ربما كان القول ان الحزب الشيوعي اللبناني لا قيادة فعلية له، هو من قبيل المبالغة والتجني. فهذا يبدو للوهلة الاولى غير منطقي نظرا لما عرف عن الحزب الشيوعي من وجود تقاليد تنظيمية عريقة، كانت ابرز ما يميزه عن معظم <<الاحزاب المشكلة على الطريقة اللبنانية>> والتي تتمحور قيادتها حول زعيم فرد، والتي تقوم لحمتها الداخلية على عصبية غالبة، او تقتصر عضويتها على طائفة او منطقة دون آخرى.
فالحزب الشيوعي حزب وطني بامتياز. ونقصد بالوطنية هنا معناها البسيط والمباشر والاكثر اهمية، أي الانتشار في مختلف المناطق والطوائف والفئات الاجتماعية والاجيال وبين النساء والرجال. كما نقصد ان هذا البعد اللبناني الشامل هو المحدد لخيارات الحزب وسياسته وممارسته ومواقفه.
ولكن هذا الطابع الوطني قد يتعرض للتآكل في حال ارتكب الحزب اخطاء هامة في تجربته، او في حال تعرضه لظروف تضعف وطنيته لصالح عصبيات مختلفة موجودة موضوعيا فيه بحكم انتمائه الى المجتمع اللبناني. ولا شك ان ضعف القيادة المركزية وقلة كفاءتها، وكذلك ضعف او هامشية القيادات الوسطية، هي من اكثر العوامل تأثيرا في تقوية العصبيات الفرعية داخل الحزب، وجعل دينامية الصراع في ما بينها، هي الدينامية الغالبة على الديناميات الوطنية التي تنتج حزبا موحدا على اسس سليمة، حزبا فعالا في المجتمع، او باختصار حزبا سياسيا اي ان السياسة تشكل موضوع عمله الاساسي.
قيادة الحزب هي اولا قيادته المركزية، ولا سيما مكتبه السياسي الذي يصف نفسه في التقرير التنظيمي الذي اقره المجلس الوطني للحزب مؤخرا، انه <<مجموعة جزر ومركز بتوجهات مختلفة>>، وبال <<تبعثر وعدم التنسيق في العمل القيادي العام>>، وإنه <<لا يفرق بين العمل اليومي والتخطيط>>، ولم يضع <<خطة تنفيذيه محددة زمنيا>>، وأن ليس لديه لائحة داخلية، وكان فيه <<تسرع وارتجال في اتخاذ بعض القرارات>>، ولم <<يهتم كليا بتحضير الملفات>>، و<<لم يوزع العمل بشكل عقلاني من وجهة نظر الكفاءة والمواظبة>>! اما السبب بحسب التقرير نفسه، فهو ان هناك رفاقا معارضين في الحزب وفي الهيئات القيادية تحديدا، عطلوا عمل القيادة.
اذا كان نصف ما قاله المكتب السياسي عن نفسه صحيحا، فهل يصح بعد ذلك ان نعتبره قيادة، وهو يفتقد الى الشروط الجوهرية التي تكوّن مفهوم القيادة نفسه؟ اننا نميل الى الاعتقاد ان المكتب السياسي لا يمارس فعل القيادة بل هو اقرب الى كونه <<سلطة على الحزب بالمعنى الاداري>>. والقول هنا يتعلق بمضمون دوره اكثر مما يتعلق بشكل انبثاق هذه <<السلطة>> من خلال عملية انتخابية مؤتمرية. كما انه ليس قيادة بالمعنى العملي، فهو في بنيته مجموعة جزر متنافرة، تتصارع في ما بينها او تتحالف وفق منطق المصلحة ووفق آليات هي اقرب الى دينامية العلاقات بين <<العصبيات>> التي طالما ميزت مجتمعاتنا العربية كما لبنان. فأعضاء القيادة لا قيمة ذاتية لهم بما يملكون من مؤهلات قيادية وطنية ورؤى وقدرات استشرافية، بل ان قيمتهم تتمثل في ما يستندون إليه من <<عصبية>> في قواعد الحزب، وبمقدار ما تكون هذه العصبية قادرة على ممارسة الضغط على المركز وتأمين حشد عددي في قواعد الحزب يمكن ان يترجم الى مندوبين وأصوات قابلة للتجيير الانتخابي في المؤتمر.
