مقدمة : بلاد خطيرة
من يتأمل قليلا في تاريخ العراق الحديث سيجده مثقلا بالتناقضات التي لا حدود لها ابدا وخصوصا تلك العلاقات الصعبة التي جمعت الدولة ايا كان نوعها بالمجتمع .. وطالما وصف المجتمع العراقي بصعوبته وتعقيداته وثقل الامه واحزانه نتيجة قوة احداثه وصعقات وقائعه المريرة .. وكم تمنى المرء على العراقيين ان يخرجوا من القرن العشرين وقد تعلموا اشياء لا حدود لها من الدروس والعبر وخصوصا في موقعهم هذا الذي ينحصر بين اربع قوى اقليمية مؤثرة في ايران شرقا وتركيا شمالا وبلاد الشام غربا والخليج جنوبا ! وكم يود المرء ان يبرز من بين هذه الجماعة العراقية القديمة والمتنوعة من تتوفر لديه القدرة على تحقيق الحد الادنى من جمع ولاء العراقيين له من دون اية ضغوطات داخلية او خارجية ! ويكاد يكون جمع ولاء العراقيين على قيادة تاريخية وكاريزما سحرية وافكار معينة او اجندة عمل مشتركة او تسمية عناوين موحدة هي من اصعب المهام التاريخية التي تواجههم اذا ما تعاملوا واحدهم ازاء الاخر .. ويتعجب العديد من الدارسين والمؤرخين والعلماء الباحثين في شؤون العراق الحديث في اصداراتهم الاخيرة متسائلين عن اسرار هذه البلاد الصعبة وبقائها متماسكة في دواخلها الاجتماعية بعد كل ما جرى في اوضاعها السياسية من التفكك والانهيارات .. ولقد وصفتها في واحد من المؤتمرات مجيبا على مثل هذه التساؤلات : انها بلاد بسبعة ارواح تمتد الى سبعة الاف سنة جابهت تحديات وبدائل ومتغيرات لم تصادفها اي بلاد اخرى في هذا الوجود ! ومن نقائض تاريخها المثقل بالاحداث ان اهلها سرعان ما يسحرون بريادة او قيادة يخلقونها من العدم ولكن سرعان ما يفتكون بها بعد انقلاب السحر على الساحر .. فيصبح الملك الصالح او الزعيم الاوحد او القائد الضرورة في خبر كان وكأنهم لم يقدسونه يوما !
مشكلة العراق بحاجة الى حلول تاريخية
اعود بعد هذه المقدمة التي لها موحياتها العديدة لاعالج ابرز مشكلة يعاني العراق منها اليوم وهو يخضع للهيمنة والارادة الامريكية بشكل مباشر وانه يمر بمرحلة انتقالية لولادة تاريخية جديدة لنرى متغيرات صعبة داخلية واقليمية ودولية تبلورت بعد سقوط النظام السياسي السابق الذي يتحمل كل اوزار ما حدث ويحدث في العراق منذ اكثر من ثلاثة عقود من الزمن الصعب . ويدرك العراقيون بأن الثمن الذي يدفعونه من اجل التغيير سيكون باهضا جدا . وعليه ، فان الرأي السائد اليوم في العراق وعند الاغلبية وخصوصا في مدن ودواخل معينة لها حساسيتها السياسية او الطائفية او حتى الاجتماعية يقول انه في الساعة التي ستترك فيها قوى التحالف الدولي العراق من دون ترتيب اوراق العراق المبعثرة ، فستبدأ حالة من التمزق والفوضى العارمة لا سمح الله ! وان هذا الذي يستشري في الاوساط العربية وبعض الدواخل العراقية انما يريد ارجاع القديم الى قدمه بعيدا عن اي تغيير يمكن ان يحّول المنطقة بالكامل من احوالها اليوم الى احوال من نوع آخر . وهذا ما كان ينتظره الملايين من الناس وخصوصا في هذا الشرق الاوسط ، ولكن يبدو ان القناعة راسخة عند