أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعد محمد رحيم - تباشير فكر النهضة في العراق: 8 نحو الراديكالية















المزيد.....

تباشير فكر النهضة في العراق: 8 نحو الراديكالية


سعد محمد رحيم

الحوار المتمدن-العدد: 2133 - 2007 / 12 / 18 - 11:51
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


هل مثلت الإيديولوجيات الراديكالية القومية منها والماركسية امتداداً طبيعياً لفكر النهضة العربية؟، وهل ينتمي كلاهما إلى نظام الفكر ذاته؟، أم أن ما حدث هو محض تراجع وتشويه وبتر ( وليس قطيعة بالمعنى الذي قال به باشلار ) بين هذه الإيديولوجية وذلك الفكر؟. وإذا كنا نستطيع أن نشير إلى زحزحة بطريقة ما، نعترف إنها نسبية ومحدودة، حصلت مع بزوغ فكر النهضة العربية من حيث إدخال مفاهيم جديدة في الفكر العربي وارتياد مناطق جديدة للتفكير، وطرح أسئلة جديدة، ومحاولة صياغة رؤية أخرى للذات والعالم ( وهنا، لم يقطع فكر النهضة إلاّ جزئياً مع منظومة الفكر الإسلامي ــ القروسطي ــ باستثناء محاولات مجهضة قام بها علي عبد الرازق وطه حسين، وآخرين بعدهما، كان من الممكن أن تنتهي بزحزحة في الفكر أوسع وأعمق ). أقول؛ إذا كنا نستطيع تلمس مثل هذه الزحزحة فلِمَ لم تفلح الإيديولوجيات الراديكالية في إجراء زحزحة حقيقية تُكمل نواقص فكر النهضة وتحقق خطوة مضافة على طريق تحرير العقل من قيوده وإكراهاته، وتلج معه في مناطق كانت محرمة، ضاجة بما هو ( منسي ومتنكر ولا مفكر فيه، بحسب تحديدات محمد أركون ).
إذا كان الفكر النهضوي العربي هو وليد الانفتاح على الغرب وانتشار مبادئ عصر التنوير الأوربي والثورة الفرنسية خارج النطاق الغربي ( مع عوامل داخلية وموضوعية أخرى ليس هنا مجال للخوض في تفاصيلها ) فإن الفكر القومي العربي ( الراديكالي ) هو وليد تداعيات الأحداث والمتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتطورات الفكر في القرن العشرين. ولم يكن للفكر القومي العربي أن ينطوي على الصيغة التي انتهى إليها لولا التماس مع فكر الغرب، واستيراد واستثمار ومن ثم السعي لتبيئة المفاهيم الفكرية الغربية التي راجت منذ عصر التنوير وحتى الآن، ومنها فكرة القومية ذاتها، إلى جانب مفاهيم ( الاشتراكية، الحرية، الدولة/ الأمة، العلمانية، المجتمع المدني، الحزب السياسي، الخ.. ). وقد كان تأثير الماركسية واليسار الغربي ومبادئ حركات التحرر في العالم الثالث والإيديولوجيات الفاشية الأوربية واضحاً، ومتداخلاً في خليط غريب من نوعه، سيكرس تناقضات ذلك الفكر وتخبطه في الممارسة. فضلاً عن هذا، وفي الوقت الذي كان فيه الماركسيون العرب يكيّفون تصورهم عن الواقع بما يتوافق ومقولات الإيديولوجيا الماركسية كما طُرحت بنسختها السوفيتية فإن التصور القومي العربي بني على وفق افتراضات اعتقد القوميون أنها قوى كامنة في الواقع والتاريخ. ولكن ما جرى هو استبدال صورة الواقع وحقيقته كما هي بصورة موهومة مفترضة. وكان هناك بعد رومانسي حالم في الفكر القومي العربي أفضى إلى التعمية عن رؤية الواقع الموّار بتناقضاته وصراعاته وممكناته وثغراته وتحولاته. وظل جزء كبير من أدبيات الأحزاب القومية غارقاً في العموميات، وفي الإنشاء الفضفاض، بعيداً عن التفاصيل والرؤية التحليلية المنهجية لها، كما لو أن كتّاب تلك الأدبيات كانوا يتهربون من مواجهة الواقع، إما لأنهم لا يفهمونه، أو يفتقرون إلى الأدوات المنهجية العلمية لفهمه، أو أن ما كانوا يرونه كان يتعاكس مع مسبقاتهم المبدئية ( الإيديولوجية )، أو لا يمتلكون الجرأة الكافية على مواجهته وتحمل مسؤوليته. ولم يكن الخلل دائماً في موهبة وقدرة المفكر القومي المنتمي للحزب القومي، بل في الحزب ذاته، في طبيعة العلاقة بين ذلك المفكر وحزبه، ما يريده الحزب من المنتمي، وما يفرض من قيود على تفكيره وسلوكه.
