|
العراق بين الديمقراطية كخيار وحاجات المرحلة الراهنة
فارس خليل ابراهيم
الحوار المتمدن-العدد: 2149 - 2008 / 1 / 3 - 12:30
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
تبدووللوهلة الاولى مدى غرابة ما يروج له بعض السياسيين العراقيين بالاضافة الى مجموعة من القوى الدولية الفاعلة على الساحة السياسية العراقية من ان اشد الاخطار فتكاً التى تواجه العراق بعد الارهاب هو تعثر الحياة الديمقراطية في العراق ! وان كل ما يحدث في هذا البلد ما هو الا نتائج فرعية لتلك المشكلتين لاغير . لكن ما يهمني اليوم هو (الديمقراطية في العراق). وقد يتجلى خطا للقارئ ان جُلّ اعتراضي في الاسطر القادمة ينصب على النظام الديمقراطي كخيار سياسي يضمن لمفهوم المواطنة حق الوجود و الاستقرار . وعلى ايٍ حال ومع دخول المحتل وانهيار مقومات الدولة العراقية ، وتحت ضغط عامل القبول بأي بديل عن السلطة المنهارة التي اعقبت سنوات عديدة من السلوك الشمولي ضمن اطار جمهورية الخوف بالاضافة الى حالة الذهول الذي اعقب انهيار كل شيء عام 2003 ليصبح الخوف وعدم توافر سلسة من الخيارات السياسية للفرد العراقي ، ضماناً لقبوله بالخيار الذي قدمه الوافدون الجدد وعلى اختلاف الوانهم وجنسياتهم و الذين صوروا ان خيار الديمقراطية هو مجرد قرار سياسي يتم الاتفاق عليه من قبل (ممثليس الشعب العراقي) وما على هذا الشعب سوى التنعم بجنة النظام الجديد . دون البدء اولاً بمعالجة الجروح السابقة و ترميم حالات التصدع الاجتماعي ونفخ الروح في هذا الجسد شبه الميت (فالديمقراطية كنظام لايمكن ان يولد الا فتياً) متناسين واقع المجتمع العراقي ومدى استعداده للاخذ بهذه التجربة الجديدة وبأي شكل وبأي جرعة مناسبة كون الديمقراطية لاتولد دفعة واحدة بل تولد على دفعات عديدة وبما يناسب طردياً مع ما يقطعه الشعب في مسيرة تحوله لمجتمع جامع يقبل بالاخر دون تمييز . ويظهر لنا من قراءة التاريخ ان مسيرة القبول بهذا الاخر لم تأخذ خطاً مستقيماً بل خطاً بيانياً متعرجاً ادمته الحرب و الصراعات الطويلة و التي ما كان لها ان تطغو على السطح لولا ضروات تاريخية لايمكن الفرار منها ابداً الا بالمواجهة الدامية في معادلة ازالة الاخر . ولم ينته هذا الصراع الا بالاقتناع بحقيقة انه لا يمكن ازالة الاخر ، ومن ثم القبول . بمبدأ حق الوجود لهذا الاخر و القبول بحالة التعايش السلمي معه وصولاً الى حقيقة ان الدفاع عن حق الوجود للاخر وضرورة التفاعل البناء معه هو الضمان (للانا) لاستمرار في المستقبل بعيداً عن هاجس الثار و الاقصاء . فلم تولد الديمقراطية في اوربا الابعد خوض 400 عام من الحروب الدينية و الطائفية بالاضافة الى 100 عام من الحروب ذات الصبغة القومية وكان مسك الختام حربين كونيتين اهلكت الكل ولم تكن هذه الحروب التي استخدمت الشعارة الدينية و القومية كمزمار الراعي عند قيادة القطيع سوى تعبير فج عن حالة التناحر بين (الانظمة السياسية) المهيمنة في اوربا والتي لم تعن باي شكل من الاشكال بحاجات المواطن طالما كان قادر على دفع الضريبة وتلبية نداء الوطن في ساحات الحروب ، انظمة كانت على حافة التفسخ و تجشو على انفاس شعوب تدفعها حاجاتها الملحة للتخلص من هذه الانظمة و التي لم تفوت فرصة لتصدير ازماتها الداخلية