النخب العربية بأن التغيير لابد ان يحدث من الداخل لا من الخارج من دون ان يعلموا ان تغيير الاوضاع العربية على امتداد قرنين من الزمن كانت على ايدي الاوربيين والامريكيين سواء من خلال حملاتهم العسكرية ام برامجهم السياسية التغريبية او من خلال ضباط احرار انقلاباتهم العسكرية واجندتهم الفكرية والايديولوجية واحزابهم الفاشية . وعليه ، فان اول ما يحتاجه العراق اليوم انما يكمن في كيفية ولادته من جديد وعلى اسس تاريخية من نوع جديد تكون لها من القوة ما يجعلها تقاوم العواصف والاعاصير العاتية وما اكثرها في منطقة بالغة الاهمية كالتي يقع فيها العراق اليوم .. فهل يستوعب ابناء العراق واقعهم من اجل تحديد اهدافهم ومصيرهم ؟
حاجة العراق الى الكاريزما
القيادة ليست فنا منعزلا عن واقع الحياة في البلاد او عن تاريخها الممتدة جذوره الى مسافة قرن كامل او اكثر ! ومثلما هو صعب جدا ان تبني دستورا عراقيا دائما يمكنه ان يمثل حقا القانون الاساسي في البلاد ، فان الحاجة ماسة اليوم من اكثر وقت مضى الى من يقود العراق ويخرجه من عنق الزجاجة الضيق الى حياة العالم اليوم . لم تنشأ على امتداد عهد البعثيين ومنذ العام 1963 وحتى اليوم اي نخبة عراقية داخلية تتمتع بمزايا قيادية باهرة في ممارسة السياسة الداخلية والخارجية .. كما ولم يحظ العراق حتى اليوم برجالات مؤثرين في الاوساط الجماهيرية تأثيرا سياسيا سحريا اي بمعنى ان ليس هناك من يمتلك اي نوع من الريادة والكاريزما تؤهله لشغل موقع ريادي معين لاجل معين يجمع فيها ولاء الناس !
وعلينا هنا ان نفّرق بين السحر السياسي والسحر الديني ، فربما كان في العراق من يؤثر دينيا في الاوساط المحلية الاهلية ولكن لا يمكنه ابدا ان يجمع ولاء كل العراقيين في كل اصقاع البلاد اليه .. وهذه محنة يعانيها العراق اليوم ولابد من التفكير فيها ، وعادة ما توكل مهمة القيادة لعسكري محترف معروف عندما يغيب اي مشروع للقيادة السياسية من بلد معين ! واستطيع القول بأن مثل هذا الغياب لا يخص العراق وحده ، اذ تشهد عدة بلدان في الساحة العربية في الثلاثين سنة الاخيرة عموما غيبوبة اي قيادة ريادية عربية تتمتع بمزايا الكاريزما الجاذبة ، واقصد كتلك التي تمتع بها زعماء رياديين غيروا تاريخ بلدانهم تغييرا جذريا ، امثال : غاندي في الهند وونستون جرجل في بريطانيا واتاتورك في تركيا ومحمد علي جناح في الباكستان وبورقيبة في تونس وتيتو في جيكوسلوفاكيا وديغول في فرنسا وزايد في الامارات وغيرهم . ان مجرد مقارنة تاريخية وتحليلية في المفاضلة بين زعماء ساسوا العراق منذ تأسيس كيانه الوطني في العام 1921 وحتى اليوم ترينا حجم المفارقات بين القوة والضعف وبين الحكمة والجنون وبين الواقعية والشعارات وبين التحرر والاستبداد وبين الدستورية والدكتاتورية .. الخ فهل يمكن للعراقيين الذين يمتلكون طموحات عليا في قيادة العراق ان يتفهموا الدروس والعبر التي يمكنها ان تكون مدرسة معرفية يتدارسها من يتداول السلطة والقيادة في عراق الغد ومن اجل بلاد غير قابلة لأن تموت ابدا ..