وعلى خلاف الأحزاب الشيوعية في العالم التي تأسست فوق ركام هائل من التراث النظري الاشتراكي فإن الأحزاب القومية ( العربية ) لم تعرف مثل هذا التراث وقد تأسست على هدي بضع مقولات وأفكار عامة مأخوذة إما من التراث الفكري الغربي، أو من تراث النهضة العربية في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، فيما راحت تجهد لتطوير فكرها فيما بعد على وفق منهج ( التجربة والخطأ ) وبالتعاطي مع الإيديولوجيات الشائعة.. كانت ثمة أحلام كبيرة من غير أن يوازيها منهج فكري واضح، أو دراسات معمقة على صعد الفكر والواقع والتاريخ. فلم تنطو الإيديولوجية القومية على نظرية في الاقتصاد تستمد مكوناتها وعناصرها ومنهجها من صلب الإيديولوجية نفسها في الوقت الذي تدرس وتحلل وتحدد اتجاهات الواقع الاقتصادي العربي من منظور المفاهيم العلمية للفكر الاقتصادي كما تأسست وتطورت على يد المنظرين الاقتصاديين ( الماركسيين منهم والرأسماليين ). وكذلك الأمر في نواحي الدراسات الاجتماعية.. وقد أبرزت النظرية القومية جوهر اختلافاتها عن الماركسية في نقاط مختزلة، مبسطة تخص المسألة القومية والمسألة الدينية والروحية ودور الاقتصاد والعوامل الفكرية والروحية في تطور المجتمعات ومسائل التطبيق الاشتراكي.
كانت الصورة المثالية المجردة عن الأمة بماضيها تمنع من رؤية التناقضات والاختلالات الاجتماعية الحقيقية، ناهيك عن الإكراهات الثقافية الموروثة التي تكبح تفتح الوعي في فضاء من الحرية والإبداع، ولذا كان الفشل في صياغة نظرية في الاقتصاد والطبقات الاجتماعية وصراعاتها والتحليل الطبقي والدولة والنظام السياسي، وفهم سياق الصراع والتطور السياسي والاقتصادي في العالم، وموقع الأمة منه.
راح الفكر القومي الذي نشأ، أول الأمر في العراق برداء ليبرالي علماني، كما في بلدان عربية أخرى، يتخذ شيئاً فشيئاً منحى راديكالياً، متصاعداً ليبلغ الذروة في عقد الخمسينيات، مع ثورة 1952 في مصر، وما رافقتها من تحولات وصراعات، واستحواذ جمال عبد الناصر بشخصيته الكاريزمية على الأذهان. وحدث كسر في مسار نمو فكر النهضة. وإذا كان بعض الباحثين يرجعون هذا الكسر لعلّة في نسيج فكر النهضة ذاته، أو إلى التأثر بالمناخ الراديكالي الذي ساد العالم بعد الثورة الروسية/ أكتوبر 1917 وظهور حركات الاستقلال في العالم الثالث للتخلص من الاستعمار وعقابيله، فإن آخرين يتحدثون عن حصول مؤامرة.. وقد كان المجتمع مهيئاً نفسياً واجتماعياً لأسباب تاريخية وأخرى دولية معاصرة لتقبل الفكر الراديكالي المرتكز على مقولات الكفاح المسلح والعنف الثوري، وليس الفكر الليبرالي القائل بالطريق السلمي لتسلم السلطة بوساطة النظام البرلماني بتقاليده وآلياته. فعملت الانقلابات العسكرية المتتالية على إضعاف كيان الدولة، وبالتالي على الفتك بالتوجه النهضوي الذي لا يتبلور إلا من خلال تنمية شاملة ومستدامة، وهذا ما لم يحصل.
