اللحم ليس بالغذاء العادي. فهو يتمتع بكثافة رمزية لن تحوزها أطعمة كاللعاعة والمعكرونة الشريطية او عجينة اللوز. وهذا ليس على سبيل المزاح، فاللحم هو في شكل من الاشكال الغذاء المطلق. ويحمل اصل الكلمة Vivenda معنى "الصالح للحياة". الواقع ان التباسات عدة ذات طبيعة انتروبولوجية تعاكس علاقة الانسان الغربي باللحم لتجعلها معقدة ومبهمة.
فاللحم يحيلنا بداية على طبيعتنا الضارية القاضية على غيرها من كائنات. واللحم يمثل اقتحاماً من الطبيعة للثقافة. اللحم Viande والاغتصاب Viol والعنف Violence كلمات متشابهة في اللفظ ومتقاربة في المعنى. فهذا "الغذاء الحيواني" يحتوي على الحياة والموت معا. عند ابتلاعنا اللحم نكون كمن "يهضم احتضارات" بحسب التعبير المعروف لمارغريت يورسنار. وليس من المصادفة في ان يثير اللحم مشاعر الرفض والشراهة والقرف.
كما اعتبر اللحم رمزا للغرائز من عدد من رجال الدين والفلاسفة في الوقت الذي ينزع النظام النباتي الى شكل من الطهارة وكل تقشف (كالصيام) يحظر اللحم اولا من دون استثناء. على العكس فإن اكل اللحم الاحمر هو تلذذ بالوكالة وعنف يرتكب عن بعد.
المشكلة بعد ذلك ان علينا الاقدام على القتل كوننا من أكلة اللحوم وليس من أكلة الجيف. وباسم المشاعر المرهفة والرياء المؤكد، تم نفي هذه العملية الدقيقة الى حدود التجمعات السكانية، خلف آفاقنا المدينية وخصوصا الاخلاقية. يذكرنا كلود فيشلر بالطبع ان اللحم ومشتقاته يواجه مشكلة: "فهناك بعض المظاهر لا يمكن فعلا عرضها ولا يريد أحد رؤيتها"(1). لكن التسمية الانكليزية للمسالخ slaughterhouse او بيت المجزرة تذكرنا بالمذابح التي تحدث داخله.
لقد تم تحويل الاجهاز على الحيوانات الى عملية صناعية مقسطة وممكننة. لكن عذاب الضمير ما زال يخيم فوق شرائح اللحم التي تقدم لنا اذ يعترف 89 في المئة من المستهلكين انهم لن يأكلوا اللحم لو اضطروا الى قتل الحيوان بأنفسهم.
اخيرا فان ما بعد الحداثة الغربية الغارقة في تناقضاتها دفعت في اتجاه الافراط في "أنسنة" الحيوانات المرافقة للبشر لترمي في الغياهب ملايين غيرها من تلك التي تعيش للضرورة وتعود بعد الوقت المحدد لها الى الموت المفيد اي تحولها الى الاستهلاك. ولا تواجهنا تناقضاتنا بقوة الا عندما تبرز ازمة مشابهة للبقر المعلوف بالهورمونات في السبعينات او جنون البقر مؤخرا.
لذا ظهر ميل غربي مهيمن في اتجاه "نزع الطابع الجسدي" عن اللحم بأي ثمن. فقمنا وعبر سلسلة طويلة من الاستبدالات في المهنة والمشهد بعملية صبورة لالغاء الصفة الحيوانية عن البهائم المعدة للاكل التي تفقد جنسها وتطلق عليها تسميات جديدة ـ لحم "العجل" هو في واقع الحال لحم البقر في 80 في المئة من الحالات ـ بعد ان يتم سلخها وتقطيعها... حتى لا يعود الحيوان فيها ظاهرا للعيان في اي لحظة من اللحظات(2). فشريحة اللحم، الستيك، تقبع مغفلة داخل الحمالة البيضاء في المخازن الكبرى الى جانب غيرها من المنتجات. فالحيوان لم يحول فقط الى وجود سري بل يصار الى طرده لا بل الى نفي وجوده تقريبا.
وقد اوصلت مطاعم الوجبات السريعة التي اجتاحت فرنسا منذ عقدين من الزمن لا اكثر، هذه العلاقة مع اللحم الى اقصى حدودها لتنتقل من الالتباس الى الفصام: فالحقيقة لم تعد الحقيقة ونتصرف وفق منظومتين مختلفتين من الرؤية.
ففي مطاعم ماكدونالد مثلا، تقدم الى المستهلك "المستهدف" اي الولد، لحمة فارغة من معناها اذا جاز التعبير... لحم من غير جسم، أقرب الى المحاكاة منه الى الحقيقة، "كرنفالي" بالمعنيين اي كونه لعبة مموهة ومن ثم لان كلمة Carnaval مشتقة من الايطالية بمعنى "اللحم المنزوع"...