مجلس الحكم الانتقالي : التجربة والتعّلم منها
ان مجلس الحكم الانتقالي ( او : المؤقت ) الذي يضم 25 عضوا يختلفون اختلافا كبيرا في امكاناتهم السياسية وقدراتهم القيادية .. ولما كان المجلس بمثابة سلطة تشريعية للبلاد وان القيادة الحالية للعراق بيد الحاكم السيد بول بريمر ، فان مصادقة الاخير على ما يتخذه مجلس الحكم من قرارات قد يمر بنفق مظلم لا يعرف ما الذي يحدث في دواخله .. كما وان الاحوال العراقية الصعبة التي مرت منذ تأسيس المجلس حتى اليوم لم تفرز ولادة او ظهور اي اسم من الاسماء يمكن تنجذب الجماهير اليه خصوصا وان المرحلة تتطلب ان تكون قيادة العراق مرتبطة عضويا بالشعب في آماله والامه وطموحاته وفي الوقت نفسه تكون مطالبة لما يريده العراقيون من المستر بريمر .. ومن المثالب ان يدخل الاخير كي يجتمع باعضاء مجلس الحكم ولم يجد سوى خمسة او ستة منهم يقوم باداء واجبه للتحدث اليهم ولا يعرف اين هم بقية الاعضاء كما اوردت الصحافة الامريكية ، وعندما يسأل : اين بقية الاعضاء ؟ يجيبونه بأن فلان مسافر والاخر متغّيب والاخرى متعبة . وعليه ، فاذا كان البعض من الاعضاء ليس باستطاعته الايفاء بالتزاماته فلماذا قبل ان يكون عضوا في اعلى سلطة تشريعية بالبلاد وفي احرج مرحلة من تاريخ بلاد صعبة جدا ، ولماذا قبل العمل في ظل بول بريمر اذا بدأ اليوم ينتقد قوى التحالف التي نصبته عضوا في مجلس للحكم من دون ان يقّدم ما هو مطلوب منه !
ان السياسة الامريكية تتبع اسلوب العمل الاداري في تسييرها للامور ولا يمكن لاعضاء المجلس ان يعمل كل منهم على هواه وهم بانشغالاتهم الخاصة او اسفارهم او مصالحهم او تصريحاتهم الصحفية التي يعشقونها بشكل كبير ، فضلا عن تنازلاتهم لدول وجهات ومنظمات وقفت ضد أماني شعب العراق ! ان من افضل الصيغ التي اعتادت عليها دول العالم المعروفة تكليف من له قدرات سياسية ودبلوماسية بارعة كي يكون ناطقا باسم اي هيئة حكم او مجلس وزاري او قصر رئاسي .. ولا يمكن لكل الاعضاء ان يصّرحوا ، وكل يصّرح على هواه .. لقد راقبت احد الاخوة من اعضاء المجلس لأكثر من مرة في تصريحاته السياسية ومنها خطير للغاية يشرك نفسه وكأنه يتحدث بنفسه عن قرارات اتخذها بنفسه وهذا لا يجوز ابدا ! ليس بسبب انتقالية المجلس المعّين لا المنتخب ، بل بسبب عدم جواز حدوث ذلك تحت اي ظرف من الظروف .. ان هكذا حالة تعّرض صاحبها في اجواء ليبرالية حقيقية للمسائلة والعقاب ، ويعود السبب لأن ساستنا لم يتعودوا اساليب العمل الجماعي ابدا .
