|
الماركسية فلسفة إنسانية
خليل اندراوس
الحوار المتمدن-العدد: 2145 - 2007 / 12 / 30 - 12:46
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
لم يكن ماركس مجرد فيلسوف، بل كان أيضًا عالم اقتصاد واجتماع ومؤرخ. وانطلق من فلسفة هيغل الجدلية متحفظا ورافضا مثالية هيغل ومفهومه عن الفكرة المطلقة. فماركس فيلسوف المادية التاريخية كتب أطروحته للدكتوراة عن ديمتريطس وأبيقور، أي عن المادية في العصور القديمة. الدور الذي لعبه ماركس من حيث التطبيق العملي السياسي للفلسفة، لم يقم به أي فيلسوف من قبله. لقد أكد ماركس في فلسفته بأن الشروط المادية في المجتمع هي التي تحدد، جذريا نمط تفكيرنا، وهي التي تقع في أساس كل تطور تاريخي. لقد أوضح هيغل قبل ماركس أن التطور التاريخي، يتأتر من التوتر بين عناصر متناقضة، وهذه التناقضات تصل الى مرحلة معينة، وبعد تراكمات وتغييرات كمية معينة، تحدث الثورة أو القفزة أو تحدث ما يسمى بالتغير الكيفي. ويتفق ماركس مع هذا النهج ولكن يختلف مع هيغل الذي كان يرى ويسمي القوة المحركة للعالم هي "فكر العالم" أو "العقل الكوني" أو ما أسماه أيضاً "الفكرة المطلقة"، فعند هيغل الوجود المادي هي انعكاس للفكرة المطلقة، ولكن ماركس أكد بأن هيغل العجوز الطيب يفسر الأمور بمنطق مقلوب ومثالي، وأكد أن المحرك الحقيقي للتاريخ هو تغير ظروف الحياة المادية. فليست الظروف الروحية هي أساس تغيرات الظروف المادية في الوجود، وإنما بالعكس: الظروف المادية تحدد ظروفا روحية جديدة، لذلك يشدد ماركس على دور ووزن أهمية القوى الاقتصادية في المجتمع وخاصةً وسائل الإنتاج، هذه القوى التي تسبب كل أنواع التغير وتحقق بذلك تقدم التاريخ. يطلق ماركس مصطلح "البنية التحتية" على هذه الظروف المادية الاقتصادية في حين يطلق مصطلح "البنية الفوقية" على نمط تفكير المجتمع، على الوعي وعلى المؤسسات السياسية والقانون والدين والفنون والأخلاق والفلسفة والعلوم، وباختصار بموجب الفكر الماركسي الوجود يحدد الإدراك. فالبنية التحتية، أو الظروف المادية تحمل كل نتاج الفكر في المجتمع. لذلك فالبنية الفوقية أي الوعي والفكر ليست إلا انعكاسًا للبنية التحتية المادية الاقتصادية. ولكن ماركس يؤكد بأن هناك تفاعل وتأثير متبادل بين البنى التحتية والبنى الفوقية في المجتمع. ولو أنـّه أنكر هذا التفاعل الجدلي الديالكتيكي، بين الفوقي والتحتي في المجتمع لكان فيلسوفاً "ماديا ميكانيكياً " لذلك فمادية ماركس هي مادية ديالكتيكية. وماركس يقسم البنية التحتية في المجتمع الى ظروف الإنتاج أي الظروف أو المصادر الطبيعية وكل ما له علاقة بالمناخ والمواد الأولية، وهو ما يسمح بوضع أسس المجتمع وتحديد نمط الإنتاج الصالح لهذا المجتمع أو ذاك ومما يحدد كذلك بوضوح نوع المجتمع والثقافة. ومثل لتوضيح هذه الفكرة فإننا لا نستطيع صيد السمك في الصحراء ولا أن نزرع نخلاً في القطب الشمالي. ولذلك فنمط التفكير لا يكون واحداً بين راعٍ في الصحراء وصياد في النرويج. المركب الثاني للبنية التحتية هي وسائل الإنتاج وهي الأدوات والآلات والأجهزة التي يستعملها الناس في عملية الإنتاج. أما المركب الثالث للبنية التحتية فهي علاقات الإنتاج أي توزيع العمل وتنظيم العمل ووضع المالكين وأرباب العمل والطبقة العاملة. ولذلك يؤكد ماركس بأن نمط الانتاج أو