حسام مطلق
الحوار المتمدن-العدد: 2143 - 2007 / 12 / 28 - 01:15
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
خلال مناقشة نظرية التطور ( اخوان القردة ) بدا واضحا من بعض التعليقات أن هناك خطأ في فهم فكرة التعقيد. إن كلمة معقد ( Complex ) لا تعني ببساط كثرة الأجزاء, بل تعني أن الأجزاء الكثيرة مترابطة ومتلازمة.
فكلمة معقد ترجمت للعربية في العلوم الطبيعية عن الانكليزية بحرفيتها, فيما هي في الانكليزية في الإطار العلمي تستخدم ضمن سياق الأصل اللاتيني لها ويعني ( متداخل أو متضافر ). ومن هنا كان استشهاد أكثر من معلق على المقالات السابقة والقول بنفي التطور تحت بند التعقيد ككثرة وفات الجميع أن يتنبه للترجمة العلمية للمصطلح. لذا سوف اعرض في السطور التالية ما يعرف بتطور التعقيد ( Evolving Complexity ) وهو جزء من نظرية التطور. وهنا مناسبة للتذكير بأن العلوم ليست فتوحات تنسب الانتصارات فيها لفارس الزمان دون غيره. فنعم داروين من قال بنظرية التطور, ولكن نظرية دارون كتبت فيها مؤلفات وأجريت للتوثق منها آلاف الرحلات البرية والبحرية والتجارب المخبرية, كل هذه النتائج هي ما يسمى اليوم نظرية التطور. فيما يلي اعرض جزء من تلك التطورات وهو ما يعرف بتطور التعقيد.
التعقيد يمكن فهمه على ضوء نظرية المنظومات المعاصرة والتي تحدد الخواص الرئيسية الثلاث التالية لما يصنف كمعقد :
أولا:التنوع ( Diversity ) ويعني احتواء المنظومة على عدد هائل من المكونات التي تكون في العادة من أنواع مختلفة عديدة
ثانيا: التنظيم ( Organization ) وهو ترتيب المكونات الكثيرة على شكل بنى مترابطة .
ثالثا: الترابط ( Connectivity ) أي أن تكون المكونات مترابطة من خلال روابط فيزيائية أو تبادلات الطاقة أو أي شكل من أشكال الاتصال الترابطي يصون العلاقات وينظم النشاط.
بكلمة أخرى كي نصف شيئا ما بأنه معقد يحب أن يكون مكونا من عدد هائل من العناصر المختلفة المنظمة بطريقة ما والمترابطة بحيث تتبادل التأثير فيما بينها. وبنفس المنطق فإن ما يحقق الخواص السابقة لا يمكن وصفه بأنه غير معقد. في أحيان كثيرة أنت تستخدم الكلمة لأنه يفترض بالمتلقي أن يحيط بشيء من خلفيتها العلمية. فكلمة بسيطة تعني أنها الأقل بساطة من موضوع البحث وقد لا تعني البساطة المطلقة, البساطة الأولى. حين نتحدث عن الخلية الأولى فنحن نتحدث على أول شكل من الترابط والتنظيم والتنوع. أي العدد الأولى للمكونات لم يكن هائلا, ولا التنظيم كان بالغ الدقة, بل احتاج إلى ألفين وخمسمائة مليون سنة كي يتعقد بما يجعله قادرا على التزاوج الأول ( ذوبان جدار الخلية ). إذن الأمثلة التي تساق اليوم عن الكائنات " البسيطة " هي بسيطة لأنها تقارن بالإنسان وباقي المخلوقات المعقدة بلا أي تردد ولكنها ليست بسيطة لأنها تماثل الخلية الأولى التي نشأت عنها الحياة.
كنت قد تحدثت عن بكتريا إشرشياكولي كأحد الأشكال التي يدرج البعض على اعتبارها من الأشكال البسيطة للحياة وعرضت لمكوناتها وهنا إعادة سريعة ويمكنكم أن تلاحظوا كيف أن مصطلح بسيط ينطبق عليها حين نقارنها بالإنسان ولكن مصطلح مقعد هو ما يصفها بدقة إن نحن تناولنها بتجرد عن باقي الكائنات, كعملية حسابية, وهي حتما معقدة حين نقراها بعين تنظر إلى الخلية الأولى.
