حدثنا أبو يســار الدمشقي قال :
ما أعرفه أن الصناعة، وسيلة لانتاج البضاعة . فمن مصانع الأخشاب، نشتري الكراسي والأبواب . ومن معامل القنابل والسلاح، نحصل على أدوات الحرب والكفاح . أما مشاغل الأقمشة والملابس، فتعطيك ما تتقي به البرد القارس .
وأعلمُ أن صناعة الكلام، رائجة في بلادنا على الدوام . فنحن أئمة الشعر والخطابة، وليس في ذلك أي غرابة . فتاريخنا هو تاريخ الشعر، والحكايا والمقالات والنثر .
لكن قاموس السياسة والإذاعة، أتحفنا بنوع جديد من الصناعة . فقد سمعنا عن صناعة القرار، في زمن لم نحقق فيه أي انتصار، بل عانينا من الانهيار بعد الانكسار . وسرعان ما تلقف المقاولون هذه العبارة، وراحوا يستخدمونها بحذق ومهارة . فلا تخلو جريدة من الجرائد، من الحديث عن هذا الفن الرائد . ففي عصر الانفتاح، كل شيء مُبــاح ، وكل شيء مستباح .
أعترف أنني في كثير من المسائل، أميّ وجاهـل . وعلاقتي بالســـادة الحكام، ليست أبَـــداً على ما يرام . لذلك جنحت إلى الظن والتخمين، وبعض الظن إثم مُبين . واستنتجت أن هذه الصناعات، متخصصة في إنتاج القرارات . والإنتاج لا بد أن يُباع في الأسواق، ويجلب للمنتجين الأرباح والأرزاق .
وشعرت أن الحياة أصبحت بهيجة، عندما توصلت إلى هذه النتيجة . وقصدت أقرب بقال في الحارة، وتقدمت أسأله بجرأة وجسارة :
- أعطني يا رعاك الله ثلاثة كيلو غرامات، من أجود أصناف القرارات !
لكن الرجل نظر إلي بغرابة، ولمحت على وجهه علامات الكآبة . قال :
- هل أصبت يا هذا بمس من الجنون، أم أنك مهذار مأفون ؟
قلت مهلاً يا صديقي البائع، عقلي والله في رأســي وليس بضائع . وأقسم بالواحــد القهار، أنني سمعت عن صناعة القرار . فأين يذهب الصانعون بالبضــاعة، بعد التولــيف والتوضـيب والصناعة ؟
ضحك صاحبي وهو يقــول، لا شك أنك رجل بهلول . إن صناعة القرار تحتاج إلى مواد، وهي مفقودة من البلاد، لذلك يأتون بها عن طريق الاســتيراد . فقراراتهم مصنوعة في الخارج، وهي تسبب الكساح والفالج. لكنها مترجمة إلى لغة العرب، وهذا ما يثير الدهشة والعجب . وهذه البضاعة لا تباع للفقراء، بل هي حكــر للأثرياء . يأخذونها مجاناً بلا ثمن، فافهم إن كنت من أهل الفــطن . وثمّــة قرارات تأتي عن طريق التهــريب ، فافهــم أيها اللبيب ! واحفــظ لسانك، فهو حصــانك، إن صنته صــانك ، وإن خنتــه خانك .
قلــت :
ـ وكيــف تتحــدث القيادات التاريخيــة ، عن صــناعَــة القرارات الوطنيــة والقوميــة ؟ الكل يتحدث عن اســتقلاليّــة القرار، من أهــل اليمين إلى أهـل اليســار . لدينا مصــانع للقرارات ، من قصــر المنهــل إلى الصخيرات . لكنني لا أعلَم إن كانت هذه الصــناعَــة حكراً على القطاع العام ، أم أنهــا متداوَلَــة بين الأنام .
جحَظــت عينا البقــال ، وتلفت حوله ثم قال : عِنــدي أطفال يا ابن الحَــلال ، فلا تكثر من القيل والقال ، خصــوصــاً في هــذا المجـال !
قال أبو يســار:
شكرت صديقي البقال على هذه الشروحات، ورحت أنشــد هذه الأبيات :
أبصــرت شمطاءً تتيـه وفوقهــا تشكو الضياعَ ، قِـــلادة وسوارُ
جَسَــدٌ تعَـوّض بالحُليّ وجَـرْســِه إذ غاض منــه شــــبابُـه الفـوّارُ
ورأيت كيف المُســــــــتبد بغيره يوحي ويوهِـــمُ أنه جَـــــــــيارُ