ما يسمى التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية للمجتمع، يحدد المظهر الايديولوجي والسياسي لهذا المجتمع. ولذلك فليس من المستغرب مثلاً أن تكون طريقتنا في التفكير ومعاييرنا الأخلاقية، مختلفة اليوم عما كانت عليه في المجتمع الإقطاعي في القرون الوسطى، مثلاً. ويؤكد ماركس بأن التاريخ كله يحركه الصراع الطبقي. فكل مراحل التاريخ بموجب الماركسية تتميّز بمواجهة بين طبقتين اجتماعيتين ... هما في العصور القديمة طبقة العبيد وطبقة الأحرار، وفي المجتمع الإقطاعي الفلاحون والطبقة الإقطاعية (الأسياد) والنبلاء. وفي المجتمع الرأسمالي التناقض الموضوعي الجدلي بين الرأسماليين والعمال، أو البروليتاريا. فهناك من جهة من يمتلك وسائل الإنتاج، ومن جهةٍ أخرى، الذين لا يمتلكونها. وبما أن الطبقة المسيطرة لا يمكن أن تتخلى عن سلطتها، فإن الثورة وحدها هي التي تستطيع إجبارها على ذلك. لقد أكد ماركس على العلاقة الجدلية بين الإنسان والطبيعة. فعندما يعمل الإنسان على الطبيعة، يؤثر فيه هذا العمل ويطوره هو أيضاً. وبعبارة أخرى: عندما يعمل الإنسان على الطبيعة، تمارس في أثناء ذلك الطبيعة فعلها في الإنسان وتترك طابعها في وعيه. فثمة علاقة جدلية بين "اليد" و "الفكر" لذلك فإن معرفة الانسان تظل على صلة دقيقة بعمله. لذلك يؤكد ماركس وقبله هيغل بأن العمل أمر إيجابي والبطالة أمر مخيف، فالعمل مرتبط ارتباطا وثيقاً بكون الإنسان إنساناً. وهنا يدخل نقد ماركس اللاذع لنمط الإنتاج الرأسمالي. ففي النظام الرأسمالي بموجب الماركسية يعمل العامل لسواه، ويصبح عمله شيئاً خارجياً، شيئاً لا يمتلكه، يصبح غريباً عن عمله وبالتالي غريباً عن نفسه، فيفقد واقعيته وحقيقته كشخص. وهنا يستعمل ماركس تعبير هيغل ليقول أن العامل هو موضوع سيرورة تغريب. ففي النظام الرأسمالي يـُنظم العمل بطريقة تجعل العامل في نهاية الأمر، يقوم بعمل العبد، لحساب طبقة أخرى حيث يقدم العامل كل قوته العاملة- وبالتالي كل وجوده كإنسان- للبرجوازية وأصحاب رأس المال. فالعمل الذي يفترض فيه أن يرفع من قيمة الإنسان، يحوله الى عبد، وهذا الوضع التناقضي الجدلي بين الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وجماهيرية عملية الإنتاج سيؤدي الى الثورة. لقد كان هذا الموقف الواضح والموضوع بشكل فلسفي علمي في البيان الشيوعي الذي نشره ماركس مع إنجلز عام 1848 في البيان الشيوعي (المانيفستو) الشهير، الذي يبدأ بجملة "إن شبحًا يتهدد أوروبا- شبح الشيوعية". فالماركسية تؤكد بأن البروليتاريا لا يمكن أن تحقق أهدافها إلا بقلب كل النظام الرأسمالي، وبالعنف. فلذلك على الطبقة الحاكمة الرأسمالية أن ترتجف من الثورة الشيوعية القادمة لا محالة. وكما قال ماركس في البيان الشيوعي "ليس أمام البروليتاريا ما تخسَرَه إلا أغلالها، إنها ستربح العالم. يا عمال العالم اتحدوا". فتناقضات المجتمع الرأسمالي موضوعية قابلة للحل إلا غير طريق الثورة فهذا النظام يدمر نفسه بنفسه ويحمل نهايته بداخله ومن هذه الزاوية تصبح الرأسمالية عنصر تقدم، لأنها مرحلة ضرورية على طريق الشيوعية. ومع وصول الرأسمالية الى أعلى مراحل تطورها أي الإمبريالية تتعمق الأزمة المتفاقمة لهذه التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية، حيث تتفاقم البطالة، والأزمات