السياسة فن الممكن، والسياسي هو من يجيد استخدام هذا الفن لتحقيق المصالح. والأحزاب السياسية في العالم الديمقراطي لديها من الكادر ما يكفي لتشكيل حكومة ظل حين تكون في المعارضة، وتلك الحكومة تتابع عن كثب أعمال الحزب الحاكم وحكومته بغية الوقوف على حقائق الأمور واستثمارها في برنامجها الانتخابي.
وتسعى الأحزاب الأوربية للتنافس ليس (فقط) للوصول إلى السلطة وإنما لتقديم خدمات اكثر للمواطنين بغية رفع رصيدها الاجتماعي من أجل الحصول على أصوات الناخبين في المرة القادمة.
وتجد هناك تفاعل وحركة ديناميكية بين قيادة الحزب وأعضاءه على مدار السنة، وهنالك عمل متواصل لإعادة تأهيل الكادر المهني- الحزبي خاصة من جيل الشباب للمرحلة القادمة. ويرفض القائد الحزبي الاستمرار في منصبه الحكومي أو الحزبي إلى ما لا نهاية، حيث ينسحب من القيادة إلى الهامش الحزبي ليفسح المجال للدماء الجديدة باحتلال موقعه.
وتجده في آخر المطاف يجلس في أدنى موقع حزبي ويمارس نشاطه كإنسان عادي أو يعمد إلى كتابة مذكراته أو يعتزل العمل السياسي ويتفرغ لشؤون حياته الخاصة ويستمتع بما تبقى له من الحياة.
ويعتقد أنه أعطى الكثير من جهده وعمله للوطن، وآن والأوان لكي يلتفت إلى شؤونه العائلية والشخصية بعيداً عن السياسة والأعلام.. وغيرها. وقد جرت العادة عند إعلان السياسي اعتزاله المراكز القيادية في الحزب أو العمل السياسي، أن يتم تكريمه من قيادة الحزب عبر إقامة حفل كبير تشارك فيه الشخصيات السياسية والإعلامية وعدداً من الكوادر الحزبية والأصدقاء، حيث يتم استعراض مسيرة حياته وجهوده في خدمة الحزب والوطن ويساهم المدعون في هذا الاستعراض بالشهادة والإشادة بدوره.
ثم يتم تكريم السياسي المعتزل بالورود والهدايا من جميع الأصدقاء وكوارد الحزب وبشهادة موقعة من قيادة الحزب تشيد بمسيرة حياته الحزبية، وتولي الصحافة العناية اللازمة بهذا التكريم. وفيما بعد يغيب السياسي المعتزل عن الأنظار، ليعيش كمواطن عادي يمارس حياته الطبيعية وهواياته في الرياضة والصيد والسفر ..وغيرها.
السياسي في الوطن العربي:
1-السياسي في الحزب الحاكم: لا يوجد في الوطن العربي حزباً سياسياً وصل للسلطة عن طريق الانتخابات الحرة النزيهة، والطريق المفضل للوصول للسلطة هو الاتفاق مع عسكري مغمور ومحب للسلطة ليحمل الحزب على دبابة إلى سدة الحكم ومن ثم يقود هو الدولة والحزب والوطن نحو الهاوية. إما الطريق الأقصر والأضمن للوصول للسلطة هو التواطىء مع مخابرات دولة أجنبية لاحتلال الوطن والاستيلاء على مقدرات الدولة.
وهذا الطريق هو المعتمد في الوطن العربي، حيث يجري الحزب السياسي أو العائلة الحاكمة اتفاقاً مع مخابرات دولة أجنبية (والشاهد على ذلك ما صرح به علي صالح السعدي بأن حزبه (البعث) جاء إلى السلطة في العام 1963 بقطار أمريكي) وبموجب هذا الاتفاق يضمن الحاكم للدولة الأجنبية مصالحها الكاملة في الدولة والوطن ويثبت كفاءته في قمع المعارضة مقابل أن تضمن مخابرات هذه الدولة الأجنبية بقاءه في السلطة حتى النهاية.
