و فيما يخص مؤسسة إمارة المؤمنين، ذهب البعض إلى طرح تطويرها في اتجاه الملكية البرلمانية العصرية و دولة حامية لكل الديانات، كما البعض نحو اختزالها في البعد المادي الزمني الصرف (حماية الثغور)، كما عبر عن ذلك مثلا محمد عابد الجابري.
و بالرجوع إلى المفهوم الإسلامي، ليس هناك مصدر تبث فيه الفصل الواضح و الصريح بين صفة القائد و الإمام، و هما الصفتان المجتمعتان في خليفة الرسول (صلع) و في خليفة الله في أرضه، يحكم بما أنزله الله و يرعى بهما شؤون عباد الله في دينهم و دنياهم على السواء.
و يرى البعض أن العلمانيين و بعض الإسلاميين يتشابهون في المطلب، فالفريق الأول يطالب بعزل الدين جانبا و الفريق الثاني يقول بفصل القيادة عن الإمامة.
و يعتقد البعض في هذا الصدد أن الإمامة تقوم على أسس تقليدية لا يمكن أن تسمح بالتحديث و الدمقرطة. و يرد عليهم آخرون بأن إمامة المؤمنين صمام أمان يحمي الملكية كقيادة للدولة من الخروج على ما أنزل الله، و الإمامة بالنسبة لهؤلاء تلزم باحترام ثوابت الدين و لا تقبل ما يعارض شرع الله، و بذلك يقول هؤلاء أن الإمامة تحفظ الملك من الخروج عما أنزله الله دون تكبيله عن التطلع إلى متطلبات القيادة الحداثية.
و يبدو أن هناك شبه إجماع ما بين الإسلاميين و العلمانيين بخصوص تحديث إمارة المؤمنين، إلا أن البعض يرى أن المطلوب ليس هو تغيير مؤسسة الإمامة و تطويرها لأنها في نظرهم ضرورة إسلامية، و إنما المطلوب في نظر هؤلاء هو ما يمكننا كمغاربة مسلمين أخذه من الآخرين دون أن نتخلى عن ثوابتنا و على رأسها وجود إمام واحد يضطلع بمسؤولية الحكم بما أنزل الله و إبقاء الحلال حلالا و الحرام حراما. و يرتكز هؤلاء في قولهم هذا على أن التحديث في ظل الإمامة كان دائما مطلوبا على امتداد التاريخ الإسلامي منذ عهد الرسول (صلع) عندما كانت الفتوحات الإسلامية متوالية و كذلك تلاقح الثقافات و الحضارات، لكن دون أن يمس ذلك بالشأن الأخروي اعتبارا لكون "القائد يجدد و الإمام يسدد" حفاظا على التوازن.
و بخصوص دور وزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية، هناك إجماع على ضرورة إعادة هيكلتها لتخليصها من الانزلاقات التي تم تكريسها في عهد الوزير السابق المدغري العلوي، و هي الآن في حاجة إلى إصلاح على أكثر من مستوى للتصدي للاختلال الذي ساد فيها. و لم تعد خافية الآن التداعيات السلبية للتجربة السابقة على امتداد سنوات، مما يدعو إلى إعادة هيكلة المجالس العلمية و إعادة تأهيلها و مراجعة هيكلة الوزارة برمتها، و إعادة النظر في أوضاع نظارات الأوقاف و التي الكثير منها أضحى بمثابة دولة داخل الدولة إذ أن القائمين عليها أحرارا يتصرفون فيها كأنها اقطاعات خالصة لهم، لا يخضعون لأية مراقبة من أي نوع و لا لأي متابعة و تتبع بالرغم من جملة من التصرفات المشبوهة. هؤلاء ظلوا يتصرفون في ثروات هائلة و عقارات شاسعة و مداخيل غزيرة بدون أي شفافية و لا ضوابط لا تتبع، و بدون حسيب و لا رقيب. و ظل الحال على ما هو عليه رغم ظهور ممارسات مريبة بجلاء و رغم تراكم الشكايات و المطالبات في هذا الشأن.
و في هذا الإطار قدم الوزيأن الشأنللأوقاف و الشؤون الإسلامية استراتيجية جديدة و تصورا جديدا، و هو تصور يقع ضمن الإطار العالمي لمحاربة الإرهاب و التطرف و يروم إعطاء نفس جديد للمشروع الديني لمنعه من الانزياح نحو التطرف و الانفلات.و في هذا الصدد يرى البعض أن الشأن الديني لا يتعلق بوزارة الأوقاف وحدها لاسيما و أن المغاربة يعيشون الآن في عالم منفتح، يفعل فيه تداخل المذاهب و الثقافات و الأديان و يجعل الاقتصار على المذهب المالكي من باب التمسك بأمور تاريخية لا يمكن التمسك بها أراد من أراد و كره من كره. خصوصا و أن الأسئلة المطروحة في عهد الإمام مالك لا علاقة لها بالأسئلة المطروحة اليوم. و من ضمنها تلك المرتبطة بالتطرف، إذ أن الإمام مالك لم يعالج هذه الإشكالية بالمفهوم الحالي رغم أنه كان له موقف من الخوارج. و الأخذ بمذهب مالك أو بغيره ليس كافيا لإصلاح الحقل الديني بالمغرب ما دام الأمر لا يرتبط فقط بالشق الديني الصرف و إنما يرتبط بالأساس بإرادة سياسية تجتمع فيها كل مكونات المجتمع المغربي من أجل إصلاح هذا الحقل، و ذلك من أجل تهييء الظروف الملائمة لإجراء هذا الإصلاح.
