|
الإعلام العربي ... كلام حتى الموت !
توفيق أبو شومر
الحوار المتمدن-العدد: 2127 - 2007 / 12 / 12 - 11:31
المحور:
الصحافة والاعلام
(1_2) إذا كان الصينيون أكثر سكان الأرض استهلاكا للأرز ، وإذا كان الفرنسيون أكثر سكان المعمورة استهلاكا للبطاطس ، وإذا كان الأمريكيون أكثر الأمم استهلاكا للحوم ، وإذا كان الألمان أكثر سكان الأرض استهلاكا للبيرة ، وإذا كان سكان جنوب شرق آسيا أكثر المستهلكين للتوابل والبهارات فإن أكثر بلدان العالم استهلاكا [ للكلام] هم العربُ بلا منازع ! حاولتُ أن آخذ بعض وسائل الإعلام العربية نموذجا لإثبات النتيجة السابقة ، فوجدتُ أنها خيرُ دليلٍ على قولي السابق ، إذ أن البضاعة الرئيسة لمعظم القنوات الفضائية العربية هي الحوارات والمناقشات والجدل والفتاوى فهي [ تقتاتُ] على (الحوار العقيم) ، كما أن المخزونات الكلامية من هذا الحوارت تفوق مخزوناتنا من النفط الخام ، وليتنا نتمكن في القريب من إبداع جهاز لقياس [ المخزون اللغوي العربي ] لنتمكن من الحصول على دليل يوضح الفائض في محصولنا الكلامي . أعرف أولا بأن البُنية التحتية للإعلام ، هي في الأساس بُنية لغوية ، غير أن الإعلام المتطور تمكَّن من تحويل (الجمل والمفردات) إلى آليات عمل ، بعضها يصلح أن يكون (طربا) وبعضها يصلح أن يكون (علاجا) وبعضها الآخر يتحول إلى (خطط) مستقبلية وأكثرها في الإعلام المتطور في ألفيتنا الثالثة يتحول إلى أفلام وثائقية ! غير أن إعلامنا ما يزال يتمسكُ باللغة كغايةٍ من الغايات ، لا (وسيلة) لتحقيق الأهداف السامية وهي التأثير على السامع والمشاهد ليس كلاميا ، بل بصريا وعاطفيا وعقليا ! ويجب أن نتساءل : هل لغتنا هي المسؤولة عن [ ماضويتنا] أي أننا نحبُّ أن نحيا في ماضينا ؟!" ما أزال أذكر في سبعينيات القرن الماضي مسرحية الكاتب الإنجليزي (جون إسبورن) تحت عنوان [ النظر إلى الوراء] ، في هذه المسرحية تحليل لعقدة المغرمين بالسير إلى الوراء ، الذين ينتهي بهم الحال إلى أن يكون (الأمام) ضحيةً للوراء ، فيقع السائر إلى الوراء في كل حفرة تعترضُ طريقه لأنه ببساطة لا يراها ، ولا يرغب في رؤيتها ، فتكون عقوبته تحطيمَ نفسه بنفسه، ولكنني أعتقد بأن اللغات لا تكون مسؤولة أبدا عما يحل بأبنائها ! تابعتُ عددا من فضائياتنا (اللغوية) التي تبثُّ أربعا وعشرين ساعة في اليوم ، فوجدتُ أن تلك الفضائيات تستهلك ( أطنانا) من الجمل اللغوية التي تشير إلى قدرة المتحدثين على توظيف اللغة العربية (المُصنَّعة محليا) وهي مزيجٌ من الفصحى والعامية وبعض ألألفاظ الأجنبية في خلق مصطلحات جديدة فقط لا غير ، فضيوف تلك القنوات يملكون القدرة على توليد اللغة ، بعد أن برعوا في مسابقات (حركات الألسن) فقد وجدتُ بأن فضائياتنا العربية تضحي بالأوقات على مذبح الكلمات ، فأكثرها قنوات [ ثرثرة] لغوية ! فلم تعد الأخبار الموجزة (موجزة) بالفعل ، فقد أصبح الإيجازُ إطنابا حتى تتمكن القنوات من تغطية بثها المتواصل ، وكأنها في سباق مع الزمن لنيل البطولة في مسابقة (الكلام حتى الموت) ! كما أن هناك فضائياتٍ ، بضاعتها الرئيسة هي التجارة بالثرثرة ، ولا تحتاج هذه الفضائيات لرأسمال ، فهي فقط محتاجةٌ لبعض الفتيات القادرات على تحويل المفردات والجمل إلى رقصات وغنجٍ مثير ، لا تعني سوى إثارة الغريزة فقط ، أما الثمن الذي تحصل عليه الفضائية ، فهو ثمنٌ تقتسمه بالمناصفة بينها ، وبين شركة الاتصالات ، فهذه القنوات أحدث وسائل المتاجرة الإعلامية في بضاعة (الثرثرة) ! ومن يتابع (بورصة) التجارة العربية فإنه يستغربُ من أن أكبر الرابحين في تلك البورصة هم تجار الكلام وسماسرة الجمل في صورة (سندات) شركات الاتصالات ، وهذا يثْبتُ ما ذهبنا إليه ، بأننا جعلنا ثروتنا الرئيسة ثروة كلامية نورّثها لأجيالنا الآتية ! بحثتُ كثيرا عن إحصائية علمية موثقة تبين عدد الخطوط الهاتفية (الكلامية)التي تملكها الأسر الفلسطينية الفقيرة جدا على سبيل المثال ، غير أنني لم أُوفق فلم أعثر على أية إحصائية ، وأرجعتُ السبب في ذلك إلى أن تلك الإحصائية ربما تمسُّ ركائزنا الوطنية.وأهم ركائزنا ادعاؤنا الدائم بأننا من أفقر شعوب الأرض! والحقيقة أن الفلسطينيين من أكثر شعوب الأرض رغبة في استخدام الكلام ويعود ذلك إلى فترات السجن والحصار والقهر إذ أن المسجونيين يُعوِّضون عن سجنهم الجسدي فيحاولون تجاوز السجن باستخدام الكلام ، وقد أجريتُ استقصاءً شخصيا بين عدد ممن أعرفهم فكانت النتائج كما يلي : أسرة مكونة من شخصين ميسوري الحال تملك أربعة خطوط هاتفية ، خط تليفون منزلي ، وجوّالين ، وخط أورانج للشبكة الإسرائيلية ، وأسرة أخرى مكونة من ستة أشخاص من متوسطي الحال يملكون خمسة خطوط هاتفية ، لأن أحد أفرادها لم يبلغ السادسة من عمره بعد ، وأسرة أخرى مكونة من أحد عشر فردا من فئة الفقراء يملكون أربعة خطوط هاتفية! خلاصة لم يُفلح أبناء يعرب في تحويل (خام) الكلام إلى صناعة تحويلية ، تخرجه من كونه أداة خطابية ، ليصبح أداة حياتية فنية ، تشحن الناس بالأمل والرغبة في العمل ، فما أروع الكلام عندما تتمكن الشعوب من تحويله إلى طربٍ ومسرحٍ وغناء ! لقد أثَّرت (قوالب الكلام) على العرب فجعلتهم ينظرون بإجلال إلى القوالب العربية الفخمة نظرة تقديس، ويُجلُّون كلَّ الذين يملكون ناصية اللغة حتى وإن كانت القوالب اللغوية العربية لا تحمل موضوعا عمليا وهذا بالطبع ليس عيبا في اللغة العربية البريئة من دم الكسل العربي ، لأن بنيها فشلوا في تطويعها وتطويرها لتلائم واقعهم وتتمكن من استيعاب كل جديد وما أزال أحفظ أجمل بيت في قصيدة الشاعر حافظ إبراهيم الذي قال على لسان اللغة العربية : أنا البحرُ في أحشائه الدُّرُّ كامنُ فهل ساءلوا الغوَّاص عن صدفاتي ؟ فاللغة دُرّرٌ وأصداف ثمينةٌ عندما تُكتَشفُ وتُحوَّلُ في معامل السبك [ الإعلامية] إلى جواهر من الفنون والإبداعات، لا برامج فارغة وثرثرات ! ونظرا لعدم تمكن العرب من التعامل مع لغتهم الفصحى باحترام وإجلال فقد هجروها متجهين نحو دارجة ( الأيسكريم) اللبنانية والدارجة (الموسيقية) المصرية ودارجة (الوخز) السريع التونسية ، مع العلم بأن الفلسطينيين لم يتمكنوا بعد من تأسيس بنيتهم اللغوية الإعلامية ، فمعظم المذيعين والمذيعات الفلسطينيين يتقمصون لسان غيرهم، ظنا منهم بأنهم سيكونون أكثر حضارة وتطورا حين يستخدمون اللهجات الدارجة العربية ، هروبا من (جلافة) الدارجة الفلسطينية المسكينة ، التي لا تُلائم إلا المرحلة النضالية القاسية والخشنة !
#توفيق_أبو_شومر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل ستصبح غزة تحت وصاية حلف الناتو ؟!
-
إعلان براءة إيهود أولمرت بعد لاءاته الثلاثة !
-
الحوار المتمدن نافذة لأكسجين الحريات
-
هل الوطن العربي هو الذي يُهاجَر منه .. لا إليه ؟!
-
هل يملك الفلسطينيون حق رفض حضور مؤتمر أنابولس؟
-
لماذا يخسر العربُ الحروب ؟!
-
إحالة غزة إلى التقاعُد !
-
المخزون الاستراتيجي الإسرائيلي من الأسرى الفلسطينيين !
-
من يُحصي جرائم إسرائيل في حق الثقافة ؟!
-
هل يتمخض مؤتمر الخريفة فيلد ... (ورقة ) !
-
رواية شيفرة دافنشي ... بين الحقيقة والخيال !
-
ما أكثر كُتَّاب المقالات ، وما أقل أثرهم !!
-
تركيا وفلسطين وأمريكا وقوانين العنصريات !
-
ميكافيللي هو مؤسس نظرية الفوضى الخلاّقة !!
-
كيف ينهض العرب من كبوتهم ؟!
-
مصانع صقل (الشائعات)!
-
عولمة ... شهر رمضان !!
-
العرب والألعاب الأولمبية !!
-
جماهيرية غزة العظمى!
-
جماهيرية غزة العظمى !
المزيد.....
-
التهمت النيران كل شيء.. شاهد لحظة اشتعال بلدة بأكملها في الف
...
-
جزيرة خاصة في نهر النيل.. ملاذ معزول عن العالم لتجربة أقصى ا
...
-
قلق في لبنان.. قلعة بعلبك الرومانية مهددة بالضربات الإسرائيل
...
-
مصر.. غرق لانش سياحي على متنه 45 شخصًا ومحافظ البحر الأحمر ي
...
-
مصدر يعلن موافقة نتنياهو -مبدئيًا- على اتفاق وقف إطلاق النار
...
-
السيسي يعين رئيسا جديدا للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام
-
ثلاثة متهمين من أوزبكستان.. الإمارات تكشف عن قتلة الحاخام ال
...
-
واشنطن تخطط لإنشاء قواعد عسكرية ونشر وحدات صاروخية في الفلبي
...
-
هايتي: الأطفال في قبضة العصابات مع زيادة 70% في تجنيدهم
-
تحطّم طائرة شحن في ليتوانيا ومقتل شخص واحد على الأقل
المزيد.....
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
-
الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
/ مريم الحسن
المزيد.....
|