وفي حال عدم إيفاء الحاكم بالتزاماته لمخابرات الدولة الأجنبية يتم إزاحته بأدوات القمع المحيطة به والمرتبطة أيضاً بمخابرات تلك الدولة، وهذا ما حدث مع طاغية العراق الهارب من وجه العدالة حين تلكأ الإيفاء بالتزاماته تم أزاحته بأدوات حزبه وجيشه وأدواته القمعية التي تواطأت مع الاحتلال للإطاحة بولي نعمتها وسقوط بغداد المُهين خير شاهد على ذلك التواطىء!!.
ويجد ((فهمي هويدي)) إنه بمجرد أن يقفز الحاكم إلى السلطة بطريقة أو بأخرى وتحت ستار التهديدات الخارجية التي تهدد البلاد سواء كانت تهديدات قائمة أو متوقعة يتمسك بالسلطة ولا يتنازل عنها أبداً إلا إذا أقصي بالقوة أو إذا أزهقت روحه بفعل القدر أو البشر. ويفرض نفسه على الشعب في ظل دساتير وقوانين تحقق له ذلك، وفي ظل انتخابات واستفتاءات زائفة لا معنى لها. وفي ظل الأحكام العسكرية وقوانين الطوارئ وبطاريات من القوانين الأخرى ذات السمعة السيئة.
حتى هذا القدر في الوقت الحاضر، ليس بوسعه إزاحة حاكم عربي عن موقعه إلى الأبد فذرية هذا الحاكم ستحكم إلى الأبد لأن الحاكم وذريته صنيعة المخابرات الأجنبية ولسنا قادرين على التخمين من أن الحاكم الجديد هو أبن الحاكم الأول أم الابن الشرعي لمخابرات الدولة الأجنبية!!.
فحاكم إحدى الإمارات الخليجية أزاح والده من سدة الحكم بالاتفاق مع المخابرات الأجنبية، فهل قادر أحد أن ينكر أنه أبن المخابرات الأجنبية أكثر مما أبن أبيه؟.
ولم تعد أنظمة الحكم (الملكي والجمهوري) في الوطن العربي يمكن التفريق بينها خاصة بشأن وراثة الحكم، فلا بأس أن يكون الحكم جمهورياً والرآسة بالوراثة وتغير الدستور لا يحتاج سوى جلسة للبرلمان الصوري لتغيره.
ويعتقد ((محمد حسنين هيكل)) المشكلة أن النظم المتربعة على القمة في المنطقة العربية تملك (شطارة) تصنيع نوع (الديمقراطية الرخيصة) مثل (أوراق النقد المزيفة) تقدر عليها الوسائل الجديدة في تكنولوجيا الطباعة (التصوير).
وهذه الشعوب العربية تصفق (وتهوس) للحكام العرب وتجبر بالقوة على إظهار حبها للحاكم، والحاكم لا يهمه شيء في هذا الكوكب سوى أن يوحي بأن الشعب يحبه والعالم الخارجي يحبه، وهذا الحب يمكن أن يشترى في الخارج ويفرض بالقوة في الداخل.
وهناك (فرقة حسب الله) من المثقفين العرب والمطبلين للأنظمة العربية جاهزين بمقالاتهم وكتاباتهم لقمع أي صوت أو انحراف لتيار عن حب الحاكم، والتهم جاهزة لمن يرفض الذل والخنوع!!.
ويعتقد ((محمد حسنين هيكل)) أن القيادات العربية تحتاج من العالم الخارجي إلى الاحترام أكثر مما تحتاج إلى الحب: ذلك أن (الحب) كسب قصير الأمد..وأما (الاحترام) فاستثماره بعيد المدى.
ونتساءل للأمانة: هل هناك احترام بين السيد والعبد؟ فالحكام العرب سادة على شعوبهم وعبيد عند الأجانب!! فأي كرامة واحترام يمكن أن يمتلكها حاكم عربي حين يشعر بحالة العبودية أمام من نصبوه حاكم على شعبه؟.