تقدم الوجبات السريعة انمساخا يحاكي اللحم (يدل عيه شعار شبكة ماكدونالد، المهرج رونالد) ويقف في الطرف الآخر من المأسوية الملازمة للحم. هذا الاشتقاق المتداعي لا يعلن طبيعته بل يكذب حولها اذ ليس لديه من اللحم لا الاسم ولا الشكل ولا الطعم. فهو يختبئ في كل حال خلف بديل من الدم مفعم بالسكر هو الكاتشاب.
في مطاعم الوجبات السريعة لا اثر مرئياً للحيوان بدءا بالاسماء: ناغتس، هامبرغر، حلقات... والافضلية دائما للانكليزية على حساب الفرنسية منعا لاي التباس او تمكينا للخداع الكامل. ففي الشكل يتم تغيير طبيعة الاغذية وبنيتها ويصار الى اعادة توليفها وتلوينها وتمويهها تمشيا في نهاية المطاف مع معايير الذوق التي تحاول الشركات الاميركية الشمالية الكبرى العاملة في مجال الانتاج الغذائي فرضها: اتجاه ملون وسكري مهما كان الغذاء المنتج(3).
يندرج هذا اللحم الذي فقد اسمه ضمن مشهدية وحلقة متصلة من الالعاب والالوان والمفاجآت والاحتفالات الثقافية الاعلامية (الدعاية للافلام مثلا...) لا يحتل فيها كظاهرة عارضة سوى موقع هامشي ثانوي.
في كل حال فان استفتاء صغيرا يشير الى ان السواد الاعظم من الصغار دون الخامسة يرغبون في الذهاب الى "الماكدونالد"، اولا من اجل الهدية، ثانيا من اجل البطاطس المقلية والكاتشاب. اللحمة مطمورة تحت طبقات الهامبرغر المتتالية ومجموعة المحارم والاغلفة والصلصات والمكونات الوسيطة وكل ذلك لا يهدف الى ابرازها بل الى اخفائها اكثر.
كذلك يصار الى نفي والغاء الوان اللحم التي تلعب في العادة دورا اساسيا اذ يحكى عن اللحمة البيضاء او الحمراء. فقام ماكدونالد ومنافسوه بتورية وتعقيم مناخ مأسوي وعنيف بطبيعته وصولا الى مسخه وتحويله الى طفولي. في احد نصوصه المعروفة، يصف رولان بارت شريحة الستيك بعبارات دراماتيكية: "يشارك الستيك في الميتولوجيا الدموية نفسها التي تلحق بالنبيذ. هذه الشريحة هي قلب اللحم اي اللحم في انقى احواله ومن يتناوله يكتسب قوة ثور"(4). ويحمل لحم المسالخ آثارا من هذا الطابع الذكوري العنيف. فلكل قطعة شكلها الفريد وحجمها ووزنها، وهي نتيجة علاقة مشخصنة بين الحيوان واللحام والزبون. واذ تتبّل بالبهار والخردل لتعزيز قوتها فان اللحمة المضهّبة تحمل البعد المأسوي وتكشف عنه. ألا تؤكل بواسطة اسلحة مموهة، السكين والشوكة، اللذين يحملان في شكلهما هذا الحنين الى ما كاناه من اسلحة وما زالا عليه؟
لكن في مطاعم الوجبات السريعة ننتقل من المأساة الى اللعب، من عالم ذكوري الى آخر صبياني تراجعي. وفي التصور يحل العام مكان المحلي والنمطي محل المشخصن والحلو مكان المالح. في تحليل نفسي معمق لظاهرة الهامبرغر، تؤكد جيزال هاروس ـ ريفيدي في كتابها "التحليل النفسي للشراهة": "ما نتناوله في الوجبات السريعة ليس بالاكل المنزلي ولا بالاكل الخارجي. انه منتوج وسيط لا يأتي من الحضن ولا من العالم الخارجي، فشريحة اللحم المقطعة والبطاطس المقلية ليست لحما ولا خضرا، انها ماكدونالد"(5).
وعلى صعيد اوسع فإن التخيلات التي تحملها مطاعم الوجبات السريعة تندرج ضمن اتجاه عريض وعميق للاستيراد الاميركي ايضا والتي تظهر مفاعيلها على كل المستويات في المجتمع: انه "الصائب سياسيا" كما يقولون. هذا لحم وغذاء اعيدت تسميته بالتورية والترجمة كي لا يصدم احدا فبات مزيّنا، رخوا، توافقيا، ناعما وحلو المذاق، نمطيا وقابلاً للاستبدال ارضاء لما يعتقد انها رغبة "جمهور" المستهلكين(6).