الحلقة الثانية
متى يجتمع العراقيون على مبادىء للمستقبل ؟
ان انتقال حالة المجلس الى مرحلة نوعية متقدمة بحاجة الى جملة من الاولويات التي لا يمكن ان تبنى على اسس خاطئة اصلا ، وكان من الصعوبة بمكان ان يتفق العراقيون على خمس وعشرين عضوا ويكونوا مجلسا لحكم العراق ، والكل يتذكر من قبل كيف فشل العراقيون في مؤتمرات معارضاتهم السياسية لحكم صدام حسين في تشكيل جبهة او هيئة وما كان باستطاعتهم الائتلاف على جماعة التسعة لولا دور السفير خليل زاده في مؤتمر لندن .. وبعد ان وضعت الحرب اوزارها باختفاء نظام صدام حسين وهزيمته امام قوى التحالف بقى العراقيون يتجاذبون ويتنافرون على مجلس استشاري او مجلس حكم ولولا بول بريمر لما قيض لهم ان يجتمعوا تحت قبة واحدة ، ( ومثل هذه المشكلة ليست حكرا على العراقيين ، بل يتصف بها كل العرب في مشارقهم ومغاربهم سواء بدراية منهم ام من غير دراية اذ يعجزون في الاتفاق على اجندة مشتركة !) .. ومنذ سنوات طوال وثمة مشكلات عراقية تعبر عن نفسها سياسيا وهي تلبس البسة متنافرة شتى : جبة طائفية او عمامة دينية او سدارة ملكية او نزعة عرقية او فساتين ايديولوجية او احذية محلية او عباءات قبلية وعشائرية .. الخ هذا الطيف السداسي او السباعي الذي يميز نفسه عراقيا على احسن ما يرام اجتماعيا ، فهو يعبر عن اسوأ غرائبه سياسيا ! ان مجرد قيام العراق اولا واخيرا باعلاء المبدأ الوطني وانبثاق سلطة تشريعية ودستور دائم وبروز كاريزما ريادية ومؤسسات مدنية .. تعمل جميعها ضمن مبادىء واحدة مهما تنوعت الوان الطيف الاجتماعي والثقافي سيخلق عراقا جديدا ورائعا يحترمه العالم .. وبعكس ذلك فستمر البلاد في مخاضات عسيرة تتلاعب بها قوى داخلية وخارجية واقليمية وستكون قابلة للتفكك والتشرذم والصراعات التي لا اول لها ولا آخر !
هل من تأسيس جديد لمقوّمات عراقية جديدة ؟
لابد ان يعلم المرء ان ثمة علامات استفهام لابد ان توضع من اجل ان تكون للعراق سلطاته التشريعية ونحن نعلم بأنها اخطر السلطات ولقد انبثق مجلس الحكم بكل تنوعاته من قبل السلطات الامريكية وكم كنت اتمنى ان يكون بمثابة هيئة استشارية بصورته الحالية خصوصا والعراق يمر في مرحلة انتقالية تتطلب مجلس تكنوقراط بالكامل لا يمكن ان يلعب فيه اي من الساسة ادوارهم بحكم وجود سلطة الحاكم بول بريمر وهي التي تمسك بكل العراق .. وعليه ، فانني لا انتقد مجلس الحكم وحالته بقدر ما اضع علامات استفهام على دوره الحقيقي في مثل هذه المرحلة الخطيرة ، وادوار بعض اعضائه الذين لا اعرف ما الذي يؤدونه اناء الليل واطراف النهار والعراق ينتظر من المجلس ان يكون منعقدا بكل اعضائه بشكل مفتوح . فما الذي نراه من ركائز يمكنها ان تكون من مستلزمات ولادة عراق جديد :
اولا : السلطة التشريعية اولا
كم هو مهم اليوم ان يجري البحث عن مجلس سيادة قادم في يونيو القادم يتألف من شخصيات قيادية سياسية عراقية يمثلون الشمال والوسط والجنوب يكون متقدما على مجلس الحكم بعد ان يتمتع بسيادة عراقية وبسلطات مصادقة على التشريعات التي يقرها مجلس الاعيان ( او : مجلس الحكم المتسع لحوالي خمسين من الاعضاء التكنوقراط الحقيقيين شريطة الغاء اي اجندة طائفية او عرقية بل يتم تسمية كل ثلاثة اعضاء من كل محافظة عراقية ) اي بمعنى : اكمال ما هو متعارف عليه من المؤسسة التشريعية مؤقتا الى حين اجراء الانتخابات على مجلس للامة ( او : مجلس للنواب ) ويبقى مجلس السيادة مؤقتا الى حين انتخاب الرجل الذي يريده العراقيون قائدا لهم وبعد ان يتم الاستفتاء على طبيعة النظام الذي يريدونه لبلادهم جمهوريا ام ملكيا ، شريطة ان يجمع القائد المنتخب ولاء الجميع من خلال تصويت الاغلبية العراقية عليه ملكا ام رئيسا . ولتكن ارادة العراقيين هي التي يستوجب احترامها مهما كانت طبيعة الاختلافات بين القوى السياسية العراقية .