لم تكن هناك طبقة وسطى مكوّنة على أرضية اقتصادية اجتماعية صلبة وبمشروع وطني سياسي واضح وواقعي. والطابع الريفي للمجتمع العراقي يجعل من التكيف مع الأفكار الراديكالية ممكنة أكثر بكثير من تكيفه مع الأفكار الليبرالية، أو الخاصة ببناء مؤسسات المجتمع المدني. ولا ننسى أيضاً وهن وهشاشة المؤسسات الليبرالية التي وجدت في العراق بعد تأسيس الدولة وفي ظلها، والفساد المستشري في بنيتها، ومحدودية نجاحها في أداء وظيفتها. وعموماً لم تستلهم الدولة العراقية الجديدة التي تأسست في 1921 أفكار عصر النهضة العربية بقدر ما استلهمت أفكار وافدة من الغرب عبر الموشور التركي.. فيما كان المجتمع المنفصل عن سلطة الدولة عرضة لتيارات من الأفكار الراديكالية الماركسية والقومية التي راحت تنشط في تلك الآونة.
يقول الأستاذ حسن العلوي: "وكانت مدرسة السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ عبد الرحمن الكواكبي والإمام محمد عبده وإمداداتها في العراق قادرة أن ترفد هذه الدولة الجديدة بفكر مزيج من الأصالة والرغبة في التنوير والتحديث" ( دولة الاستعارة القومية/ ص43 ). والسؤال: هل كان هذا ممكناً حقاً في سياق الشروط الموضوعية المحايثة لتأسيس هذه الدولة؟ وكيف؟ أي على وفق أية آليات؟ وما هي الشرائح والطبقات والنخب والمؤسسات التي كان بمقدورها تمثل وحمل وإشاعة تلك الأفكار؟ وما هي المعوقات التي حالت دون ذلك؟. وأيضاً لماذا صمدت الأفكار الماركسية طويلاً، في سبيل المثال، ووجدت لها قبولاً عند شرائح واسعة من المجتمع، على الرغم مما تعرض له الماركسيون من تنكيل وقمع، فيما لم تينع وتنمو وتنتشر أفكار النهضة بردائها الليبرالي الإصلاحي وبصيغتها النظرية التي وجدت في مصر بخاصة؟. وحتى الأحزاب الإسلامية، بمختلف توجهاتها الطائفية، التي ستنتعش فيما بعد في العراق، ستستنسخ الشكل الراديكالي.
لم يكن من الممكن قيام الدولة العراقية، في حينها، من غير اندلاع الثورة العربية في الحجاز التي امتدت تأثيراتها إلى المناطق العربية المحيطة، ومن غير أن نتجاهل الدور الاستعماري لبريطانيا وصراعات المصالح الإمبراطورية في المنطقة. وهنا نتساءل؛ هل تغلغل فكر النهضة العربية بعمق في وعي نخب عراقية ذات نفوذ وتأثير إلى الحد الذي يمكن أن تتعامل معها إبداعياً وتكيفها وترفد بها الدولة الجديدة؟ إذن لماذا لا نقع على ثمار جهود نظرية في أفق فكر النهضة كان يُفترض أن ترى النور في تلك الحقبة الخطيرة من تاريخنا؟
يتحدث الأستاذ العلوي هنا عن مؤامرة غربية استهدفت استثمار فكر النهضة عراقياً، يقول: "وإذا جاز لنا أن نستعين بالتفسير التآمري للتاريخ فإن التآمر الغربي على الفكر العربي الإسلامي قد بدأ مع عملية إقصاء مدرسة الشيخ الكواكبي والإمام محمد عبده لصالح مترجمات ألمانية وفرنسية وإيطالية وإنكليزية قدمها ساطع الحصري ومدرسته ثم ميشيل عفلق ومدرسته" ( دولة الاستعارة القومية/ ص43 ). هل حدث هذا في العراق وحده، أم أن فكر النهضة لم يجد له مرتعاً ملائماً ليكون في صلب فلسفة دولة الاستقلال في أي بلد عربي؟ وكيف استطاعت الإيديولوجيات القومية والشيوعية الراديكالية أن تنتشر في نطاق اجتماعي واسع فيما أخفق فكر النهضة، بمنطقه العقلاني والإصلاحي التنموي، وبأفقه الإنساني المنفتح، في العثور على أرضية اجتماعية حاضنة والوقوع على إطار مؤسساتي فعال. ألا يحق لنا هنا أن نتحدث عن قصور في فكر النهضة العربية ومنهجه وأفقه؟.
