|
الإسلاموية و فوبيا التجديد!
نذير الماجد
الحوار المتمدن-العدد: 2134 - 2007 / 12 / 19 - 11:26
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الأصالة ليست دائما ذات قيمة و دلالة ايجابية، كما أن ليس لها آلية محددة و مفهوم ناجز يتجاوز النسبية التي تفرضها التغيرات الواقعية. و البنى الدينية و المنظومات الفكرية التي تشكل العامل الأساسي لبقاء و تماسك الأمة و الجماعة ليست دائما تتمحور حول "ما كان قائما بالفعل" أي أنها ليست دائما تستمد بريقها و نفوذها من خلال تقادمها الزمني، بل إنها تفرض نفسها من خلال مواءمتها مع تلك التغيرات و التطورات الجذرية التي تلامس عمق التشكلات البشرية على اختلافها، هنا ينتقل المعيار من التقادم الزمني أو "ما كان قائما بالفعل" إلى ما يجب أن يكون أو "ما يراد له أن يكون". المعطيات الجديدة التي تبرز على صعيد الواقع المعاش هي التي تدفع بعجلة التطوير و تفرض ضروراته، هنا تتجلى طبيعة المجتمع بوصفها كائنا مؤثرا في الثقافة، و حين نستعير مفاهيم سيسيولوجية خاصة يمكننا أن نميز بين مجتمع مغلق و مجتمع آخر مفتوح في تعاطيه و تعامله مع جدلية الأصالة و التجديد، لكننا مع ذلك لن نتمكن من فهم هذه الجدلية تماما إلا بمقاربة الأديان مقاربة سيسولوجية، أي يجب علينا أن نجعل من طبيعة المجتمع بنية تحتية يقوم عليها الدين و المنظومة الفكرية الظافرة في مجتمع ما، و ليس العكس. هذه المقاربة تجعل من الدين نتاجا اجتماعيا، أي أن المجتمع هو الذي يرسم طبيعة الدين و يحدد آفاق التدين و يمنحه "القبض أو البسط"، السعة أو الانكماش، النسبية أو الإطلاق، التغير أو الثبات إلى غير ذلك من ثنائيات، و لا يمكن أن يتسرب الشك أبدا في أن للمجتمعات البشرية طبيعة متغيرة يمتاز بها الإنسان دون سواه، فالكائنات الحية الأخرى جميعها و حتى التي تتصف بانتماء و تشكلات جماعية لا تتعدى القواعد الوراثية التي منحتها إياها الطبيعة، أما الإنسان و المجتمع الإنساني فإنه يمتاز بإمكانية الارتقاء و تجاوز الذات نحو الأفضل دائما، و بلغة التحليل النفسي فإن نزوة الحياة تحثه دوما ليس فقط للحفاظ على الفرد و النوع بل تمده أيضا بطاقة النماء و الارتقاء على المستوى الوجودي و بناء الهوية و الكيان. تلك الهوية في حالة صيرورة دائمة، إنها تتكامل مع الزمن و تتجاوز ذاتها بذاتها. لهذا نشأت أهمية التطوير المستمر و التجديد في الفكر و الرؤى الدينية و القطيعة المعرفية المستمرة، و هذا مما لا يرتاب فيه أحد حتى أؤلائك المتمترسون بالأصالة و شمولية الدلالة الدينية، هذه القطيعة إما أن تكون نتيجة إرادة سماوية تستنسخ الرؤى الدينية المتقادمة بأخرى أكثر صلاحية و فاعلية، أو نتيجة تطوير و تحديث بشري يتجاوز "ما كان قائما بالفعل" إلى "ما يجب أن يكون أو ما يراد له أن يكون" و هذا تبعا لدرجة نضج المجتمع و وصوله لمرحلة الرشد و الاستقلالية. كان أوغست كونت قد أقام فلسفته الوضعية ارتكازا على هذا المدعى، فالانتقال من المرحلة الأسطورية إلى المرحلة الميتافيزيقية وصولا إلى المرحلة الوضعية يتطلب إحراز نضج و رشد إنسانيين يخولان الإنسان صياغة الرؤى الفكرية الموجهة و النظم القيمية التي يريد، و تلك التي تنسجم مع تطلعاته. إن نظرة فاحصة لتاريخ الأديان تكفي لإثبات رجاحة هذه الفرضية، أعني تأثير المجتمع في تكوين الرؤى و التصورات الدينية. الدكتور المفكر الكبير شريعتي يقدم تأملات جميلة في هذا المجال، يرى أن ثمة ترابط أو تلازم بين شكل و بنية النظام الاجتماعي القائم و بين الرؤى الكونية التي تقوم عليها تلك التصورات الدينية، فحينما كانت الجماعات الأولى بصورتها الشيوعية البدائية كانت