ثانيا : المسألة الدستورية
ان المسألة الدستورية في العراق لابد ان تعالج بكل هدوء من دون اي استعجال ولتكن للعراقيين في تجارب تاريخية اخرى اسوة حسنة فليس من صالح العراق ان تتم العجلة في اكمال المسألة الدستورية وفي مجتمع له مشكلاته وتعقيداته .. وفي بلاد خرجت من نفق سياسي مظلم سادت فيها الحكومات العسكرية والدكتاتورية الشوفينية ردحا طويلا من الزمن . ان دستور العراق الدائم ربما يتأخر الى سنوات طوال وربما لا يستطيع العراقيون انجازه نظرا لما وجدناه من كثرة التداخلات فيه تحت مسميات وعناوين مختلفة ايديولوجية ودينية . وعليه ، لا يمكن للعراقيين ان يقبلوا من جديد باللعبة التي مارسها العسكريون والبعثيون في حكم العراق على مدى خمس واربعين سنة عملا بدستور مؤقت .. اذ يقضي من السلطات الحالية تحديد جملة مبادىء وسقف زمني لانجاز دستور دائم للعراق مهما كانت الظروف . ولا يمكن للدستور العراقي الدائم ان ينص على اي اشتراطات طائفية او عرقية ، فالاعتراف بها شيىء ولكن العمل بها شيىء اخر . وعليه ، فان الدستور لابد ان يكون مدنيا ويشترط في يمثل في مؤسسات الدولة كل ابناء الشعب العراقي المتنوع اعتمادا على مرجعية اولوية المحافظات الثمانية عشرة العراقية .
ثالثا : ضرورة المجتمع المدني
اعيد واكرر القول حتى وان خالفني اغلب العراقيين بأن العراق لا حياة او مستقبل امامه من دون تأسيس مجتمع مدني تحكمه المؤسسات الاهلية المدنية بعيدا عن اي تدخل لأي مؤسسات دينية او طائفية او مذهبية او عرقية او قبلية عشائرية .. ان مشروع احترام كل هذه المرجعيات العراقية امر اساسي كونها تمثل المجتمع العراقي تمثيلا حقيقيا ، ولكن يمكنها ان تكون وظيفتها استشارية في العراق الجديد من الجوانب السياسية، ولكن من دون مصادرتها الادوات والوسائل لاقرار اجندتها . ومن افضل ما وجدناه في العراق بعد سقوط النظام السابق من الحالات ان هناك رجال دين من ابناء الشيعة والسنة العراقيين يقبلون بالعلمنة العراقية باعتبارها افضل علاج في الحكم يجّنب العراق من الهزات والكوارث .. ان مبدأ الفصل بين السلطات لا يمكنه ان يترسخ من دون فصل المرجعيات الدينية والطائفية العراقية المتنوعة عن الادوار السياسية بكل ما في الاخيرة من اساليب ماكرة والاعيب عابرة ومستنقعات آسنة .
