|
السودان والإسلآم السياسي : 1955 - 2007
عماد الدين الدباغ
الحوار المتمدن-العدد: 2136 - 2007 / 12 / 21 - 12:39
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
عندما كنت أعد موضوعا لمدونتي (http://unmasking-islam.net) عن الذكرى الثانية والخمسين لإعلان إستقلال السودان من داخل البرلمان (19/12/1955م) ، ومن خلال بحثي عن المراجع لتدوين هذه الذكرى (التي تصادف اليوم) قادني البحث إلى محور أساسي للحياة السياسية السودانية منذ الاستقلال وحتى اليوم ، ألا وهو "الإسلام السياسي" ، فالإسلآم كان حاضرا في صياغة الدساتير ، و"الإسلام السياسي" هو الذي حكم السودان فعليا معظم الفترة مابين 1955 - 1983 و طوال الفترة من 1983 - 2007م ، وبما أن أي حديث عن (إنجازات) أو إخفاقات سواء في المجالات الاقتصادية ، الاجتماعية أو السياسية سيكون مرده بطبيعة الحال لتجربة "الإسلام هو الحل" لذلك فقد إرتئيت أن أغير في هذه التدوينة ليكون التعريف - بدلا عن الأحزاب السياسية في السودان - هو لـ "الإسلام السياسي" فما هو الإسلام السياسي؟ وما هو تاريخه؟ إن "إسلام سياسي" عبارة عن مصطلح سياسي وإعلامي استخدم لتوصيف حركات تغيير سياسية تؤمن بالإسلام باعتباره منهج حياة، وتم استخدام هذا المصطلح بكثافة عقب أحداث سبتمبر 2001 م واستخدم هذا المصطلح بكثرة في الحملة الدعائية لما سميت "الحرب على الإرهاب" . من وجهة نظر جماعات الإسلام السياسي فهي تعتبر الإسلام من الناحية التاريخية الدين الوحيد الذي استطاع في عهد انتشاره الأولي من تكوين نواة لمؤسسات اجتماعية و خدمية و سياسية على الصعيدين الداخلي و الخارجي على عكس الديانات الأخرى التي لم يتمكن مؤسسوها من تشكيل بدايات دولة. الإسلام السياسي بالمفهوم الغربي يمكن تعريفه كمجموعة من الأفكار و الأهداف السياسية النابعة من الشريعة الإسلامية والتي تستخدمها مجموعة يطلق عليهم الأعلام الغربي "المسلمين المتطرفين" الذين يؤمنون أن الإسلام ليس عبارة عن ديانة فقط وإنما عبارة عن نظام سياسي واجتماعي و قانوني و اقتصادي يصلح لبناء مؤسسات دولة . يتهم خصوم الحركات الإسلامية هذه الحركات بأنها تحاول بطريقة أو بأخرى إعادة هيكلة الدول . تلقى فكرة تطبيق الشريعة الإسلامية بحذافيرها في السياسة عدم قبولا من التيارات التي تسمي نفسها الليبرالية أو ما يطلق عليهم في بعض الأحيان الحركات العلمانية . ورغم الانتقادات والحملات الأمنية والإعلامية ضدها تمكنت حركات الإسلام السياسي من التحول إلى واحدة من القوى السياسية الكبيرة في الشارع العربي ، ويتهمها خصومها في هذا الصدد بتلقيها دعما لا متناهي من الحركات الوهابية في الخليج العربي أومأ يسمى - مجازا - بتمويلها بالبترودولار بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 وجه الأعلام العالمي اهتمامه نحو الحركات السياسية التي تتخذ من الإسلام مصدرا لرسم الخطوط العريضة لسياستها وحدث في هذه الفترة الحرجة نوع من الفوضى في التحليل أدى بشكل أو بآخر إلى عدم التمييز بين الإسلام كدين رئيسي و