المزمنة الى صراعات خارجية ضحيتها الشعوب لاغير كشكل من اشكال الهروب من هذه الازمات . ولكي لا نستغرق في التاريخ ادراك المتخاصمون طبقات و فئات وشعوب في اوربا المحترقة انه لايمكن (الغاء الاخر) بل لايمكن تجاهل مطالبة ادراك قائم على عقلنة العلاقة بين الحاجات الملحة و الامكانيات المحدودة وحجم الفرص المتاحة عند التعامل مع الاخر لاءثراء سلسلة الامكانات المحدودة . غير ان هذه العقلنة لم تأت نتيجة تأملات ومحاكمات عقلية صرفة بل كان خياراً متجسداً بالانشطة و الحاجات الانسانية الملحة والتي كانت في ما مض (مكامن الحروب و الصراعات) المتمثلة بالجانب الاقتصادي و الحقوقي .. من خلال سعي دول اوربا الغربية الى تعميم العقلنة في الحياة الاقتصادية للحفاظ على الحد الادنى و المقبول من الفاعلية الاقتصادية و التي تسمح للامة بالاستمرار دون الانزلاق الى حافة الانهيار الاقتصادي (مراعين بذلك الحضور المستمر للازمات الدوريه للانظمة الراسمالية) ومن ثم الوصول الى وتيرة من الفاعلية الاقتصادية و التي تضمن بدورها تحقيق نمو اقتصادي سنوي يسمح لهذه الامة باللحاق بموكب المنافسة الحاضارية بين الشعوب ، اويحول دون تخلفها عن هذا الموكب على اقل تقدير . وهذا كله يفضي في نهاية المطاف الى حماية المواطن عموماً من الوقوع في براثن العوز المسبب للجريمة ، بالاضافة الى توافر فرصا لتطوير الكفائة الشخصية والذي يعني فرص جديدة لمداخل افضل. اما في الجانب الحقوقي فقد سعت اوربا الى فرض حالة المساوات بين افراد الامة (رغم اعتقادي الجازم ان جوهر الانصاف هو العدالة و المساوات هي احدى ادوات التعبير عن العدالة) وتجريم النعرات الاثنية و العرقية وتعميم مفهوم (هوية الدولة بدلاًمن دولة الهوية) وباختصار جعل المواطنه جوهر الحياة على كافة الاصعدة ، وتجاهل كل الاصوات الداعية الى سياسة القفز على المراحل الواجب الولوج فيها التي كان لها الصدى الكبير في مرحلة الخمسينيات و الستينيات من القرن الماضي وذات الصبغة الماركسية والتي ولدت فيما بعد سلسلة من ردود الفعل الارتكاسية المدمرة على مجتمعات اوربا الوسطى و الشرقية .. واصرار انظمة اوربا الغربية على ان تنمو التجربة الديمقراطية بصورة طبيعية بعيداً عن اي عملية قيصرية قد تفضي الى نتائج وخيمة هذا بالطبع الى جانب ما تعانيه تلك الديمقراطية من مشاكل مزمنة لايمكن حلها كون تلك المشاكل هي احدى محركات تقدم وازدهار هذه الديمقراطيات فالديمقراطية الغربية وما ترتب عليها من ازدهار ورفاهية كانت وما زالت على حساب الامم الفقيرة الخاضعة للاستغلال من قبل انظمة الدول الغربية و الولايات المتحدة خصوصاً ، بالاضافة الى نظرتهم المتعالية لبقية الشعوب فهم ابناء الشمال المتقدم ونحن مازلنا ابناء الجنوب !! ويمكن القول اجمالاً ان الديمقراطية في اوربا الغربية ولدت لضرورات تاريخية ملحة ورفعت لواءها حركات اجتماعية وسياسية ناضجة قد امتلكه وعي المرحلة وازالت انظمة استبدادية بجهود ذاتية القدرة .اما في العراق ومع قدوم الوافدين بالالوان وجنسيات متعددة وتولي (العراقيين الجدد) مهمة تأسيس دولة العراق الجديد لم تكن الديمقراطية عندهم سوى تلك الجزيرة التي سحبت جماهيرنا (الواعية)! الى صناديق الاقتراع بل صناديق الموافقة ! والتي اعطت لهولاء الجدد صك توكيل اكمال مأساة هذا الشعب المحطم لكي يكون صالحا لاغراض الخصخصة والبيع بالمفرد وكونه لم يعد صالحاً لشيء ؟ فمن المعلوم لولا التدخل العسكري الامريكي في العراق عام 2003 وتحطم الدولة العراقية و سيادة الهيمنة الامريكية كأمر واقع لما تنازل بعض من هؤلاء العراقيين الجدد عن خلفياتهم الايدلوجية الشمولية لتم قبولها في اللعبة الديمقراطية في العراق .. ومع ذلك ورغم هذا التنازل لم تكن الديمقراطية في العراق سوى محاولة عض الاخر واقصائه وتصفيته بعد اسقاط تهم الخيانه و العمالة عليه وهذا الامر اصبح سمة مميزة للديمقراطية في هذا البلد فبدلاً من معالجة جروح المرحلة السابقة انشغل (منقذو الشعب) بصراعاتهم المخجلة على السلطة بل على اتفه وادنى المراكز في هرم السلطة .. وتحت شعار القضاء على اسباب الاستبداد والتفرد بالسلطة تم القضاء على الدولة رغم الفرق الواضح بين السلطة و الدولة . وبحجة عدم اقصاء اي مكون من (باقة الورد العراقية) ! تم تمزيق الهوية العراقية لصالح الانتماءات الاثنية و الطائفية .. ولغرض توزيع عادل لثروات البلد يتم عرض مقدرات العراق الاقتصادية و تحت شعار الخصخصة في المزاد او جعلها ركناً مهماً لطموحات يقال عنها والله اعلم ! انها ذات صبغة انفصالية ضمن صفقات مشبوهة .. ولغرض تصفية مفاصل الدولة من العقلية الشمولية تم استبدال الكثير من الكوادر المهنية و العلمية بشخصيات و كوادر منخفضة الذكاء ولا تجيد سوى تنفيذ رغبات امراء الطوائف السياسية وسماسرة الازمات وبدون أي تمييز يذكر . هذا كله الى جانب الربط التعسفي بين الديمقراطية و الفدرالية كنموذج لحكم لارجعة فيه في عراقنا الجديد . فهل كان العراق مهيئاً للأخذ بهذا النموذج ؟ ان بلداً اصبحت فيه (هوية الدولة) محور جدل ومجتمع انحسرت فيه القيم المدنية للمصالح المد العشائري و القيم البدوية و التي لاتقبل التنوع ، وهيمنت قوى سياسية تستمد سطوتها من هذا المشهد العراقي الممزق ، اصبحت الفدرالية فيه كنموذج للحكم نكتة مخيفة ، بل ان خيار الديمقراطية وبهذه الجرعة لايمكن ان يكتب لها النجاح فالديمقراطي لايمكن ان تنمو الا في مجتمعات مدنية بل في مجتمعات تأصلت فيها القيم المدنية . اما في الجانب التنموي الذي يعتبر احد غايات الانظمة الديمقراطية فيمكن القول انه تم اجهاضها بعملية الخصخصة ، فكيف يمكن خصخصة اقتصاد غير موجود اصلاً ، فالخصخصة هو خيار اصلاحي راسماليا لاقتصاد موجود ولكن يعاني بعض الازمات ، في حين لدينا اليوم جثة هامدة اسمها الاقتصاد العراقي ، ولم تكن الخصخصة اليوم سوى عملية تقاسم لثروات كامنة قابلة للتحقيق في المستقبل اما في الجانب الحقوقي ورغم الفقرات العديدة التي تؤكد جعل المواطنة قيمة عليا في (العراق الجديد) غير ان سيادة الطائفية السياسية على مجمل المسرح السياسي العراقي وتفشي حالة ازدراء الاخر وتهميشه في حسن واهداء الاحوال في العقل التجمعي العراقي وغياب عملية التنمية الاقتصادية وظهور فئة جديدة في المجتمع العراقي (كالغارية متنفذة ) تضم تلك الشرائح الحزبية المتحكمة بمفاصل الدولة العراقية والتي اصبحت محطة للتملق و التودد لكسب الرضى ، يصبح الجانب الحقوقي مجرد عبارة فارغة لاتستحق القراءة فضلاً عن التعليق عليه فحال المجتمع العراقي اليوم اشبه باتلاف مجموعة من القبائل البدوية التي لاقيمة للفرد فيها و الكل في خدمة القائد الملهم زعيم القبيلة ومن لايدافع عن قبيلته لايستحق الحياة . اذن ما العمل ؟ ان نظرة واحدة للمشهد العراقي تكفي وبلا مبالغة ، للوصول الى حقيقة عدم صلاحية هذا النموذج فديمقراطية بهذه الجرعة الكبيرة التي لاتعير ولا تكترث لما يعتري هذا البلد من فوضى سياسية وفكرية و اقتصادية ، قد تكون جرعة قاتلة لامحال . ونظام فدرالي لبلد واحد موحد لم يعاني أي تقسيم بل يعاني ازمات موسساتيه وطائفية وسياسية قد تعني سيادة عقلية التجزئة على الحياة السياسية والتي قد تفضي الى نتائج وخيمة على خارطة العراق غير ان هذا النظرة لهذا الواقع الهش و المتفسخ يجب ان لايفضي الى نبذ الديمقراطية كحق مشروع وضمان اكيد لحياة يسودها الثقة و التناغم بين ابناء الوطن الواحد ومع ذلك اننا اليوم بحاجة للنموذج اخر صالح للتطبيق لا التنظير الفارغ فعراق بنظام مركزي دستوري يعتمد مبدأ القوائم المفتوحة و الاقتراع المباشر في الانتخابات وتحريم أي نشاط حزبي ذي طابع طائفي او شوفيني النزعات ولايترك المجال لاي قائد ملهم جديد لتولي السلطة مدى الحياة بنصوص واضحة لاتقبل أي تفسير اخر هو الحل و الضمان بالاضافة الى دستور يوافق عليه كل القوى السياسية الشرعية. وبما ان اغلب القوى السياسية الفاعلة في العراق غير مؤهلة لهذا الحل كونهم يمثلون الجزء الاكبر من هذه المشكلة لا اداة للوصول الى الحلول . فتستمر الازمة العراقية نحو الكمال حتى يستفيق هذا الشعب المغيب على حجم تلك المصيبة ويدفع ثمن هذه المرحلة المرة من تاريخه . ليتولى بنفسه خلق نظامه وتجربته بعد ان يغادر (الاخوة منقذو الشعب) الى غير رجعة للمرافه التي انطلقو منها ليلقوا بالاائمة من هناك على هذا الشعب الذي لم يفهمهم ولم يدرك حجم تضحياتهم لانقاذ البلد ! متناسين عمداً ان الديمقراطية هي تنشئة وسلوك قبل ان تكون لعبة لتولي السلطة وحلب هذا الشعب المنهك .
#فارس_خليل_ابراهيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاعلام الحر..أكذوبة من القرن العشرين
-
العولمة والاعلام العربي واشكالية الانسان العربي المعاصر
-
ما العولمة؟
المزيد.....
-
من معرض للأسلحة.. زعيم كوريا الشمالية يوجه انتقادات لأمريكا
...
-
ترامب يعلن بام بوندي مرشحة جديدة لمنصب وزيرة العدل بعد انسحا
...
-
قرار واشنطن بإرسال ألغام إلى أوكرانيا يمثل -تطورا صادما ومدم
...
-
مسؤول لبناني: 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية عل
...
-
وزيرة خارجية النمسا السابقة تؤكد عجز الولايات المتحدة والغرب
...
-
واشنطن تهدد بفرض عقوبات على المؤسسات المالية الأجنبية المرتب
...
-
مصدر دفاعي كبير يؤيد قرار نتنياهو مهاجمة إسرائيل البرنامج ال
...
-
-استهداف قوات إسرائيلية 10 مرات وقاعدة لأول مرة-..-حزب الله-
...
-
-التايمز-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي لن
...
-
مصادر عبرية: صلية صاروخية أطلقت من لبنان وسقطت في حيفا
المزيد.....
-
الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات
/ صباح كنجي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت
...
/ ثامر عباس
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|