صباح سلمان السكرتير الصحفى لرئيس جمهورية العراق كما كان يوقع مقالاته تحدث عن هاجس الامن كما سماه لدى رئيسه، وتحدث صلاح عمر العلي عن نظرية المؤامرة التى كان يتبناها صدام حسين لابتزار قيادة البعث واحمد حسن البكر.. وتحدث حامد الجبوري مدير مكتب البكر وصدام معا لفترة وجيزة عن عمله مع الرجلين ولو استجمعنا كل تلك الاحاديث اضافة الى ما نشر من مذكرات عبد الرزاق النايف نستطيع ان نتلمس الخيط التالي:
الكل قد اجمع ان صدام حسين رجل مخابراتي من الطراز الاول وانه لايستحق ان يكون بمنصب اكبر من هذا او ربما وزيرا للداخلية باحسن الاحوال لكن الجميع لم يربطوا بين سلوك الرجل وبين الفترة التى عاشها في منطقة الكرخ والتى سنركز في هذه المقالة على تلك الجذور السلوكية التى استمد منها صدام حسين فلسفته الامنية حينما تولى مناصبه كمدير دائرة العلاقات العامة( الاسم التمويهى لدائرة استخبارات الحزب) التى كانت نواتها جهاز حنين الذراع الضارب الذى كان البعثيين يستخدمونه كمجموعة من الاشقياء تتصدى لبعض عناصر الاحزاب الاخرى وخاصة الحزب الشيوعي وحركة القوميين العرب فقد كان من السهل عليه اداراتها للاسباب التالية :
-لم يكن عدد اعضاء الحزب كبيرا.
-كل العناصر الاخرى المضادة معروفة لاجهزة الحزب سيما بوجود عناصر بعثيية في دائرة الامن العام قبل 1968.
-اعتماده على مجموعة عناصر قام باختيارها بنفسه لتصفية اشقياء الكرخ ثم قام لاحقا بتصفية كل تلك العناصر .
-رغبته بالاطلاع اولا باول على تحركات عناصر الحزب والعناصر الحزبية الاخرى.
- عدم رغبة العناصر البعثية استلام تلك المهمة فاوكلت لصدام حسين بصفته الشخص الذى تصدى لعبدالكريم قاسم في ساحة الغريري بالرغم مما يقال انه لم يكن مكلفا بالعملية لكنه اراد ان يلعب دورا فيها في اللحظة الاخيرة فامر بكتابتها كقصة حرر أجزائها الثلاثة الشاعر عبد الامير معلة في روايته الايام الطويلة التى تم فرض بيع نسخها قسريا في دوائر الدولة والجمعيات الاستهلاكية والمدارس قبل ان يحولها المخرج المصري توفيق صالح الى شريط سينمى كان يعرض من شاشة تلفزيون بغداد في الذكرى السنوية لوقوع تلك العملية من كل عام الى ان فر صهره صدام كامل –ممثل شخصية محمد الصقر- الى الاردن حيث امر صدام حسين بحرق نسخ الفلم كلها.
عاش صدام حسين ردحا من حياته في منطقة التكارتة في الكرخ وبمحاذاة نهر دجلة والمتاخمة لمحلتى السوامرة والمشاهدة وهى ليست بعيدة جدا عن شاطىء منطقة الجعيفر والجسر الحديدى ومنطقتي العطيفية والكاظمية .
منطقة الرحمانية لغاية البساتين المقابلة لمستشفى الكرخ كانت تسمى (النزيزة- لان ارضها تنز ماءا آسنا) ومقبرة الشيخ معروف كانت مسرحا لعمليات الاشقياء الكرخيين سيما انهم شكلوا موجة مواجهة عارمة ضد نوري سعيد عام 1956 خلال تشييع القتلى في المظاهرات المناوئة للحرب الغربية ضد مصر ثم بعد ذلك لعبد الكريم قاسم بعد اعدام مجموعة الشواف عام 1959.
منطقة التكارتة تحولت فيما بعد الى صدامية الكرخ حينما امر ببناء الدور لسكنة المنطقة بعد اختباءه فيها خلال حرب 1991 فهو يعرف سكانها جيدا وكان بامكانه التنقل عبر زورق عادي من الدار التى اختبا فيها الى الضفة المقابلة من نهر دجلة وتحديدا في بناية غرفة تجارة بغداد ثم من هناك بسيارات مختلفة تجتاز شارع الرشيد الى الباب المعظم حيث وزارة الدفاع.