بين مجاميع معينة تتحد من بعض الاجتهادات في تفسير و تطبيق الشريعة الإسلامية مرتكزا لها. وعدم التركيز هذا أدى إلى انتشار بعض المفاهيم التي لا تزال آثارها شاخصة لحد هذا اليوم من تعميم يستخدمه العالم الغربي تجاه العالم الإسلامي بكونها تشكل خطرا على الأسلوب الغربي في الحياة و التعامل. يعتبر مصطلح الإسلام الأصولي Islamic Fundamentalism من أقدم المصطلحات التي تم استعمالها لوصف ما يسمى اليوم إسلام سياسي حيث عقد في سبتمبر 1994 مؤتمر عالمي في واشنطن في الولايات المتحدة بأسم " خطر الإسلام الإصولي على شمال أفريقيا" وكان المؤتمر عن السودان و ما وصفه المؤتمر بمحاولة إيران نشر " الثورة الإسلامية" إلى أفريقيا عن طريق السودان [1]. تدريجيا بعد ذلك و في التسعينيات وفي خضم الأحداث الداخلية في الجزائر تم استبدال هذا المصطلح بمصطلح "الإسلاميون المتطرفون" واستقرت التسمية بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 على الإسلام السياسي. يعتقد معظم المحللين السياسيين الغربيين ان نشوء ظاهرة الإسلام السياسي يرجع إلى المستوى الاقتصادي المتدني لمعظم الدول في العالم الإسلامي حيث بدأت منذ الأربعينيات بعض الحركات الاشتراكية في بعض الدول الإسلامية تحت تأثير الفكر الشيوعي كمحاولة لرفع المستوى الاقتصادي و الاجتماعي للأفراد ولكن انهيار الاتحاد السوفيتي خلف فراغا فكريا في مجال محاولة الإصلاح الاقتصادي و الاجتماعي و يرى المحللون انه من هنا انطلقت الأفكار التي قامت بتفسير التخلف و التردي في المستوى الاقتصادي و الاجتماعي إلى ابتعاد المسلمين عن التطبيق الصحيح لنصوص الشريعة الإسلامية وتؤثر حكوماتهم بالسياسة الغربية [2] ولعبت القضية الفلسطينية والصراع العربي - الإسرائيلي واحتلال إسرائيل للضفة الغربية و قطاع غزة كل هذه الأحداث وتزامنها مع الثورة الإسلامية في إيران و حرب الخليج الثانية مهدت الساحة لنشوء فكرة أن السياسة الغربية مجحفة وغير عادلة تجاه المسلمين وتستخدم مفهوم الكيل بمكيالين. يرى بعض المختصين الأمريكيين في شؤون الإسلام مثل روبرت سبينسر انه لايوجد فرق بين الإسلام و الإسلام السياسي وانه من الغير المنطقي الفصل بينهما فالإسلام بنظره يحمل في مبادئه أهدافا سياسية [3] وقال سبينسر ما نصه "إن الإسلام ليس مجرد دين للمسلمين وإنما هو طريقة وأسلوب للحياة وفيه تعليمات و أوامر من ابسط الفعاليات كالأكل والشرب إلى الأمور الروحية الأكثر تعقيدا [4]. وبالعودة لتجربة الاستقلال السودانية و حركات الإسلام السياسي اليوم فإن حكم نظام الإنقاذ في السودان - وهو الأطول منذ الاستقلال - كانت بداياته هي الأعنف في تاريخ السودان ما بعد الاستقلال ، فإذا كان الإسلام - بحسب تعريف المتأسلمين سياسيا - هو الشامل للطريقة ولأسلوب الحياة فمن الطبيعي و بوجود الغالبية المسلمة في المجتمع - السودان نموذجا - أن يطبق الإسلام نفسه بنفسه من خلال إنتهاج أتباعه (الغالبية) لمنهجهم وطريقتهم في الحياة !!! فإذا كان الوضع كذلك فلماذا كان العنف المرافق لتطبيق التجربة؟ بطبيعة الحال هذا هراء مركًَب ، فهم عندما يتحدثون عن (منهج وطريقة حياة) يقصدون جزئية ( العقوبات) "قطع اليد" و "ضرب العنق" .... الخ ، ولكن إدارة الدول تشتمل على ما لم يخطر ببالهم "كالتوزيع العادل للثروة" و "العلاقات الدولية" وما إلى ذلك ، وبأخذ التجربة السودانية ، فبينما كان "المتأسلمين سياسيا" منشغلين جدا بملاحقة طالبات الجامعات الغير محجبات و منهمكين للغاية في التأصيل الإسلامي بتغيير العملة من " الجنيه" (الكافر) إلى "الدينار" (الإسلامي) وما إلى ذلك من مسائل (المنهج وطريقة الحياة) ، بدأت المشاكل تتفجر الواحدة تلو الأخرى في شرق السودان و شماله و غربه بسبب نسيانهم (للتنمية) و (التوزيع العادل للثروات) في خضم ما كانوا منشغلين به من أساسيات (المنهج وطريقة الحياة)!!!!!!!!. عندما يثار هذا الموضوع و بسبب الطبيعة (الزئبقية) للمتأسلمين سياسيا فجوابهم الـ(جاهز) هو أن الحرب في الجنوب (كان يطلق عليها إعلاميا "الجهاد") مع قوات المتمردين بقيادة جون قرنق (كان يطلق عليهم إعلاميا "الخوارج") كانت السبب وراء تعطل التنمية ، وكان يمكننا أن نقبل قولهم هذا لو أن "مليارات" الجنيهات لم يتم تخصيصها في تلك الفترة لتعيين المستشارين وإنشاء الإدارات لـ(شؤون التأصيل) مثلا ، ولو لم يتم إنفاق "ملايين" الدولارات في تغيير العملة من الجنيه إلى الدينار وغير ذلك الكثير ، هذه المبالغ وحدها كان يمكن أن تحول دون الحرب الدائرة في دارفور اليوم. وبالعودة قليلا للوراء ، وبالنظر لحرب الجنوب التي راح ضحيتها مليون شهيد من خيرة شباب الوطن فهذه الحرب هي في الأساس صنيعة "الإسلام السياسي" فالحرب الثانية كانت نتاج تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية من قبل "أمير المؤمنين" المشير/ جعفر نميري و إنقلابه بتطبيق الشريعة على بنود إتفاقية السلام (1973) ، أما الحرب الجنوب الأولى فقد فجر فتيلها (تنصل) الفصائل "الأحزاب" الشمالية (الإسلامية و العروبية) عن مقررات مؤتمر جوبا (1947) وقد طالعتنا جريدة الصراحة في صباح 28 سبتمبر 1954 ببيان صادر عن فصيل من فصائل التيار التوحيدي هو الجبهة المعادية للاستعمار (سلف الحزب الشيوعي السوداني الحالي) أشارت فيه إلى اعتراضها على بوادر التنصل مؤكدة على أنه إن لم يتم تقبل المقترحات الخاصة بالحكم الذاتي للجنوب ويتم تنفيذها فان وحدة السودان ستكون في خطر. ورأت الجبهة أن مشكلة الجنوب تحمل أكثر من وجه، وأن هذه المشكلة هي وجه واحد لمشاكل إقليمية عديدة تواجه السودان، مقترحة بأن تحل كل المشاكل بالمستوى نفسه. ووصفت الجبهة في بيانها السودان بأنه دولة ذات قوميات متعددة مشيرة إلى أن الحكم الذاتي الإقليمي هو الحل المناسب الوحيد، وأن هذا النوع من الحكم الذاتي يجب ألا يضعف السودان الموحد، وطالبت في البيان نفسه بسد الفجوة التنموية بين شطري البلاد ودعت إلى تضييق الهوة التعليمة بين الشطرين وإلى مساواة الأجور.