وحين يَرى سميح القاسم، أن ساسة بغداد، أودعوا لجامَ سرجها بيد الأجانب، يرفع وتيرة الهجوم عليهم، بشكل سافر، يقول:
40 – لكِ الأجانبُ أسيادًا، متى رغبوا
وكم يجانَبُ من أهل ِ وأولادِ
ولو لا هذه "المجانبة" المتعمدة، بشكل متواصل للأشراف والأجواد، لما وَصل الأمر الى هذا الحَدّ، وثمة دَلالة مضمّرة، يحملها البيت – 40 – بأن – الحكام – يأتمرون بأمرِ الأجنبي، إذ أنَّ تأويل كلمتي "متى رغبوا" تعني ذلك، وأن حكام البلاد مطيّة للأجانب، وهنا سميح القاسم، يتماهى ونص الشاعر عُمرو أبو ريشة حين يقول:
"لا يُلام الذئبُ في عِدوانه
إن يَكُ الراعي عَدوَّ الغَنَم"
والقاسم، يسحب ظلال هذه الإدانة لحاكم بغداد الى بقية "الصف العروبي" حُكّامـًا وأحزابـًا، وجمهور أيضـًا، حين يُقاد بعصا الحاكم فيقول:
41 – تفرَّقوا شيعـًا، وانفرقعوا زُمرًا
وأسرفوا عبثـًا، في شِحّ إرفادِ
42 – ولا تجمعهم في الويل جامعة
نادي عليهم إذن، يا أُختهم نادي!
في هذين البيتين "41–42" يضع الشاعر النقاط على الحروف، بالنسبة الى الواقع العربي المأزوم، والمتفرّق "شيعـًا" ومذاهبَ شتّى، تتحكم، بهذا الواقع، التفرقة الطائفية، والحزازات المذهبية، وليسَ هُناك أفقـًا منظورًا للوحدة، عربية كانت أو إسلامية، سوى "الشعارات"، وحين تشتد الأزمة، فلا فعلَ هناك سوى "الكلام" لذلك يستهزء الشاعر بهم حين يطلب من "أّختهم" أن تناديهم للأكل، لا للحرب، وهو هنا يستعير تعبيرات الجاحظ في "البيان والتبيّن" حين يستشهد على الأسلاف بمثل ِ هذه الأمور، إذ يقول:
"وما أُمّكُم تحت الخوافق ِ والقنا،
بثكلى، ولا زهراء من نسوةٍ زُهر ٍ
أَلَسْتُم أقَّلَّ الناس عِندَ لوائهم
وأكثرهم عند الذبيحة والقِدر!
على اعتبار "أن الويل لا يجمعهم" وهو حقّـًا مصيب بهذه النعوت، وتلك التوصيفات، ولغرض تميّز الأمور بشكل أوضح، فإنه يبدأ بمحاكمة الحُكّام، من خلال غرار الفرد، المتمثل بشخصية "البلطجي" صدام حسين حاكم بغداد المهزوم – والطاغية المأزوم، حين يقول عنه سميح القاسم:
43 – وصاحب الجاه في مستنقع ٍ نَتِن ٍ
يتيهُ بالجاه، فيما يسخُر النادي
44 – عليه من حُلّل الأشباه ضافية ٌ
ودأبه الرقص مشدودًا بأوتادِ
45 – وحين يخطبُ فالأقوال في وادٍ
وحين يفعلُ، فالأفعال في وادِ
هذه "الصورة الكاريكتيرية" يرسمها سميح القاسم للحاكم العربي، من خلال شخصية صدام حسين، إذ أن حاكم بغداد في أوسخ بطانة في الحكم رافقته، ويترنم بخُطبٍ جوفاء، ليسَ لها في الواقع العراقي أو العربي أيَّ صدىً، بل هو – وفق تعبيرات الشاعر، يرقُص في مكانه، أيّ لا يحركُ ساكنـًا، والجموع تسخر منه، فهو يخطب/ اثناء حرب الخليج الأولى – بأن تحرير القدس يبدأ من البوابة الشرقية؟! فيما فلسطين تُنتهك الأعراضُ فيها، مُنذ عام 1947 م وحتى هذه الساعة، وأفعال هذا الحاكم الأهوج لا يمكن أن يقبلها عقل، إذ أنّه يفتعل العداواة مع الجيران والاشقاء ويترك العَدو الرئيسي، أمريكا والصهيونية العالمية، الى أن ألَّبَ الناس جميعـًا ضدّه وضدّ بلدهِ العراق، واستبيحت بغداد بسببه.