شاءت لى الاقدار ان ارى صدام حسين في صيف عام 1973 كل صباح بين الساعة السابعة والنصف والثامنة من كل يوم حيث كانت سيارة الدائرة التى تنقلنا الى مقر عملنا تجتاز الشارع المحاذى والقريب من بناية وزارة الخارجية حاليا وهو يسير بخطواته وبدلته –سترة بسراوين – وحفنة من رجال حمايته تحيط به وكان يفضل المشى لمسافة قصيرة تمتد حوالى كيلومتر واحد حيث يعاود المضى الى بناية المجلس الوطنى مستخدما سيارة مرافقة لموكبه اثناء سيره راجلاً.
كان ذلك التقليد ليس لغاية اكبر من لفت النظر اليه وكان يتطلع الى سيارات الدوائر وهى تجتازه ببط ويلقى نظرة تيه وخيلاء على وجوه لموظفات اللواتى كن مسرورات في التطلع اليه من نوافذ سيارات دوائرهن المارة من هناك .كان ذلك قبل 30 عاما مضت وكنت قد حصلت على اذن خاص بمغادرة دائرة عملى قبل نصف ساعة من انتهاء الدوام الاعتيادى لكى اشق طريقى الى الجامعة المستنصرية حيث اواصل دراستى المسائية بكلية العلوم وكثيرا ماكان يصادف خروجه من المجلس الوطنى الساعة الثانية والنصف بعد الظهر فيتحرك رجال الحماية بملابسهم المدنية المختلفة على جانبى شارع كرادة مريم ابتداءا من بناية المجلس الوطنى لغاية تقاطع مستشفى ابن سينا حيث مسارخط الباص رقم 15 كرادة مريم –الميدان ثم ينعطف يمينا على الشارع المؤدي الى قاعة قاعة الخلد التى تم فيها اعدام ناظم كزار مدير الامن العام السابق بحضور صدام حسين نفسه ولا يزال منظر الجثث التى اخرجت من القاعة بسيارات البيكب عالقا في ذاكرتى في ساعة الرابعة من عصر اليوم الذى تم اعدامهم فيه حيث خرجت ثلاثة سيارات بيكب تحمل تلك الجثث المغطاة بستائر بيضاء من القديفة استلت من جدران القاعة ذاتها حيث استوقفت سيارة مدرعة من نوع بردم سيارتى لحين مغادرة سيارات البيكب.
ندع كل هذه الامور ونتحدث عن الجانب الخفى في سلوك صدام حسين حيث لم يتحدث عنه الرجال الاربعة اعلاه الا وهو مبدا عراقى- بغدادي- كرخي كان الاشقياء يعملون بموجبه كمسلمات يتلخص بما نسميه –أخذ بوش الخصم- وهو مستنبط من المبدا الميكانيكى في ضبط الصامولة او النت على البرغي فيقول الاسطى لعامله عندما يأمره بفك او شد صامولة (اخذ بوشها) بمعنى ان لاتترك لها مجال او فراغا تتحرك فيه او تتحرر منه مرة اخرى.
وكان الاشقياء في منطقة الكرخ بين المحلات –السوامرة والتكارتة والمشاهدة والرحمانية والمنصورية - يلقنون ابناءهم هذا المبدا فكان البعض منهم ممن لايذهب الى المدرسة يتصدون لنا في طريق ذهابنا للمدرسة واذا استفردوا بصبى فهم يحيطون به من كل جانب لكى يتسنى لهم المباغتة اولا وعدم جعل الصبي قادرا على الهرب منهم ..فى بادئ الامر هم لايهاجمونه قبل ان يروا ردود افعاله فان تصدى لهم بقوة وهاجمهم بشدة فهم سرعان مايهربون ويتركونه او على الاقل منعه من الذهاب للمدرسة بقولهم له : ارجع لدارك لان ابوك مات...او المعلم سيضربك اليوم وان استطاعو هم –اخذ بوشه –اي الامساك بنقاط ضعفه مثل محاولته المحافظة على حقيبة كتبه او ملابسه او البكاء خوفا منهم فسرعان مايهجمون عليه بالضربات والركلات او بموس الحلاقة لقطع ياقة قميصه او حقيبته..