تحتوي كل خلية في بكتريا إشرشياكولي التي تعيش في أمعائنا على أربع جزئيات من الـ ( DNA ) كل جزء يحتوي على بضع مئات من الملايين من الذرات وحوالي 400 جزيء من الـ ( RNA ) من ألف نوع مختلف, وكل جزيء يحتوي على 100,000 أو أكثر من الذرات وحوالي مليون من جزئيات البروتين من ألفي نوع مختلف وكل جزيء يحتوي معدل وسطي قدره ألف ذرة وحوالي 500 مليون من الجزئيات العضوية الأصغر حجما. هذا ببساطة عرض سريع لبكتريا إشرشياكولي. حين يقرأ احدهم مثل هذه المعلومة يقول بكل بساطة : كيف يمكن لمثل هذه المكونات أن تلتقي صدفة وتترابط صدفة وتشكل الكائن البسيط؟. مرة أخرى بكتريا الإشرشياكولي ليست بكائن بسيط, بل هي كائن معقد, ونتيجة لثلاثة ألاف وخمس مائة مليون سنة من التطور. ما نتحدث عنه كخلية أولى مختلف تماما عما تذهب إليه الأذهان من مقارنات. تعريف المعقد الذي قدمت له انطبق عليها وهي لذلك كائن معقد ولكنها ليست بتعقيد الإنسان, وهنا الفرق. لذا يبدو أكثر دقة أن نصطلح معقد وأكثر تعقيدا كي نبعد الأذهان حين نقول بسيط عن الخلية الأولى, أي البسيط الأول. بما أن الخلل في فهم القضية مرتبط دائما بالأرقام فلا بأس من عرض رقمي وإن بدا شديد التعقيد, وأتعب القراء, ولكنه في النهاية, وكما بات واضحا من تمحور التعليقات, ضروري كي تستقيم الأمور وتنتفي فرصة المتصيدين بالماء العكر.
حين يتعلق الأمر بكائن شديد التعقيد كالإنسان الذي يحتوي على نماذج مختلفة كثيرة من الخلايا ( كبد – دماغ – جلد – دم – عظام ... الخ ) فإننا بالضرورة يجب أن نتحدث عن مستوى مختلف من التعقيد عن المستوى الذي ذكرناه لبكتريا الإشرشياكولي.
الخلية بالمطلق تتكون من ذرات, والذرات هي الوحدات الثابتة للمادة. يوجد في كل خلية لبكتريا الإشرشياكولي حوالي 40 مليار ذرة وتكتب باختصار رياضي 4X10 أس 10. حيث 10 أس عشرة هي المرفوع للقوة عشرة, أي واحد يتبعه عشرة أصفار, هذا منعا للبس وحرصا على عدم تكرار الأرقام الكبيرة. أما الخلايا الأكثر تعقيدا كالخلايا العضلية فتحتوي على 10 أس 12 ذرة, وبعض خلايا الأميبا يصل عدد ذراتها إلى 10 أس 15 ذرة. فأين البساطة في الأمثلة التي تساق لرفض نظرية التطور والتي تقود ذهن القارئ كي يفهم الخلية الأولى على أنها مطابقة لخلية 10 أس 12 ذرة مثلا؟. في الوقت الحالي هناك القليل من الخلايا التي هي 10 أس 10 وعدد محدود من الخلايا هو 10 أس 8 ذرة, أي مئة مليون ذرة. كل الأشكال هي في حالة تطور. إن لم يقع التطور بتغير الجسم الخارجي, كالإنسان, فإن التطور بالتعقيد وانطباق الشروط الثلاثة التي أوردتها في بداية النص قائم وغير منتهي. هذه الفوارق الحسابية يمكننا أن نستفيد منها كمدخل لتطور الوعي الإنساني وقضية الأخلاق. الدماغ البشري الوسطي يحتوي على 10 أس 11 خلية عصبية, يوجد منها 10 أس 10 خلية في القشرة الدماغية وهي المنطقة المرتبطة بعمليات التفكير الواعي. كما أن الأدمغة ذات القشرة الحاوية على 10 أس 9 أو أقل من العصبونات كدماغ الكلب لا تؤسس للوعي الاستبطاني. هي متطورة جدا في البشر حصرا عن باقي الكائنات. فمن هذه الطبقة ينشأ التفكير واللغة والعقل والمعرفة والإرادة الحرة والعلوم والفنون ومنه أيضا ظهر الفكر الديني.
