" بعد خمسين سنة من الاستقلال ، لم نتقدم خطوة واحدة في اتجاه تفكيك التراكمات التراثية ، ونشكل صورة صحيحة وعقلانية وواقعية عن تراث الامة العربية – الاسلامية "
محمد اركون في كتابه الجديد رفقة جوزيف مايلا ( من مانهاتن الى بغداد )
منحت مؤسسة "ابن رشد للفكر الحر" جائزتها للمفكر جزائري الاصل محمد أركون "لسعيه إلى طريق التعايش السلمي للثقافات والأديان وتقديرا لدوره الريادي في البحث عن جذور عربية أصيلة في المنطق والعقلانية والتنوير" . هذا ما جاء في ديباجة التكريم وأعلن مجلس أمناء المؤسسة في ألمانيا أن منح الجائزة تم بناء على اختيار من لجنة تحكيم مستقلة يؤلفها خمسة من أبرز المثقفين العرب. ويعد اركون أحد العلماء المعاصرين في العالم العربي وهو المعارض القوي لأطروحة صراع الحضارات ، وان اركون يهدف بجهوده إلى عرض التشابه بين الإسلام والغرب وليس توسيع الخلافات كما هو سائد للأسف في الموقف الراهن حيث يرى أركون أن الغرب خلق صورة للثقافات الإسلامية لم تتغير منذ القرون الوسطى". ومن أهم ما طرحه اركون – حسب ما جاء في كتاب التكريم - تنبيهه الى ان العاصمة الاسلامية بغداد كانت من أكثر المدن حداثة في الوقت الذي انطفأت فيه الأنوار في أوروبا وبينما كانت المجتمعات الإسلامية قد تطورت وبدأت تعرف مفهوم الأنسنة ( Humanism ) كان هناك احتدام محاكم التفتيش . ويرى اركون أن المجتمع الاسلامي لم تتوفر له الفرصة لممارسة تنويره الخاص والذي هو بحاجة ماسة له ولتنوير"المدونة النصية الرسمية المغلقة !
مواصفات كاتب
اثار محمد اركون جملة هائلة من العواصف ضده من قبل العرب والفرنسيين ليس بسبب نقداته القوية اللاذعة ، بل لأسباب عديدة اخرى ، فهو صاحب مشروع اسماه " الاسلاميات التطبيقية " ، واسلوبه معقد جدا في الكتابة ، حتى يكاد لا يفهم كله مطلقا سواء في الفرنسية ام العربية وقد تجّرد احد طلبته المخلصين منذ العام 1978 بترجمة العديد من اعماله وكتبه الى العربية ، وهو الدكتور هاشم صالح سوري الاصل والمقيم بباريس ، ناهيكم عن انتقادات اركون اللاذعة التي كرسها ضد اولئك الذين اختلف عن تفكيرهم ومناهجهم من المستشرقين الفرنسيين. لقد اشتهر اركون وعرف في فرنسا قبل ان تعرفه الثقافة العربية بسبب فرانكفونيته وعدم تسويق نفسه عربيا الى ان ترجم له اول كتاب الى العربية بعنوان: " تاريخية الفكر العربي الاسلامي " . كان في بداية الامر يعرفه الجزائريون بحكم جزائريته ولكن لم يكن لا في كتاباته ولا في محاضراته يتداول بالعربية ابدا.
لقاءاتي مع اركون
ولد محمد اركون في الجزائر العام 1928 ونشأ وترعرع فيها ايام العهد الفرنسي ودرس في جامعة الجزائر ، ومن ثم رحل الى فرنسا واكمل فيها دراساته واستقر بها ودّرس في السوربون وما زال يعمل فيها وقد نشر عشرات الاعمال والبحوث والكتب بالفرنسية في الفكر العربي الاسلامي ..التقيت بالاستاذ محمد اركون مرتين في الجزائر عندما كنت اقيم فيها في عقد الثمانينيات .. كانت المرة الاولى على ما اظن في واحد من مؤتمرات الفكر الاسلامي الذي كان ينعقد في جامعة الامير عبد القادر بقسنطينه عام 1983 ، وكانت المرة الثانية عندما القى واحدة من محاضراته في مركز بحوث اوراسك بجامعة وهران في العام 1987 والتي كنت اعمل فيها . وكان في المؤتمر الاول قد صب عليه المؤتمرون جام غضبهم واتهموه بشتى التهم ومنهم من اعتبرها مناسبة ممتازة لتصفية الحساب معه باعتباره مخربا للاسلام وتصنيفه من تلاميذ المستشرقين .. وعبثا ذهبت محاولاته في افهام اولئك الذين هاجموه انه باحث له منهج معين في دراساته الاسلامية ! اما عندما القى محاضرته في جامعة وهران ، فقد حظي بمحاورات علمية جادة وخصوصا عندما تطرق الى مفهوم الانسنة والعلمنة في الاسلام .. وكانت لي فرصة سانحة لمناقشته والرد على بعض افكاره واحكامه وخصوصا تلك التي تتعلق بالمسألة التاريخية والمنهج التاريخي وما ردده من معلومات غير صائبة في التاريخ العثماني والعلمنة الكمالية ، ثم دار جدل علمي ساخن بيني وبينه اذ واجهته بحقائق ومعلومات تاريخية كمؤرخ لم يستطع ادراكها ، او هكذا اشعر الاخرين ، في حين انه لم يكن مطّلعا عليها بحكم تخصصه البعيد عن التاريخ الحديث وتعقيداته المعاصرة .. وهذه مشكلة لا يعاني منها اركون فقط ، بل يعاني منها العديد من اشهر الكتاب والمفكرين العرب الذين يدخلون انفسهم في معالجات ظواهر تاريخية لم يسيطروا على معلوماتها !
