بالرجوع إلى التاريخ المعاصر للمغرب تبرز عدة محطات و أحداث كرست تهميش العلماء و اقضاءهم من دواليب الحكم و الإدارة. و ذلك منذ فجر الاستقلال، و في هذا الصدد يمكن ذكر منع الحزب الشيوعي المغربي اعتمادا على خطاب ملكي و محاكمة حركة العلماء البهائيين في سنة 1963، و هي حركة احتجاجية دينية. و منذ ئد سعت الدولة بالمغرب إلى ضبط الحقل الديني بالبلاد و ذلك عبر تأطيره بجملة من المؤسسات الدينية و ضبط و تحديد دور العلماء بالمغرب في تدبير المقدس اليومي بانسجام و تناغم مع السلطة السياسية و شرعنة اختياراتها. و هذا ما أدى إلى مأسسة وظيفة العلماء لجعلها مكلفة بحماية الأرثودوكسية الدينية. و قد نجحت الدولة في ذلك عن طريق ضبط مراكز إنتاج و إعداد علماء الدين لضمان احتواهم عبر إنتاج و إعادة إنتاج هذه النخبة داخل المؤسسات الرسمية و تأطيرها في تنظيمات تحسبا لأي انفلات (رابطة علماء المغرب، المجالس العلمية). كما أنه يمكن إدخال طبيعة التعامل مع جامعة القرويين في هذا الإطار العام إذ تم تحويلها إلى مجرد مؤسسة تربوية خاضعة لمراقبة الإدارة. و بذلك تحول العالم بالمغرب إلى مجرد موظف عادي ينتظر مرتبه الشهري تحت وصاية الإدارة كغيره من الموظفين بعدما كان من قبل يتمتع بالاستقلالية إزاء السلطة. و كان هذا التغيير تغييرا جذريا لدور جامعة القرويين و لمهمة العلماء بالمغرب، و هذا ما دفع جملة من العلماء إلى مغادرة الجامعة و التخلي عن التدريس فيها.
و عندما رأت الدولة أن غياب العلماء أدى إلى فراغ اعتبرت أنه تم استغلاله من طرف الحركة الماركسية اللينينية المغربية، ثم بعدها من طرف حركة الشبيبة الإسلامية المستقلة عن الدولة، ففكرت في تجديد المجالس العلمية، و بذلك حاولت من جديد مأسسة دور العالم بالمغرب عبر إعادة تحديد وظيفته لمراقبة الحقل الديني و السياسي. و بذلك تكلف العالم المغربي بالتأطير الديني الهادف إلى صيانة وحدة الأمة على مستوى المذهب و العقيدة. و ذلك للتصدي للتهديد الذي كانت تمثله بما أسمته بالايديولوجيات المناوئة للإسلام و حركات الإسلام السياسي، و كذلك خوفها من تهديد العلماء أنفسهم. و كان أجدى و أفضل سبيل أمامها هو جعل هؤلاء العلماء مساعدين لها بتنصيبهم حماة للأرثودوكسية الدينية و ليس كحماة للشريعة أو كمجتهدين. و هكذا تحول علماء المغرب إلى أجراء قائمين على تدبير العبادات. و بذلك تميزت حصيلة المجالس العلمية على امتداد أكثر من عقدين من نشاطها و ممارستها بالعقم و الانحصار في بعض شؤون العقيدة و العبادات و بطريقة منفصلة انفصالا تاما عن مختلف مجالات الحياة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، إلى درجة أن المجالس العلمية المغربية أضحت غريبة عن سيرورة المجتمع المغربي و على هامشها، رغم أنه من المعلوم و المعروف، لدى العام و الخاص، لا يمكن بأي شكل من الأشكال فصل بين شؤون الدين و الدنيا في منظور الشريعة الإسلامية. و هذا كاف و زيادة لتفسير الدور السلبي لوضعية العالم بالمجتمع المغربي و تفسير عقم المجالس العلمية على امتداد مرحلة وجودها و إلى حد الآن.
و بذلك لا يمكن أن نستغرب إذا لاحظنا انحصار نشاط العلماء بالمغرب في المجال الفقهي التعبدي الصرف و بعدهم، بعد السماء عن الأرض، عن قضايا الفرد و الجماعة و الأمة، و بعد اهتمامهم عما تزخر به حياة المجتمع المغربي من معضلات و مستجدات عصرية لم تتح لهم الفرصة، الفعلية و المسؤولة و النزيهة، ليلقوا بدلوهم فيها و ليقلوا كلمتهم يصددها و يقترحوا حلولا ملائمة خاصة بها و تكون حلولا تتناسب و جوهر الإسلام. و هذا دون الحديث عن الضغوطات التي واجهتهم سواء من طرف الدولة أو من طرف عامة الناس الذين دأبوا على مطالبتهم بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بدون قيد و لا شرط. و هكذا أضحى علماء المغرب بين نارين، فالسلطة تطالبهم بالدفاع عن شرعية لامشروطة و لا يمكن التشكيك فيها، و عموم الأمة تطالبهم بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر مهما كانت الظروف.
أما فيما يرتبط بدور المساجد بالمغرب، فترى الباحثة آمال الوردي أن المساجد بالمغرب لعبت دائما دورا سياسيا، كما اتخذت كأداة لتنامي التيارات الإسلامية، إذ أصبحت لا تفتح إلا لأداء الصلوات الخمس و تم تعيين خطباءها و إلزامهم بإتباع توجيهات وزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية. كما أن بناء و تشييد بيوت الله بالمغرب أصبح خاضعا لوزارة الداخلية في إطار ما أصطلح علية بالتنسيق بين الفرقاء و السلطان. و لم يقتصر الأمر على هذا الحد، و الاقتصار على هذه الإجراءات التنظيمية، و إنما تم تعيين قياد(رجال سلطة تابعين لوزارة الداخلية) في عمالات و أقاليم المملكة المغربية لتكليفهم فقط و حصرا بالربط بالتنسيق بين المجالس العلمية و السلطات و وزارة الداخلية، و مهمتهم الحقيقة غير المعلن عنها هي الضبط.