[5] إذن فمشكلة الجنوب التي هي ووفق جميع المراقبين كانت سببا في تردي الأوضاع السودانية ، وفي الحقبتين التي تفجرت فيهما هذه الحرب (1955 - 1972م) "سبعة عشر عاما من الحرب" و (1983 - 2005م) "واحد وعشرون عاما من الحرب" مجموع سنوات الحربين ثمانية وثلاثون عاما من عمر الاستقلال تسبب فيها المتأسلمون سياسيا. هل عرفتم ألان لماذا قمت بتغيير التعريف في بداية هذه المقالة ، فبدلا أن أعرف (الأحزاب السودانية) قمت بتعريف الإسلام السياسي؟. نعم فالسبب الحقيقي وراء التخلف و الجهل والمرض و تردي الأوضاع هو في الحقيقة راجع "للإسلام السياسي" في تجربة السودان منذ الاستقلال وحتى الآن. بسبب الاحباط العام و المتنامي وسط السودانيين بسبب التجارب الفاشلة و المتكررة للاسلام السياسي بدأت خلال السنوات الخمس الماضية تتنامى فكرة (الاسلام الليبرالي) لتجد قبولا واسعا من داخل و خارج حركات الاسلام السياسي نفسها ، فنجد (حسن الترابي) كمثال "وهو المنظر والاب الروحي للأنقاذ - قبل اأنشقاق" قد عاد لكتبه وأطروحاته القديمة التي تقول بالإجتهاد او تفسير جديد او عصري لنصوص القرأن و الحديث النبوي ، ويمكن تلخيص المحاور الرئيسية لهذا لتيار "الاسلامك الليبرالي" في النقاط التالية: إستقلاية الفرد في تفسير القرآن و الحديث التحليل الأكاديمي للنصوص والتعاليم الإسلامية المحافظة. انفتاح أكثر مقارنة بالتيار المحافظ. التساوي الكامل بين الذكر و الأنثى في جميع أوجه الحياة. اللجوء إلى أستعمال الفطرة اضافة إلى الإجتهاد في تحديد الخطأ من الصواب. ويرى هذا التيار ان التطبيق الحرفي لكل ما ورد من نصوص اسلامية قد يكون صعبا جدا إن لم يكن مستحيلا في ظروف و متغيرات العصر الحديث . لا يؤمن بصلاحية اية جهة باصدار فتوى حق المرأة في تسلم مناصب سياسية وحتى ان تكون خطيبة في مسجد ومعظم من في هذا التيار يحاولون فصل السياسة عن الدين ويفضلون مبدأ اللاعنف. وما تقدم يعتبر في نظري (علمنة للإسلام) تحوي في مضمونها إعترافا مبطنا بقناعة (متأسلمو الاسلام هو الحل) بفشل نظريتهم وطرحهم ، ومحاولتهم لسحب البساط من تحت العلمانيين الذين تزايدت شعبية طروحاتهم بشكل ملحوظ بعد الانفراج النسبي في مجال الحريات والعمل الحزبي. ومن كل ما تقدم ، وبسبب المآسي التي تسبب بها "الاسلام السياسي" للسودان ، فأنني أعتقد جازما أن هذا "الاسلام السياسي" قد دق آخر مسمار في نعشه بتوقيعة على إتفاقية سلام 2005م والتي ستتيح للسودانيين الاختيار في الإنتخابات التي ستجرى في النصف الاول من عام 2009م هذا الاختيار الذي سيكون - في رأيي - إصدار نعي وطلاق بائن للاسلام السياسي ----------------- [1] http://www.washington-report.org/backissues/0994/9409021.htm [2] http://www.marxists.de/religion/harman/index.htm [3] http://jihadwatch.org/ [4] http://jihadwatch.org/dhimmiwatch/ [5] http://www.arkamani.org/vol_1/anthropology_vol_1/south_north_first_war.htm
#عماد_الدين_الدباغ (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تكنيك و منهجية الإفتاء
المزيد.....
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|