يمكن أنْ يـُعرَّف العنف بأنه الإعتداء على الآخرين، سواء أكان ماديّـاً (جسديّـا)ً أو معنـويّـاً ( كلاميـاً )، وهو موجود في البشر منذ أن فتك قابيل بأخيه هابيل. ولكنَّ شعوب العالم تتباين فيه من حيث النسبة والشدة والنوع. والعنف ليس من شيمة الإنسان، فبعض الناس يتصرف كحمامة سلام والبعض قد يكون وحشاً مفترساً. ولما كان الناس مخـتلفين في هذا الأمر، فما سبب هذا الإختلاف؟ أهو ظروف البيئة إجتماعياً واقتصادياً وسياسياً أم هو التركيب البيولوجي؟ أم مزيج من الإثنين اللذين لا ينفصلان؟ لماذا يهتاج بعض الناس مثلا لقراءة موضوع ضد عقيدته فيسهر الليالي مضحياً بصحته ووقته جاهداً لدحضه وقد يكون الرد عليه عنفاً في الخطاب؟ بينما لا يبالي الآخرون به، بل يعتبرونه حريةَ رأي أو إحداثَ بـلـبلة أو مجـرَّدَ هراء ؟ فما دمنا مختلفين في النظرة إلى الأشياء، في تقبلـِّها أو تحملـِّها، ألسنا إذاً مختلفين في داخلنا ؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فما سبـُبه؟ إذا عرفنا أنَّ الدماغ يسيطر على العاطفة والتفكير والكلام، وأنَّ هذه السيطرة تتم بواسطة مواد كيميائية تفرزها خلاياه العصبية وتؤدي فعلها، يتبين الدور التي تقوم به هذه الخلايا أو الجينات التي تفرز هذه المواد إستجابة لظروف البيئة أو نتيجة تعاملها معها. ولما كانت هذه المواد التي تـُسمّى النواقـل العصبية neurotransmitters، متخصصة ويُـقـدّر عددها بخمسمئة ناقل، يكون ثمة 500 مجموعة من الخلايا العصبية موجودة في الدماغ. وتنتقل هذه النواقل من خلية إلى أخرى بواسطة فجوات خلوية synapses. وأهمها، والذي هو موضوع المقال، هو أدرينالين (إبينفرين)، نورأدرينالين، دوبامين وسيروتونين التي تلعب دوراً هاماً في ضغط الدم والسيطرة على العاطفة. ولكنْ ثمة خميرة ( بروتين ) في الدماغ تنظـِّم عمل هذه النواقل وتسمـّى مونوأمين أوكسيديس monoamine oxidase التي تحطِّم الأدرينالين ونورأدرينالين وسيروتونين وتحوّ ُلها إلى مواد َّغيرِ فعّـالة. وقد و ُجـد حديثاً أنَّ هذه الخميرة تلعب دوراً كبيراً في تصرف الإنسان، وخصوصاً العنف، حسب كميتها الموجودة في الدماغ. فقد وجد الدكتور هانز برونر ( هولندا ) في السبعينات من القرن الماضي عائلة تمـيَّـزَ رجالـُها الثمانية بالعنف، فقد اغتصب واحد منهم أ ُخته وطعن حارس السجن، وآخـر استعمل سيارته لدهس رئيسه الذي وبـّخه لكسله، واثنان آخران قاما بحرق بعض المباني. أمّـا الإناث من هذه العائلة فلم تقم أيّ ٌ منهن بأي عنف. فدرس الأساس الجيني، وبعد ثلاثين عاماً من أبحاثه وبالتعاون مع زاندرا بريكفيلد ( مساشوسيت ) وجد أنها تنطبق على جين يقع على الذراع الطويل للكرموسوم X في الذكـر، وأنّ كلا ّمن الرجال الثمانية يملك نسخة من هذا الجين بحالة متغيـِّرة ( مـُشـوَّهـة ) mutated، أيْ غير فعالة، وبمعنى آخر، إنّ هذا الجين لا ينتج الخميرة مـونوأمين أوكسيديس. ولما كان التركيب الجيني الجنسي للرجل XY ، لذا يوجد هذا الجين بنسخة واحدة ويورث من الأم فقط. أما الأنثى، فهي تملك نسختين لتركيبها الجيني XX ، وإذا كان أحد الجينين متغيراً (عاطلاً)، فالجين الثاني يعوِّض في الإنتاج، لكونه مـُتنحيّـاً ( يغطّي الجين ُالصحيح الجين َالعاطل )
وفي حالات نادرة أن ترث الأنثى نسختين عاطلتين من هذا الجين، فإن ورثت، فالعنف يكون ديدنها. وقد تبيّـن من دراسات قام بها باحثون أخرون مثل أفشالوم كاسبي من معهد لندن للأمراض النفسية سنة 2002 أنَّ بعض الأولاد الذين يُساء إليهم في طفولتهم ينشأون طبيعياً إذا كانوا يحملون الجين غيرَ المشوّه، وبعضهم يكون عنيفاً في تصرفاته إذا كان الجين الذي يحمله مشوهاً. وهذا يعني أن ثمة اختلافاً ( جينيّـاً )، فالأشخاص الذين لديهم كمية كبيرة من البروتين مونوأمين أوكسيديس يكونون ( مـُحصَّـنين ) من العنف، والذين هم بفعالية واطئة من هذا البروتين، إذا أ ُسيئ إليهم في طفولتهم، يكونون أقـلَّ امتزاجاً بالمجتمع وأربعَ مرات أكثرَ عنفاً ومسؤولية عن حوادث الإغتصاب والسرقة والإعتداءات، وبمعنى آخر، إنّ الإساءة إلى الطفل ليست كافية، فيجب أن يكون ثمة جين واطئ الفعالية، كما أنَّ هذا الأخير ليس كافياً وحده للعنف، بل يجب أن تكون إساءة مصاحبة له.