لكن بالرجوع إلى الواقع المعيش و على امتداد سنوات، يتبين و بجلاء أن كل هذه الاحتياطيات و الإجراءات المرتكزة بالأساس على اعتبارات أمنية محضة بفعل الهاجس الأمني و الرغبة في الضبط و احتواء الأماكن الشرعية و محاولة خلق خطاب ديني رسمي عبر تكوين و تعيين الخطباء و الأئمة لن تفلح في مهمتها لأنها اصطدمت بديناميكية المجتمع المغربي و التي كانت في عمومها مطبوعة بسيرورة مضادة انتجت علما و خطباء مستقلين عن السلطة، و بالتالي عملوا على إنتاج و بلورة خطاب ديني بديل ينافس الدولة منافسة قوية في المجال الديني.
و مع حلول العهد الجديد بدت رغبة واضحة في إعادة هيكلة الحقل الديني ضمن مؤسسة محددة الأهداف و التنظيمات، لاسيما و أن المؤسسات القائمة فشلت فشلا ذريعا في أن تكون مصدرا للاجتهاد قصد التصدي للإشكالات و الأسئلة المطروحة على ركح الواقع المعيش اليومي في مختلف المجالات السياسية و الاقتصادية و الثقافية و الاجتماعية بغية تحصين المجتمع من مختلف أنواع التطرف الفكري عبر إشاعة جوهر الإسلام القائم على الوسطية و الاعتدال و التسامح. و أول ما كان يتطلبه هذا هو محو الأمية – لاسيما الأمية الدينية- و رفع الخضار عن المساجد قصد المساهمة الفعلية في تنظيم الحقل الديني و فق منظور حضاري منفتح على قضايا و شؤون المجتمع و ليس اعتماد إصدار فتاوى من بروج عاجية مقامة على هامش المجتمع و خارج دائرة اهتماماته.
و مما يظهر فشل الدولة في التعامل مع الحقل الديني بالمغرب، أن خططها كانت بمثابة مجرد محاولة مأسسة هيئة العلماء بجعلهم مجرد أدوات لإنتاج و إعادة إنتاج نوعية خاصة من القيم الدينية و الرمزية لدحض كل ما من شأنه مخالفة خطابها الديني و لاسيما السياسي. و هذا يبين أن من أكبر الأخطاء اعتماد الاحتكار المؤسساتي للمعرفة الدينية. هذه الاحتكار ساهم في بروز ديناميكية قوية في المجتمع المغربي ترفض احتكار الدولة للدين و مؤسساته، كما ساهم هذا الاحتكار في جعل الحقل الديني أن يصبح مجالا لرهانات استراتيجية و هذا ما شكل خطرا كبيرا تلمسه الكثيرون منذ مدة.
و مما سبق يتبين أن مسالة تدبير الشأن الديني بالمغرب ليست قضية جديدة إذ ظهرت منذ ستينات القرن الماضي، إلا أن هذا التدبير كان يخضع لمعالجات ظرفية أو قطاعية في ظل غياب تصور شامل لإدارة الشأن الديني. لاسيما و أنه في عهد وزير الأوقاف السابق كانت مواقف الوزارة يشوبها الغموض و التناقض و أحيانا التنافر، مما يبرهن عن غياب أي تصور واضح المقاصد. و كان الطاغي هو التعامل الظرفي و الخضوع لعلاقات شخصية و مصالح شخصية. و يمكن لهذا النهج أن يكون قد ساهم – إضافة لما ذكر أعلاه- في صعود و تصاعد التيارات الدينية بالمغرب. لكن من الأكيد أنه على امتداد عقد و نصف على الأقل تم تجاهل هذه التيارات ثم الحركات التي انبثقت عنها، ثم اتخاذ مواقف الاقتراب و المهادنة و المداهنة بعد ذلك.
و بعد أحداث 11 شتنبر 2001، و خصوصا بعد 16 مايو 2003 تحولت علاقة المغرب بالوهابية إلى مقت باعتبارها تنتج الجماعات المتطرفة (السلفية الجهادية، الهجرة و التكفير، الصراط المستقيم، المجاهدون المغاربة...) كلها ذات علاقة بشكل أو بآخر بأحداث الجمعة الأسود بالدار البيضاء. كما أن موقف المغرب من الوهابية كان لمبررات دولية، لاسيما و أن الولايات المتحدة الأمريكية أعلنت الحرب على التطرف الديني الموصوم بالإرهاب.
و في هذا الصدد يرى البعض أنه أضحى الوضع بالمغرب يتطلب إحداث جبهة دينية تجمع الدولة و جماعات الإسلام السياسي المناهضة للإرهاب (التوحيد و الإصلاح، جماعة العدل و الإحسان) في إطار توافق ديني سياسي لمواجهة العنف الديني، على غرار توافق نهاية التسعينات (1998) بين الملك الراحل الحسن الثاني و عبد الرحمان اليوسفي. إلا أنه يبدو أن الدولة لن تسمح باقتسام تدبير الشأن الديني بالبلاد، باعتبار أ، هذا الشأن من اختصاص إمارة المؤمنين و التي أضحى البعض ينادي بتحديثها.
يتبع