تحولت ظاهرة استهداف المدنيين الأبرياء بالنشاطات المسلحة لدولة الاحتلال ،وخصوصا في عهد حكومة شارون، أو لبعض القوى المقاومة لذلك الاحتلال في الجانب الفلسطيني ، من الهامش الاستثنائي الذي لا تخلو منه حالة صراع مسلح على مرِّ التجربة التاريخية ، الى المتن الرئيسي والأهم والأكثر مأساوية لأنه بات يطحن الجماهير العزلاء والبريئة على جانبي المتراس .
وبالانتقال الى لغة التفاصيل حيث يكمن "الشيطان " كما يزعم " ملائكة " التعميم والتجريد، نجد أن الشعب الفلسطيني فقدَ من أرواح المدنيين الأبرياء والعزل أضعاف ما فقده الجانب الإسرائيلي خلال أحداث انتفاضة الأقصى والعدوان الإسرائيلي المتواصل وأعمال المقاومة والتصدي الفلسطيني له . ولكن هذه الحقيقية لا ينبغي أن تكون مدعاة لتناسي أو تبرير سقوط الضحايا من المدنيين الأبرياء ومن الأطفال تحديدا من طرفي الصراع . أما الفارق بين أعداد الضحايا فلا يحمل في مغزاه أية دلالات أخلاقية أو معنوية فمقتل إنسان بريء واحد ينبغي أن يتساوى في شناعته مع مقتل ألف بريء أو أكثر خصوصا وأن القرآن يعلمنا أن من قتل نفسا واحدة بغير حق فكأنما قتل الناس أجمعين !
إن تناول هذه القضية التي لا تخلو من حساسية شديدة ، لا ينبغي أن يخضع في الحساب الأول والأخير لشدة توتر الحالة الصراعية الراهنة وما تجلبه من آثار وتأثيرات على الحالة النفسية والشعورية العامة ، ولكنها في الوقت نفسه لا ينبغي أن ينكص أو يتراجع عن قول الحقائق والمبادئ الإنسانية التي اعتبرت تقليديا في عداد البديهيات وركائز فلسفة السلام . ومن تلك المبادئ وفي مقدمتها تكريم وتشريف الحياة البشرية، واحترام الأعراف والقوانين التي نظمت وتنظم حالات الحروب والنزاعات بين البشر، والدفاع عن الأبرياء العزل والعاجزين بدنيا الذين ينبغي أن يكونوا دوما خارج دائرة كل صراع مسلح كالأطفال والشيوخ العجزة والمرضى والنساء غير المسلحات . أي عموما من ندعوهم اليوم بالمدنيين الأبرياء . ومن المفيد الإشارة الى أن نعت " الأبرياء " لم يأتِ هنا لأغراض إنشائية محضة، بل إن له قيمته القانونية والتعريفية فالمدني البريء والأعزل يختلف عن المدني الذي يقوم مثلا بوظيفة المستشار السياسي لرئيس وزراء من طينة شارون .
وبالنظر لجسامة الخسائر البشرية بين المدنيين وتصاعد ضراوة الصراع بين المحتل والمقاومة ، و بسبب اختناق الحالة السياسية وانسداد آفاقها نتيجة لعناد شارون ومكابرته ورفضه الاعتراف بأن الانتفاضة الفلسطينية انتصرت قولا وفعلا، و بسبب انحباس ممارساته وتفكيره بين فكي كماشة (الفعل ورد الفعل ) و(الضربة المسلحة والرد عليها ) وهكذا فقد خرجت قضية استهداف المدنيين من مشمولات الحالة السياسية الأمنية لتنشر ظلالها الثقيلة والحزينة في الميدان الأخلاقي والفكري والقانوني ، وفي جميع تلك الميادين يمكننا تسجيل المبادئ التالية في الساحة الفلسطينية :
-أدانت السلطة الوطنية الفلسطينية وفي جميع المناسبات موضوع الحديث وآخرها عملية التفجير في الفندق السياحي في مدينة ناتانيا مساء الخميس 26/مارس آذار الجاري، والتي اسُتهدِفَ فيها المدنيون الإسرائيليون بالنشاطات المسلحة واتخذت – السلطة الفلسطينية - إجراءات عملية ،أمنية وسياسية ،رغم محاصرة واعتداءات شارون المستمرة ، في مناسبات كثيرة بحق المنفذين .