الاشقياء في الكرخ لم يكونوا يستفزون خصومهم لان الاستفزاز قد ينبههم ويمسكوا الحذر وقد تصدر عن الاستفزاز ردود فعل مبهمة او مجهولة قد تعارض خطط الشقى ...لكنهم اعتادوا على الكيد بهدوء والثبات على النكران اذا تم ضبطهم ..وهذا السلوك كله تجمع وتآلف في شخصية صدام حسين.
مبدا الامساك بنقاط ضعف الخصم ترسخ في عقل صدام حسين وسلوكه فحين استدعى حامد الجبوري الى مكتبه سلمه تقريرا وقال له اذهب لمكتبك لكى تطالعه وتبدي رأيك فيه وكان في الحقيقة يرمى الى الامساك بنقاط ضعف حامد الجبوري منتظرا ماسوف يبديه من ردود فعل او من تصرفات لشخص يوجه له اتهام ما.
سرى ذلك المبدا الصدامي في سلوكه مع كافة اعوانه ثم عممه ليصبح سلاحا يفتك به بكل العراقيين ثم سلوكا لقادة البعث وصولا حتى الى درجة نصير وهو يخاطب حلقة من المؤيدن بقوله:
كل شى اعرف عن كل واحد فيكم وعندى براهين ووثائق عن رفيق (يستخدم اسلوب التنكير وليس التعريف) نحن وضعناه تحت رقابة دقيقة..
مع انه لايملك اي شىء ابدا انما مجرد الايهام بذلك عسى ان تقع الحصاة في موضع ماء فينال من ردة فعل احدهم مايصبح دليلا على صدق كلامه الكاذب.
طور صدام حسين هذا المبدا الى –تلفيق الادلة- ضد خصومه ثم عرض تلك الادلة على حاشيته او اعضاء الحزب قبل الاجهاز على الخصم الذى يريد الاطاحة او الفتك به..وهو ذات المبدا الذى عمل بموجبه كولن باول في عرضه لادلة مهلهلة عن مخاطر الاسلحة العراقية اثناء جلسة مجلس الامن قبل الحرب في حين عجز لاحقا عن عرض الادلة الدامغة او الامساك ببعضها. وكان الاولى ان يتم ذلك بعد ضبط تلك الادلة.
هذا السلوك هو سلوك شرطة منحطة تعرف العمل المهنى جيدا وساسرد لكم هذه القصة ايضا للدلالة على ما أقول:
حدثنى المهندس علاء الاسدى وهو من اهالى محافظة الديوانية عمل في الدائرة الهندسية الخاصة برئاسة الجمهورية لتصميم معماريات احد القصور الخاصة بصدام على كورنيش الاعظمية ثم ابعد من هذه الدائرة لكونه –الشيعى الوحيد – رغم عبقريته في التصاميم المعمارية ..حدثنى انه كان طالبا في جمهورية مصر العربية خلال الفترة التى وافق السادات فيها عل القبول بمشروع التسوية في كامب ديفيد فشنت بغداد حملة اعلامية واسعة ضد مصر كان اول ضحاياها هم الطلبة العراقيين الذين يدرسون في مصر نترك الكلام للمهندس علاء الاسدى في الفقرة التاليه:
" حضر الى شقتنا في القاهرة رائد المباحث جمال عزت السيد الذى كان مسؤولا عن متابعة الطلبة العراقييين الساكنين في منطقة عمله الامنية خلال حملة التسفير التى بدات قبل يوم واحد من حضوره وبعد ان تناول فطوره معنا وتحدث الينا وكنا ثلاثة نسكن شقة واحدة حديثا وديا مثل كل مرة سال الشاويش الذى معه ان يبدا محضر ضبط الشقة..فتلا عليه الديباجة التاليه: نحن رائد المباحث جمال عزت السيد مدير امن منطقة مصر الجديدة قد زرنا صبيحة اليوم شقة الطلبة العراقيين الثلاثة اسماءهم التالية ولدى زيارتنا للشقة وتفتيشها عثرنا على نسخة من جريدة الثورة - لسان حزب البعث العربى الاشتراكي - ويبدو ان الطلبة على تردد دائم على سفارة بلدهم..(وهنا اخرج نسخة من الجريدة من جيب معطفه كان قد جلبها معه ) ونحن نرفق الجريدة في المحضر الذى اقتضى بموجبه تسفيرهم الى بلدهم وقد اقفل بتاريخ..