يشبه وضع الحزب هنا وضع المجتمع والنظام السياسي وجهاز ممارسة السلطة فيه. فالسلطة عموما تتفاوض مع ممثلي الطوائف والعشائر والعائلات ومع افراد اذا اقتضى الامر، وتستجيب لضغوطهم وتقدم لهم التنازلات وتلبي مطالبهم، في حين انها ترفض التفاوض او الاستجابة لمطالب الاتحاد العمالي العام بكامله، او مطالب المعلمين. كما انه يجري تعديل قانون الانتخابات وتفصل الدوائر على قياس فرد احيانا، ولا تتنازل السلطة حتى لمجرد التفكير في مناقشة اصلاح قانون الانتخابات وإقرار النسبية ولو كانت خلفه احزاب وطنية وكتل كبيرة من المجتمع المدني. اما السبب في ذلك، فهو ان آليات النظام السياسي تجعله حساسا وضعيفا تجاه أي خلل في عناصره الداخلية المكونة (الطائفية، العشائرية، المناطقية، السلطة المالية) لان ذلك يترك اثرا فوريا على عملية اعادة انتاج السلطة.
وهكذا بنية المكتب السياسي للحزب وعلاقته بالقواعد. فالامين العام يجب ان يكون مسنودا الى عصبية مناطقية داعمة له، وحتى ان بدأ هذا الدعم على اساس خيارات سياسية وتنظيمية سليمة في لحظة ما، الا ان الاستمرار في الموقع رهن بالتأييد والدعم المبني على العصبية لا على العقل النقدي والاختيار. وكذلك المواقع الاخرى في المكتب السياسي الذي تهيمن عليه كتلة تنظيمية تستند الى قاعدة بشرية تنتمي في سكنها الحالي او في اصولها الى منطقة معينة. وعملا بقانون العصبية الموضوعي، فإن العصبيات الاساسية تتحالف في ما بينها فتهمش دور التشكلات الاخرى داخل الحزب، سواء كانت منظمات اقل استنادا الى العصبيات المتماسكة، او افرادا ومجموعات وتيارات تتشكل على اساس فكري سياسي وطني خارج العصبيات التقليدية. وعملا بقانون العصبية نفسه ايضا، فإن العصبية الساعية الى الامساك بالسلطة تتحالف مع عصبيات محلية اقل اهمية، او مع بعض العناصر المبعثرة، لتحقق الغلبة على العصبية المنافسة.
وهنا تلعب السلطة نفسها، متمثلة بالشرعية الحزبية دورا اساسيا في توسيع قاعدة التحالف الغالب، وفي اعادة انتاج السيطرة من خلال التحكم بآليات المؤتمر والعملية الانتخابية فيه، فتفقد السلطة الحزبية حيادها الذي هو احد ابرز اسس شرعيتها.
إن الإحساس بغياب القيادة منتشر جدا في قواعد الحزب وفي اوساط القيادة نفسها، وإن عزا كل طرف ذلك لاسباب مختلفة. وهو في اعتقادنا يطال البعد السياسي في الصميم، ويؤدي الى تغييب الحضور السياسي المستقل والفاعل للحزب، وإلحاقه واقعيا بقوى وأطرف اخرى. فالحزب يصبح اشبه بجسم بلا رأس، يبحث عن رأس بديل ولو عن طريق الاستعارة او الاستعانة <<بقيادات حليفة>> من خارج الحزب تسهم في تعزيز ادوار بعض اعضاء القيادة في مواجهة الاعضاء الآخرين.
ولعل علاقة الحزب الشيوعي بالتجمع الوطني للانقاذ قد تطورت في جانب اساسي منها في هذا الاتجاه، ونقصد ان لجنة المتابعة للتجمع قد تحولت الى مركز سياسي قيادي بديل للمكتب السياسي للحزب الشيوعي في تقرير الموقف والتحرك السياسيين.