العقيدة تقوم على أقنوم و أصل واحد، تمثل في بدايته في طوطم القبيلة. هذا الطوطم الذي تطور حتى وصل لصورته المتكاملة في منظومة عقدية أكثر تعقيد، و كانت البداية تعبر عن روح الجد الواحد الذي يشترك في الانتساب إليه كل أفراد القبيلة ثم انتقلت هذه الروح للطوطم ( عبادة الأشياء ). و بمرور الزمن و تكاثر الإنسان و بسبب تغير وسائل التوليد و الإنتاج تشكل المجتمع و تكونت طبقتين في ذات القبيلة، الأمر الذي انعكس على المنظومة العقدية فظهرت الثنوية التي تؤمن بإلهين أو أقنومين للعالم، قديمين و متضادين، كالدين المانوي الذي يقسم الأشياء في العالم إلى قسمين، الخير و الشر، القبيح و الجميل، كذلك الدين الزرادشتي الذي يرى ثنوية ( آهورامزدا و أهريمن ) و كذلك بعض المذاهب في حضارات الشرق( الهند و الصين ). ثم تأتي مرحلة جديدة تكون فيها الطبقة الحاكمة ( مقابل الطبقة الزراعية العمالية ) بثلاثة أبعاد، حيث تتخذ ثلاثة وجوه في المجتمع ( السياسة ، الاقتصاد ، المذهب ) فينعكس هذا على الرؤية الكونية، و تتولد عقيدة التثليث، التي تعني ثلاثة تجليات لإله واحد، و هكذا و انطلاقا من هذا الرصد لحركات الأديان و المدارس الفكرية عبر التاريخ استطاع شريعتي أن يبلور فلسفته التاريخية التي ترتكز على العلاقة الجدلية بين الدين و المجتمع كما مر بيانه. هذه العلاقة المتبادلة التأثير هي التي تقودنا إلى تفسير المسار التاريخي التطوري للأديان السماوية بما فيها الدين الإسلامي، حيث كان الإسلام تبعا للمفكر شبستري يقوم على أساس صيغ دينية تراعي الصلاحية العملية بشكل خاص، إنه نشأ متوافقا مع طبيعة المجتمع، و لهذا السبب تحديدا لم يكن يتسم بأبعاد طقوسية، أو صيغ عقائدية معقدة، لكنه سرعان ما أخذ يتحول عقب امتداده و اكتساحه للمجتمعات الحضرية آنذاك فأثر و تأثر بها، حينها بدأت المذاهب تتبلور شيئا فشيئا، التشيع مثلا نشأ في بيئة اجتماعية حضرية تتطلب الحضور المكثف للشفاعة فهي تؤدي وظيفة اجتماعية في الأساس، بخلاف المجتمعات الأخرى "التي اعتادت في حياتها الاجتماعية أن تخاطب رئيسها مباشرة بلا واسطة، و قد صدق دركهايم حين قال أن العقائد الدينية تستمد جذورها من العادات الاجتماعية". و بالمثل نشأت المذاهب الدينية الأخرى نتيجةً للتمدد و الاتساع الذي حققه الإسلام مما يعني ظهور تفاوتات في الوظائف الاجتماعية للتدين، الأمر الذي استلزم التحصن خلف متاريس الصيغ العقائدية المتعددة و هكذا نشأ علم الكلام.. هنا لم يعد الإسلام "كما كان بالفعل" بل لابد من تجاوز ذاته إلى "ما يجب أن يكون".. أي بعبارة موازية بدأ الإسلام يجدد ذاته فكريا و عقديا، حيث ظهرت الحاجة لتجاوز الفهم الديني في نشأته لتحقيق اتساق و مصالحة جديدة بين الدين و المجتمع. كان من الطبيعي إذاً أن تظهر حركات فكرية مجددة تحمل على عاتقها هذه المهمة النبيلة، و النتيجة أن يتوالد المجددون في كل عصر، و قد فطن الدين نفسه لهذه الحاجة الضرورية: جاء في الحديث: "إن الله يبعث على رأس كل مئة عام من يصلح لهذه الأمة أمر دينها" فالإصلاح هذا ليس إجراء شكليا أو كماليا بل هو ضرورة ملحة تفرضها سنة التغير و تقرها الأديان على اختلافها. إلا أن ذلك لا يمكن أن يتحقق بسهولة و بلا معوقات، فكل الأنساق الدينية و الفكرية و المعرفية تجنح لتأزيل نفسها عبر وسائل عديدة منها ارتهان الفاعلين الاجتماعيين لصالحها من خلال رهن مصالحهم و مكانتهم ببقاء هذه الأنساق في المركز و إبعاد ما سواها إلى الهامش! فيظهر الصراع بين المجددين و المحافظين، و يبقى هذا الصراع مفتوحا إلى أن تتمكن بوصلة المجتمع من حسمه، فإما أن يستمر -المجتمع- في التقدم و المصالحة