3 - 4
لم تشهد المعارضة العراقية بكل أحزابها وتجمعاتها الفكرية والسياسية فترة راحة وهدوء على امتداد العقود المنصرمة, كما تعرضت إلى محاولات التصفية الجسدية وإنهاء الوجود على الأرض العراقية, وفقدت أغلب أحزاب المعارضة المعروفة تاريخياً, عدا الأحزاب والتجمعات التي تشكلت حديثاً, عدداً كبيراً من قاعدتها الحزبية وكوادرها القيادية, سواء من استشهد منهم على طريق النضال في السجون والمعتقلات وشوارع العراق, أم من أُبعد منهم بمختلف السبل عن الحياة السياسية أو غُيّب الكثير منهم نهائياً ولا يعرف شيئاً عن مصيرهم حتى الآن.
وخلال عقود كثيرة لم تعرف الحياة السياسية العراقية, سواء في العهد الملكي أم العهود الجمهورية, طعم الحرية والديمقراطية والحياة الحزبية الشرعية والعمل الحر في وسط الجماهير الشعبية. وفي فترات معينة قبل وبعد ثورة تموز عام 1958 دخلت في صراعات في ما بينها أثارت الكراهية والأحقاد المتبادلة وصعوبة إيجاد نقاط توافق وتعاون في ما بينها, علماً بأن بعض الأحزاب السياسية العراقية قد وجدت فرصة التعاون والتحالف في ما بينها ساهمت في الوصول إلى مكاسب مهمة للشعب العراقي ولها في آن واحد.
وخلال العقود المنصرمة تعرضت الأحزاب السياسية العراقية إلى تدخل فظ من جانب القوى الإقليمية, سواء العربية منها أم غير العربية, ودولية أدت إلى تنشيط الخلافات في ما بينها وإلى صعوبة تحقيق التعاون المنشود ووضع قواسم مشتركة في ما بينها للنضال ضد النظام الدموي المنهار. وفي الفترات التي تحققت بعض صيغ التعاون عجزت عن أن تضم الجميع بسبب خلافات حزبية أو شخصية ونظرات ذاتية ضيقة وتدخل خارجي لم يسمح لها بتحقيق النتائج المرجوة.
وخلال الأعوام الأخيرة, ورغم الجهود الكبيرة التي بذلت لتحقيق وحدة القوى السياسية, تعرضت إلى صراع من نوع آخر بدأ في أعقاب مؤتمر بيروت عام 1991 حين دخلت الولايات المتحدة على خط القوى السياسية العراقية بجهد جديد ودور أكبر وشخصيات لم تكن معروفة في الساحة السياسية العراقية. وبعد فشل الانتفاضة الشعبية في عام ,1991 بسبب المساومة الأمريكية الصدامية المعروفة, وبجهود تلك الشخصيات أمكن تنظيم مؤتمر فيينا ومن ثم مؤتمر صلاح الدين حيث تم فيهما تشكيل التحالف السياسي العراقي الجديد تحت الخيمة الأمريكية وقيادة الشخصية التي هيأتها الولايات المتحدة الأمريكية لهذا الغرض. ولم يستمر هذا التحالف طويلاً إذ تفكك وانتهى بعد فترة وجيزة بسبب الدور والتأثير المباشرين والقويين لمراكز القوى في الولايات المتحدة على هذا التجمع السياسي الذي ضم اغلب القوى السياسية العراقية وبسبب الدور غير المعهود والأساليب التي استخدمت في العلاقات ما بين القوى داخل هذا التحالف. وزاد في الطين بلة صدور القانون الخاص ب "تحرير العراق" عن الكونغرس الأمريكي في عام 1998, وساهم في تشديد الصراع بين القوى السياسية العراقية, إذ اختلفت الأحزاب السياسية العراقية في الموقف من إدامة الحصار الاقتصادي ومن طريقة التعامل مع الشعب العراقي والمجاعات والأهوال التي عاش في ظلها بسبب سياسات النظام والحصار الدولي. ثم اشتد الخلاف بين القوى السياسية بعد وقوع جرائم الحادي عشر من أيلول/سبتمبر في الموقف من الحرب التي أرادت الولايات المتحدة شنها ضد العراق, إلا أن أغلب القوى السياسية كانت مع الحرب, في حين وقفت أحزاب قليلة ضد الحرب, إضافة إلى شخصيات سياسية واجتماعية كانت هي الأخرى ضد الحرب. وتوزعت قوى المعارضة العراقية لأول مرة وبهذه الطريقة على مجموعتين عمودياً وأفقياً داخل الأحزاب السياسية وفي إطار المعارضة, من هو مع الحرب ومن هو ضد الحرب, وبالتالي من هو مع الولايات المتحدة ومن هو ضدها. وكان تعامل الولايات المتحدة مع قوى المعارضة العراقية غير ديمقراطي ومن مواقع السيادة والحق في الكلمة الأخيرة. وكان هدف الولايات المتحدة عزل المعارضة عن قوى الشعب العراقي وعن التأثير في الأحداث وعن إيجاد تحالف متين يضم الجميع في العداء لنظام صدام والعمل لإسقاطه بقواها الخاصة. وهو الأمر الذي نجد تأكيده بعد انتهاء الحرب وسقوط النظام والطريقة التي تعاملت بها سلطة الاحتلال مع القوى السياسية العراقية التي كانت في صف معارضة النظام.
وعرفت القوى السياسية العراقية التمييز في التعامل من جانب سلطة الاحتلال كما رفضت تسليمها السلطة منذ اليوم الأول وقررت إدارة الحكم مباشرة وتسببت في خلق فراغٍ سلطوي, وعجزت في الوقت نفسه عن إملاء ذلك الفراغ. ثم بدأت بتصنيف العراقيين إلى طوائف بالطريقة الفجة التي خلقت نقاطا جديدة إضافية للخلاف والصراع الداخلي.
وفيما بعد أجبرت سلطة الاحتلال وتحت ضغط الكثير من العوامل تشكيل مجلس الحكم الانتقالي بصورة غير كاملة, بل ناقصة تماماً كما سلبته حقه في اتخاذ القرارات وأخضعته لإرادتها, مما أعطى الانطباع وكأن جميع أعضاء المجلس إمعات للحكومة الأمريكية وسلطة الاحتلال. وكان هذا الموقف من سلطة الاحتلال محاولة جادة للمساس بسمعة وتاريخ هذه الأحزاب وتراثها الوطني وبأغلب الشخصيات السياسية التي شاركت في المجلس أو التي أيدته. وهي محنة ما تزال توجه مجلس الحكم الانتقالي.
لا شك في أن الأحزاب السياسية العراقية متباينة في طبيعة تكوينها وفي اتجاهاتها الفكرية والسياسية والمصالح التي تسعى للتعبير عنها والقومية التي تمثلها والفئات الاجتماعية التي ترتبط بها وتدافع عنها والمهمات التي تطرحها لتعبئة الناس حولها, كما أنها متباينة في مستوى ثقافة قياداتها وكوادرها وقواعدها الحزبية وتجاربها ووجهاتها في التعامل مع الناس ومدى إقرارها لمفهوم ومضمون الديمقراطية وتعاملها مع هذه القيمة ذات الطبيعة العامة والشاملة.
لا شك في أن لكل حزب أو تجمع سياسي في العراق سياساته ومواقفه وخطابه السياسي إزاء المشكلات القائمة في البلاد والحلول التي يراها مناسبة. إضافة إلى أن لها مواقف متباينة إزاء قوى الاحتلال وسبل التعامل معها ومع الملفات العراقية التي كانت وما تزال تحت تصرف وبأيدي سلطة الاحتلال. كما لا شك في أن لها مواقف ربما متفقة بصدد بعض أبرز المهمات التي تواجه الحركة السياسية العراقية, ولكنها تختلف في التفاصيل وأساليب تحقيقها, بما في ذلك الموقف من فلول قوى نظام صدام حسين الدموية ومن قوى القاعدة المتطرفة أو القوى المماثلة لها...الخ.
وفي ضوء هذا الواقع لا يسع الباحث إلى أن يؤكد باحتمال بروز تناقضات اجتماعية, وبالتالي سياسات ومواقف وحلول متباينة ومن ثم صراعات في ما بين القوى السياسية على المستويين الفكري والسياسي وعلى المستويين النظري والعملي. وفي هذا ليس عيباً ولا نقيصة, ففي الاختلاف فضيلة فتح الحوار بين الأطراف, شريطة أن نقبل بجملة من الأسس المعروفة في اللعبة الديمقراطية, أي خوض الحوار وفق أسس سلمية وديمقراطية والسعي الجاد إلى إقناع الآخرين بالحجج الدامغة وليس بالعنف أو القوة أو التهديد باستخدام العنف, إذ أن ذلك لا يجر الأحزاب السياسية وقواعدها إلى الصراع والنزاع فحسب, بل يجر المجتمع بأسره إلى الفوضى والاحتراب. وسيكون الحوار في ما بين القوى السياسية حول القضايا المختلف عليها جيداً وسليما مهما طال الوقت في حالة أنها ليست في السلطة, ولكن الأمر سيكون مختلفاً إذا كانت هذه القوى في وضع غير معهود من قبل, بين مدينتي نعم ولا, وينطبق عليها القول العراقي المعروف, لا يطير ولا يمسك باليد, وفي أوضاع استثنائية كأوضاع العراق, فأن الحوار الطويل يعتبر مماطلة وتسويفاً وإساءة للجميع. ويمكن أن يقود ذلك إلى كوارث لا ريب فيها.
