ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 662 - 2003 / 11 / 24 - 03:46
المحور:
اخر الاخبار, المقالات والبيانات
من بين مختلف أنواع الإدمان أخطرها عقابيل وأصعبها علاجا هو النوع المنتشر في العالم العربي: الإدمان على السلطة. والمدمن على السلطة لا يختلف عن غيره من مدمني الخمر أو المخدرات أو القمار في كونه عبدا لموضوع إدمانه. لكن بينما يؤذي المدمن العادي نفسه أو أسرته وربما أصدقاءه، فإن ضحايا مدمن السلطة هم الملايين من رعاياه المناكيد. وكما قد يبيع مدمن المخدرات أو القمار أملاكه وبيته وربما رهن زوجته وأبناءه وصولا في النهاية إلى تدمير نفسه، فإن مدمن السلطة لا يقف عند حد لتأمين نهمه الذي لا يشبع للسلطة وصولا إلى تخريب بلده وتدمير ذاته. وثمة دائما ساحرات يتكفلن بأن يتنكر هذا التدمير ويأتيك من حيث لا تحتسب كما في ماكبث شكسبير، أو يعدنك بالملك الخالد ثم يتخلين عنك ليوم أسود وفقا لمنوال سيتكرر وكان مصير شاه إيران نموذجه الباكر.
ينبع إدمان السلطة من حب المجد، أي شهوة القوة وبعد الصيت واحترام الناس، وبالتأكيد الرغبة في الخلود. لكن المأساوي في أقدار كل مدمني السلطة في القرن العشرين المنصرم هو فساد فكرة الخلود في السلطة في هذا العصر. فالسلطة المؤبدة، وهي اليوم سلطة مطلقة بالضرورة أيضا، تتعارض تعارضا عميقا وكاملا وغير قابل للتخفيف مع كل مفاهيم وقيم الاجتماع السياسي الحديث: الأمة، الشعب، الدولة، الشرعية، الجمهورية، الدستور، وبالطبع الديمقراطية.
يبدو مدمن السلطة كائنا في غير زمنه. يستطيع أن يقتل الكثيرين مغالبا قدره لكنه بذلك لا يحدد إلا شكل فنائه هو؛ يستطيع أن يحبس الناس ويمنع التغيير ويورث سلطته لأبنائه، لكنه لا يستطيع أن يستأصل من النفوس الشعور بأن هذه كله لعب في الوقت الضائع. فهو اليوم لا يمكن إلا أن يكون طاغية، والزمن لم يعد يتقبل الطغاة.
الملاحظة الإحصائية (والإحصاء هو الطباق المبتذل للمأساة) تفيد أنه ليس هناك حاكم واحد في عصرنا لبث على كرسيه أكثر من عشرة أعوام أو خمسة عشر عاما ولم يبدأ حكمه بالتعفن ومجده بالانحدار- في عيون معاصريه وأكثر في عيون اللاحقين: ستالين، ماو، تيتو، عبد الناصر، تشاوشيسكو، كيم إيل سونغ، صدام حسين، كاسترو، وغيرهم كثيرين. لماذا؟ لأن "السلطة تفسد، والسلطة المطلقة تفسد إفسادا مطلقا"، وأول من تفسدهم أهلها ومدمنوها.
العالم العربي يعيش تراجيديا ماكبثية مديدة، واللب التراجيدي في هذه التراجيديا أن الساحرات اللاتي لطالما خدعن "مكابثنا" هن اللاتي يسقطنهم الآن. الساحرات اللاتي أعطينك السلاح القاتل هن اللاتي جعلنك الشرير وقتلنك ليجردنك من السلاح!
لكن ألا يبدو مالكوم الذي جلبنه منحولا ومخترعا من العدم؟! هذا ما يزيد طنبور المأساة العراقية نغما فاجعا.
دمشق 15 نيسان 2003
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