الاجتماعية والاقتصادية والكساد وتتعمق الفوارق الطبقية ويتركز رأس المالي في أيدي حفنة من الاشخاص أو بعض العائلات وفي شركات عابرة للقارات وهذه الأزمات علامات على أن الرأسمالية تشير الى نهايتها. فالتطور التاريخي الموضوعي سيؤدي الى وصول الطبقة البروليتارية الى السلطة إما بالعنف أو عن طريق البرلمان ولكن الحفاظ على السلطة لن يكون إلا بفرض ديكتاتورية البروليتاريا وخاصةً في المرحلة الانتقالية من الرأسمالية الى الاشتراكية وبعدها ينشأ مجتمع بدون طبقات ملغياً الحاجة الى ديكتاتورية البروليتاريا هذا المجتمع هو الشيوعية وحيث تصبح وسائل الانتاج ملك الكل أي الشعب نفسه. وفي مجتمع كهذا يكون لكلٍ موقعه بحسب "قدراته" ويتلقى أجرًا بحسب "حاجاته" ويصبح العمل الخلاق الإنساني ملك الشعب، فلا يعود هناك اغتراب ولا شك بأن الماركسية جعلت كل المجتمعات الإنسانية أكثر إنسانية وخاصةً في أوروبا، حيث جرت تغييرات جذرية وخاصةً بالنسبة لساعات العمل الأسبوعي والضمانات والخدمات الاجتماعية والتأمين الصحي والتعليم وغيرها فبموجب النظرية الماركسية تمثل الشيوعية "قفزة البشرية من مملكة الضرورة الى مملكة الحرية" فالماركسية جوهرها إنساني تحمل فكر العدالة والتقدم والحرية. وهنا لا بد أن نؤكد بوجوب عدم تحميل ماركس ونظريته مسؤولية الأخطاء التي ارتكبت باسمه خلال فترة السلطة السوفيتية وخاصةً في الفترة الستالينية.
المراجع:
عالم صوفي- رواية حول تاريخ الفلسفة. الاتحاد السوفيتي- لمحة تاريخية موحدة. الناس العلم والمجتمع- فريق من المؤلفين. مصادر الماركسية الثلاثة وأقسامها المكونة الثلاثة- لينين.
#خليل_اندراوس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاشتراكية الطوباوية والاشتراكية العلمية
-
الأهمية العالمية لثورة أكتوبر
-
بعض أقوال هيجل وفلسفته السياسية!
-
نقد الهيجلية من وجهة نظر ماركسية
-
الفلسفة العقلانية لكانط واليسار الهيغلي
-
محدودية مادية لودفيخ فورباخ ومثالية الديالكتيك الهيغلي ونهاي
...
-
الأيديولوجية البرجوازية العنصرية والعداء للإسلام
-
أصول ومكونات الفكر الماركسي - تتمة القسم الاول
-
أصول ومكونات الفكر الماركسي- القسم الاول
-
ألدور الرجعي لتشويه وعي الذات القومي
-
ألمسألة الأساسية في الفلسفة
-
ألحزب الشيوعي والجبهة وتحدّيات المرحلة الراهنة
-
ما أصعب أن يعيش الإنسان بدون حلم
-
مداخلة في نقد الخطاب والفكر السلفي
-
مداخلة حول رسالة الحزب الشيوعي التاريخية .
-
مداخلة حول رسالة الحزب الشيوعي التاريخية
-
ألعلاقة الجدلية بين الدمقراطية والرأسمالية
-
أنصار الدولة الكهنوتية الاسلامية
-
عملية السلام وبسيخوزا المجتمع الاسرائيلي
-
دور اليسار في مكافحة هيمنة رأس المال
المزيد.....
-
السيناتور بيرني ساندرز:اتهامات الجنائية الدولية لنتنياهو وغا
...
-
بيرني ساندرز: اذا لم يحترم العالم القانون الدولي فسننحدر نحو
...
-
حسن العبودي// دفاعا عن الجدال... دفاعا عن الجدل (ملحق الجزء
...
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
-
جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر
...
-
بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
-
«الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد
...
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|