فالوضع في العراق ليس طبيعياً فهناك جملة من المشكلات المعقدة التي تستوجب الحل والتي لا تقبل التأجيل. فالعراق لا يخضع للاحتلال فحسب, بل يعاني من نشاطات إرهابية وتخريبية تريد العودة بالبلاد إلى فترة الدكتاتورية التي اغتصبت العراق وعاثت في البلاد فساداً وتدميراً وقتلاً, كما أن المجتمع يعاني من تغيرات عميقة في بنيته وتكوينه الاجتماعي وفي القيم التي يتعامل معها, وهي ليست في صالح الوضع العام وتطوره بسبب الآثار العميقة التي تركها النظام المنهار والدكتاتور المخلوع على المجتمع وعلى انفصام الشخصية والأمراض الاجتماعية الأخرى التي تبدو شاخصة في الممارسات العملية اليومية وفي الغوص في إشكاليات السحر والشعوذة والغيبيات غير المعقولة والركض وراء المهَّوسين من الشخصيات الصبيانية في ممارسة السياسة, إضافة إلى الانفصال الذي حصل بين قادة وكوادر العديد من الأحزاب وبين الجماهير بسبب الهجرة التي فرضت عليهم .
ومن هنا برزت جملة من التناقضات والصراعات بين الأحزاب السياسية داخل وخارج مجلس الحكم الانتقالي إزاء عدد مهم من القضايا التي كان أمر معالجتها في الظروف الطبيعية إمكانية عملية غير سهلة. وتترك هذه التناقضات وما ينجم عنها من صراعات يومية في الحقل السياسي تأثيرها على شلل نسبي في نشاط المجلس وصعوبة في تحركه وبالتالي يتناقص تأثيره وتتأثر سمعته ودوره في العملية الجارية في العراق, خاصة وأن الولايات المتحدة سلبته قدرته الفعلية والمعنوية عندما قررت خضوع قراراته لموافقة ومصادقة السيد بريمر الحاكم المدني الأمريكي لسلطة الاحتلال في العراق. ولكن المجلس استطاع أن يساهم بدفع الأمور نحو وجهة أفضل من السابق وفي مقدوره أن يزيد من هذه الوجهة لو استطاع الاستفادة القصوى من العوامل الأساسية المؤثرة مباشرة على وضع الإدارة الأمريكية عالمياً وإقليمياً وعراقياً وفي داخل الولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص. إن هذا يعني الاستفادة من تلك العوامل لصالح الشعب العراقي على مختلف المستويات, ولكنه في الوقت نفسه في صالح الشعب الأمريكي وليس بالضرورة لصالح الصقور الأمريكية.
يفترض أن يخضع أعضاء مجلس الحكم الانتقالي والقوى السياسية المؤيدة له خارج إطار المجلس وفي الساحة السياسية العراقية عمله لعدد من الثوابت التي لا يجوز التخلي عنها في الفترة القادمة والتي تجلى بعضها في البيان الصحفي الصادر عن مجلس الحكم الانتقالي بتاريخ 15/11/2003, وأشير إلى أهمها فيما يلي:
- إن وجود قوات الاحتلال في العراق يفترض أن يكون مؤقتاً, وينبغي له أن ينتهي مع انتهاء فترة الانتقال, وأن يستعيد العراق سيادته واستقلاله الوطني وحريته كاملة. ويمكن أن يتم الاتفاق مع الأمم المتحدة على تأمين عدم التدخل في الشؤون الداخلية من بلدان المنطقة ورفض أية محاولة انقلابية ودعم الشعب العراقي في مواجهة مثل هذه الحالة, وبالتالي يستبعد وجود قوات أمريكية أو غيرها في العراق وفق ما يطالب به أتباع الولايات المتحدة من منح قواعد عسكرية لها في العراق.
- إن الملفات العراقية يفترض أن تنتقل ومنذ الآن إلى مجلس الحكم الانتقالي, إذ لا يمكن لقوات الاحتلال أن تعالج المشكلات بالطريقة التي عالجتها حتى الآن, إذ أنها ستثير المزيد من المشكلات دون أن تعالج أياً منها مع سقوط المزيد من الضحايا. ولا يمكن القبول بتشكيل مجلس وحكومة, كما عليه الحال في الوقت الحاضر, لا يمتلكان القدرة على تسيير الأمور ولا يمتلكان الأجهزة والمعدات والأموال لتنفيذ ما يفترض تنفيذه, كما لا يمتلكان حق إصدار القرارات وخضوعها لمصادقة سلطة الاحتلال.
- إن هذا لا يعني انعدام التنسيق والتعاون في الملفات الأمنية والسياسية والاقتصادية وغيرها, فهذا ممكن وضروري في المرحلة الراهنة لأغراض التنسيق والتكامل في الإجراءات.
- البدء ومنذ الآن باعتماد التعامل العقلاني مع بقية القوى السياسية العراقية خارج إطار المجلس والتحري عن علاقات إنسانية وواقعية معها ومع أولئك الذين أهملوا في السابق ومع المحافظات التي لم تمثل في المجلس, إذ أن هذا الإجراء يعزز مواقع المجلس إلى حين الانتهاء من إشكاليات تشكيل المجلس الشعبي وانتخاب حكومة جديدة ولا يضعفه.
- الإقرار ومنذ الآن بحقوق الشعب الكردي والحكم الفيدرالي في إطار جمهورية عراقية ديمقراطية مستقلة.
- الإقرار بإقامة مجتمع مدني ديمقراطي يحترم كل الأديان والمذاهب وكل الاتجاهات الفكرية والسياسية ولا يتدخل في شؤونها ويرفض أية إساءة لها, ويحترم بالأساس كرامة الإنسان.
- رفض اعتماد الطائفية في الحياة السياسية والتقسيم الطائفي للمجتمع, إذ أن ذلك يساهم في شق وحدة الصف الوطني ولا يخدم معالجة الإشكاليات السياسية القائمة ولا يخلق روح المواطنة الحقيقية, فالطائفية مرض وبيل لا يجوز السماح له بالمرور. ولهذا من الخطأ الفادح الحديث عن احترام الطوائف الدينية, بل يفترض القول باحترام المذاهب الدينية وأتباعها, والفرق بين المذهب والطائفة كبير في الحقلين الفكري والسياسي, أي من الناحيتين النظرية والعملية. وبقدر ما تعبر المذاهب عن حيوية الفكر في الإسلام والحق في الاجتهاد, تعبر الطائفية عن تمييز بين الناس على أساس مذاهبهم وهو أمر مقيت ومرفوض بتاتاً, وينبغي تحريم ممارسته ومعاقبة ممارسيه تشريعاً.
- رفض التعامل على أساس عشائري في المجتمع العراقي, والالتزام بمبدأ المواطنة المفتوحة وعراقية الإنسان, إضافة على احترام قوميته والاعتراف بحقوقها المشروعة.
- الإقرار بمساواة المرأة بالرجل ورفض التمييز والقيود التي يراد فرضها عليها والاعتراف الكامل بلائحة حقوق الإنسان وممارستها في العراق الجديد.
- حماية الثروة الوطنية من الهيمنة الخارجية عليها وجعلها خاضعة للقرار الاقتصادي المستقل والسعي إلى وضعها في خدمة المجتمع وتحسين مستوى حياة ومعيشة السكان والتوزيع العقلاني والعادل للدخل القومي.
لا شك في وجو د اختلافات في وجهات النظر حول هذه الثوابت ويفترض معالجتها عن طريق الحوار المفتوح والعقلاني وبالطرق الديمقراطية السلمية. والصراعات بين القوى السياسية يمكن أن تنشأ حول هذه الثوابت وغيرها, وهي تخفي وراءها التناقضات الاجتماعية والمصالح الطبقية والطائفية وغيرها.
والملاحظ حتى الآن أن بعض أعضاء المجلس وقوى سياسية أخرى خارجه يدلون بتصريحات ويقومون بنشاطات لا تنسجم مع هذه الثوابت, وبالتالي يدفعون بالصراع إلى مستويات جديدة تؤذي التوجهات المشتركة لقوى المجلس. ولا بد من إيجاد آلية واقعية لإدارة الحوار والصراع ورفض تحويله إلى نزاعات سياسية قابلة للانفجار الدموي. وينبغي أن يكون الحل بالمحصلة النهائية لصالح الدولة الديمقراطية التعددية والعلمانية التي تحترم كل الأديان والمذاهب ولا تميز بينها وتحترم تراثها الفكري والحضاري على امتداد تاريخ العراق ومختلف الشعوب التي عاشت أو ما تزال تعيش فيه, وتعدد الأديان والمذاهب التي يؤمن بها المجتمع. أقدر تماماً الصعوبات التي تواجه المتحاورين في عدد من هذه القضايا, ولكن التجربة التاريخية هي التي يفترض أن تكون هادية لنا في اتجاه تطوير العراق وإزالة كل العوامل التي من شأنها إقامة دكتاتورية جديدة من أي نوع كانت, سواء على الطريقة البعثية الحزبية أو على الطريقة الدينية والمذهبية كما في إيران أو في غيرها من البلدان.