لذا فإننا بحاجة لأن نتصور أن تطورا من درجة 10 أس 10 مطلوب قبل الوصول إلى الأسئلة الكونية وهذا ما يقودنا لماذا كان الإنسان عبر ملايين السنين غير مهتم بقضية الأديان ولماذا ظهر هذا الاهتمام فقط في المراحل الأخيرة ( الهومو سيبين كما سبق أن ذكرت ) أنها علاقة 10 أس 10 التي تشكل الأساس التعقيدي اللازم لوعي خارجي يمكنه أن يطرح مثل هذه الأسئلة ومن ثم يحاول الإجابة عليها. لماذا ليس لأشقائنا في الخليقة 10 أس 10؟. ببساطة أنه الخيار الاستراتيجي في آلية التطور للتكيف مع الظرف المحيطة.
إن جزئيا كبيرا كالبروتين الذي استشهد به عدد من المعلقين ليس مجرد تجمع للذرات,هذا صحيح, فالذرات تنتظم وفق بنية نوعية جدا وخروج ذرة واحدة عن مكانها يمكن أن يغير مواصفات وخصائص الجزيء جذريا. فملايين الجزئيات الكبيرة التي تشكل الخلية الحية ( اليوم ) تكون بحد ذاتها منظمة بطريقة نوعية تتبادل فيما بينها التأثير في فترات نوعية لأغراض نوعية وتتزامن نشاطاتها عادة بطرق مازال علماء البيولوجيا في بداية الطريق لفهمها. ولكن كما هو واضح من الشرح فإن البنية بذاتها هي بدورها نتيجة التوظيف الذي كان لها عبر مليارات السنين. بنفس الطريقة التي تحولت فيها أجسامنا من خلايا بسيطة أولى إلى تجمعات من الخلايا والأعضاء على درجة عالية من التنظيم حيث كل واحد منا يحتوي على 10 أس 12 من الخلايا الحية بمجموع ذرات قدره 5x 10 اس 25 ذرة منتظمة بما يوائم توظيفها لتشكل في المحصلة الكائن البشري كذلك البروتين بدأ من مكونات واستمرت عملية التعقيد. للتوضيح : الجسيمات الأولى ( Elementary Particles ) تتحد لتشكل الذرات ( Atoms ) والتي بدورها تتحد لتشكل الجزئيات ( Molecules ) والتي من اتحادها تتكون الجزئيات العملاقة التي تسمى ( Macromolecul ) ومن اتحاد الجزئيات العملاقة تنشأ الخلايا البسيطة ( Simple cells ) والتي حين تتحد تظهر الخلايا المعقدة ( Complex Cells ) ومن اتحادها تتشكل الأنسجة والأعضاء ( Tissues & Organs ) والتي باتحادها تتكون المتعضيات ( Self-conscious Organisms ) ونحن احدها. نحن شكل نهائي مرحلي للكائن السيد في الأرض نتجنا عن 3500 مليون سنة من مراكمة التفاعلات والتغيرات. وكذلك تطورت معنا, وبما يوائم وبتأثير من ضغطنا الداخلي المكونات التي نتجنا أساسا عنها. على المتلقي ألا يفترض أن شيئا ما على سطح هذه الأرض صامد على حاله منذ وجد إلى اليوم. الكل يتغير, يعيد إنشاء نفسه تباعا بما يوائم البنية النهائية للمتعضي ( الكائن ) الذي يكون هو أساسا داخل في تركيبه. هناك أمثلة كثيرة تقريبية يمكن أن استخدمها, كمثال حبتي الفاكهة في المقال الأول ( أخوان القردة ) كي تصبح الفكرة ابسط وأوضح, ولكن, وكما بات واضحا, فإن البعض ينفذ من الإسقاط التقريبي كي يلتف على الحقيقة النهائية. لذا فليقبل عذري من سوف يجد هذا الكلام شديد التعقيد, أو صعب الإسقاط, فما عليه إلا أن يقرأ هذا الجزء مرة أخرى بتأني وستصل الفكرة. ليست بنيتنا وحدها هي التي تخضع للتنظيم فقط, بل إن التنظيم يطال نشاطاتنا الداخلية أيضا. ترتبط الأجزاء المختلفة مع بعضها البعض ارتباطا فيزيائيا وتتبادل المادة الفيزيائية سيل من المعلومات بين المكونات والنظميات العددية. اللذين يقولون بأن البروتين هو كما هو منذ أول نشوء إلى اليوم يغفلون تطور المعلومات التي صارت المادة الحية تنقلها بين أجزائها.
