سلطات محلية انتصرت الطائفية والعائلية
في الانتخابات الاخية اختفى النقاش السياسي، وغابت كافة الاحزاب بكل تياراتها لصالح العائلية والطائفية. لا شك ان هذا التراجع الخطير يشير الى فقدان المجتمع العربي ايمانه بقدرته على التأثير في السياسة وحتى في ادارة شؤونه المحلية.
لعدة اشهر كتم الوسط العربي انفاسه الى ان تمت الانتخابات للسلطات المحلية. واذا رأيت الجهود التي تبذل فيها وسهر الليالي، لظننت ان مصائر الجماهير العربية على وشك الحسم. غير ان قضايانا الرئيسية كالبطالة، مصادرة الاراضي، التعليم والعنصرية، لم تكن موضوع النقاش ابدا، وبدلا منها احتلت الساحة مواضيع اخرى كالاختلاسات والرشاوى المتفشية في السلطات المحلية العربية.
مقارنة بالماضي الوضع خطير جدا. فرغم ان الاحزاب تحكم السلطات دائما على اساس الائتلافات العائلية، الا ان الانتخابات كانت تدار على اساس نقاش سياسي. اما اليوم، فقد تراجعت الاحزاب امام العائلات مما غيّب السياسة عن الساحة. فمن بين 53 سلطة محلية جرت فيها انتخابات، تم في تسع فقط انتخاب مرشحين ذوي انتماء سياسي واضح.
الغريب ان العائلات نفسها انشقت على نفسها. فقد رشحت كل عائلة اكثر من مرشح، ففي عين ماهل برز ستة مرشحين من عائلة ابو ليل، وفي عرابة ثلاثة من عائلة نصار، وثلاثة من عائلة غانم في المغار. وانشغلت الاحزاب التقليدية بتفحص نقاط قوة وضعف كل مرشح عائلي، لتختار حليفها.
وفيما انخفضت نسبة التصويت في الوسط اليهودي في هذه الانتخابات لتصل قطريا الى 41%، وصلت النسبة بين العرب الى تسعين بالمئة. جاء هذا خلافا للتوجه في الانتخابات للكنيست الاخيرة، حين انخفضت نسبة المصوتين العرب الى 61% فقط، تعبيرا عن عدم ثقتهم بالاحزاب وعن لامبالاتهم بالسياسة عموما. فكيف نفسر النسبة العالية في الانتخابات للسلطات المحلية؟
لا شك ان المصالح والسلطة والتوظيفات التي يمكن تحقيقها من خلال السلطات المحلية، تجعل العائلات تمارس ضغوطا اكبر على الجماهير، لاجبارها على الخروج للتصويت. هكذا وبشكل غريب، تستغل العائلات النظام الديمقراطي لتفرض نظاما رجعيا متخلفا وتعيدنا الى ما يشبه عهد المخاتير الذين كانوا يعينون من قبل السلطات.
الحركة الاسلامية في ام الفحم فقط
تميزت الانتخابات باختفاء شبه تام لجناح الشيخ رائد صلاح، باستثناء ام الفحم حيث كان النجاح ساحقا. وكانت الحركة قد قررت عدم خوض الانتخابات الا في ام الفحم. اما الجناح الجنوبي الذي شكّل تهديدا على الجبهة في الانتخابات الماضية في الناصرة بحصده اغلبية مقاعد البلدية (عشرة مقاعد)، تراجع هذه المرة الى ثمانية مقاعد. ولم تتمكن من الفوز بالرئاسة الا في موقعين (هآرتس، 9 تشرين ثان). كما خسرت الحركة في طمرة، بعد خلاف مع رئيس البلدية موسى ابو رومي الذي مثلها في المرة السابقة، وترشح هذه المرة باسم العائلة.