بدايات تفكير اركون
يعد محمد أركون صاحب واحد من المشروعات الفكرية واستهدف فيه فتح أفق من نوع جديد في الفكر الاسلامي في ما اسماه بـ تطبيق للمنجز ، واعتبره منهجا عقلانيا حديثا في دراسة الإسلام. ولقد بقي يسعى جاهدا إلى ترسيخ ذلك كونه يرى بأنه السبيل الوحيد لتحقيق الفهم العلمي للواقع التاريخي المتنوع للمجتمعات الإسلامية. وينتمي محمد أركون إلى جيل فرنسي عالي المستوى في ثقافته وابداعاته ومناهجه وفلسفاته ، فلقد استفاد حتما من تجارب ومنجزات ميشيل فوكو و بيير بورديو و فرانسوا فوريه وغيرهم من الذين أحدثوا ثورة ابستمولوجية ومنهاجية في الفكر الحديث ، فاراد ان ينحى مثلهم في دراساته وكتاباته ولكن عن الفكر الاسلامي ، وقد جعله منهجه ينفصل عن مناهج الاستشراق الكلاسيكي الذي بقي مسجونا في الدوامات الفيلولوجية ، فهاجمها بشراسة متناهية وكل عناصرها ومن يدور في فلكها من المستشرقين الفرنسيين. وقام ايضا بدراسات ألسنية وتاريخية وأنثروبولوجية متنوعة وحاول تطبيق ما طبقه بعض العلماء الفرنسيين على تراثهم اللاتيني المسيحي الأوروبي ، محاولا ذلك على تراث الاسلام وتاريخية تنوعاته .. ولكن بدايات اركون لم تكن منفصلة عن مناهج المستشرقين الفيلولوجية ( = فقه اللغة ) المحترفة متأثرا في البداية بريجيس بلاشير الذي علمه منهجية تحقيق و تدقيق النصوص و مقارنتها ببعضها البعض و دراستها تجريبيا على الطريقة التاريخية الوضعية, ولكن كان يرنو منذ تلك البدايات ومن باب فضوله الثقافي بقراءات لما كان ينشره لوسيان فيفر, لاسيما منهجيته في علم التاريخ.
وعليه ، فقد اهتم أركون بالوقائعيات وتأثيرها على مسار الفكر فضلا عن تضمينه السايكلوجيات والسوسيولوجيات في صناعة كل من السياسة والفكر معا . و في ستينات القرن الماضي اهتم بالألسنيات. ويصف نفسه بشجاعة التطرق إلى اللامفكر فيه في دراساته ومواقفه من الاستشراق منذ شبابه عندما كان طالبا في الجامعة الجزائرية يدرس اللغة العربية وآدابها في وضع قاس مطبوع بسيادة الثقافة الغربية الآتية إلى الجزائر لتحضيرها و إدخالها الحضارة حسب ادعاء المستعمر الغازي. وآنذاك سيطرت على ذهنه الرغبة في الفهم و المزيد من معرفة الواقع و تمحيص الوضع ، ولكنه آثر عدم الانخراط في النضال السياسي , إذ يعتبر نفسه أنه اختار الطريق الفكري للتحرير والتمرد الفكري عوض السياسي لأنه رغب في التحرير الفكري والعقلي للجزائر و لعموم العرب و المسلمين. ومنذ الستينات ايضا عندما أصبح مدرسا بجامعة السوريون اتبع منهجا يختلف جذريا لمنهج المستشرقين وشرع في محاولاته التحليلية المعتمدة على المقارنة الواسعة سعيا للخروج من الإطارات الضيقة وهذا ما فعله مع الفكر الإسلامي ، وهذا ما يجعلني اخالف بعض ادواته المنهجية وبالتالي اختلف مع الاستنتاجات التي يخلص بها ومن ثمّ يبني عليها سواء اصاب ام اخطأ .