إن الاتفاقات الأخيرة مع الإدارة الأمريكية عبر الحاكم المدني هي الخطوة الأولى على طريق طويل, وبشكل خاص في الممارسة العملية, إذ أن الإدارة الأمريكية قد برهنت على إنها لا تفهم الواقع العراقي جيداً وتريد تحقيق استراتيجيتها دون إعارة الانتباه لمشاعر وتقاليد الشعب العراقي ودون الأخذ بنظر الاعتبار وجهات نظر الشعب العراقي وقواه السياسية ومجلس الحكم الانتقالي.
برلين في 17/11/2003 كاظم حبيب
****************************
4-4
تواجه الشعب العراقي في المرحلة الراهنة إشكاليات كبيرة ومعقدة ذات جوانب متعددة في علاقاته الدولية والإقليمية والعربية. وهي نتيجة منطقية لعوامل عديدة ناتجة عن وجود صراع حول المصالح في العراق وعن رؤية خاطئة والتباس بشأن مواقف الشعب العراقي وقواه السياسية, كما أنها تعبر عن قراءة خاطئة للأجندة والمهمات والسياسات الداخلية والعربية والإقليمية والدولية التي يمكن أن يمارسها العراق لاحقاً. ويفترض خلال الفترة الراهنة والقادمة التحري عن حلول لها ومعالجتها لصالح تعزيز الأخوة والصداقة بين الشعب العراقي بمختلف قومياته مع شعوب الدول العربية وشعوب المنطقة والعالم. وسأحاول تجزئة الموضوع إلى ثلاث فقرات بسبب التباين في تفاصيل كل فقرة منها.
أولاً: حول موقف الدول والقوى السياسية العربية
يمكن تلخيص تلك العوامل في النقاط التالية:
- إن الغالبية العظمى من النظم العربية كانت في علاقاتها مع العراق على مدى العقود الثلاثة المنصرمة متقلبة جدا بين جيدة وهادئة أو سيئة ومتصارعة، ولكنها كانت في المحصلة النهائية قد قبلت بالنظام الاستبدادي وساندته وقدمت له الدعم المادي والقروض، ورفضت إدانة سياساته الاستبدادية إزاء الشعب العراقي. حتى أن أغلبها ساند النظام العراقي في حربه ضد إيران، رغم علمه بأنه المعتدي الذي شن الحرب العدوانية ضد إيران، بسبب توتر علاقاتها مع إيران وخشيتها من اتجاهات تصدير الثورة الإيرانية إلى بلدانها حينذاك. واتخذت سوريا موقفا مختلفا وواضحاً من النظام الاستبدادي في العراق واحتضنت المعارضة العراقية بجميع اتجاهاتها الفكرية والسياسية وكانت عوناً لهم في تخطي الصعاب التي واجهت الكثير منهم, رغم الاختلافات التي كانت قائمة بين سياسة سوريا وبين سياسات بعض قوى المعارضة العراقية.
- ولم يكن النظام العراقي يخفي استبداده وقمعه لقوى المعارضة العراقية أو القوانين البشعة التي أصدرها والتي تسمح بقطع الرقاب والأيدي وجدع الأنوف وصلم الآذان ووشم الجباه, أو قرار هدر دم أعضاء الحزب الشيوعي العراقي وحزب الدعوة الإسلامي لمجرد كونهم في المعارضة وأعضاء في هذين الحزبين, أو حتى حمامات الدم المشهورة ضد 34 من مناضلي وأصدقاء الحزب الشيوعي العراقي في عام 1978, وضد 22 من قياديي وكوادر حزب البعث الحاكم في عام 1979 مثلاً, أو حملات الاعتقال الواسعة التي كانت منظمات حقوق الإنسان تنشر عنها الكثير, في حين لم تتحرك الحكومات العربية لفضح هذه الجرائم البشعة بحق الإنسان العراقي, أياً كانت قوميته ودينه واتجاهه الفكري والسياسي.
- ورغم معرفة الحكومات العربية بتفاصيل ما قام به النظام على امتداد سنوات العقدين الثامن والتاسع من ممارسة للقسوة والقمع والقتل ضد قوى المعارضة السياسية وضد الشعب الكردي في حملات 1974/1975 ومجازر الأنفال واستخدام الأسلحة الكيماوية في مدينة حلبجة الكردستانية في عام 1988، وكذلك ضد الأقليات القومية وتهجير مئات الآلاف من الأكراد الفيلية وعرب الوسط والجنوب على امتداد السنوات الأخيرة من العقد الثامن وعلى امتداد سنوات العقد التاسع , بسبب كونهم من الشيعة والشك في احتمال دعمهم لإيران!, لم تصدر كلمة احتجاج أو إدانة واحدة عن أي من الدول العربية أو من الجامعة العربية، رغم المطالبات الشديدة من جانب المعارضة العراقية للدول العربية برفض تلك السياسات وشجبها وفضحها. والجهة العربية التي طالبت بوقف تلك التجاوزات الفظة على حقوق الإنسان كانت المنظمة العربية لحقوق الإنسان التي مقرها في القاهرة. ولم ترغب أو ترحب حكومات الدول العربية بإقامة علاقات ودية وطبيعية مع قوى المعارضة العراقية، فيما عدا سوريا وليبيا، كما أقامت كل من الأردن والسعودية علاقات محدودة مع قوى معينة في المعارضة العراقية، التي كانت تناضل ضد النظام. واحتضنت الجزائر في بعض الفترات مجموعات كبيرة من علماء وأساتذة ومهندسين ومدرسين وكتاب ومثقفين في مؤسساتها العلمية وجامعاتها ومؤسساتها الاقتصادية, وكانت خدمة كبيرة للعرقيات والعراقيين الذين عملوا هناك. وعندما سعت المعارضة العراقية إلى عقد مؤتمر لها في الخارج لم يجد بلدا عربيا وافق على استضافة المؤتمر خلال السنوات العشرة الأخيرة, في ما عدا لبنان الذي أمكن عقد المؤتمر الأول لقوى المعارضة في بيروت في أعقاب انتهاء حرب الخليج الثانية وبدء الانتفاضة الشعبية في ربيع عام 1991 وبموافقة وتأييد من الحكومة السورية أيضاً. ومع ذلك سعت قوى المعارضة إلى الاحتفاظ بعلاقات اعتيادية وطيبة مع جميع الدول العربية, إلا مع تلك الدول التي كانت باستمرار تسعى إلى تقديم مختلف أشكال العون والتأييد للنظام العراقي مثل الحكومة السودانية والحكومة اليمنية.
- وعندما انتفض الشعب العراقي في ربيع عام 1991 ضد النظام الدموي في بغداد احتجاجاً على سياساته الداخلية والعربية والإقليمية وحروبه التوسعية والمظالم الرهيبة التي أنزلها بالشعب العراقي والمقابر الجماعية التي نشرها في سائر أنحاء العراق وعدوانه على الشعب الشقيق في الكويت لم تقف الحكومات العربية إلى جانبه, في ما عدا سوريا, ولم تتضامن مع نضاله, واعتبرت تلك الانتفاضة بمثابة نشاط ضد القومية العربية وضد وحدة العراق. وكان أغلب الإعلام العربي الحكومي المتحيز قد وقف ضد انتفاضة الشعب, ولعب دوراً بارزاً في محاولة تشويه سمعة الانتفاضة أمام الرأي العام العربي, رغم أن الكثير من الدول العربية وقفت إلى جانب الولايات المتحدة في الحرب التي شنتها لتحرير الكويت, ولكنها مع ذلك, وعندما أصبح الأمر يتعلق بالتغيير الديمقراطي لصالح الشعب في العراق, تصدت بإعلامها للانتفاضة الشعبية وشاركت مع الولايات المتحدة في اغتيالها.
- وعندما بدأ التحضير للحرب الأخيرة من جانب الولايات المتحدة وبريطانيا وقفت حكومات الدول العربية عموما ضد الحرب، رغم أن الأسباب وراء هذا الموقف لم تكن واحدة. وغالبية هذه الحكومات كانت تخشى تسجيل سابقة سياسية يمكن أن تمارس الحرب ضدها في فترة لاحقة. وكانت كلها تعبر عن خشيتها على الشعب العراقي من شن الحرب ومؤكدين بأن النظام لا يشكل همهم, بل الشعب. وجدير بالإشارة إلى أن الولايات المتحدة، وفي الوقت الذي وضعت موضوع أسلحة الدمار الشامل في مقدمة أسباب شنها الحرب، فأنها وضعت في الوقت نفسه مجموعة من الأسباب الأخرى، بما في ذلك استبداد وقسوة وقمع النظام للشعب العراقي وعدوانيته. إلا أن الدول العربية لم تشر حتى بكلمة واحدة إلى أهمية إيجاد حلول عملية لمشكلة الشعب العراقي وسبل الخلاص من معاناته مع النظام. ونادراً من طرح السؤال التالي: كيف يمكن إنقاذ الشعب العراقي من جرائم النظام اليومية من جهة ومن احتمال نشوب حرب من جهة أخرى, في الوقت الذي عجز الشعب حتى ذلك الحين الخلاص منه؟ وعندما طرح الشيخ زايد آل مهيان مقترحاً باستقالة صدام حسين لم تجرأ أية دولة عربية ولا الجامعة العربية على تقديم هذا المقترح لصدام حسين, وتُرك الشعب فريسة النظام والحرب في آن واحد.