عبد الحكيم مفيد، محرر صحيفة "صوت الحق والحرية" الناطقة بلسان جناح رائد صلاح، فسر غياب حركته لصحيفة هآرتس (مقال يئير اتينغر، 12 تشرين اول) بالقول: "ان السلطات المحلية التي قادت في الماضي الجماهير العربية تحولت في السنوات الاخيرة الى عبء ومصيدة. فميزانياتها معدومة، وهي في حالة انهيار لا تمكننا من الوفاء بوعودنا للناخب. وعندما تعد ولا تفي يبدو الاسلام وكأنه يكذب".
غير ان مشاركة الحركة في الانتخابات في ام الفحم، تظهر انه لو رأى قياديو الحركة احتمالات للنجاح في اماكن اخرى لما ترددوا في المشاركة. والواقع ان خوف الحركة كان من الفشل وليس من الخزينة الفارغة. فقد تنافست الاحزاب حيث اعتقدت ان لها فرصا للنجاح. ويبدو ان نتائج انتخابات الكنيست الاخيرة التي اشارت لانحسار قوة قائمة الحركة الاسلامية من خمسة الى مقعدين، اثبت ان قوة الاسلام السياسي آخذة بالتراجع، الامر الذي تجلى ايضا في الانتخابات للسلطات المحلية.
البروفسور عزيز حيدر، الباحث في علم الاجتماع في معهد "ترومان"، فسر لهآرتس (12 تشرين اول) قرار الحركة عدم خوض الانتخابات بالقول: "القرار نابع من وعي الحركة بان الجمهور تنازل عن القضية الجماعية والخيار القومي، وبات كل فرد فيه منشغلا بمشاكله الشخصية". واضاف: "ان الحركة تتحدث عن القضايا العالمية، اما الانسان العادي فيسأل نفسه ما يهمني الصراع بين الغرب والاسلام؟ الناس يعتقدون ان الحركة بالغت في خطابها".
اما في الناصرة فيمكن القول ان قضية شهاب الدين التي اشعلت فتيل الطائفية، ابعدت الناس عن القائمة، الامر الذي تجلى في انخفاض نسبة التصويت. هاشم عبد الرحمن، رئيس بلدية ام الفحم الجديد، انتقد الجناح الجنوبي للحركة الاسلامية في الناصرة على اسلوب مواجهتها للقضية، وتوقع ان يكون رامز جرايسي عن الجبهة رئيسا للبلدية، وليس احمد الزعبي ممثل القائمة الاسلامية.
التجمع فقاعة دون جذور
حزب التجمع الذي سطع نجمه في الانتخابات للكنيست كاكبر قوة عربية بعد فوزه بثلاثة مقاعد، لم يفز برئاسة بلدية واحدة. وقد خسر في كفر كنا البلدية الوحيدة التي كانت بيده، بحصول مرشحه عمر سعيد على 12% من الاصوات، هذا مع العلم ان التجمع له ممثل في الكنيست من نفس البلد.
الامر الغريب كان ان الحزب اختبأ في بعض القرى وراء قوائم موجودة دون ابراز هويته. المثال البارز كان في الناصرة حيث دعم التجمع قائمة بشير عبد الرازق "الناصرة معاً"، ولكنه لم يعلن الدعم على الملأ، فلم يصدر منشورا واحدا للترويج للقائمة، ومع هذا كان واضحا من صحيفته "فصل المقال" انه مرشحه.
في حالة تحالف التجمع مع عائلة كبيرة، ظهر بكل قوته وكامل زينته، من اعلام ولافتات ومناشير، والنموذج: مجد الكروم حيث دعم محمد مناع للرئاسة، وحصل على مقعدين. اما اذا لم يستطع الائتلاف مع عائلة قوية، فانه لم يجرؤ على النزول بقائمة مستقلة، والنموذج القرية المحاذية: شعب.
وضع التجمع يذكّر بوضع حزب "شينوي" الذي تحول الى قوة ثالثة في الكنيست، ولكنه لم يفز برئاسة سلطة محلية واحدة. ونقطة الالتقاء بين الحزبين انهما يفتقدان الجذور بين الجماهير، كلاهما فقاعة، ظاهرة عابرة.