ان انتساب الحزب الشيوعي الى التجمع الوطني للانقاذ يحقق ثلاثة اهداف على الاقل:
الاول، توفير حد من الحضور السياسي للحزب ضمن تحالف مقبول من قبل قواعد الحزب حسب تقاليد العمل التحالفي اليساري القومي السابق.
الثاني، الاتاحة لبعض اعضاء القيادة الذين يشاركون في عمل لجنة المتابعة، وخصوصا لنائب الامين العام، ان يكونوا حاضرين في الحياة السياسية العامة ويعززوا حضورهم الشخصي والاعلامي، ويدعموا دورهم التنظيمي داخل الحزب في مواجهة منافسيهم الداخليين. فالتجمع الوطني للانقاذ آلية مناسبة للالتفاف على ضعف مبادرة المكتب السياسي، وبالتالي يبدو الامر احيانا وكأن التجمع هو الذي يتخذ القرار نيابة عن المكتب السياسي والمجلس الوطني، الذي يؤيد المبادرة وينضم اليها لاحقا.
الثالث، يوفر للأعضاء الآخرين في قيادة التجمع الوطني للانقاذ، القاعدة التي يبحثون عنها ليزيدوا من حضورهم السياسي باستعارة جمهور الحزب في التحركات.
وهكذا بتعاون الفريقين يكون لدينا حركة سياسية قيادتها هي للشخصية الاقوى في التجمع الوطني للانقاذ، وقاعدتها هي جسم الحزب الشيوعي اللبناني.
على صعيد آخر، ان الحزب الذي يريد ان يكون حزبا وطنيا تغييريا، قد تراجع حضوره بشكل قوي في مختلف المدن اللبنانية، من بيروت الى زحله، ومن طرابلس الى صيدا. والمدن مع ضواحيها ومع المناطق ذات الطابع المديني تشكل غالبية سكان لبنان. اما اجتماعات المجلس الوطني، واذا استثنينا اعضاء المكتب السياسي والافراد المنخرطين فعليا في الصراع المركزي داخل الحزب، فإن نسبة المشاركة في حضور الاجتماعات ضعيفة جدا، وهي اكثر ضعفا عندما يتعلق الامر بالمشاركة الفعلية في المناقشات. فخلال السنة الاخيرة على الاقل، يكاد لم يشارك احد من منظمات البقاع أو الشمال او جبل لبنان في أي من نقاشات المجلس الوطني، ولم يدلوا بأي موقف، على الرغم من ان الحزب في أزمة شديدة!
إن الممارسة المستمرة للمكتب السياسي ولمكتب المجلس الوطني، قد أدت إلى تهميش منظمات بكاملها، وإلى تحويلها الى مجرد <<قطع غيار>> او <<اكسسوار>> داعم للعصبيات الرئيسية التي تتصارع على السلطة داخل الحزب.
لقد أظهرت الممارسات الأخيرة أن هيئات الحزب القيادية عاجزة فعليا عن عقد مؤتمر توحيدي للحزب حسب الآليات التي اقترحتها بنفسها. كما اكدت وجود قرار لدى التكتل المهيمن داخلها بالعمل فعليا لعقد مؤتمر مهما كان الثمن، وبمن حضر. وربما بات خروج الحزب من ازمته رهنا بدخول قواعد الحزب ومنظماته كطرف اساسي في الامساك بالقرار الذي تخطفه اقلية تتغطى بشرعية شكلية. وهذا ما دفع قواعد الحزب في الجنوب الى اتخاذ مبادرة شجاعة بالدعوة الى اجتماع عام، يكشفون فيه ان الهيئة الدستورية قد اصدرت قرارا بإبطال انتخاب هيئة محافظة الجنوب، وأنه في ظل الفراغ القيادي، سوف يجتمعون بأنفسهم، وينتخبون لجنة انتخابية جنوبية تتولى عقد المؤتمر حسب الاجراءات المقرة قبل ان تتدخل قيادة الحزب لتعديلها خلافا للنظام الداخلي.
بعد خطوة الجنوب الاولى هذه، هل ان خطوة مشابهة ممكنة على الصعيد الوطني؟
() كاتب لبناني.