ولكن ألا تعد الأيديولوجيات الراديكالية نفسها جزءاً من ثمار فكر النهضة؟. ألم تساهم الأحزاب الراديكالية القومية منها والماركسية في إيقاظ المجتمع من سباته الطويل، وتأصيل وعي جديد بين مكوناته وشرائحه المختلفة؟.
عندما نراجع مسار تاريخ هذه الأحزاب، على الرغم من تأشير نقاط إيجابية في صالحها، أو صالح بعضها، نجد أنها بترويجها للرومانسية الثوروية من جهة، وبنائها تنظيمياً على آلية المركزية الديمقراطية التي تحولت بالتطبيق إلى مركزية غير ديمقراطية، وإهمالها لفكرة الحرية الفردية لصالح مفهوم الجماهير قد أضرت بأسس فكر النهضة ( وهي أسس أية نهضة حقيقية ) وهي: العقل والحرية وتفتح ممكنات الذات الإنسانية.
انتعشت فيما بعد الأفكار الراديكالية بصيغها الماركسية والقومية في العراق، نتيجة عوامل إقليمية ودولية أكثر مما هي محلية، ومنها: الحربان العالميتان الأولى والثانية وانهيار الدولة العثمانية والولوج في عهد الاستعمار وقيام الثورة الروسية الشيوعية 1917 وشيوع الأفكار الاشتراكية واليسارية في الغرب والشرق إلى جانب صعود الفاشيات في أوروبا، وظهور حركات التحرر في الدول الواقعة تحت نير الاستعمار. فضلاً عن بروز القضية الفلسطينية بعد قيام دولة إسرائيل بدعم وغطاء غربيين.
نشط التيار القومي منذ بدايات تأسيس الدولة العراقية، لأن رجالاتها الأوائل كانوا من القوميين الليبراليين المتأثرين بالتحولات السياسية والثقافية الجارية في تركيا. ولكن يجب التركيز على تأثير الداعية القومي ساطع الحصري، وهو من أصول سورية كان من ضمن طاقم الملك فيصل الأول الذي كلفه بإدارة قطاع التربية والتعليم فطبعه بطابع فكره منذ ذلك الحين. والحصري كان متأثراً بالأفكار القومية الألمانية والفرنسية، وبدعاة القومية التركية ذات التوجه العلماني كما عُرفت في طروحات جمعية تركيا الفتاة، إلا أن المنحى الراديكالي للحركة القومية في العراق قد تأكد مع دخول حزب البعث كحركة سرية إلى العراق في بداية الخمسينيات ( أول قيادة قطرية تشكلت في العام 1953 وأمين سرها فؤاد الركابي ) وقد روج البعث لفكر ميشيل عفلق المتأثر هو الآخر بالأفكار القومية في أوربا إلى جانب استعارة بعض المفاهيم الماركسية. ومع البعث عرف العراق أكثر تجاربه السياسية دراماتيكية وإخفاقاً.
الفكر الماركسي:
أما الفكر الماركسي فقد دخل العراق هو الآخر في وقت مبكر مع حسين الرحال ( المولود في العام 1900 )الذي قرأ التراث الفكري لكارل ماركس والفكر الاشتراكي باللغة الألمانية/ الأم يوم كان بصحبة والده العسكري الذي ذهب إلى ألمانيا في بعثة عسكرية، وهناك أنهى الدراسة الثانوية وعايش ثورة عصبة سبارتكوس الشيوعية في العام 1919 وحين عاد إلى بغداد أسس أول حلقة ماركسية مع أصدقائه ومنهم رائد الرواية العراقية محمود أحمد السيد وعوني بكر صدقي وعبد الحميد رفعت وإبراهيم عبد الجبار القزاز وغيرهم، حيث أصدروا أول جريدة هي ( الصحيفة ) في نهايات العام 1924 تروّج لأفكار الاشتراكية والتقدم والتحرر الاجتماعي.