رابعا : بلايا وامراض
ابتلي العراق بنسيج اجتماعي معقد من العلاقات والتناقضات في ان واحد .. ولم يتخلص في اي يوم من الايام من المحسوبيات والمنسوبيات والمرجعيات وقصة المصالح المتنوعة ولهفة الجميع الى تقلد المناصب والشعور الدائم بالافضلية ناهيكم عن سمة " التذمر " التي لم يستطع اي عراقي التخلص منها منذ اكثر من الف سنة .. بمعنى : انتفاء القناعة ومبدأ التسامح . المشكلة لا يمكن حلّها ببساطة ، بل بترسيخ مبدأ القانون وتحقيق العدالة . وانا اعلق قائلا : اذا لم يستطع العراقيون تحقيق هذا " المبدأ " وهم في سدة مجلس الحكم ، فكيف يمكن ان يتحقق في ابسط دائرة رسمية ؟ وطالما ينادي العديد من المخلصين والوطنيين العراقيين الاوفياء بمبدأ " الرجل ( او : الانسان ) المناسب في المكان المناسب " من دون اي توازنات وحسابات وعلاقات .. فهل سيتحقق ذلك ؟ نعم ، اذا شعر العراقي بأن له هوية ومرجعية وطنية عراقية واحدة من دون اي انتماءات اخرى واذا شعر العراقي بوحدة ارضه ومصيره.
خامسا : العملية الديمقراطية
لابد من القول ان العملية الديمقراطية ليست بسيطة او تافهة يمكنها ان تتحقق في غضون مرحلة قصيرة .. وسيكون من السذاجة ان يتصور البعض ان يغدو العراق بلدا ترفرف فيه رايات الوئام والتوافق والانسجام السياسي بمثل تلك البساطة التي يحلم بها العراقيون العقلاء .. فالمأزق الداخلي تعبر عنه جملة كبرى من المشكلات والتعقيدات التي لا يمكن حلها بسهولة بعد عقود اربعة من السياسات المخربة والبليدة والقمعية التي خلقت انقسامات مريعة وتشظيات اجتماعية لا حصر لها .
وأخيرا
اقول ، بأن ما سجلته في اعلاه ليس هو اعلان مأساوي ولا هو مقال تشاؤمي او نعي لموت محقق لا سمح الله .. بل انها محاولة لآثراء تجربة تاريخية عراقية فريدة من نوعها تلاقي صعوبات على ايدي محتليها وممثليها في بلاد لها استراتيجيتها ولها حيويتها وثقلها وكما وصفتها انها بلاد بقيت حية بسبعة ارواح بعد عقود من الحروب والمآسي والكوارث الصعبة .. وهي اليوم تريد الخروج من عنق الزجاجة الضيقة لتبدأ حياة تاريخية جديدة في القرن الواحد والعشرين ولابد ان يسأل ابناء الشعب العراقي مرات ومرات : هل بمقدورهم تحمّل المزيد من الحروب والكوارث الداخلية ؟ ام انهم قابلون بحلول دستورية وسياسية لتصفية الوجود الاجنبي ؟ فهل سيتحقق ذلك في ظل التحديات المتنوعة والصعبة التي تجتازها البلاد ؟ هذا ما سيقرره المستقبل على ايدي العراقيين انفسهم الذين اتمنى عليهم ان ينزعوا من صدورهم كل عوامل التفكك ويصبحون كتلة واحدة في معالجة التحديات الامنية والسياسية الصارخة واقرار حياتهم الدستورية على مهل في ظل مبادىء وطنية مشتركة .. وبعكسه فلن ينفعنا الندم ايها العراقيون بعد خراب ليس البصرة وحدها بل بعد ان يأكل بعضنا بعضا .. ونصبح اضحوكة امام الدنيا بعد كل التضحيات والالام والمعاناة .