وهذا ما يفسر حجم العنف والتنكيل الذي يمارسه الحاكم العربي ضد شعبه، فبمقدار ما يتعرض هذا الحاكم للإهانة والإساءة من قبل أسياده الأجانب يُعرض شعبه إلى مقدار مضاعف من الإهانة والإساءة بغية إقناع نفسه بأنه سيداً وليس عبداً وتعويض مركب النقص الذي يعاني منه.
2-السياسي في الحزب المعارض: في الوطن العربي صار مفهوم الحزب والانتماء إليه يضاهي مفهوم الانتماء للعصابة، فالشعور بالاضطهاد والقهر الذي تمارسه السلطة ضد الشعب دفع قسماً من هذا الشعب (بحكم الفطرة) إلى التكتل بغية إيجاد نوع من (الحماية الوهمية) للدفاع عن الذات المُستلبة والمسَتلبة والشعور بالطمأنينة.
وبمراجعة بسيطة لكل قيادات الأحزاب العربية (السلطوية والمعارضة) تجد جُلها من جيل الأميين والجهلة والديناصورات، اللذين إذا ما جردتهم من مناصبهم الحزبية ستجدهم حثالات لا قيمة اجتماعية أو ثقافية أو سياسية لهم في المجتمع!!.
لذا تجدهم عند احتلالهم موقعاً حزبياً في قيادة الحزب يمارسون أخس الأساليب والطرق الدنيئة للبقاء في ذات الموقع الحزبي مدى الحياة، ولا ضير من انشقاق حزبي أو احتجاج يمارسه جيل من الشباب أو خلاف فكري، المهم بقاءه في المركز الحزبي شأنه شأن الحاكم العربي، فالانتخابات الحزبية تزور وتمارس كل الأساليب غير المشروعة للإطاحة بالمناوئين!!.
والمثال الحي-الميت، خالد بكداش الذي تربع على قيادة الحزب الشيوعي السوري حتى وفاته رغم الانقسامات العديدة التي طالت الحزب بسببه وانسحاب الكثير من اعضاء الحزب بسبب سيادة القيادة الديناصورية على قيادة الحزب على مدى يزيد على ستة عقود.
الأهم من هذا كله، هو أن الرفاق (السوفيت) مع قيادة الرفيق خالد بكداش إلى الأبد وليذهب أعضاء وجماهير الحزب والمعارضين إلى الجحيم. ورحلت القيادة السوفيتية إلى مثواها الأخير ورحل بكداش هو الأخر بغير رجعة، لكن ظله لا يزال يهيمن على قيادة الحزب، فهناك (الورثة الشرعيين) لقيادة الحزب (زوجته وأبنه وأقاربه) ومازال الحزب الشيوعي السوري يتشظى بسبب تلك العائلة البائسة!!.
ومازال (البعض) يؤمن بالتغير من داخل الحزب، و (البعض) الأخر يؤمن بالنظرية وبصحة أراء الرفاق (السوفيت) اللذين لم يعد لهم وجوداً!!.
وقس على ذلك في الحزب الشقيق الأخر (الحزب الشيوعي العراقي) الذي تربع على قيادته وعلى مدى أكثر من ثلاثة عقود (شلة) من الديناصورات والأميين والجهلة استأنست بآراء (الرفاق السوفيت) وكانت الكارثة تلي الكارثة ودماء الرفاق تسيل وقوائم الشهداء تكبر..وتكبر!!.
وتطالب القيادة بمزيد من دماء الرفاق لإكمال أنشودة (حزب الشهداء) والرفاق هم مشروع للقتل والتضحية، فهناك على الطرف الأخر من المذبح يقف (حلفاء الجبهة الوطنية من البعثيين) بانتظار قافلة يقودها (ديناصور) لخيرة شباب العراق إلى المقصلة لإثبات الولاء والالتزام بتعليمات الرفاق (السوفيت) بضرورة مساندة وعدم التفريط بمكتسبات الجبهة الوطنية التي في النهاية هي مصالح السوفيت الاقتصادية مع قيادة البعث!!.