تعددت الحلقات الماركسية والشيوعية فيما بعد، وبقيت متشرذمة ، وكانت بحاجة إلى ذكاء وجهود شخصية كاريزمية من نمط يوسف سلمان يوسف ( فهد ) لتتحد تلك الحلقات، فانعقد اجتماع تأسيسي في بغداد بتاريخ 31/ 3/ 1934 بحضور أعضاء قياديين من مختلف مناطق العراق وتقرر تأسيس كيان سياسي مركزي باسم ( لجنة مكافحة الاستعمار والاستثمار ) حيث كانت كلمة ( الاستثمار ) تعني ( الاستغلال ) في الأدبيات السياسية في ذلك الوقت. وفيما بعد بُدِّلت تسمية اللجنة المذكورة أعلاه إلى ( الحزب الشيوعي العراقي ). واستلهم هذا الحزب أفكار ماركس وأنجلس ولينين وبنى تنظيمه على وفق النموذج اللينيني الستاليني كما هو حال معظم الأحزاب ذات الطابع الراديكالي في العالم الثالث. وخاض نضالاً مريراً، شهد خلاله مراحل انتصارات وانتكاسات متعاقبة ولم تتسلم السلطة السياسية قط. غير أن تأثيره الكبير كان في الحقل الثقافي حيث أثّر في وعي وتفكير ونتاج القسم الأعظم من شريحة الأنتلجنسيا العراقية.
تراجع الفكر القومي العربي والفكر الماركسي بدءاً من نهاية السبعينيات في مقابل صعود الراديكالية الأسلاموية. وكان حرياً بأصحاب الفكر القومي والماركسي إعادة تقويم تاريخهم، ومراجعة مفاهيمهم وتصوراتهم وسياساتهم بروح نقدية علمية جريئة وصارمة.
وإذ بات الماركسيون، أو بعضهم، يعيدون النظر في المقولات والشعارات والأطروحات الماركسية التقليدية بعد انهيار المعسكر الاشتراكي في العقد الأخير من القرن العشرين محاولين إغناء مفاهيم الفكر الماركسي وإعادة صلته بالواقع والحياة، والتخلص من العوالق الطوباوية، وتذليل أخطاء التجربة السياسية السابقة، فإن الأمر لم يجر بالطريقة ذاتها، حتى الآن على الأقل، مع أصحاب الإيديولوجية القومية الذين ظلوا مصرّين على الدفاع الانفعالي المستميت عن طروحاتهم على الرغم من تنكيل الواقع والتاريخ بها. أما الفكر الليبرالي في العراق فلم يجد مرتعاً خصباً خلال عقود القرن العشرين، وبقيت القوى والأحزاب الليبرالية ضعيفة، وبلا سند اجتماعي قوي، أي أن الطبقة الوسطى العراقية لبثت دون مستوى النضوج الذي يؤهلها لتبني وقيادة مسيرة الديمقراطية في العراق وإنتاج فكر ليبرالي فاعل ومتكيف سياسياً وثقافياً. وباسم التصدي للأطماع الخارجية استطاعت الديكتاتوريات الاستمرار وتأجيل الممارسة الديمقراطية إلى إشعار آخر وزمن غير معلوم.
أدخلت الأحزاب الراديكالية مصطلحات جديدة في لغة السياسة وقاموسها المتداول منذ نشوئها، منها؛ الاشتراكية والصراع الطبقي والاستقلال والقومية والكفاح المسلح والتنظيم الطليعي والتقدمية والرجعية واليمين واليسار، وعشرات أخرى من المصطلحات التي لونت الخطاب السياسي العراقي خلال معظم عقود القرن العشرين وأعطته مضمونه وتوجهاته. .