- وعندما انتهت الحرب بسقوط النظام وصدور القرار رقم 1483 في 20/5/2003 عن مجلس الأمن الدولي باعتبار العراق محتلاً من الولايات المتحدة وبريطانيا، بادرت حكومات الدول العربية، ومعها الجامعة العربية، إلى رفع شعار إنهاء الاحتلال، علما بأنها كانت وما تزال تدرك بأن القوى السياسية العراقية ما تزال عاجزة عن النهوض بأعباء الوضع الراهن وان فلول صدام حسين وقوى الإسلام السياسي المتطرفة والإرهابية قادرة على إشاعة الفوضى والموت من جهة، ولم تطرح كيف يفترض أن يتم التعامل الواقعي مع الوضع الجديد، ومتى يفترض آن ينتهي الاحتلال. وكيف يمكن تقديم الدعم والمساعدة الفعلية للشعب العراقي لإنقاذه من محنه المتلاحقة من جهة أخرى. وكانت مبادرة مجلس الأمن الدولي سليمة عندما طالب بتحديد سقف وجدول زمني لإنجاز مهمات فترة الانتقال وإنها الاحتلال, عندها أيدته الجامعة العربية.
- وتغير هذا الموقف عند حكومات بعض الدول العربية بعد أن قام النظام العراقي بغزو اجتياحي عدواني للكويت والسياسة الإرهابية والتدمير الواسع النطاق التي مارسها في الكويت، وما نجم عن هذا الغزو بعد رفض النظام الانسحاب من الكويت ونشوب حرب الخليج الثانية. وأيد الكثير من الدول العربية التحالف الدولي ضد النظام العراقي وساهم بعضها في القوات التي خاضت الحرب في العراق. وبعد انتهاء الحرب بفترة بدأت محاولات الجامعة العربية وبعض الدول العربية إعادة الاعتبار إلى النظام العراقي ومحاولة إعادته إلى الأسرة العربية وتسويقه دوليا وإقليمياً وعربياً.
وعندما أمكن تشكيل مجلس الحكم الانتقالي بمساعدة الممثل الشخصي للامين العام للأمم المتحدة، الراحل دي ميلو، رفضت جميع الحكومات العربية تقريبا الاعتراف بالمجلس بحجة انه شكل من قبل سلطة الاحتلال، وكأنها لا تعرف طبيعة أغلب القوى السياسية الأعضاء في هذا المجلس ونضالها الطويل ضد صدام حسين أولا، والصراع الذي خاضته ضد الحاكم المدني الأمريكي، باول بريمر، من أجل عقد مؤتمر وطني واسع يتم فيه اختيار أعضاء لحكومة عراقية ورفض الإدارة الأمريكية لهذا المقترح, ثم اضطرارها تحت ضغوط كثيرة على الموافقة بتشكيل مجلس الحكم الانتقالي الراهن الذي ما يزال يخوض معركة سلمية لنقل السلطة إليه خلال فترة الانتقال. رغم إدراك الجميع بأن في بنية وصلاحيات المجلس العديد من النواقص وأبرزها ضعف استقلاليته وخضوع قراراته لمصادقة الحاكم المدني وسلطة الاحتلال, وعدم تمثيله المناسب لقوى سياسية واجتماعية أخرى في البلاد. وأخيراً تم التعامل مع مجلس الحكم الانتقالي باستحياء كبير على غير ما ينبغي أن يحصل. والدفاع عن مجلس الحكم لا يعني بأني إلى جانب كل الأعضاء الذين يشكلون المجلس أو أضع ثقتي بهم جميعاً, إذ أعرف جيداً تركيبته, كما تعرفها الغالبية العظمى من الشعب العراقي, ولكني أتحدث هنا عن مؤسسة مجلس الحكم التي يفترض أن نساندها للانتقال بالعراق إلى وضع جديد يمكن بموجبه تحقيق الأهداف الأساسية للشعب العراقي واستعادة العراق لاستقلاله وسيادته الوطنية.
هذا على الصعيد العربي الرسمي، أما على الصعيد الشعبي فالموقف العربي يتسم بالغرابة ويعبر عن التباسات سياسية كثيرة ويجسد في الوقت نفسه تعامل الغالبية العظمى من الشعوب العربية بالقضايا السياسية بالعواطف وليس بالعقل والعاطفة معا, أي بعقل بارد وقلب دافئ على الشعب العراقي الذي عانى من الاستبداد والحروب والقمع الأمرين. فالشعب العراقي وقواه السياسية الوطنية ضحية فعلية للصراع المرير بين سياسات الولايات المتحدة في المنطقة إزاء القضية الفلسطينية وبين الشعوب العربية التي ترفض تلك السياسات وتجد فيها تحيزا لإسرائيل, وكأن الشعب العراقي لا يشاركها في ذلك ويرفض تلك السياسات التي كانت وما تزال تكيل الأمور بمكيالين. وفي ضوء ذلك أبدت الشعوب العربية تأييدها لصدام حسين ونظامه مشيرة إلى ما يلي:
1- إن نظام صدام حسين وقف ضد إسرائيل وضد سياسة الإدارة الأمريكية التي تؤيد إسرائيل!
2- وان نظام صدام حسين قدم الدعم المالي والإعلامي للمنظمات الفلسطينية!
3- وان نظام صدام حسين وجه ضربات صاروخية ضد إسرائيل أثلجت صدور العرب وخاصة الفلسطينيين منهم.
4- وأن ليس النظام العراقي وحده نظاماً استبدادياً وقمعياً فحسب، بل جميع النظم العربية، ولكن فضيلة صدام حسين أنه خالف الولايات المتحدة!
واستنادا إلى هذه التقديرات الخاطئة في جوهرها وقفت العديد من القوى السياسية العربية ضد المعارضة العراقية واتهمتها جميعا بالتعاون مع الولايات المتحدة. ونست الشعوب العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية وغيرها من المنظمات الفلسطينية المواقف الدموية البشعة التي وقفها النظام ضد المناضلين الفلسطينيين واغتيال العديد منهم وما فعله في الأردن لإثارة الصراع ضدها قبل وأثناء أحداث أيلول الأسود. وفي ما عدا عن ذلك فأن الغالبية العظمى من الأحزاب والقوى العربية التي تتباكى اليوم على استقلال وسيادة العراق لم تعلن شجبها لسياسات النظام العراقي حتى بعد اكتشاف المقابر الجماعية والكثير من الفضائح الأخرى وما ينتظر بروزه قريبا أكثر مما عرف عن النظام حتى الآن. ومن يعرف صدام حسين جيدا يدرك تماما بان مواقفه إزاء الولايات المتحدة وإسرائيل ليست سوى غطاء للتستر على مجمل سياساته الاستبدادية والدموية وأطماعه التوسعية في المنطقة وخاصة إزاء الدول العربية.
وإذا تجاوزنا السياسات السابقة لحكومات لدول العربية إزاء النظام الاستبدادي في العراق من جهة، وإزاء قوى المعارضة العراقية من جهة أخرى، يحق لنا أن نطرح السؤال التالي: ما هي العوامل الحقيقية الكامنة وراء المواقف الراهنة لحكومات الدول العربية إزاء الشعب العراقي وقواه السياسية ومجلس الحكم الانتقالي؟ يمكن, كما أرى, الإجابة عن هذا السؤال بالملاحظات التالية:
أولا: اتخذت الغالبية العظمى من القوى السياسية العراقية موقفا ديمقراطيا سليما إزاء الشعب الكردي وقضيته العادلة. وهذا الموقف يعبر عن رأي الغالبية العظمى من الشعب العراقي. لقد خاض الشعب العراقي خلال سنوات القرن العشرين تجارب غنية وشهد كوارث مريرة تسببت بها السياسات والمواقف الشوفينية والعنصرية للحكومات المركزية العراقية التي رفضت باستمرار الاعتراف بحق الشعب الكردي في تقرير مصيره ومطالبته المستمرة بإقامة الحكم الذاتي أو الفيدرالية، وكذلك رفضها الاعتراف بحقوق الأقليات القومية. وعندما وافقت على الحكم الذاتي في عام 1970 فرغته من محتواه الحقيقي. وتسببت النزاعات والحروب ضد الشعب الكردي في سقوط مئات آلاف الضحايا ومثلها من الجرحى والمعوقين في صوف الشعب الكردي وكذلك في صفوف القوات المسلحة العراقية، إضافة إلى الخسائر المالية والمادية وتعثر عملية التنمية والتقدم الاجتماعي. واستنادا إلى هذه التجارب المريرة اتفقت جميع القوى السياسية العاملة في مجلس الحكم, إضافة إلى قوى أخرى خارج المجلس, على الاعتراف بحق الشعب الكردي بإقامة الفيدرالية ضمن الجمهورية العراقية الديمقراطية الموحدة، والتي ستلعب دورا كبيرا في تعزيز الوحدة الوطنية أرضا وشعوبا. إن هذا الموقف المبدئي، كما يبدو، ترفضه بعض الحكومات العربية والقوى القومية اليمينية والشوفينية, وبالتالي فهي ترفض القوى التي تؤيد هذا الموقف. وهي بذلك تتجاهل إرادة الشعب العراقي وقواه السياسية ومصالحه المستقبلية وتجاربه الغزيرة ومعاناته الطويلة بسبب عدم الموافقة على حل عقلاني لهذه القضية الملحة والعادلة والمشروعة.