مشروع أركون
لقد هدف إلى بناء "إسلاميات تطبيقية" و ذلك بمحاولة تطبيق المنهجيات العلمية وقد أخضع النص لمحك النقد التاريخي المقارن و التحليل الألسني التفكيكي وللتأمل الفلسفي المتعلق بإنتاج المعنى و توسعاته وتحولاته. وفي هذا الصدد ركز على ضرورة فهم المأساة التاريخية التي تتخبط فيها الشعوب الإسلامية منذ أن اصطدمت بشكل مفاجئ وعنيف بالحضارة المادية والحداثة العقلية. فلا الثورة الاشتراكية و لا الثورة الإسلامية أتيح لهما أن تحضيا بمرحلة تحضير واستعداد كاف كما حصل للثورة الفرنسية في القرن 18. إذ لم يمهد لهما عن طريق حركة ضخمة من النقد الفلسفي و العلمي للتراث , ثم لنقد الممارسة السياسية لأنظمة الثقافة الموروثة . و بذلك تراكم اللامفكر فيه في الفكر الإسلامي والعربي. في حين أن الغرب كان قد انخرط منذ زمن طويل في عملية البحث عن أشكال جديدة للحداثة وقد فعل العالم الإسلامي العكس, اذ أدار ظهره للحداثة ، وانه استفاق من نومه التاريخي على الأمجاد الغابرة و راح يعاين تخلفه عن الركب بعد اكتشافه أو إعادة اكتشافه لحجم الهوة التي تفصله عن الغرب على صعيد التقدم المادي والصناعي والتكنولوجي وعلى صعيد الفكر والعلم و قيم المجتمع والحريات و حقوق الإنسان. واستعار النموذج القومي من اوروبا وتم إقامة دول مستقلة أصبح عليها تحمل مسؤولية مواجهة المشاكل الموروثة والتصدي للتحديات التاريخية سياسيا واقتصاديا وثقافيا. لقد دعا أركون إلى التفكير في اللامفكر فيه لدراسة ما تم ويتم إغفاله أو تغييبه لأسباب سياسية بالأساس, ويلح هنا على استخدام الأنثروبولوجيا كعلم يعطي المفاتيح اللازمة والمناسبة لاكتشاف الثقافات الأخرى والمذاهب المختلفة . إلا أن هذا العلم لا يطبق عند المسلمين. وما دام الأمر كذلك سيبقى التفكير يصاحبه دوما ما لا يمكن التفكير فيه ويتم تجاهله وعزله والانقطاع عن الاهتمام به. وهنا اقول بأنني ربما خالفت الرجل في كثير من القضايا التي عالجها ليس من الناحية الفكرية ، وانما من الناحية المنهجية .
واخيرا : رؤيته لأحداث 11 سبتمبر وصدام الحضارات
ويرى اركون في كتابه الجديد الذي اصدره مؤخرا رفقة جوزيف مايلا : بأن احداث (11) سبتمبر تكشف بطريقة دراماتيكية صارخة، عن ذلك الصراع الطويل الذي اندلع في حوض البحر المتوسط منذ ظهور الإسلام والعالم المسيحي الأوروبي الذي عد توسع الإسلام تم على حسابه في ضفاف المتوسط، وقد ابتدأت الخصومة وتعمقت أكثر بسبب الحروب الصليبية فالامتدادات العثمانية فالتوسعات الاستعمارية، وانتهاء بالصراع العربي ـ الإسرائيلي فالقصة طويلة لم تولد من عدم فثمة عداء مستحكم بين الطرفين منذ قرون عديدة ! وهنا يناقض احكام فرديناند بروديل ويعترض على مفهوم " صدام الحضارات " الذي غدا ظاهرة تاريخية بعد 11 سبتمبر من دون ان نقدم نحن العرب والمسلمين ويا للاسف الشديد حتى يومنا هذا بدائل حقيقية لـ " حوار الحضارات " الذي نسعى لتكريسه مع العالم .
( فصلة من كتاب نسوة ورجال : ذكريات شاهد الرؤية لكاتب المقال ) .