرجاً بدمه أمامي وجرح عمال كثيرون، وتم بعد ذلك بإشرافك الشخصي اعتقال العشرات من العمال وقد قمتم بتلفيق تهمة قتل رفيقنا العامل "جبار لفتة" لي وللعامل "غضبان أحمد" عضو لجنة قيادة الإضراب حيث قدمنا إلى المحكمة التي لم تستطع أن تثبت هذه التهمة الشنيعة وبقينا في السجن مدة عام كامل مهددين بالإعدام، بينما تم فصل عمال آخرين ولابد أن فصلهم قد تم بأمر منك لمسؤوليتك في المكتب العمالي لحزب البعث. أتمنى على السيد "صلاح عمر العلي" وقد إنهار نظام القتل والقمع البعثي أن يقدم شهادة صادقة للتأريخ ويتحمل مسؤوليته فيها ويقدم اعتذاراً للضحايا الذين سقطوا بين شهيد وجرحى ومعتقلين ومفصولين من العمل محرومين من لقمة العيش. الدكتور عبد جاسم الساعدي الهوامش: أحزاب المعارضة العلنية في العراق 1946ـ 1954، د. عادل غفوري، ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشرـ1984. أسرار ثورة 14 تموز وتأسيس الجمهورية العراقية، إسماعيل العارف، لندن 1986. الطبقة العاملة العراقية/ التكون وبدايات التحرك، د. كمال مظهر، دار الرشيد ـ بغداد 1981. العراق، حنا بطاطو، الجزء الأول. العراق، حنا بطاطو، الجزء الثالث. العراق/ البيرية المسلحة/ حركة حسن سريع وقطار الموت 1963، د. علي كريم سعيد، ط1، الفرات للنشر والتوزيع 2002. العراق الجمهوري، د. مجيد خدوري، ط1، الدار المتحدة للنشر ـ بيروت 1974. أوكار الهزيمة، هاني الفكيكي، ط1، رياض الريس للكتب والنشر ـ لندن 1993. تطور الحركة النقابية في العراق، هاشم علي محسن، بغداد 1966، الجزء الأول والثاني والثالث. ثورة 14 تموز بعد أربعة عقود، سعاد خيري، السويد 1998. جانب من النضالات العمالية، تاريخ الطباعة في العراق، شهاب أحمد الحميد، ج 3، 1929ـ1958. جذور الفكر الاشتراكي والتقدمي في العراق 1920 ـ 1934، عامر حسن فياض، بيروت 1980. جريدة الأهالي، 1/7/1932. جريدة التآخي 13/10/1967. جريدة التآخي 27/4/1968. جريدة التآخي، ايضاح الدكتور ابراهيم كبة، 23/10/1967. جريدة الثورة 21/11/1968. جريدة الجمهورية 1/10/1968. جريدة الجمهورية 2/10/1968. جماعة الأهالي في العراق، فؤاد حسين الوكيل، دار الرشيد للنشر ـ بغداد 1979. دراسات عن الطبقة العاملة في البلدان العربية، العدد 3، الجزائر 1982. عراق 8 شباط 1963/ مراجعات في ذاكرة طالب شبيب، د. علي كريم سعيد، ط1، دار الكنوز الأدبية ـ بيروت 1999. قصاصون من العراق: دراسة ومختارات، سليم عبد القادر السامرائي، بغداد 1977. كامل الجادرجي ودوره في السياسة العراقية، د. محمد الدليمي، بيروت 1999. مجلة الغد، العدد 21، تشرين الثاني 1987. محمد جعفر أبو التمن، الوراق للدراسات والنشر، د. خالد التميمي، دمشق 1996. مشكلة السكان... العراق، الأنصاري، دمشق 1980. من وثائق الحزب الشيوعي العراقي/ كتاب الرفيق فهد، الفارابي ـ بيروت 1976. موسوعة التشريعات العمالية في القطر العراقي، المجلد الأول 1968ـ1978، مطبعة مؤسسة الثقافة العمالية/ بغداد. نصف قرن من تاريخ الحركة النقابية في العراق، الخباز، ط1، بغداد 1971. صدر للمؤلف: ـ الأدب والدولة في العصر الأموي ـ 1994. ـ الذاكرة والحنين في القصة العراقية القصيرة في المنفى ـ 1995. ـ الشعر الوطني الجزائري بين حركة الإصلاح والثورة ـ 2001. ـ العودة إلى بغداد واشتغال الذاكرة ـ 2004.
#عبد_جاسم_الساعدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العراق بين ثقافتين...ثقافة المجتمع المدني وثقافة العنف
-
منصور حكمت: قراءة جديدة للماركسية الشيوعية فقدت معناها وارتب
...
المزيد.....
-
أمريكا تكشف معلومات جديدة عن الضربة الصاروخية الروسية على دن
...
-
-سقوط مباشر-..-حزب الله- يعرض مشاهد استهدافه مقرا لقيادة لوا
...
-
-الغارديان-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي ل
...
-
صاروخ أوريشنيك.. رد روسي على التصعيد
-
هكذا تبدو غزة.. إما دمارٌ ودماء.. وإما طوابير من أجل ربطة خ
...
-
بيب غوارديولا يُجدّد عقده مع مانشستر سيتي لعامين حتى 2027
-
مصدر طبي: الغارات الإسرائيلية على غزة أودت بحياة 90 شخصا منذ
...
-
الولايات المتحدة.. السيناتور غايتز ينسحب من الترشح لمنصب الم
...
-
البنتاغون: لا نسعى إلى صراع واسع مع روسيا
-
قديروف: بعد استخدام -أوريشنيك- سيبدأ الغرب في التلميح إلى ال
...
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|