-رفضت أطراف فلسطينية مقاومة عديدة استهداف المدنيين الأبرياء وأدانت من فعل ذلك، ولكنها احتفظت لنفسها بحق استهداف المستوطنين عامة ،وخصت الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين منهم ( المستوطنين المسلحين ) تحديدا ، وقد وَفَتْ هذه الجبهة بتعهداتها فلم ُيسجل إنها استهدفت أو أعلنت مسئوليتها عن عمل مسلح ضد المدنيين الأبرياء أو اتهمت بفعل ذلك غير أن هذا التميز الكفاحي للجبهة لم يجعلها بمنأى من النزعة الانتقامية لشارون وحكومته التي اغتالت من قيادات الجبهة المذكورة خمسة كوادر في يوم واحد وساعة واحدة ، إضافة اغتيال أو محاولة اغتيال عدد آخر من مقاتليها وكوادرها طالت إحداها الأمين العام للجبهة الديموقراطية قيس عبد الكريم .
-أيدت أطراف أخرى في المقاومة الفلسطينية وفي مقدمتها حركة حماس والجهاد استهداف المستوطنين الإسرائيليين والمدنيين عامة بالأعمال المسلحة المخططة والمعدة سلفا على اعتبارٍ تؤمن به هذه الأطراف و مفاده أن جميع الإسرائيليين هم مستوطنون ، ولا يوجد ثمة فرق بين المقيمين داخل الخط الأخضر وخارجه . واعتبرت تلك الأطراف هذا الفعل مبررا أو هو رد فعل طبيعي على ما يرتكبه الجيش الإسرائيلي بحق المدنيين الفلسطينيين .
-لم تستهدف أطراف فلسطينية أخرى عن سابق قصد وتخطيط المدنيين ولكنها قامت بأعمال مسلحة راح ضحيتها مدنيين إسرائيليين فاعتبرت هذه الأطراف أن مسئولية ما حدث تقع على عاتق الاحتلال وعلى عدوانية حكومة شارون ومن هذه الأطراف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وهذا موقف يمكن تفهمه ضمن سيرورة الأحداث المتفاقمة .
أما على الجانب الإسرائيلي فيمكن لنا تسجيل التالي :
- حرصت حكومة شارون في الأشهر الأولى للانتفاضة على أنها لا تستهدف المدنيين الأبرياء وقد قدمت فعلا عددا من الاعتذارات التقليدية الخالية من أي عمق إنساني في حالات قتلت قواتها فيها عددا من الأطفال أما عدسات الصحافة الدولية . ولكن شارون نفسه وبعد دخول الانتفاضة عامها الثاني صرح علنا بأن هدفه وهدف حكومته هو إيقاع أكبر عدد ممكن من القتلى في صفوف الفلسطينيين وهو التصريح الذي أغضب وزير الخارجية كولن باول ودفعه للرد عليه بتساؤل احتجاجي .
-سجلت جماعات حقوق الإنسان ومنظمات وقوى السلام الإسرائيلية إدانتها واحتجاجها على أعمال استهداف المدنيين الفلسطينيين وقامت بالعديد من الفعاليات والنشاطات التي لم تكن – للأسف - بحجم الجرائم المرتكبة ولذلك فهي لم تلفت اهتمام الشعب المعني والضحية .
-أيدت أطراف إسرائيلية مدنية ودينية من شخصيات اعتبارية وعادية استهداف المدنيين الفلسطينيين الأبرياء وطالبت بعض الأصوات بطرد الفلسطينيين من بلادهم أو تدمير مدنهم وقراهم في حال حدوث أعمال تستهدف الإسرائيليين .
إن القول بأن الاحتلال هو بحد ذاته ممارسة عدوانية واستهداف مسلح ضد المدنيين ،حتى ولو كان احتلالا مغلفا بالحرير، هو قول صائب كفاية في العموميات وأيضا في التفاصيل الحدثية . إذ أن الاحتلال يعني في الفقه السياسي والتاريخي حالة عسف و قسر يمارسها طرف مسلح أجنبي ضد طرف آخر مدني وصاحب أرض وعلى هذا فإن مسئولية دولة الاحتلال عن كل ما يحدث إبان فترة الاحتلال تكون كاملة وشاملة . غير أن التفهم الذي يمكن لنا أن نقابل به سقوط بعض المدنيين الأبرياء في الجانب الإسرائيلي على اعتبار مسئولية حكومتهم الأولية عن الاحتلال لا يجب أن يكون ذا طابع تبريري لأعمال قتل ونشاطات مضرة كالتفجيرات العشوائية التي تستهدف المدنيين عن سابق قصد وتصميم ، ولا يعني أيضا تحول هذا التحفظ على تلك الأعمال الى رفض لمنطق وأعمال المقاومة بحد ذاتها فبين المقاومة كمنطق وبين انفجار يقوم به فرد يائس ومظلوم فرق كبير لا يمكن حذفه أو القفز عليه وضمن منطق المقاومة لابد من التأكيد على أن العمليات الاستشهادية التي تستهدف جيش الاحتلال الصهيوني وعصابات المستوطنين هي فعلا أرقى أشكال التضحية وذروة العطاء والفداء الإنساني .