وليست هذه الخميرة وحدها مسبِّبة للعنف، إذ أنَّ أوكسيد النتريك NO الذي اكتشفه دكتور سنايدر وزملاؤه ( جامعة جون هوبكنز ) سنة 1993 يلعب دوراً في السيطرة على العنف في الفأر والشمبانزي، ولربما في الإنسان لتشابه الجين الذي ينتجه. ففقدانه سبّب عنفاً وهياجاً في الفأر. وأما الناقلان العصبيان دوبامين وسيروتونين المسؤولان عن المرح والإنبساط في الإنسان، فقلة وجودهما أو عدمه في الدماغ يسبّب الكآبة التي قد تؤدي في بعض الأحوال إلى الإنتحار.
ويمكن القول إنَّ بعض الأشخاص أكثـرُ عنفـاً من الآخرين. هذه حقيقة. ويمكن لظاهرة العنف هذه أن يسيطر عليها جين واحد فقط يتفاعل مع ظروف البيئة، وهذا يعني أن كلَّـنا يحمل " جين العنف " – ولكنّ الباحثين شخّصوا تغيـّراً جينياً بسيطاً يؤدي إلى الإنفجار. على أنَّ هذا الإنفجار لا يحدث إلاّ إذا كان ثمة دوافع أو حوافـز. ورغم هذا، فللإنفجار أسباب أخرى، سياسية واقتصادية واجتماعية لست بصدد الخوض في أغوارها، لأنَّ ثمة من يجيد السباحة في تيـارها، وإنّ
ما ذكرت هـو من الناحية العلمية فقط، وهذا لا يعني إلقاء اللوم على (الجينات) في الأعمال الإجرامية التي يقوم بها الإرهابيون في العراق والتي يذهب ضحيتها المواطنون الأبرياء، إذ أنَّها نتيجة التخطيط الإستعماري في الماضي الذي نتج عنه تلويث العراق أبديـاً ( سيُصاب 44% من ساكـني العراق بالسرطان في نهاية هذا العقد نتيجة اليورانيوم المستنفد، حسب تقدير الخبراء، إذا لم تُتخذ الإجراءات الفورية – أ ُنظر ترجمة مقال مجلة العالمي الجديد " للكاتب" في جريدة الوفاق اللندنية الصادرة في 9 كانون الأول 1999 ) هذا من ناحية، وتشجيع بعض دول الجوار الخائفة من انهيار أنظمتها، على إدامة عدم الإستقرار من ناحية أخرى. أمّـا الكتاب والصحفيون العرب الذين فقدوا امتـيازاتِهم ومصالحَهم الشخصية من انهيار أبشع نظام دموي، أو أولـئـك الذين تبدَّدت أحلامهم وخابت آمالهم لواقع لم يكن في حسبانهم، فقد (نشف) الدوبامين والسيروتين لديهم، فكان عنف الخطاب، ولا سبيل إلى إعادة مادتـيْ المرح والإنبساط إليهم إلاّ بإعادة الماضي أو القناعة بالواقع الذي لا يسـرّ، ورحم اله المتنبي حيث قال:
أعيدوا صباحي فَهْـوَ عند الكَـواعـبِ
ورُد ّوا رقـادي فَهْـوَ لحظُ الحبائـبِ
فإنَّ نهـاري لَـيـلة ٌمـُدلـَهِـمَّـة ٌ
على مقـلةٍ من فَـقـْدِكمْ في غَـياهـبِ