ثانيا: تتفق الغالبية العظمى من القوى السياسية العراقية، بما فيها بعض قوى الإسلام السياسي المعتدلة، بان العراق لايتكون من قوميات عديدة فحسب، بل ومن أديان ومذاهب دينية عديدة. فالعراق يتكون من أكثرية مسلمة وبجوارها أقليات مسيحية وصابئة مندائية وإيزيدية، إضافة إلى وجود مذاهب إسلامية عديدة. واستنادا إلى تجارب العراق المديدة، التي تعود إلى سنوات الحكم الأموي في العراق والحكم العباسي والحكم العثماني وكذلك الحكم الملكي الإقطاعي والجمهوري، تؤكد أهمية وضرورة إقامة جمهورية فيدرالية ديمقراطية علمانية، أي إقامة دولة تفصل بين الدين والدولة. وعبر هذا الفصل تصبح الدولة حيادية في مواقفها إزاء أتباع الأديان والمذاهب المختلفة وتعاملهم على أساس واحد هو المواطنة العراقية. وتوفر هذه الدولة الاحترام الكامل لكل الأديان والمذاهب وتمتعها بالحرية الكاملة في أداء شعائرها وطقوسها الدينية والمذهبية وترفض أي تدخل في شؤون هذه الأديان والمذاهب أو الإساءة إليها أو إلى أتباعها. ويفترض أن يثبت هذا الموقف في دستور العراق الدائم. ويبدو أن هذا الموقف العلماني ترفضه حكومات الدول العربية التي تسجل في دساتيرها أن دين الدولة هو الإسلام. ولست معنيا الآن الإشارة إلى ما يجري في الغالبية العظمى من هذه الدول من تجاوز فظ على هذا النص من جهة، وعلى أتباع الأديان والمذاهب الأخرى. إلا أن التجارب والحقائق واضحة للجميع. إن الاتفاق على مبدأ فصل الدين عن الدولة لا يعني نسيان بأن الشعب العراقي له تراث وتقاليد إسلامية ينبغي أن تحترم وتصان, كما أن له تراث وتقاليد مسيحية ودينية ومذهبية أخرى يفترض أن تحترم وتصان هي الأخرى أيضاً.
ثالثا: و تتفق الغالبية العظمى من القوى السياسية العراقية بأن النظام السياسي الذي يفترض أقامته في العراق، هو النظام الذي يستند إلى مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والتعددية السياسية والتداول الديمقراطي البرلماني للسلطة السياسية...الخ. والاعتراف بحقوق الإنسان واعتبارها الأساس المادي في بناء ورسم سياسة الدولة العراقية الجديدة، إقامة دولة المجتمع المدني الديمقراطي الحديث، المجتمع المدني الذي يعني، ضمن ما يعني، الفصل الكامل بين السلطات الثلاث وحرية الصحافة والتنظيم السياسي والمهني وحق التجمع والإضراب والنشر، كما يعني الكف التام عن ممارسة الاعتقال الكيفي وممارسة التعذيب الجسدي والنفسي أو التغييب أو حكم الإعدام، كما يمنع التمييز بين السكان على أساس الإثنية أو القومية أو اللغة آو اللون أو الجنس، ويساوي بين المرأة والرجل في الحقوق والواجبات وفي إشغال مختلف المناصب والمراكز في الدولة والمجتمع، والمنع المطلق لأحكام الموت وقطع الرقاب أو جدع الأنوف وصلم الآذان ووشم الجباه...الخ التي مارسها النظام السابق, كما يعني رفض الاعتراف بوجود العبيد أو استخدامهم أو التجارة بهم وحماية حقوق الأمومة والطفولة. وفي البعض أو الكثير من هذه الحقوق تختلف مواقف حكومات الدول العربية، والتي عبرت عنها في مؤتمر حقوق الإنسان الدولي في فيينا في صيف 1993. وهو الموقف الذي يجعلها تقف أيضا ضد بعض الاتجاهات الأساسية التي يسعى إليها الشعب العراقي في مرحلته الجديدة, وبشكل خاص بعد إنهاء الاحتلال وممارسة السيادة الوطنية.
رابعا: وكانت حكومات بعض الدول العربية تعيب بشكل مباشر أو غير مباشر على بعض القوى السياسية العراقية تعاونها مع الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، في حين كانت وما تزال هي التي تقيم أوسع العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية, وأن سياسات بعضها خاضعة للتصورات والمصالح الأمريكية والبريطانية, وهي التي كانت وما تزال تحميها من غضب الجماهير الشعبية في بلدانها. ولم تكن كل قوى المعارضة العراقية إلى جانب التعاون مع الولايات المتحدة وكانت ضد الحرب أيضاً. إن الموقف الذي تتخذه العديد من الحكومات العربية يرتبط اليوم بالاتجاهات الجديدة في السياسة الأمريكية التي تحاول إجراء تغييرات في بعض الدول العربية, وتعتقد بان وجود الولايات المتحدة الراهن والمؤقت في العراق وتعاونها مع القوى السياسية العراقية يمكن أن يؤثر على وضعها الداخلي ويشدد من توتر علاقاتها مع القوى السياسية العراقية والذي لا تتحمل مسؤوليته القوى السياسية العراقية, وهي ترفض أي تدخل في شؤون الدول العربية ينطلق من الأراضي العراقية. وهذه الدول العربية تنسى بأن حربين أمريكيتين ضد العراق انطلقت من الراضي العربية وبمشاركتها في حرب الخليج الثانية, وأن للولايات المتحدة في أراضيها قواعد وقوات عسكرية وترسانات ضخمة من أحدث وأخطر الأسلحة الأمريكية, وأن على أراضيها تقام المناورات العسكرية مع الولايات المتحدة أو مع دول حلف شمال الأطلسي.
خامساً: اتأخذ حكومات بعض الدول العربية على القوى السياسية في العراق أنها تتعاون الآن مع قوى الاحتلال الأمريكي- البريطاني، وكأنها قادرة على انتهاج طريق آخر. فالاحتلال تقرر رسميا من جانب مجلس الأمن الدولي أولا، وأغلب القوى السياسية العراقية احتج على هذا القرار ورفضه من حيث المبدأ ثانيا, وهي تسعى إلى إنهائه في أقرب وقت ممكن. ولكن على القوى السياسية أن تأخذ بنظر الاعتبار ما يلي:
• أن قوى الاحتلال هي التي أسقطت النظام الأكثر استبدادا وفاشية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبالتالي حررت الشعب العراقي من هذا الطاغية ونظامه الاستبدادي.
• إن الاحتلال يمتلك صفة الشرعية الدولية، رغم اختلاف الموقف بشأنه ورفض العراقيات والعراقيين له, والكثير من الأحزاب السياسية العراقية ترفضه أيضاً.
• وان فلول النظام الاستبدادي والقمع ما تزال تمتلك إمكانيات وأسلحة وموارد مالية قادرة على إلحاق الأضرار الفادحة بالشعب العراقي وبعملية إعادة البناء، خاصة وان هناك وجهة نظر واضحة في قيام تعاون غير شريف وإرهابي بين بعض القوى القومية اليمينية والشوفينية المتطرفة وبعض قوى الإسلام السياسي المتطرفة في العراق والدول العربية ومن مختلف الجماعات من اجل دعم الإرهاب والأعمال التخريبية في العراق لإعاقة عملية إعادة البناء وزعزعة الأمن والاستقرار. ويبدو أن العراق أصبح مركز جذب لهذه القوى غير موجه ضد الولايات المتحدة فحسب، بل وضد الأمم المتحدة وبعض المنظمات الخيرية الدولية كالصليب الأحمر أو اليونيسيف، والتي جسدتها الأعمال الإجرامية الأخيرة, ومنها تفجير مقر الأمم المتحدة والصليب الأحمر ببغداد واستشهاد عدد كبير من العاملين في هاتين المؤسستين، وفي مقدمتهم الراحل دي ميلو, إضافة إلى توجيه التفجيرات ضد العراقيين, كما حصل ضد السيد محمد باقر الحكيم وجماهير المصلين في النجف, إضافة إلى تفجير مقر قيادة القوات الإيطالية في الناصرية. ويفترض أن نشير إلى أن غالبية القتلى والجرحى من العمليات التخريبية والإرهابية تقع في صفوف المواطنات والمواطنين العراقيين الأبرياء, وبينهم الكثير من الأطفال.