يرتعد كيان سميح القاسم، من هذه الأفعال الشنيعة لحاكم بغداد، ويحمّلُهُ كامل المسؤولية عن هذا السقوط المريع، انظر كيف يصفهُ في الأبيات التالية:
46 – حصانُ طروادةٍ صالونَ منزلهِ
وكعبُ آخيلَ في جيش ٍ وقُوّادِ
47 – وصاحب الجاه رَخْوٌ حين تصفَعَهُ
كَفَّ الغريب، وفينا كابنَ شَدّاد
48 – وأيُّ جاهٍ نجا من جاه عصفتهِ
وحَولَهُ حشدُ أزلام ٍ وأكدادِ
توصيفات سميح القاسم، لبيت الطاغية بأنه "حصان طروادة" هو عملية إعادة قراءة لتاريخ الحروب – إن جاز القول – التي فعلها – صدام حسين – دون طائل، إذ أن "نخر السرطان" بجهاز الدولة الفاسد نفسه، ومسألة توظيف الاساطير اليونانية – كحرب طروادة وحصانها الخشبي وكذلك – كعب آخيل (38) هو لتدليل على /زيف خطاب وفعل حاكم بغداد، إذ أن "القلعة" منخورة من الداخل، لأن أشراف العراق ليسوا فيها، بل فيها "السَفلة" المنتقين بعناية، إذ أن هدفهم/ تمجيد الحاكم/ لا رفع شأن البلاد، وهذا "التمجيد، مدفوع الأجر، ساقطـًا عنه "أتاوة الوطنية" فالحاكم هو العراق بمفردهِ، وعليه كان توصيف /سميح القاسم/ للشُلّة الحاكمة بأنهم (أكَدّاد) أي – براذين والبراذين هي البغال، أي أنهم لا يعون من فعل العقل شيء.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحَدّ، بل يرفع سميح القاسم، وتيرة الهجوم والإدانة لجلاد بغداد، نازعـًا عنه أيَّ صفة انسانية، حيث يقول:
49 – جَزَّ الرقابَ، فلم يُشبع هوايتَهُ
جَزُّ النواصي وتعليقٌ بأعوادِ
50 – إستصغرَ الخلقَ معتدّ ًا بسطوتهِ
لم يخلق الله أمثالي وأندادي!
هُنا – في هذه الأبيات (49–50) تحليلٌ دقيق لشخصية صدام حسين، فسلوكهُ معروف بهذه الصفات، وعنجهيته الجوفاء، مكشوفة للخلق، من عربٍ وأعراب وأعاجم، وغروره هذا، كان فقط على أبناء العراق، وعند مواجهة الأعداء هو "أذلُ من فقع ٍ بقرقر"، وقد أحسن "القاسم" وصفه في البيت "48".
وسميح، تخنقهُ العَبرة َ على بغداد وما حَلَّ بها من شرور الطُغاة، فيخاطبها بقلبٍ مكسور، والاه بادية بصوته، وكأنه يخاطب معشوقته:
51 – بغدادُ بغدادَ. حُبّي قاتلي فمتى
يتيحُ حُبّكِ تكفيني وإلحادي
52 – في الكاظمية لي شمسٌ أُغازلها
وفي الرصافةِ شُبّاكٌ لإنشادي
وفي ثَرى هذا الحُبَّ الوجداني، يتمنّى سميح القاسم، أن "يُلَحْدَ فيه" بكفن ٍ فيه عبقَ بغداد، ونسائم بساتين الكاظمية، وأحياء "الكرخ" المجاورة لها، إذ لهُ في الكاظمية "شمسٌ" هي الحريّة بعينها، ومنها ينتقل عِبرَ "جسر الأئمة" الى الرصافة لينشدَ شعرهُ هناك، حيث مرقد الإمام /أبي حنيفة النعمان/ وسوق الورّاقين، والمدرسة المستنصرية وجامع الخلفاء العباسيين. والقاسم هنا، أراد التمازج الثقافي بين "الشيعة والسنة" إذ في "الكاظمية" مرقد الإمام الجعفري "موسى الكاظم" فيما "الرصافة" تحتضن مرقد أبي حنيفة، وهناك أيضـًا بقية أطلال العباسيين الأوائل، وشواهد قبورهم، والتي هي بمثابة الدافع القوي عند الشاعر للإستمرار في رسم أخيلته لهذه المدينة الجميلة الخالدة:
53 – وشاغلي رصدُ أنقاضي مُبعثرة ً
في راحلين عن الدُنيا وأفادِ
54 – غرستُ في تربة الأحزان لي أملا
وما سوى الحُزن، إصداري وإيرادي
55 – يُقثّر الدَهرُ في حظّي وفي هبتي وحظّهُ من هباتي جودُ أجوادي
هذه المُناجاة صادرة من قَلبٍ مكلوم، لكنه عصّي على الإذلال "يخردشهُ" الحزن، ويشدّه التاريخ للصحوةِ، إذ – الهبّات – لذلك الشاخص الحضاري، لا تنعرف متى تنطلق ومتى تثور، إذ العلامات والشواخص ما فتأت حاضرة، في الوجدانِ والوجود، وللنهرين، حضورٌ في الحضارة، وللأسماء دَلالة ورموز، وهذه الرموز هي الباقية، فيما الطُغاة لعنوا:
56 – وللفُراتِ أبٌ، قبلي قضى وجعـًا
في مَنْفييّن، بلا صُحبٍ وعَوّادِ
57 – بريدُ غُربتيه في غربتيه بكى
رسائل البين من بُعدٍ لإبعادِ
هذين البيتين، خَصَّصُهما سميح القاسم للجواهري تحديدًا، باعتباره رمزَ القوافي الشعرية في عمود الشعر العربي، حيث يخاطبهُ بلقبهِ "أبو فرات" واستخدام هذا "المكُنّى" ترميزًا ومعادلا موضوعيـًا لسطوته الشعرية، وبأنه "سيلٌ" من القوافي منحدرٌ أبد الدهر، كسيل الفرات ولذلك أستخدم الشاعر "كنيته" ليدين بها من شرّدوه عن الفراتين.