لم تزاح تلك القيادة الحزبية (بالانتخابات) كما يشاع، وإنما أزيحت بالفضائح الشخصية وبسجلها الذي باتت رائحته تزكم الأنوف لحد الآن، فوجود البعض منهم في القيادة الجديدة تذكرت بذات الرائحة الكريهة!!. وليس غريباً، أن لا يشعر السياسي ( الجاهل والأمي) بأن دوره وعمره الافتراضي في العمل السياسي محدود، ويجب أن يفسح المجال لغيره من جيل الشباب كي يمارس حقه في القيادة متسلحاً بالعلوم والأفكار الجديدة لتطوير الحزب.
ويجد ((أبان جيلمور)) ليس هناك (سياسي إلى الأبد) السياسي الحقيقي رجل يعرف متى يجيء (أوانه) ومتى تنتهي صلاحيته، وعليه أن يبتعد قبل أن تزيحه الضرورات. وذلك أذكى قرار يستطيع أي سياسي أن يتخذه. أي سياسي، أي منشغل بقبول الناس، عليه أن يعرف متى يغادر خشبة المسرح، وإلا فإنه سوف يغامر بموقف كوميدي يصعد فيه أحد الجمهور إليه على المسرح، ويحمله من يديه وقدميه ويلقيه بعيداً في الخارج. أكبر إهانة لرجل أو امرأة في ساحة الأداء العام (سياسة أو ثقافة أو فناً) أن ينتظر حتى يلقى به في العراء.
لذا اعتقد أن السياسي في الوطن العربي خاصة من جيل الديناصورات يتوجب إزاحته من القيادة الحزبية (بالحذاء) وليس بأي أسلوب آخر. لأنه عبر الزمن تم تجريب كل الوسائل ولم نصل إلى نتيجة مع جيل الديناصورات المسؤول عن كل الكوارث التي حلت بالمجتمع والمنطقة على مدى الخمسين سنة الماضية!!.
الشيء الآخر المثير للشفقة والضحك، إن (البعض) من جيل الديناصورات الذي تم إزاحته من القيادة الحزبية بأسلوب المؤامرة من قبل زملاءه من الديناصورات عاد (اليوم) بثياب جديدة (ديمقراطية للقشر) وأخذ ينُظر بأسلوب جديد ويحاول إقناع ضحاياه بأنه ضحية القيادة الديناصورية شأنه شأن الرفاق الرافضين للسياسة الرعناء للقيادة الجهلة والأميين!!.
ويعتقد ((أبان جيلمور )) يحب بعض الساسة أن يصوروا أنفسهم ضحايا، ليس هناك سياسي قابل للاقتناع بأن زمانه انتهى. وأن عمره الافتراضي انقضى، وأنه لم يعد قادراً على الاستيعاب والاستجابة.
واعتقد أن هذا النوع من جيل الديناصورات هو الأخطر ، لأنه ساهم بالأذى والإساءة وجاء في آخر حياته ليبرر مواقفه ويتبنى إطروحات لا تتناسب ومقاسه الشخصي والسياسي السابق واللاحق!!.
فتقلب الأحوال المناخية- السياسية في عالم المنطقة شجع العديد من (الخونة والجبناء) على الظهور واعتبار الماضي قد انتهى والمراهنة على أن الذاكرة المتعبة (للإنسان) نتيجة ثقل الأحداث والهزات السياسية في المنطقة غير قادرة على استرجاع تاريخهم المشين.
والفرصة أصبحت مؤاتية لهم للعودة بثياب (الديمقراطية) التي باتت (كالزي الموحد لطلاب الجامعة) الذي يعتبر بطاقة دخول لعالم السياسية دون إبراز الهوية السياسية-التاريخية للشخص!!.
وكما لا توجد كرامة وشعور بالاحترام للنفس لدى الحكام العرب، كذلك الأمر لهؤلاء من السياسيين والديناصورات الساعين بكل تاريخهم السياسي (الوسخ) للخوض ثانية في عالم السياسة!!.
ابتعدوا أيها الخونة والجبناء من جيل الديناصورات، فكل مياه البحار والمحيطات لا يمكنها أن تغسل عاركم وإساءاتكم على مدى الخمسين سنة الماضية!!.
ستوكهولم بتاريخ 20/11/2003.