إن النقاش حول هذه القضية الخطيرة و الحيوية لم يعد شأنا ترفيا أو إنشائيا بل إنه صار على تماس مباشر بجوهر قضية تحرر الشعب الفلسطيني ذاته. ولقد طرحت في الآونة الأخير وجهات نظر متباعدة في شكلها الى درجة التنافر ولكن بعضها متقارب من حيث المضمون الى درجة تبعث على الأمل والتأمل . وقد انصب النقاش في مناسبات معينة على مناقشة وتحليل المقصود بالمدني وبصفاته وموقعه في العمليات الصراعية التاريخية ،فذهب المفكر الأمريكي "نعوم تشومسكي" مثلا الى أن ( المزارع الذي يعمل في الحقل والمرء الذي يتبضع في الشارع والطفل الراجع من مدرسته ، كل هؤلاء مدنيون حتى ولو كان المزارع يملك بندقية ويعيش على أرض محتلة ../ مجلة الآداب عدد50-2002 ملف المقاومة الفلسطينية المسلحة ) ولكن "تشومسكي" يتحفظ قليلا بخصوص ماهية المستوطن فيقول ( المستوطنون مدنيون . بعضهم قد يكونون أيضا أعضاء في مجموعات شبه عسكرية ليس هناك جواب واحد عن سؤالكم/الذي كان بخصوص هل المستوطنون أناس مدنيون أم هم أعضاء في مجموعات شبه عسكرية أم ينطبق عليهم الأمران معا ؟ ) وفي المقابل وعلى الضد من هذا المضمون نرى أن المفكر الأمريكي "نورمن فنكلستين " يعتقد( بأن المستوطنين أهداف مشروعة للمقاومة المسلحة فإذا اقتحم أحد البالغين منزلك بصورة غير شرعية واستولى عليه فإن لك الحق في أن تطرده منه بالقوة ) . وثمة أيضا وجهة نظر خاطئة وخطيرة ،تحاول بعض الأطراف السلفية والطائفية ترويجها لتبرير العمليات المسلحة التي تستهدف المدنيين الأبرياء على اعتبار أن تلك العمليات هي نوع من القصاص المؤيد بالخطاب والممارسة الدينية . ولكن السيد محمد حسين فضل الله وهو المعروف كأهم رمز من رموز المقاومة رفض وجهة النظر تلك و قال موضحا في الملف المذكور أن هذه العمليات " القصاصية " لا علاقة لها بالقصاص وأضاف ( إن مسألة " العين بالعين " تتصل بالجانب الشخصي، فلو افترضنا أن شخصا قتل مدنيا منا فليس لنا أن نقتل مدنيا لا علاقة له بقتل ذلك المدني . إن عملية العين بالعين تتصل بالقصاص والقصاص يتصل بالجانب الشخصي لا بما يتجاوز الشخص المجرم . الآداب 50 /2002 ) بكلمات أخرى إن محاولات تبرير العمليات العشوائية ضد المدنيين الإسرائيليين على اعتبار إنها قصاص وثأر لما فعله الجيش الإسرائيلي للمدنيين الفلسطينيين هي محاولة غير سليمة ولا علاقة لها بما ُبررت به.
وختاما ، فإن على النخبة المثقفة العربية والشخصيات المستنيرة تقع مسئولية توضيح الفروق وإيضاح الحقائق والبديهيات التي تتلاشى في زحمة الصياح الأدلوجي والعويل الطائفي والسياسي ، وعليهم تقع مسئولية أن يوضحوا للجمهور العريض صاحب المصلحة الأولى في السلام وهزيمة المشروع الصهيوني العنصري حقيقة أن الإنسان قيمة خالدة ومعيارية بحد ذاتها وهي غير قابلة للقسمة والتجزئة أو التصريف الظرفي والمكاني والزماني . إن تكرار وتعمد أعمال القتل ورؤية الضحايا من أطفال غير قادرين على معرفة لماذا يقتلون ونساء يعانين آلام المخاض على حواجز الجيش الإسرائيلي، إن تكرار ذلك هو ما يبلد الحس النبيل ويقتل الجوهر الإنساني والفاعلية الأخلاقية لدى الناس .فقط بالتبشير بقيم الاستنارة والرحمة ورفض عمليات القتل العمد للمدنيين الأبرياء ُتستعاد العافية الأخلاقية والجوهر الإنساني في طريقنا لاستعادة الأرض والحرية .