يتابع المهندس علاء الاسدى حديثه :الحقيقة اننا دهشنا جميعا فلم يكن لنا اى تردد على السفارة مطلقا ولم نكن بعثيين ابدا بل كنا ندرس على نفقتنا الخاصة وليس على حساب الدولة العراقية وكانت المجلة الوحيدة التى نحب مطالعتها هي "صباح الخير" الفكاهية ..والرائد يعرفنا معرفة جيدة فليس لنا هم ابدا نحن الثلاثة سوى الدراسة ومشاهدة الافلام المصرية .."
من هذه الحادث نستنبط الحقيقة ان رجل المباحث الخبير بعمله قد هيا مستلزمات الادانة وجلبها معه وثبتها فى المحضر على اسماع الطلبة الثلاثة وابصارهم وهو يخرجها من جيب معطفه ليضعها على منضدة الكتب الدراسية مباغتا الثلاثة حيث لم يترك لهم المجال لنكران ذلك ولكى يوضح لهم ان الدليل ملفق هو الاخر لكنه الوسيلة التى ينبغى العمل بها لابعاد الطلبة الثلاثة رغم علمه اليقين انهم ليسوا بعثيين ولاعلاقة لهم باى نشاط حزبي..
صدام حسين اتبع ذات المبدا الذى نفذه ضابط المباحث المصرى فهو يواجه خصومه بذات الطريقة حين يقتضى الامر تلفيق ادلة ضدهم فيعمل على مفاجأتهم بها امام نخبة يختارها هو بنفسه ممن يتاكد انهم لايستطعيون الاعتراض على مايقول او يدعى لانهم اعرف بانفسهم اولا ولان صدام حسين (قد اخذ بوشهم جميعا قبل احضارهم في مثل تلك المواقف) فلا تتوفر للمغدور بهم فرصه الدفاع عن انفسهم وقد تصدر عنهم ردود افعال مختلفة كتلك التى صدرت من ناظم كزار ضد صدام حسين قبيل الامر باعدامه شنقا في قاعة الخلد. انه تمثيل بارع باستخدام الادلة الملفقة التى نهج عليها صدام حسين بعد ان كان قد اتبع اسلوب القتل بحادث سيارة مبتداً بسليم العوادي رئيس نادى الشباب عضو قيادة فرقة البياع عام 1969 ونجاة لاعب كرة القدم في نادي الشرطة عبد كاظم أو اسلوب القنبلة المنصوبة في طائرة كما فعل مع مجموعة البعثيين الذين اوفدهم لزيارة السودان بعد محاولة انقلاب شيوعية هناك في عام 1971.
ثم تطورت محاولاته الى شكل اخر في قتل من لايريد لهم البقاء على قيد الحياة وخير مثال اطلاق النار على عبد الكريم الشيخلى في الاعظمية وعلى فاضل عباس السامرائى وزير الاوقاف عند عتبة داره .
اما الذين لايمكن رصدهم وقتلهم بهذه او تلك من الطرق فكان يلجا الى تلفيق الادلة ضدهم .. ان مباغتة الخصم كانت جزء من سلوك الاشقياء انذاك فهم كانوا يختباون في الزوايا حيث ان الابنية في بغداد بجانب الكرخ قبل اربعين عاما تحتوى على استدارات حادة او جدران غير منتظمة متداخلة بزوايا مما تشكل مخابىء للاشقياء لترصد ضحاياهم ومفاجاتهم ليلا في المناطق المعتمة .
وهكذا نشاْ صدام حسين على مبدا المباغتة الذى لايمكن تنفيذه في البيئة المفتوحة وعلى مبدا تلفيق الادلة لمن تبدو عملية التخلص منه صعبة او تترك ردود فعل . كما عمل جيدا بمبدا( أخذ البوش) الذى تحدثنا عنه .. وهكذا صار مبدا (أُخذ بوشه) سلوكا بعثيا اضافة الى التقلب في المواقف والمناورة به حسب ماهو مطلوب ناهيك عن الفضول والتطفل والتجسس الفردي بكل انواعه..لقد كان صدام حسين ناقلاً وناشراً لأخطر عدوى سلوكية رديئة ساهمت بانحلال القيم الاخلاقية والمصداقية والمسوؤلية .. سوف يحتاج المجتمع العراقي بلا شك الى سنوات عديدة للتطهر منها واستعادة النقاوة التى كانت نورا باهرا في سلوكه الانساني.