ثم يستحضر غُربة هذا "المثال" وآلامه، ووجعه، ووجع المنفيين مَعَهُ من مُبدعين وغيرهم، إذ أنّه "صنّاجتهم" في المنفى، وصوتهم الحزين، وصداه البعيد، والمحزن حتى "للبريد" فهو يرددُ رجعَ الصدى لحنينه الى بغداد:
"حَيّيتُ سفحكَ عن بُعدٍ فحيّيني.
يا دجلة الخير يأ أمَّ البساتين ِ
حيّيتُ سفحكَ ضمئانـًا ألوذ بهِ
لوذَ الحمائم بين الماء والطين ِ
يا دجلة َ الخير، يا نبعـًا أُفارقه
على الكراهةِ بين الحين والحين ِ
أَلَمُ الجواهري، في الأبيات أعلاه، هي الصَدى المؤثر في أبيات القاسم السابقة، والثاني يقرأها بعمق وينفعلُ معها بحُزن ٍ والم، فيجاريها بجروح ٍ دامية، ملؤها الحزن واللوعة، ومن هذا الألم الدفين في روح الشاعر، يوجّه العتب الى "بغداد" الناس، والحضارة، والمكان، والشاخص التاريخي العصيّ على النسيان، مُخاطبـًا إيّاه بنفس لوعة الإحتراق:
58 – بَدَّلته جسدًا صلصالَ طاغية
ومَنْ يُبدِّل أرواحـًا بأجسادِ؟
59 – وأنتِ من سَلَفٍ أودى به خلفٌ
وكم شقيتِ وكم حاوَلتِ إسعادي
المفارقة التي يُبديها الشاعر في البيت /58/ هي إدانة واضحة لمقلوبات الأشياء، من خلال ذات الواقع، حيث أن "بغداد" المجتمع، هو الذي قام بهذا الفعل الشنيع، إذ رضى "بصلصال الطاغية" صدام حسين، كجسدٍ من طين ٍ بغيض، لا روح فيه، حيث تلك "الروح" هي "روح الجواهري" أي روح الإبداع، بكامل عُمق المعنى ودلالاته الأخرى، والبيت الشعري، يحمل تساؤلا مضَمّرًا هو: كيف يأ أهل بغداد رضيتم بهذا الطاغي الذي شرّدَ المُبدعين؟! ثم يُردف اللومَ عليهم، بدلالة التاريخ لبغداد الحضارة من خلال البيت "59" حيث نتانة الخلف جَرّت الجريرة على السلف، رغم أن "روح الشاخص الحضاري" تأبى ذلك، وتحاول إثبات ميسمها التاريخي على الدوام، بأنها "تريد السعادة للناس" لكن طغاتها جلبوا التعاسة. لكن شرنقة السمو تبقى كامنة ً في تلك الروح، وسينطلق حريرها ذات يوم، وتعود كما كانت، وهي المعشوقة أبدًا، إذ هي صَدى الإبداع في روح الشاعر، والذي دومـًا يردّدهُ:
60 – وأنتِ لي، أنتِ لي آتيكِ مبتهلا
دربي ترابٌ فلم أطمع بسُجّادِ
61 – وأنتِ زادي على بخُل ِ الحياة وفي
عَسفِ المجاعةِ، يا بوركتَ من زادِ
لذلك كان هذا الإصرار الروحي من لدن الشاعر، بأن بغداد له، بصفتهِ مُبدعـًا وإنسانـًا، يعي معناها الحضاري وشاخصها الرمزي، وهي له بوصفهِ عربيّـًا, ومسلمـًا، ومسيحيـًا، بدويـًا كان أو حضريـًا، إذ أنها – بالنسبة للجميع – "زاد الزؤّادة" في العِسر ِ وفي اليُسر ِ، لذلك يمدحَهُ الشاعر في نهاية البيت – 61 – وإليه يحُنُّ أبدًا، باعتباره – زاد المعرفة الثقافي والإنساني:
62 – وخبزُ روحي في كفيكِ مختمِرٌ
وماءُ عيني من بُستانكِ النادي
63 – وأنتِ مُلهمتي من قبل ملهمتي
لتمر ِ عينيكِ ترتيلي وتردادي
إذن العلاقة بين الشاعر وبغداد، هي علاقة التجاذب الروحي، حيث يبث الشاعر أسرارهُ لها، باعتبارها "الوعاء" الذي "اختمِر فيه" عجين روحه، ومن ندا بساتينها كان ماء عينيه، إذن، هناك توحّد روحي بين المكان – بدلالته الرمزية – والشاعر، بثقافته المعرفية، حيث أن "هذا الشاخص" مصدر إلهام الشاعر، مُذ وُجد، وهو قائم بوعيه، يناجيه على الدوام:
64 – ومن شناشيلكِ أصطاد الشَجا كُلما
صاحت لآلئهُ: بوركتَ صيّادي
هنا، روح سميح القاسم، تدور بأزقِّةِ بغداد القديمة، بشناشيلها (39) الجميلة، ذات الطراز الخاص، والذي يفوحُ منه الهوى والهواء، إذ الصيف القاري يفرض فتحَ هذهِ الشناشيل، لتبان تلك الأجساد الغضّة، والأذرع، البضّة، واختلاسات الهوى وآلام الجوى، وبوح "الفاخت" المنطلق من تلك الشبابيكِ، والعائد إليها دومـًا وقت الغروب، تلك هي الرؤية النرجسية في هذا البيت – 64 – ومن جهة أخرى، أراد سميح القاسم، التذكير بالسيّاب، عاشق تلك الشناشيل، حيث أنه كتب أحَّد دواوينه بإسم "شناشيل إبنة الجلبي أو إقبال".
والتضمين – هنا – لملامح العمارة البغدادية، هو الإشارة الى الأصالة والإبداع في الفن المعماري، الذي أبدعته الروح العراقية وأودعته في تلك الشناشيل، ليزيد من دافع الإلهام عند المبدعين، وعند المحبّين، وهو بنفس الوقت ربط الماضي بالحاضر الزاهي، وليس بالحاضر المظلم، كما هو في عهد /أبناء العوجه/ الذي أحَلَكَ كل شيء، لاسيما نفوس الإبداع.
وبتقديرنا، أن سميح القاسم، أراد بهذه التعريجة "الفولكلورية" لفن العمارة البغدادية كي تُغطّي على بعض /الصحائف السوداء/ التي غَلّفَ البعثيون بها بغداد، وسَوّدوا كل معالمها – الحضارية والإنسانية – لانه – كما أسلف – يرى بغداد – بأنها له /الأبيات 61 – 62 – 63 – 64/ لذلك يتوجّع لها – دون أن يراها بعينه /فهو لم يزر بغداد – على حدّ علمي/ ويخاطبها من بعيد، من القدس – حيث جرح روحهِ الآخر، النازف دمـًا، على طول التاريخ المعاصر – لاسيما بعد النكبة عام 1948 م – يقول في ذلك الخطاب:
65 – وصحتُ من وجع في القُدسِ يشعِلُهُ
إنّي استغثتُ فغضَّ السَمَع نُجّادي
66 – وجرحُكِ الحيُّ من جرحي، ومعتصمي
لا يستجيب، وغَضَّ الطرفَ أشهادي
صرخة الألم، مُضاعفة عند الشاعر سميح القاسم، من جهتين: الأولى، أن العرب، ساهموا بذبح القدس، مُذ صمتوا عن التقسيم المشؤوم، والثانية، أنهم أيضـًا ساهموا، بشكل واضح – عن سقوط بغداد – بيد الأجانب – بمعنى آخر أن هناك – تواطئٌ – مفضوح، من قبل الحُكام العرب، والذي رَمزَ له الشاعر بـ "المعتصم" حيث أراد التذكير بأن "الخليفة العباسي المعتصم بألله" أَنجدَ فتاة َ عربية بأرض الروم صاحت "وامعتصماه" في الوقت الذي تُستباح المُدن، ولم يتحرك معتصمنا المعاصر، بل يغضَّ الطرفَ ويسدَّ السمع، وهو بهذا ينطبقُ عليه قول الشاعر:
"لقد أسمعت لو ناديت حيّـًا
ولكن لا حياة لمن تُنادي"
واستغاثة الشاعر – سميح القاسم – في البيتين أعلاه – 65، 66 – تُدين كل العرب، وليسَ الحكام وحدهم، حيث صراخه سُمع ولم يُنجد، والأعين إحوَّلت عن مشهد الإستباحة والضمير العربي قد أُنِّثْ، بعد أن خُصي بيد الجَلاد العربي، ولم يعد يتحرك لمأثور القول، فأراد سميح القاسم إدانة هذا الواقع المُر، بشكل مفضوح، فما عاد الحياءُ مقبولا، وسبايا العرب تخطرُ بالقيود:
67 – وكم عَددتُ ملايينـًا لها نسبي
فلم تقلني حساباتي وأعدادي
68 – وكم أرّقتُ على نوم ٍ يحاصرني
خَلفَ الحصار، وكم أرّقتُ جَلادي
هناك، تعليمٌ حاد، بالخطِّ الأحمر، على "الملايين العربيّة" لأن جمعها وجموعها لم تُقِل عثرة إنسان واحدٍ، فكيف تقل عَثرات المُدن؟! والشاعر يعتريه القلق، ويلازمه الأَرق، من هذا الخمول العربي، ومن ذاك الحصار الغربي، المُطّوق للقدس وبغداد معـًا. ومع ذلك، هناك بقيّة نَفَس ٍ مقاوم، يُثير – بهذه المقاومة – حفيضة الجلاد – لأن هدف المقاومة نبيل وسام ٍ، وهو نثار روح الشاعر، ينثره على بغداد، بغية الصمود أكثر. لذلك نرى الشاعر ينطلق بموقفٍ فرديّ /خاص بهِ/ ليتميّز عن بقية الأصوات، لاسيما الساكتة، أو التي باركت جلاد بغداد على الإيغال في البطش ِ، حين امتدحتْهُ وأثنت عليه، وهو مسربلٌ بدماء الشرفاء من أهل العراق، لذلك ميّز سميح القاسم صَوته بهذا القول:
69 – ويعلُم الله، لمْ أُغمضْ على مَضَض ٍ
عين الكفاح، ولا أخلفتُ ميعادي
70 – قصدتُ وَجْهَكِ، مسكونـًا بمحنتِهِ
وخاب قصدي، وما خيَّبت قُصّادي
وتجسيدًا لهذا الموقف الفردي، يحنو سميح القاسم على بغداد بأُلْفةٍ، يستمدُّها من أُلفَةِ أهلها، ويداعبها بالقول، بغية أن ترضى عنه، وعن صدودهِ الطويل عنها، وكأنما هي في موقف المعاتبِ له، يقول:
71 – متى التقرّبُ للمحبوبِ محتسبـًا
شُرور صدّى وإفرادي وإبعادي
72 – ويذبُلُ الحبُّ مأسورًا ونضرْتُهُ
طلقـًا، تدوم الى آبادِ آبادِ
خطاب الإفصاح عن الهوى الداخلي، الذي يشعر بهِ الشاعر، يبقى متسرمدًا في روحه الى أبدِ الآبدين، لاأن "نضارة العشق" لا تزول ولا تؤُل، فحبّها – أي بغداد – آسرٌ لكل جوارح الشاعر، لأنه فُطمَ على هذا الهوى:
73 – وأينَ قلبُكِ من كَفٍّ تهدهدهُ
ودونُه مبضَعٌ في كفِّ فصّادِ
حالة التألم مزدوجة في رؤية الشاعر وخطابه الشعري في هذا البيت – 73– حيث أنه يريد الشفاعة لقلبهِ منها، إذ أنّه يُدرك أن قلبها ترصدهُ /مباضعَ/ لجرّاحين أوغاد، ويعلم أنهم سيصيبون منها مقتلا، وهو ما كان. لذلك يؤكد سميح القاسم، هذه المعادلة بقوله:
74 – تقودُهُ طغمة للباطشين بهِ
وكان قلبُكِ غيرُ منقادِ
هذا التصريح، هو حقيقة يدركها الشاعر جيدًا، إذ أنه خَبرَ عن قربٍ وتَلَمُّس ٍ حقيقة هذا القلب، الذي يأبى الذلّة والخنوع، وهو عسير الإنقياد لأيّ طاغية، لذلك يتضامن روحيـًا معها، ويقَدم نفسه، فداءً لها إن رامت فداءا:
75 – شبعتِ أسرًا وإذلالا وتضحية ً
ولافتدائُكِ قلبي غارثٌ صادِ
76 – ومن نعيم الهُدى علمـًا وعافية ً
الى جحيم الرَدى في قبضةِ العادي
هذا الموقف، وتلك الأماني فيه، ما تصدُر إلا من قلبِ محبٍّ عاشق ٍ تستجيب خلاياه الحسيّة جميعها الى تلك الجروح التي عَلِقَت بجسد بغداد، وما زالت بها الندوب سَوداءَ القروح ِ، فلقد أذلّها الأوغاد، وقادوها من "نعيم الهدى" الى جحيم الردى" وهي بين أيديهم أسيرة.