• وان القوى السياسية العراقية العاملة في مجلس الحكم الانتقالي وخارجه لا تمتلك حتى الآن مستلزمات مواجهة الوضع الجديد والتصدي للقوى التخريبية داخل وخارج الحدود العراقية، خاصة وان النظام العراقي كان قد انزل بها ضربات مدمرة وعزلها عن الشعب العراقي والساحة السياسية العراقية سنوات طويلة، رغم عمل بعضها في كردستان العراق, وكذلك في الوسط والجنوب ولكن بصورة سرية.
• وان القوى السياسية العراقية تريد التعاون مع سلطة الاحتلال من اجل الإسراع بإنجاز فترة الانتقال, خاصة وان قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1511 لسنة 2003 فيه بعض الجوانب الإيجابية الذي فتح الباب على إمكانية تعجيل تسلم مجلس الحكم للسلطة بوقت أقصر بكثير مما كانت تريده الولايات المتحدة الأمريكية.
سادساً: تخشى بعض حكومات الدول العربية أن تطول فترة احتلال العراق، وأنا معها في ذلك, ويفترض أن نناضل ضده. كما يخشى بعضها أن تستخدم الأراضي العراقية للتدخل في شؤون البلدان المجاورة، وأنا معها في ذلك, ويفترض رفضه وإدانته. كما أن بعضها يخشى على ثروة العراق النفطية وسيطرة الولايات المتحدة عليه، وأنا معها في ذلك، آذ يفترض أن تعمل هذه الحكومات مع مجلس الحكم الانتقالي والشعب العراقي لمنع عقد اتفاقيات ومنح امتيازات في الوقت الحاضر، بل يترك هذا الأمر للمؤسسات الدستورية الجديدة والحكومة المنتخبة والتي تمتلك الاستقلال والشرعية الفعلية لعقد مثل تلك الاتفاقيات.
واستنادا إلى كل ذلك, ورغم التغير الذي حصل في الشهرين المنصرمين في الموقف إزاء مجلس الحكم الانتقالي, أرى بأن الموقف الراهن للغالبية العظمى من حكومات الدول العربية ما يزال لا يخدم الشعب العراقي ونضاله الصعب في سبيل إعادة البناء وإنجاز مهمات فترة الانتقال وإنهاء الاحتلال. ولابد لها من إعادة النظر بهذا الموقف لصالح الشعب العراقي ومستقبله ومستقبل العلاقات العراقية- العربية. ويبدو أن البعض منها يعتقد بضرورة تغيير التوازن لصالح القوى القومية الشوفينية في العراق, وكأن القوى السياسية العربية العاملة في مجلس الحكم الانتقالي أو تلك التي خارجه لا تحترم قوميتها العربية أو أنها معادية للعرب, وهو خلل كبير في عقل أولئك العرب الذين يفكرون بهذه الطريقة. وهم ينطلقون في ذلك من مواقف متخلفة وأحكام مسبقة غير عادلة, حيث توجه تهمة الشعوبية, بمفهومها الخاطئ, للسكان العرب في وسط وجنوب العراق بأعتبارهم شعوبيين حاقدين على القومية العربية ويريدون تحجيم دور العرب لصالح الفرس. وهم بهذا يسيئون إلى الغالبية العظمى من سكان العرب في العراق دون أدنى مبرر ودون حجة معقولة يستندون إليها. وهي تهمة غالباً ما وجهت للشيوعيين العراقيين وللشيعة من سكان العراق, وهي في الحالتين تهمة باطلة. ويفترض في تلك القوى العربية التي تفكر بهذه الطريقة أن تدرك بأن القوى السياسية الديمقراطية العراقية بمختلف فصائلها تحترم قوميتها وتثق بضرورة التضامن والتكاتف العربي والوحدة العربية, ولكنها في الوقت نفسه تحترم القوميات الأخرى في العراق وتريد لها أن تتمتع بحقوقها القومية العادلة والمشروعة لا أن تقمعها وتفرض سيادتها عليها وتتعامل معها بذهنية شوفينية وعنصرية تمييزية مسيئة لكرامة الإنسان أولاً وقبل كل شيء وتريد تهميشها في الحياة السياسية والاجتماعية وفي التنمية الاقتصادية والتقدم, كما حصل خلال العقود الثمانية المنصرمة, وبشكل خاص خلال العقود الأربعة الفائتة من حكم البعث العفلقي في العراق.
ولا شك في أن الأحزاب السياسية العراقية تتحمل جزئياً خلال العقود المنصرمة مسؤولية معينة في هذه الفوضى الفكرية العربية إزاء الوضع السياسي والقوى السياسية في العراق, إذ لم يكن خطابها السياسي ناضجاً وواعياً في أسلوب معالجته للوضع في العراق, كما لم يكن كثيفاً وكافياًً. ولكن هذا الموقف هو الآخر بدوره يقع على عاتق النظم السياسية العربية التي كانت لا تسمح للقوى السياسية المعارضة لنظام صدام حسين في الوصول إلى الرأي العام العربي, في ما عدا سورياً نسبياً, لشرح سياسات الحكم البعثي العفلقي في العراق وسياسة المستبد بأمره صدام حسين والمجازر التي ارتكبها في العراق والعواقب الوخيمة على المنطقة بأسرها. واليوم فنحن بأمس الحاجة إلى خطاب سياسي عقلاني جديد موجه إلى الشعوب العربية في مختلف أقطارها, خطاب لا يحمل في طياته الإساءة, رغم المواقف الخاطئة, بل يسعى إلى تنوير الرأي العام العربي وإلى كسبه إلى جانب الشعب العراقي, فالشعوب في المحصلة النهائية تقف في صف واحد. ولكن يتبغي أن يفضح في الوقت نفسه القوى القومية اليمينية المتطرفة التي تحاول الإساءة للشعب العراقي وقواه السياسية الوطنية من خلال تحالفها مع فلول النظام المخلوع ومع قوى الإسلام السياسي المتطرفة والإرهابية الهادفة إلى إشاعة الفوضى في العراق واستعادة قوى الماضي المنهارة السلطة في العراق, وهي في ذلك تعيش تحت تأثير كابوس مرعب سيبقى يؤرقها أن استمرت في سياستها المعادية لمصالح الشعب العراقي, وسوف لن تحصد غير العاصفة.
ثانياً على صعيد المنطقة
أما على صعيد المنطقة, فالعراق محاط بدولتين جارتين هما إيران وتركيا. والدولتان تمارسان في الوقت الحاضر تدخلا مباشراً أو غير مباشر في الشؤون الداخلية للعراق وفي شؤون بعض الأحزاب السياسية. وإذا كانت العلاقات العراقية- الإيرانية قد عرفت التدخل المتبادل في الشؤون الداخلية والعداء، وإذا كان النظام العراقي هو المسؤول عن شن الحرب الدامية ضد إيران، فأن الوقت قد حان إلى تغيير هذه السياسة وسلوك سبيل إقامة علاقات جديدة تستند إلى أسس الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية ووضع حد لمحاولات القوى المحافظة والمتشددة الإيرانية التأثير في الوضع العراقي باتجاهين:
• إثارة المشكلات في وجه قوات الاحتلال بسبب العلاقات المتوترة مع الولايات المتحدة واحتضان الأخيرة لقوى مجاهدي خلق المقيمة في العراق للاستفادة منها في وقت لاحق ضد إيران والذي ترفضه القوى السياسية العراقية. ويفترض أن يشار في هذا الصدد إلى تسلل الكثير من العراقيين والإيرانيين عبر منطقة شط العرب وكردستان العراق وغيرها ويساهمون في عدد غير قليل من النشاطات التخريبية. ولا يمكن الادعاء بأن الحكومة الإيرانية تنظم ذلك, بل القوى المحافظة الأكثر تشدداً واستبداداً التي تتمنى أن تتحول السلطة إلى أيدي القوى المماثلة لها في العراق والتي يرفضها الشعب العراقي, وهي ليست قوى الإسلام السياسي المعتدلة الممثلة في مجلس الحكم الانتقالي.
- التأثير في بعض قوى الإسلام السياسي العاملة في الحوزة العلمية أو حولها في النجف ودفعها لمعارضة مجلس الحكم الانتقالي والوجود الأمريكي- البريطاني الراهن في العراق ومنع الوصول إلى تحقيق الاستقرار وتسريع عملية إنجاز مهمات فترة الانتقال وإنهاء الاحتلال.