لكن نزع الاسماء وتغيير المعاني يكسر المعادلة التأسيسية التوافقية القائمة بين الاشياء والكلمات، ان لم يكن شعرا فانه نوع من التعسف. أليس اول انجازات التوتاليتاريات، وانقلاباتها يطال المعاني قبل كل شيء، اطلاق تسميات جديدة تجعل الواقع اكثر تناسبا مع رؤيتها الجديدة والخاصة للعالم؟... بالضبط فان من العادات السيئة لمطاعم الوجبات السريعة انها تطلق تسميات جديدة من اجل دمج الاشياء في نظام قيمها وتصوراتها الخاصة عبر مجموعة من التوريات والكنايات... وليست بالمزحة العابرة عملية اطلاق تسمية "بطاطس الحرية" freedom fries ما وراء الاطلسي على ما كان يعرف بالبطاطس الفرنسية French fries المستهجنة في عز عملية لي الاذرع الديبلوماسية بين اميركا وفرنسا خلال التحضير للحرب على العراق. ففي ما يتجاوز الشعور الوطني الدنيء انه تعبير رمزي عن عنف مواز لما كان يحصل في الفترة نفسها من رمي للنبيذ الفرنسي واحراق للمنتجات الغذائية الفرنسية امام عدسات مصوري التلفزة.
وبينما تجتاز العلاقات الاجتماعية ازمة تواصل، يجدر التذكير بأن المشاركة في الطعام و"الاكل مع الآخرين" ينبع من عملية رمزية وبالتالي من ابعاد للفيزيولوجي سعيا وراء قضية اسمى هي الثقافة. فتعلّم هذه المشاركة يعني تعلّم العيش في المجتمع وبالتالي احترام الطقوس والايقاع وضبط الغرائز والعطاء قبل الاخذ وتقدير تنويعات فن المائدة التي لا تحصى مع الضيوف وتبجيل القيم من خلال انتاج رابط اجتماعي. بهذا المعنى فان الوجبات السريعة تعمل في غياب المشاركة على تداعي مبدأ الاستضافة وتقاليد الترية الفردية والاجتماعية التي تفرضها. ويؤدي هذا التراجع العام الى تناول الوجبة نفسها من الجميع بواسطة الاصابع وقوفا في اي ساعة من ساعات اليوم لتتحول العلاقة مع الغذاء الى قسرية غرائزية كما تشنع جهارا القواعد الفيزيولوجية والاجتماعية البدائية اضافة الى المنطق الغذائي البسيط بحيث يبدو الذوق السليم رجعيا او نخبويا.
تركز دعاية الوجبات السريعة على اللذة والعائلة والاستضافة لترسم صورة جنة اجتماعية لا مثيل لها. والذي دخل هذه المطاعم لمرة واحدة بعقل نير يكتشف ان الحقيقة مناقضة تماما لهذا الخطاب المسكن. اذ يجد فيه عالماً عملياً من دون فرح، معقماً ومنمطاً، حزيناً غير اجتماعي، مضاء كالعيادات الطبية يسهر عليه حراس اقرب الى الرجال الآليين كأنهم يحاولون احتواء العنف الكامن في النظام والامكنة وإبعاده... نذكر اخيرا ان الهاجس الصحي لمطاعم الوجبات السريعة والاحالة السحرية على عالم من العمل والاستهلاك المسالم والغارق في اجواء من اللعب، تهدف الى تغطية الوجه الآخر للديكور الذي لا يشبه الجنة في شيء كما تدل عليه وتفضحه التحقيقات الصحافية والسوسيولوجية والتشريعات(7).
هذا هو اذن عالم الوجبات السريعة المنمط والمفتقر الى الفرح، رأس جسر للتايلورية الاقتصادية في قطاع الصناعات الغذائية حيث يتم تقديم "اشياء قابلة للهضم غير محددة الهوية" كما يسميها كلود فيشلر(8) في الاجواء النيتشوية لكتابه "غروب الاصنام". بالطبع ان للاستعارة حدودا لكن آفاقا غذائية غير مفرحة تنفتح أمامنا...
--------------------------------------------------------------------------------
* مدير مركز القارات الثلاث ومجلة Alternatives sud في لوفان ـ لا نوف، بلجيكا.
[1] Le mangeur et l’animal, Autrement, Paris, n°172, juin 1997, p. 145.
[2] من اللافت ان ظاهرة استهلاك رؤوس الحيوانات واقدامها وآذانها وفوارغها تسير نحو الانطفاء بسبب انكفاء المستهلكين والعديد من التوجيهات الاوروبية.
[3] تزامن اجتياح الكاتشاب للموائد الفرنسية وخصوصا في المطاعم الفرنسية مع وصول الوجبات السريعة.
[4] Roland Barthes, Mythologies, Seuil, Paris, 1957, p.77
[5] Gisèle Harrus-Révidi, Psychanalyse de la gourmandise, Odile Jacob, Paris
[6] تذكر موجة الوجبات السريعة بقول صاحب شركة فورد قبل قرن من الزمن "اطلبوا مني جميع الالوان لسيارتي الفورد، المهم ان تكون سوداء"
[7] Paul Ariès, Les Fils de Mac Do, L?Harmattan, Paris, 1997, ou Eric Schlosser, Les Empereurs du fast-food, Autrement, Paris, 2003
[8] Claude Fischler, L Homnivore, Odile Jacob, Paris, 2001
جميع الحقوق محفوظة 2003© , العالم الدبلوماسي و مفهوم