هذا المشهد التراجيدي لبغداد، قاصمٌ للظهر، وجامعٌ للهموم، لا تفارقهُ العين، منذُ أن حَلَّ الطغاة بمرابعها عام 1963 م، نخروا روحها الجميلة وسلّموها أسيرة ذليلة، وتركوها بليلة وضُحاها، دون مُغيث.
وعلى هذا المشهد، ينشُجُ سميح القاسم ببكائهِ المُر عليها فيقول:
77 – بغدادُ، بغداد. ناري ألفُ لاهبةٍ
وبينَ جنبيّ قلبٌ ألفُ وَجّادِ
هذا الوجد المتأجج، ينساب في كل خلايا الروح ِ والجسد، فيثير جروح الاشواق ويلتهب الجسد، والذاكرة تستعيد التاريخ لملامح تلك الفاتنة الأسيرة – بغداد – ومخاطبها بوجع ٍ يقول:
78 – أأستعيدُ بما أسلفتِ خارطتي
وَهَلْ أجدّد باسم الله ميلادي؟
هذه المناشدة حامية الوطيس، لأن تاريخ المدينة أبقى، وأعصى على النسيان، وهو وهّاجٌ برّاق، لكن الظرف الزمني لا يعود الى الوراء، ومن هنا مكمن المناشدة في بيت الشاعر أعلاه – 78 – ومنهُ ينطلق الى البدءِ الأول في التكوين الحضاري لبغداد، بسيمائها الأولى، وحَلّتها الأولى، وإسمها الأول، بغداد العباسيّة:
79 – وأنتِ ما أنتِ. عبّاسيّة ٌ سُبيت
بغدادُ أنتِ، ولكن أين بغدادي؟!
وأنتِ بغدادُ.. لكن أينَ بغدادي؟؟
هذا الإلحاح من الشاعر، على توصيف بغداد، بانها عباسيّة، هو لتدليل على أنها لا تليق إلا بهذا الإسم الحضاري، والإسم الثقافي، والإسم الدلالي لبانيها، ولا يصح أن تسمى بأسماء الطُغاة، إذ هي ثابتة في الوجدان العربي، وفي وجدان الشاعر بالذات، هي بغداد الأولى، وعلى هذا الأساس، رفض تسميتها الثانية، التي أُريد لها أن تكون ملحقة بأسماء "الزُناة". ومن هنا نفهم تكرار الشاعر لعجز البيت الأخير، والسؤال عنها. "لكن أينَ بغدادي" حيث جُرّدت – إبّان حكم الطغاة – من كل ملامحها الأصلية.
* * *
* تلك هي مُعلّقة سميح القاسم، وهكذا فهمناها (40).
د. خير الله سعيد
موسكو
1/اكتوبر/2003
– الإحالات والهوامش –
1 – انظر – ديوان الخريمي "إسحاق بن حسان" ص 27، جمع وتحقيق د. علي جواد الطاهر ومحمد جبار المعيبد – ط 1 – دار الكتاب الجديد – بيروت 1971 م.
2 – أنظر بقية الأبيات في "الديوان" وراجع – للإستزادة – رثاء غير الإنسان في الشعر العباسي – تأليف – عبد الله عبد الرحيم السوداني – ص 32، ص 34. منشورات – المجمع الثقافي – الإماراتي – أبو ظبي – 1999 م.
3 – تاريخ الطبري /8/457 وما بعدها – تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم – القاهرة – 1969 م والمسعودي – مروج الذهب ومعادن الجوهر/ 4/283 – تحقيق بيريه دي مينار وبافيه دي كرتناي – بمراجعة – شارل بلا – المطبعة الكاثوليكية – بيروت 1973 م.
4 – تاريخ الطبري 8/ 500– 501.
5 – هكذا ورد إسمهُ عند المسعودي في – مروج الذهب 4/ 276–278.
6 – المصدر السابق – نفس المكان، وانظر كذلك – رثاء غير الإنسان في الشعر العباسي/ مصدر سابق – ص 37.
7 – أنظر – ديوان محمد بن عبد الملك الزيّات/ ص 96/ دراسة وتحقيق وليد عبد المجيد إبراهيم العبد الله – مطبوعات – جامعة البصرة – 1988 م.
8 – راجع – محمد بن شاكر الكتبي – عيون التواريخ 20/ 129–130 – تحقيق فيصل السامر ونبيلة عبد المنعم – دار الرشيد – بغداد 1980 م.
9 – إبن الفوطي/ الحوادث الجامعة والتجارب النافعة في المئة السابعة/ ص 329 تحقيق مصطفى جواد – بغداد 1351 هـ.