مع الذات و تجاوز الأفهام الدينية السلفية أو أن تبقى هذه الذات تعيد إنتاج نفسها في حلقة مفرغة تجتر أمجاد الماضي و تستبعد الحاضر و المستقبل معا من حساباتها و أجندتها و خياراتها، تصبح مسكونة بهاجس "ما كان بالفعل" دون أن تتجرأ في أن تخوض تحديات "ما يجب أن يكون"! إن ارتهان تلك الأنساق الفكرية الجامدة و امتلاكها لناصية "الإسلاموية المحافظة" هو ما يكشف أزمتها و عطالتها الماثلة في خشيتها المزمنة من التجديد في الفكر الديني، و حنقها الشديد من الدعوات التي تدعو إلى القطيعة المعرفية و تجاوز الأيديولوجيات التي تخلط بين المصالح السياسية غالبا و بين العقيدة الدينية، إنها لا تستطيع استيعاب فكرة أساسية تؤكد أن للتصورات و الطقوس الدينية وظائف اجتماعية معينة، فتحتل الصدارة تارة و تضمر تارة أخرى، و لئن كانت هذه الطقوس أو تلك الشعائر ليست في نطاق "ما كان قائما بالفعل" فإنها تعمد لاختلاقها و ابتداعها! هذه الحقيقة السيسولوجية مفقودة تماما و غائبة عن الحركات الدينية التقليدية، و إن كنا بصدد عوامل كثيرة تفسر هذا الرهاب المتصاعد من التجديد و التطوير فإن أبرز عامل يظهر بجلاء هو الخشية من فقدان الامتيازات التي كفلتها لهم تلك الأنساق المهيمنة!! المجتمع كما الفرد يسعى لتجاوز ذاته دائما، و التاريخ في حركة مستمرة تفرضها سيكولوجية التقدم و الامتلاء الوجودي، و أي رؤية دينية أو فكرية تحجم عن الاعتراف بهذا الواقع مآلها الانحسار و الانكماش، و حتى لو نجحت في سيطرتها و الاحتفاظ بسلطتها فإنها لن تتمكن من إحراز الفاعلية و صلاحية العمل. الواقع أن "الإسلاموية" تمارس بشكل دائم عملية "سطو" لمصادرة الدين و فرض تفسيرها العقيم على جميع شرائح المجتمع و تياراته المختلفة، إنها تحمل فكر منتهي الصلاحية، لا يمكنه تقديم أجوبة و مبادرات تصب في صالح الواقع المعاش بأبعاده المختلفة، إنها تعاني من انشطار بين الواقع و الذات، لهذا نرى لديها انحسار أكثر في النفوذ و خسارة أعظم في المواقع و التأثير الاجتماعي. و الشيء الوحيد في جعبتها الذي يحول دون ذلك هو العزف على أوتار الاستجابات الانفعالية على تحديات الواقع و استخدام حقن تخديرية و حلول يوتوبية تتسبب في تكريس الغيبوبة الحضارية التي تعاني منها –أصلا- مجتمعاتنا. إننا هنا أمام وضعية تتحالف فيها الإسلاموية المحافظة مع النظم السياسية التي هي الأخرى تجاوزها الزمن مع قوى الهيمنة العالمية التي تضلع بمهمة تكريس الأصولية من خلال فرض الحلول بالقوة و الغلبة، مما يخلق فرص مواتية تعتاش عليها الإسلاموية لتقف بالمرصاد ضد كل تجديد و تغيير. في حين أن التجديد لكي ينجح يجب أن يعتمد الإصلاح من الداخل و عدم الإرغام و القهر، و هذا ما لا تراعيه قوى الهيمنة، كما يشترط مراعاة ظروف المجتمع و مقتضياته و تطلعاته و هذا ما لا تراعيه كلا من الإسلاموية و النظم السياسية الحاكمة. هذه القوى رغم تباينها ظاهريا و اتفاقها و تحالفها ضمنيا تشترك في عملية إخصاء لنزوة الحياة و قمقمة الطاقات الحية التي تنزع للتطوير و التغيير المستمر، الأمر الذي يتمخض عن مولود مشوه هي مجتمعاتنا و ما تعانيه!
#نذير_الماجد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أحاديث في الحب
-
فتاة القطيف: قضية فتاة أم وطن!
-
الفن ليس محظورا منذ الآن «2»
-
العمامة الفاخرة و -الناصح المشفق-
-
الفن ليس محظورا منذ الآن!
-
عمامة برجوازية في باريس!
-
ثقافة النقد و نقد الثقافة
-
الممارسة الدينية بين التكليف و التجربة
-
--تأملات حول التشيع السلفي-
-
المرأة الاكثر تأثرا من الاستبداد في السعودية
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|