و يرى البعض أنه إذا اعتمدنا المذهب المالكي وحده كنهج لتطبيق الدين فإننا قد نقتل الدين، لذا وجب الأخذ بروح المذهب المالكي و كذلك بالاجتهاد و هذا أضحى ضروريا. فالنص القرآني قادر على تقديم مقترحات بامكانها تحرير الفكر الديني مما علق به على امتداد قرون ما دام الإشكال يكمن في ترسبات علقت به عفا عليها الزمان و تحتاج لإعادة نظر. و بالتالي فان الالتزام بمذهب ما لن يسمح بهذا الإصلاح لكونه سيظل يفرض أشياء لم تعد صالحة للناس حاليا.
و يظل أكبر إشكال بالمغرب، في هذا الصدد، هو اعتقاد فئة ما أنها تمتلك الحقيقة و أن إسلامها هو الإسلام الحق و غيره ليس أسلاما. ناهيكم عن اللخبطة التي من شأنها أن تبرز بين الإسلام الرسمي و الإسلام الشعبي و الإسلام الحركي.
و في هذا الإطار نجد أن المسألة محسومة دستوريا بالمغرب، إلا أنه هناك حركات إسلامية منافسة في الحقل الديني. و من هنا يمكن القول أنه بالمغرب إذا كان الملك يملك السلطة الزمانية فان الحقل الديني تتفاعل فيه الكثير من المكونات، فهناك مكونات النص الديني و هناك حاجة الواقع المرتبطة بهذا النص (ربط النص بالواقع) أي الاجتهاد. و المشكلة هي أن البعض يعتقد بأن هذه العملية إذا أشرف عليها الرسميون فقط فهي باطلة، و هذا يجرنا من جديد إلى إشكالية احتكار النطق باسم الإسلام، علما أن كل عملية اجتهادية تظل عملية نسبية قابلة للصواب و الخطأ. و في هذا الصدد يدعو البعض إلى اعتبار ما يسمى حكما شرعيا أنه يبقى اجتهادا بشريا، و هذا الاجتهاد قابل للصواب و الخطأ و ليس ملزم للناس بشكل نهائي و أزلي، و إنما هو اقتراح من طرف الجهة المجتهدة (شخصا كان أو هيئة) و هو اقتراح يمكن تصحيحه أو تجاوزه، سواء كان اجتهاد مالكي أو شافعي أو حنبلي أو من عالم القرن الواحد و العشرين أو غيره، ما دام أننا لسنا ملزمين أزليا باجتهادات تاريخ معين دون سواه، و إلا سنعلن على اغتيال الاجتهاد و الانفتاح. علما أن الظرف الذي ظهر فيه الإمام مالك كان مرتبطا بالقوة الإسلامية آنذاك، و بالتالي من الصعب قبول حاليا جملة من اجتهادا ته، من قبيل أن تارك الصلاة يقتل حدا مثلا.
لهذا يبدو أن أنجع السبل هو أن يقوم الرسميون أو الوزارة الوصية بتأطير الحقل الديني في إطار حرية تسمح بنقاشات و حوارات خاصة بالحقل الديني دون إقصاء أي طرف و دون اعتماد أي نوع من أنواع الاحتكار في هذا المجال. و لعل مثل هذا التصور برز بشكل كبير عندما قام ثلة من العلماء بالمغرب بالتوقيع على نص الفتوى المحرمة لمشاركة المغرب في الحرب الأمريكية على الإرهاب، و حينها كان رد الوزارة الوصية عليها بعنف و صرامة.
و مهما يكن من أمر بالنسبة للمغرب حاليا، الأفضل هو التعبير في الضوء و أمام الملأ حيث يمكن الرد و الحوار و النقاش و ليس اعتماد القرارات في الظلام و الكواليس و وراء ستار ركح الواقع المعيش. و هذا يعني أن المغرب في حاجة إلى الحريات في المجال الديني، حريات مؤطرة و مسؤولة. لأن الشرعية لا تكتسب بالفرض و إنما تكتسب من خلال إعطاء الحرية. و هذه الشرعية أقوى و أمثن و أقدر على التصدي إلى أي انزلاق. و هذه الحرية لكي تكون مجدية هي في حاجة إلى تهييء فضاء علمي و ثقافي من أجل تجديد الفكر مادام لا يمكن انتظار أي جديد مهما كان في إطار اعتماد المطلق و غياب حرية التعبير في هذا المجال بالذات. فما يحتاجه المغرب اليوم بصدد الحقل الديني هو إصلاح ديني حضاري و ليس إصلاح احتكاري.
يتبع