وتأمل القوى المحافظة المتشددة في إيران أن تتكبد الولايات المتحدة خسائر فادحة في العراق وتعجز عن تحقيق الاستقرار, وتضطر بالتالي على الانسحاب لكي لا تفكر بأي حال في شن حرب جديدة ضد إيران، إضافة إلى رغبتها في رؤية " نظام إسلامي ومذهبي" في العراق مماثل لما هو قائم في إيران، رغم إنها تدرك تماما بأن الشعب العراقي وقواه السياسية ضد قيام مثل هذا النظام في العراق. كما أن القوى المحافظة والمتشددة في إيران تخشى من التأثير الايجابي لنموذج الفيدرالية الكردستانية في العراق على الشعب الكردي في كردستان إيران، إذ يمكن أن يجدد تحركه باتجاه المطالبة بحقوقه المشروعة والعادلة هناك. إن الشعب العراقي وقواه السياسية يرفض بشكل كامل أي تدخل من جانب القوى الإيرانية المتشددة أو الحكومة الإيرانية في الشؤون السياسية العراقية. إن على القوى المحافظة في إيران أن تكف عن اللعب على وتر الطائفية وتحريك بعض هذه القوى في العراق لتخلق للشعب العراقي مشكلات تزيد من تعقيد الوضع لا في العراق فحسب، بل وفي المنطقة بأسرها, وأن تتعظ بموقف الحكومة الإيرانية الراهن الذي يعترف بمجلس الحكم الانتقالي ويسانده في إنجاز مهمات فترة الانتقال وتطلعه للخلاص من القوات المحتلة.
أما الحكومات التركية المتعاقبة، سواء المدنية منها أم العسكرية، فلم تكف عن التدخل في شؤون العراق الداخلية واختراق حدوده بحجة مطاردة القوى المسلحة لحزب العمال الكردستاني في كردستان تركيا في الأراضي العراقية. ورغم مرور أكثر من ثمانية عقود على تأسيس الدولة العراقية، وأكثر من سبعة عقود على دمج ولاية الموصل بالدولة العراقية، ومنها محافظات الموصل وكركوك وأربيل والسليمانية، فأنها ما تزال تطمع بهذه الولاية وبالنفط في محافظة كركوك. وغالبا ما تحاول التدخل بحجة حماية الأقلية التركمانية في كركوك. ولكن خشية الحكومة التركية تنبع من الإشعاع الذي يمكن أن تنشره تجربة الفيدرالية الكردستانية في العراق على الشعب الكردي في كردستان تركيا. وهي بالتالي تحاول إعاقة إقامة الفيدرالية وإثارة المشكلات في وجه العراق عموما، رغم العلاقات السياسية والعسكرية الطويلة الأمد القائمة بين الدولة التركية والولايات المتحدة الأمريكية. وكان الخطأ الجديد الذي ارتكبته الولايات المتحدة هو طلبها من تركيا إرسال قوات تركية إلى العراق للمشاركة بحفظ الأمن الداخلي ونست الحساسية الكبيرة عند الشعب العراقي إزاء التدخل التركي في العراق. ولهذا فقد أحسنت الحكومة التركية صنعاً عندما تراجعت أخيراً عن قرارها بإرسال قوات تركية إلى العراق استجابة لمطلب الشعب العراقي, وهو أمر حسن وتعبير عن بداية حسن جوار طيبة. ولكن ما يثير الاستياء هو محاولة الحكومة التركية إثارة الحكومات العربية ضد مجلس الحكم الانتقالي ومحاولة تعبئة القوى للتشكيك به وبدوره في احتمال وقوع انفصال في كردستان العراق عن العراق, وهي تعرف النفس الشوفيني السائد في الدول العربية إزاء هذه المسألة. ولم تول أي اهتمام لتأكيدات الشعب الكردي وقواه السياسية وبقية القوى السياسية العراقية بأن ليست هناك نية لانفصال كردستان العراق عن العراق, بل أن الفيدرالية الديمقراطية تعزز وحدة العراق الديمقراطي.
إن المهمات التي تواجه الشعب العراقي وقواه السياسية ومجلس الحكم الانتقالي في فترة الانتقال على صعيد العلاقات العراقية- العربية والعرقية الإقليمية تتلخص في النقاط التالية:
• تعزيز إرسال وفود تمثل القوى السياسية العراقية المشاركة في مجلس الحكم ومن خارجه لزيارة الدول العربية والدول المجاور غير العربية لشرح الموقف العراقي من عدة مسائل جوهرية.
• الرفض الكامل لأي تدخل في الشئون الداخلية للدول المجاورة يمكن أن تنطلق من الأراضي العراقية، وان المجلس يحترم استقلال وسيادة وسياسة البلدان الأخرى.
• العمل من اجل إنجاز مهمات فترة الانتقال التي تتضمن إعادة بناء البنية التحتية، وتوفير الخدمات والعمل للمواطنات والمواطنين وإنجاز تشكيل المجلس الشعبي المؤقت والحكومة المؤقتة ووضع مسودة الدستور العراقي وقانون الانتخابات العامة وتسلم السلطة فعلياً.
• التصدي الصارم للنشاطات التخريبية الجارية في العراق ووضع حد لها وإفشال مخططاتها العدوانية.
• البدء بالتحضير لإنهاء احتلال العراق وخروج القوات الأجنبية واستعادة العراق لاستقلاله وسيادته الوطنية, وعلى الدول العربية والصديقة مساعدة العراق في إنجاز هذه المهمة.
• الأمل بالحصول على دعم الحكومات العربية والحكومات المجاورة غير العربية ومساعدتها في عملية إعادة البناء وإنجاز مهمات المجلس الانتقالي.
• دعوة وفود تمثل الحكومات العربية والمجاورة ووفود شعبية لزيارة العراق والإطلاع على أوضاعه ونشاطات المجلس والحكومة واتجاهات الرأي العام العراقي.
• الاتفاق مع حكومات الدول العربية والمجاورة والأحزاب والقوى السياسية فيها على سفر وفود عراقية لعقد الندوات الشعبية لتوضيح الموقف العراقي، إضافة إلى فسح المجال لنشر المقالات والكراسات حول الوضع في العراق.
ثالثاً: الموقف الدولي إزاء العراق
يجسد الموقف الدولي إزاء العراق خلال الفترة التي سبقت حرب الخليج الثالثة واحتلال العراق من قبل القوات الأمريكية – البريطانية ثلاثة أمور جوهرية ذات مضامين متباينة وذات أهمية كبيرة. وأن الإلمام بها وتحليلها يساعدنا على تدارك مشكلاتها على العراق والاستفادة منها لصالحه في آن واحد. وليس في هذا أية انتهازية بقدر ما يفترض أن نفهم كيف نتعامل مع الوضع الدولي, فالعلاقات بين الدول لا تعرف الصداقة في ظل النظام الرأسمالي الدولي القائم, بل تعرف المصالح, وهو ما ينبغي أن نتعامل معه لصالح العراق.ويمكن تلخيص تلك الأمور فيما يلي:
1. منذ انهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي وانتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين برزت على السطح بشكل خاص محاولة جادة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية ليس الإعلان عن كونها القطب الأوحد في العالم فحسب, بل في محاولتها الجادة في الهيمنة على الحياة السياسية والاقتصادية الدولية وفرض نهج اللبرالية الجديدة للمحافظين الجدد في الولايات المتحدة على العالم كله. وكانت هذه الوجهة لا تعني السيطرة على البلدان النامية والمواد الخام فيها وأسواقها فحسب, بل السيطرة أيضاً على سياسات الدول الصناعية السبع الكبار التي أثارت حكومات تلك الدول وحركت التناقض والتنافس والصراع الذي دفع إلى المؤخرة أثناء وجود الاتحاد السوفييتي والحرب الباردة. فمصالح الرأسماليات الوطنية في البلدان الأوروبية, وخاصة فرنسا وألمانيا, وفي اليابان, إضافة إلى روسيا الاتحادية والصين الشعبية قد تحركت وبدأت تشعر بمحاولة طردها من مواقع مهمة في العالم, ومنها منطقة الشرق الأوسط, وتهميش دورها في الحياة السياسية الدولية والتأثير عليها من خلال سيطرتها على منابع وأسواق النفط في منطقة الشرق الأوسط التي تمتلك ما يزيد عن 76 % من احتياطي النفط في العالم والآخذ بالتزايد سنة بعد أخرى.
2. محاولة الولايات المتحدة الأمريكية التحكم بالسياسة الدولية من خلال إلغاء أو تقليص دور الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي, وبالتالي احتمال سيادة قانون الغاب, مما يعمق التناقضات في العالم ويدفع به إلى حروب جديدة, في حين ترفض الشعوب الأوروبية والعديد من حكوماتها هذا النهج العولمي الوحيد الجانب إلى حدود معينة وتريد معالجة المشكلات بطريق التفاوض والحلول السلمية للوصول إلى ذات الأهداف. ولا شك في أن اتجاهات الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا الغربية بشكل خاص, رغم كل تراجعاتها أمام الرأسمال العالمي ما تزال تمتلك جملة من المواقف والسياسات الاجتماعية التي ترى ضرورة تخفيف الصراع بين الدول النامية ودول المراكز الصناعية الرأسمالية, وتقليص الفجوة المتسعة بينهما. ومن هنا تبرز النقطة الثالثة.