10 – النجوم الزاهرة في اخبار ملوك مصر والقاهرة – 7/ 53، منشورات المؤسسة المصرية العامة – القاهرة.
11 – للإستزادة في رثاء بغداد – يراجع كتاب – رثاء غير الإنسان في الشعر العباسي – ص 94 وما بعدها، ففيه استطرادات هامة وجميلة، بهذا الصدد.
12 – الكتبي – عيون التواريخ – 20/ 140–141 – مصدر سابق.
13 – المصدر السابق 20/ 138.
14 – راجع تعليقات الأستاذ عبد الله عبد الرحيم السوداني – على هذه القصيدة، في كتابه/ رثاء غير الإنسان في الشعر العباسي/ ص 97.
15 – حسين علي محفوظ – المتنبّي وسعدي – ص 73–74 – طهران 1377 هـ.
16 – ذوي الحجر = ذوي العقول الناضجة.
17 – راجع بقية القصيدة عند حسين علي محفوظ – المتنبي وسعدي/ ص 74 وما بعدها ولاحظ تعليقات عبد الله عبد الرحيم السوداني في كتابه "رثاء غير الإنسان في الشعر العباسي" ص 99 – ص 100. فهي حَريّة بالمتابعة.
18 – عيون التواريخ، 20/ 138–140 – وفوات الوفيات 2/ 231–235 تحقيق إحسان عباس – دار الثقافة – بيروت.
19 – فوات الوفيات، 2/ 233 وما بعدها.
20 – لاحظ إن هذا "البيت" كُرّر في قصيدتين – الأولى لإبن الشروي – الآنفة الذكر – والثانية لشمس الدين الكوفي/ محل نقطتنا المبحوثة/ والبيت مضمّن من إحدى القصائد المعروفة في ذلك الزمان، وكذلك عجز البيت الذي قبله، والذي وضع بين قوسين.
21 – إبن الفوطي – الحوادث الجامعة – ص 334 – ص 335.
22 – هنا نود الإشارة الى ضرورة مراجعة تعليقات الأستاذ عبد الله عبد الرحيم السوداني في كتابه /رثاء غير الإنسان في الشعر العباسي/ ص 103–104، حيث هناك شروحات وافية، وتصويبات هامة للوزن الشعري وغيره.
23 – راجع – ديوان الجواهري 4/ 324 – منشورات دار العودة – بيروت ط3 – 1982 م.
24 – "أبو فرات" لقب الجواهري – حيث إبنه البكر إسمهُ "فرات" كان أحد زملائنا في موسكو، وغيرها من البلاد الأوربية - الشرقية – حيث ذاق الأذى والمنفى كأبيه. وعن القصيدة – يراجع ديوان الجواهري 3/ 22–
25 – ديوان الجواهري 3/ 128–
26 – ثَمة مقاربة صورية ومعنوية، عند سميح القاسم، تكاد تنطق بمنطوق هذه الأبيات الجواهرية، إذ أن "القاسم" تمثَل روح الجواهري وذكرهُ في سياق تلك المعلقة الجميلة. وسوف نذكرها في حينه.
27 – لم يكن ديوان الشيخ عبد المحسن الكاظمي – تحت يدي – وأنا ما زلت في منفاي – "بموسكو" ساعة كتابة هذه الدراسة، لذلك تعذَّر عليَّ إحالة القارئ الى رقم الصفحة في "الديوان" حيث أنّي حفظت هذه الأبيات الشعرية. وقتئذ كنتُ "طالبـًا في الإعدادية" حيث كانت مُقرّرة في المنهاج الدراسي لنا أعوام الستينات من القرن المنصرم، فارجو العذر من القارئ الكريم.
28 – مَرّة أخرى أعتذر للقُرّاء وللشاعر ولذويه، لعدم ذكر إسمه، لأني بعيدٌ عن بغداد منذُ أكثر من 25 سنة، وما زلتُ بعيدا.
29 – نُشرت القصيدة بجريدة عكاظ السعودية – العدد 13395 في 20/4/2003م.
30 – ألزمتنا – هذه الدراسة – لأن نُطّور مضمونها مستقبلا، إذ أن موضوع "الشعراء وبغداد" واسعٌ وكبير، وسوف نفردُ "دراسة" عن هذا الموضوع تحت عنوان "مرثيّات لبغداد" فلا بأس من كافة الزملاء، شعراء كانوا أو نُقّادًا، إرسال إلينا، بالقصائد، التي تندرجُ في ذات الموضوع، مع جزيل الشكر.
31 – قد يقول البعض بأن "سميح القاسم" هو أُمّمي الموقف والثقافة، بحكم التزامهُ السياسي، ونحن نرد هذه الدعوى، بكون "القاسم" قَدَّم "وطنيته وقوميّته" بكل نتاجه الثقافي والفكري على "أُممّيته" والذين قرأوا دواوينه يدركون ذلك جيدًا.