على مستوى المادة الفيزيائية الأولية تتبادل الجسيمات المعلومات البدئية حول طبيعتها ( شحنتها أو عزلها ) وموقعها من خلال القوى الفيزيائية الأساسية – الجاذبية, القوة الكهرطيسية, القوى النووية الضعيفة والقوية – على سبيل المثال إذا تعرض جسيمان لتنافر كهرستاتي فيمكن أن يقال أنهما يتلقيان معلومات تفيد بأنهما شحنتين متعاكستين, والعكس صحيح. إذا صعدنا أكثر على سلم التطور فإن الجزيئات الكبيرة المعقدة تتبادل المعلومات حول شكلها وتركيبتها كما أن بعض الجزئيات تنطبق على حواف الجزئيات الأخرى مثلما تنطبق أشكال لعبة البزل أو المكبات على بعضها البعض. في الخلية الأولى لم تكن الجزئيات أساسا بحاجة كي تنقل كل هذه البيانات. كانت شحنات ترابط أو عزل, ومع ذلك فإنه من 16500 مليون سنة وحتى نشوء الخلية الأولى لدينا 13 الف مليون سنة كي تنتج الطبيعة شحنات تقابل بين الجزئيات البسيطة الأولى وتجمعها في تفاعل بدئي أولي. البروتين الذي تشكلت منه الخلية الأولى يشبه من حيث درجة تطوره وتعقيده الكائن الذي تحدرنا منه قياسا بنا. السيارة التي كانت تجوب شوارع لندن في القرن التاسع عشر والبورش التي تسابق الريح اليوم, كلاهما تسميان سيارة, فهل تسميهما أنت أيضا سيارة؟. للقارىء أن يتخيل الهوة. لقد طورت الكائنات ليس فقط وظائفها وتكوينها, بل مكوناتها التي نتجت عنها أيضا, ما يزال أسم السيارة سيارة ولكن البروتين الذي نشأنا منه لا يشبه بشي البورش التي تصل إلى 200كم من السرعة في بضعة ثوان. في الخلايا الحية الأقل تعقيدا يتم نقل المعلومات عبر عملية التضاعف الخاصة بالتكاثر اللاجنسي, ولكن التقدم التطوري المتزايد للتكاثر الجنسي قد مكن الجينات من نقل المعلومات من الخليتين الأبوين إلى خلية جديدة مما أدى إلى زيادة كمية المعلومات المتدفقة من جيل إلى الجيل الذي يليه. لا يمكن لمثل هذا التطور من النقل أن يتم بنفس الوسائل القديمة, الأمر يشبه الأسلاك الكهربائية والألياف الزجاجية والحزم اللاسليكة. في النهاية حتى الأسلاك قد تغيرت جودتها بما يلائم المتغيرات التقنية التي حدثت من حولنا, فلماذا نصر على أن المكونات الأساسية التي كانت تنقل المعلومات ما تزال على حالها من 3500 مليون سنة؟. ألا يبدو الأمر غبيا بعض الشيء؟. في المتعضيات البسيطة تسري المعلومات بمساعدة الهرمونات التي تؤمن الاتصال بين كل جزء من النظام وباقي الأجزاء وكذلك الفيرومونات ( Pheromones ) وهي عبارة عن مواد كيميائية تطلق للوسط الخارجي تحمل المعلومات للمتعضيات - الجاذبيات الجنسية لدى البعوض – ولكن في المتعضيات الأكثر تعقيدا فقد تم إيجاد أشكال اتصال أسرع وأكثر تنوع باستخدام انتقال النبضات الكهربائية على امتداد الأعصاب. لم يكن للكائن الأول أعصاب ولا للكائن الذي تلاه نفس الجملة العصبية التي لنا اليوم. البروتين مكون أساسي للخلايا, لا أحد يناقش بذلك, ولكن لم علينا أن نقبل أن البروتين هو نفسه البروتين الذي ظهرت منه الحياة قبل 3500مليون سنة.
#حسام_مطلق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