3. رفض سياسة خوض الحروب الوقائية, بل الدعوة إلى تأمين سياسات تسمح للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي إيجاد حلول عملية للمشكلات الدولية الراهنة بدلاً من إثارة الحروب الإقليمية وفق السياسة الأمريكية الراهنة. وبدا هذا الاختلاف واضحاً في الموقف من الحرب في العراق وكما يبدو الآن في الموقف من إيران وكوريا الشمالية ومن تصعيد التوتر مع سوريا أو التأييد المطلق لحكومة شارون اليمينية الشوفينية التي ترى في الحرب حلاً وحيداً لصراعها مع الفلسطينيين.
وبعد شن حرب الخليج الثالثة رغم رفض مجلس الأمن الدولي والرأي العام العالمي لها, وجدت غالبية الدولة الأوروبية وروسيا الاتحادية والصين الشعبية واليابان وغيرها من الدول نفسها أمام وضع جديد تسعى الولايات المتحدة من ورائه إلى فرض سياساتها عليها, ولهذا اتخذت موقف تكتيكي جديد, سياسة "كفاح وتضامن". وهذا يعني بالممارسة العملية إعاقة جدية لتنفيذ سياسة الولايات المتحدة في الهيمنة على العراق سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وثقافياً وعلى المنطقة بأسرها من جهة, وهذه الوجهة الأوروبية في صالح الشعب العراقي وهي مهمة وضرورية على المدى المتوسط والبعيد, ولكنها تريد في الوقت نفسه التضامن مع الولايات المتحدة لكي لا تخسر المعركة ضد فلول صدام حسين وقوى الإسلام السياسي المتطرفة التي تريد تحويل العراق إلى ساحة صراع مع الدول الغربية كلها وعلى رأسها الولايات المتحدة, إذ أنها تعتبر انكساراً للنضال ضد الإرهاب الدولي, من جهة أخرى, وهذه الوجهة الأوروبية مهمة أيضاً للشعب العراقي. ولكن الضرر الذي فيها هو يبرز في احتمال إطالة أمد الصراع على السلطة في العراق وعلى المصالح المتباينة والتي تؤدي إلى مزيد من الضحايا في صفوف العراقيين والقوات الأجنبية ويزيد من تعقيد اللوحة السياسية والأمنية في العراق. والموقف الأوروبي له أهمية أخرى يكمن في أنها لا تريد النجاح السريع للولايات المتحدة الأمريكية لكي لا تتورط وتورط العالم بحروب استباقية ووقائية جديدة. وهذه المسالة تهم جميع قوى السلام في العالم.
وهنا تبرز أمام الشعب العراقي أهمية الرؤية الثاقبة للوضع القائم في العراق وأهمية الاستفادة من مجمل العوامل الفاعلة في السياسة الدولية والإقليمية والصراعات حول المصالح وتوزيع مناطق النفوذ ... الخ لصالح الشعب العراقي وإعادة إعماره وتنميته واحتفاظه بثروته الوطنية واستعادة سيادته الوطنية. إنها عملية معقدة ولكنها ضرورية, إذ يفترض أن لا ننسى بأن علينا أن نستفيد من قوى السلام في العالم ليس لليوم فحسب, بل وللمستقبل أيضاً, فهي حليف الشعب العراقي في صراعه من أجل الحرية والديمقراطية والسيادة الوطنية وحماية مصالحه وثرواته الوطنية. وهي لم تكن يوماً ما مع نظام صدام حسين, ولكنها لم تقم بدورها المطلوب في حينها في الربط العضوي بين قضية السلام من جهة وقضايا الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية في العالم, إذ أن نسيان القضايا الأخيرة هي التي يمكن أن تقود, كما قادت في السابق, إلى حروب دولية وإقليمية ومحلية مدمرة.
إنها مهمة معقدة من الناحية النظرية, ولكنها أكثر تعقيداً من الناحية العملية أو في الممارسة السياسية اليومية. ولكن علينا خوضها على مختلف الأصعدة والمجالات. وتبقى مهمة الشعب في الوقت الحاضر التخلص من فلول قوى صدام حسين المعادية لمصالح الشعب العراقي ومن قوى الإسلام السياسي المتطرفة من أنصار القاعدة وغيرها من جهة, وإعادة بناء البنية التحتية وتسريع عملية التنمية من جهة أخرى والتحضير لإنجاز بقية مهمات فترة الانتقال بكل مفرداتها السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعسكرية. وفي هذا النضال نحتاج إلى قوى شعبنا والرأي العام العربي والدولي وكل القوى المحبة للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والسلام ودعم كل دول العالم التي تساند نضال شعبنا في هذه الاتجاهات.
الخلاصة والاستنتاجات:
1. في الوقت الذي سكتت أغلب الحكومات العربية على ما كان يجري في العراق من دوس على كرامة الإنسان وقتل جماعي له وثلم شديد لسيادته الوطنية, فإنها قلقة جداً في هذه المرحلة بشان من سوف يستلم السلطة في العراق, إذ كان النظام الصدامي وصدام حسين, كما يبدو, أفضل لأغلبها من الإطاحة بهما وتسلم الحكم من جانب القوى السياسية العراقية الوطنية بمختلف اتجاهاتها الفكرية والسياسية. ونأمل أن لا يستمر هذا الموقف طويلاً.
2. وأن الشعوب العربية, المبتلاة بنظم في أغلبها يسود الاستبداد وغياب الديمقراطية, حائرة بأمرها ولا تعرف حقيقة الوضع في العراق, وهي لا تثق بما يقال لها عن جرائم صدام حسين لأنها تعودت على كذب ما يقال لها من حكوماتها ومن بعض أحزابها. فرغم أنها ترى عبر محطات التلفزة المقابر الجماعية تعتقد بأنها مزورة. وهو أمر بالغ السوء. وهي في هذا المواقف تساهم في تردي الأوضاع في العراق وفي بلدانها أيضاً ولا بد من تغيير هذا الحال آجلاً أم عاجلاً.
3. أما الجارة تركيا فأنها تسعى بكل جهد ممكن إلى إبعاد الشعب الكردي والأحزاب الكردية والشعب العراقي عن إقامة جمهورية إتحادية فيدرالية يتمتع بها الشعب الكردي بالفيدرالية الديمقراطية, كما تريد إبعاد الأكراد عن المشاركة في السلطة المركزية في بغداد, إذ تجد في ذلك تهديداً لها, ولهذا فأنها تسعى لأن يكون الحكم بيد القوى القومية والبعثية المشابهة لسياسات صدام حسين, إذ يتوافق ذلك مع نهجها في اتسغلال واضطهاد الشعب الكردي, كما أنها تضطهد وتتجاوز على حقوق الشعب التركي أيضاً, كما ورد ذلك على لسان وزير خارجيتها السيد عبد الله غول.
4. وأما الجارة إيران فالقوى المحافظة والمتشددة فيها لا تقبل بأي حكم بديل في العراق سوى حكم القوى المماثلة لها في العراق, وهي أقلية ضئيلة, ولكنها ديماغوجية وصبيانية, لتشكل حلفاً يمتد من إيران إلى العراق ...الخ, بغض النظر عن إرادة الشعب العراقي وقواه السياسية ومصالحه الوطنية. والحكومة الإيرانية التي اتخذت أخيراً موقفاً عقلانياً بتأييد مجلس الحكم والدعوة إلى الخلاص من الاحتلال بأسرع وقت ممكن تواجه تخريباً لهذا الموقف من جانب القوى المتشددة والمحافظة التي تحاول إرسال عراقيين من أتباعها وإيرانيين إلى العراق للمشاركة في التشويش على الوضع وإثارة الفوضى, وهو موقف يفترض التصدي له ومنعه.
5. أما الولايات المتحدة فلا تريد التفريط بما حققته من احتلال للعراق بموقعه الاستراتيجي ومنابع النفط فيه وقربه من إيران وسوريا ومن روسيا الاتحادية, إضافة على صراعها الاقتصادي مع دول الاتحاد الأوروبي وبقية الدول المنافسة لها. ويعتبر العراق جزء من استراتيجيتها الدولية والإقليمية السياسية والاقتصادية والعسكرية. وهي ستحاول المستحيل من أجل البقاء الطويل في العراق, ولكنها ستصطدم بإرادة الشعب العراقي في المحصلة النهائية إن رفضت الخروج من العراق, كما ستصطدم بالإرادة الدولية والرأي العام العالمي.
6. أما الشعب العراقي فقد قبل بنتائج الحرب مؤقتاً وعلى مضض, ويرى في ضرورة إقرار الأمن والاستقرار في العراق ونقل السلطة إلى الشعب من خلال أحزابه السياسية وممثليه في اتحادية كردستان وفي الوسط والجنوب والمحافظات المختلفة وسن دستوره الدائم وإقامة الجمهورية الديمقراطية الفيدرالية. وفي هذه الوجهة يفترض أن يعتمد الشعب على نفسه وأن يعمل من أجل كسب المجتمع الدولي والرأي العام العالمي إلى جانبه, بما في ذلك الرأي العام الأمريكي والبريطاني. وكلي ثقة بأن الشعب العراقي سينجز ذلك رغم الصعوبات والتضحيات الغالية التي سيضطر على تقديمها على هذا الطريق الطويل.
برلين في 19/11/2003