الجبهة خسرت للطائفية
الجبهة حصلت على رئاسة ثماني سلطات محلية، اكبرها الناصرة، بالاضافة لسخنين، عيلبون، يافة الناصرة، الجديدة-المكر، طمرة، الرامة واكسال. ولكنها تراجعت في الكثير من القرى وخسرت الرئاسة فيها، ومنها عبلين وعرابة. اما في مجد الكروم، فحازت القائمة على مقعد واحد فقط.
لقد خسرت الجبهة، كما حدث مع الاحزاب الاخرى، لصالح المصالح العائلية والطائفية. حتى النصر في الناصرة جاء تلقائيا على خلفية فشل الحركة الاسلامية في مسألة شهاب الدين التي قسمت المدينة على اساس طائفي. وما لا شك فيه ان التصويت للجبهة في الناصرة كان طائفيا اكثر من أي وقت مضى: 40% من الناخبين مسيحيون واذا اضفنا اليهم 10% هم موظفو بلدية مسلمون مقربون من الجبهة، وصلنا للفوز المضمون.
عنف وفساد
من يقرأ الصحافة العربية في موضوع الانتخابات، يظن انه في ساحة حرب. وقد دار الحديث عن معارك حقيقية سقط فيها جرحى، واستعملت الآلات الحادة وجرى اطلاق النار في بعض القرى. صحيفة كل العرب نشرت في عدد واحد (31 تشرين اول) سلسلة من الحوادث التي وقعت "على خلفية الانتخابات" كما يقول العنوان: شجار عنيف في المشهد، طعن شاب يوم الانتخابات في جلجولية، مواجهات في طرعان، وفي الطيرة تخلل المعركة الانتخابية معركة اطلاق نيران. اما في الناصرة، فوقع اعتداء في حي الصفافرة على رئيس بلدية الناصرة ومرافقيه على خلفية طائفية.
واستعمل المرشحون كل الطرق النظيفة والاقل نظافة في سبيل الفوز. في مقال بهآرتس (26 تشرين اول) قال د. سليم بريك، محاضر في جامعة حيفا: "الفساد في الوسط العربي يطال السماء. هناك من يريد ان العرب والدروز يتعفنون. هذا تكريس لثقافة سياسية متدنية، فاسدة، انتهازية وغير قانونية".
الطرف المنتصر لا يزال ينفق اموال الجمهور في الاحتفالات التي اقيمت في المتنزهات والشوارع، ولا تزال المفرقعات تدوّي حتى ساعات الليل المتأخرة. ولكن بعد ان تنتهي الاحتفالات سيصحو الوسط العربي، المنتصر والمنهزم، ليجد الخزانة فارغة من الميزانيات، والشوارع طافحة بالمجاري، والمياه مقطوعة عن الانابيب، الرواتب غير مدفوعة، الاضرابات في المدارس مستمرة، الى جانب شح الاراضي، البطالة وعدد لا يحصى من النواقص. باختصار: سيصحو ليجد ان الكابوس لا يزال مستمرا: بلد مشلول، المعاناة فيه نصيب كل العائلات وكل الطوائف.
ان السبب للاسلوب الذي تمت به الانتخابات، هو عدم ايمان المجتمع العربي بقدرته على التأثير في السياسة الاسرائيلية، او حتى على ادارة شؤونه المحلية. لقد شطبت الجماهير العربية نفسها كجسم سياسي، كجسم له حاجات وطموح كاي مجتمع. ان مواصلة الاقتتال الداخلي هو افضل حالة تتمناها السلطات الاسرائيلية، وعلينا القول بوضوح ان اتهام دولة اسرائيل بكل مصائب العرب يصبح بلا مصداقية عندما نضيّع من ايدينا كل الفرص لادارة مجتمعاتنا المحلية بانفسنا.
الصبار