ولكن، وعموماً منذ الثمانينيات من القرن المنصرم بدا الخطاب السياسي العربي وكأنه يتنكر لمرتكزاته الإيديولوجية التي أرساها منذ مطلع القرن العشرين، أو منذ بزوغ تباشير فكر النهضة العربية، تلك المرتكزات المأخوذة من الأدب السياسي الغربي بشكليه ( الليبرالي/ العلماني، والماركسي ) ومن الأدب السياسي النضالي لحركات التحرر في العالم الثالث، فكشف هذا الخطاب عن انتهازيته ونفاقه وهو يتبنى منذ ذلك الوقت لغةً ومقولات تحاكي لغة التراث والدين ليساير المد الأصولي، أو يزاود على الحركات المعروفة بالإسلام السياسي، والذي راح ينشط منذ سماح الرئيس أنور السادات للأخوان المسلمين بالعمل السياسي لمواجهة قوى اليسار الناشطة في مصر منتصف السبعينيات، وبعد نجاح ثورة الخميني الإسلامية في إيران، وغزو الاتحاد السوفيتي لأفغانستان وما استتبعه من دعم غربي وعربي للحركة الجهادية في ذلك الصقع الساخن. حيث لا يمكن أن نفهم الصراعات السياسية والاجتماعية والمذهبية المحتدمة والمتأججة الآن إلا من خلال وضعها في سياقها الذي تجسد تلك المتغيرات أهم عوامله المشكلة.
خاتمة:
أعترف أن هذه الدراسة ( بحلقاتها الثمانية ) كانت محكومة بمساحتها المحدودة. ويمكن قول الكثير بصدد المسائل التي طرحت فيها أو أغفلت. ومن هذه المسائل دور وتجربة المنتمين للثقافات العراقية الفرعية غير العربية ( الكردية والتركمانية والسريانية ) في تعزيز الثقافة النهضوية الوطنية. كما لم يجر رصد واسع لنشوء الحركات الدينية الراديكالية حتى تسيدها على الساحة السياسية العراقية بعد 9/4/2003. ومن جهة أخرى لم يتم التطرق إلى حقول ثقافية شهدت تطوراً في سياق النهضة وفكرها كالسينما والمسرح والإعلام المرئي والمسموع. فيما كانت الإشارات لدور الفنون الإبداعية الأخرى في حركة النهضة مختزلة. وأرجو أن تتاح لي الفرصة مستقبلاً لتلافي هذه الثغرات.



#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تباشير فكر النهضة في العراق: 7 بطاطو، والطبقة الوسطى العراقي ...
- تباشير فكر النهضة في العراق: 6 فكر النهضة؛ السرد والصحافة وع ...
- تباشير فكر النهضة في العراق: 5 الشعراء والنهضة ( الرصاقي وال ...
- تباشير فكر النهضة في العراق: 4 الشعراء والنهضة ( الزهاوي مثا ...
- تباشير فكر النهضة في العراق: 3 السياق المصري (من محمد عبده إ ...
- تباشير فكر النهضة في العراق 2 السياق المصري: الطهطاوي والأفغ ...
- تباشير فكر النهضة في العراق: 1 السياق التركي
- دلال الوردة: كسر المألوف وصناعة الصور
- فقراء الأرض
- أخلاقية الاعتراض
- شيطنات الطفلة الخبيثة: رواية الحب والخيانة والغفران
- ما حاجتنا لمستبد آخر؟
- قصة قصيرة: بنت في مساء المحطة
- سعة العالم
- -قل لي كم مضى على رحيل القطار- فضح لخطايا التمييز العنصري
- في التعبير عن الحب
- -البيت الصامت- رواية أجيال وآمال ضائعة
- -صورة عتيقة-: رواية شخصيات استثنائية
- حكم الضمير
- مأزق المثقفين: رؤية في الحالة العراقية


المزيد.....




- هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها ...
- -بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب ...
- حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو ...
- بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
- الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
- مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو ...
- مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق ...
- أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية ...
- حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
- تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعد محمد رحيم - تباشير فكر النهضة في العراق: 8 نحو الراديكالية