32 – يشير إبن الفقيه، الى بناء بغداد من قبل المنصور، مؤرّخـًا ذلك بالعربيّة "الهجرية" وبالفارسية، وبالشمسية قائلا: "وكان تحوّل المنصور من الهاشمية الى بغداد، والإبتداء ببنائها سنة خمس وأربعين ومئة، وذلك في اليوم الثامن عشر من مرداذماه سنة أحدى وثلاثين ومائة ليزدجرد، وآخر يوم من تموز سنة ألف وثلثمائة وسبعين للإسكندر، والشمس في "الأسد" ثماني درجات وعشرُ دقائق". أي هناك حالة من التفاؤل والسعد – وفق منظور "الأبراج". راجع عن ذلك – إبن الفقيه الهمداني/ بغداد مدينة السلام – ص 41. تحقيق د. صالح أحمد العلي – ط 1 – منشورات وزارة الإعلام العراقية – بغداد – 1977 م.
33 – راجع – كتابنا "ورّاقو بغداد في العصر العباسي" – الباب الأول – المقدمات الحضارية والتاريخية من ص 17 – ص 127، منشورات، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية/ الرياض/ 2000 م، حيث هناك تفاصيل وافية عن نهضة بغداد الثقافية في تلك الفترة.
34 – هو "أبو بكر محمد بن يحيى الصولي" صابئي الديانة، وكتابه: "أدب الكُتّاب" حَقَّقَهُ محمد بهجت الأثري، ونشر بالمكتبة العربية ببغداد، والمطبعة السلفية بمصر – 1341 هـ ولا يصح الإفتراض – عند قراءة كلمة "الصابئ" الواردة في البيت، بأنها تشير الى "أبي الحسن الهلال بن المحسن بن ابراهيم الكاتب – المعروف بالصابئ" أو "غرس النعمة الصابئ" فإنّهما من كتّاب الخلافة العباسية، لكنهما لم يرتقيا الى مصاف أبي بكر الصولي – في الترسل ِ والإنشاء. ومن هنا تكون الإحالة عليه.
35 – في 29/أيار/1993، دُعيت الى أحد الأقطار العربية – لإلقاء محاضرة أدبية عن الورّاقين" – بناء على دعوة من رئيس رابطة كُتابها، ولم تسمح لي "نقاط الحدود" بالدخول الى بلدهم، فعدتُ أدراجي الى دمشق، حيث كنت أعيش هناك، وقتها. ؟!!
36 – من الناحية المنهجية – اعتبرنا، أن هذه – أنصاف الأبيات – بمثابة بيت كامل، بغية متابعة المنهج النقدي في سياقاته التسلسلية، ليس إلا.
37 – راجع مادة – حَزَنَ – وطَرَب – في القاموس المحيط – للفيروز ابادي.
38 – حصان طروادة: هو حصان خشبي كبير، استخدمهُ اليونانيون في الحرب ضد "الطرواديين" بمثابة خديعة حربية، إذ تركوه وانسحبوا، بعد أن يئسوا من فتح الأبواب، فأخذه الطرواديون – وكان "محشوّ ًا بالجُند" وحين حَلَّ المساء، فتح هؤلاء الجنود – جوف الحصان الخشبي – وخرجوا وفتحوا الأبواب، فدخل اليوانيون، وأستحلوا مدينة طروادة، بهذه الحيلة. وكعب آخيل: هو الشيء الذي يرمز الى نقطة الضعف، أو بمعنى آخر أن "كل شيء ملغوم" من الداخل، وهو أيضـًا أستخدم "كرمز حربي" في حرب طروادة ذاتها، وآخيل هو أحّد القادة اليونانيين، غَََضَبَ عليه الإله "أبولون" إلا أنه وعَدَهُ بعدم الموت، ومن ثم وجّه إليه "سهم بارسيا" إبن قريام – ملك طروادة، فأصابه في "كعبه" فكان نقطة الضعف القاتلة فيه.
39 – الشناشيل – هي الزخارف الخشبية التي تصنع لغطاء الشبابيك والنوافذ والشرفات المُطلّة على الأزقة، لصَدِّ الشمس والعين، بنفس الوقت، وهي طراز بغدادي خاص بالطبقة المترفة – وقتذاك – أي في زمن العثمانيين – وتلاشت هذه المعالم في زمن البعثيين.
40 – مَرّة ثانية، نهيب بكل الزملاء/ نقِّادًا وشعراء/ للتكرم بتزويدنا بالقصائد الشعرية التي قيلت في بغداد، بغية إستكمال هذه الدراسة، ومراسلتنا على العنوان التالي: Russia – Moscow 117198 – PYDH
p.o. Box – 16
Dr. Khayr Alla Said
e-mail: [email protected]