هل من فكر سياسي عربي جديد يستجيب للتحديات الامريكية وآليات التغيير ؟؟
مقدمة : امريكا ازاء ظاهرتين تاريخيتين
اعتقد بأن العرب اليوم منقسمين الى اتجاهين اثنين لا ثالث لهما بعد اندلاع الحرب الاخيرة واحتلال قوى التحالف الامريكي – البريطاني للعراق وازالة النظام السابق من الوجود ، اولاهما: اتجاه عارم ضد تجربة التغيير وثانيهما : اتجاه اخر مؤيد له على استحياء .. وتختفي الحكومات العربية اليوم وراء شعوب متذبدبة واعلاميات صارخة من دون ان تعلن عن ارائها صريحة بين هذين الاتجاهين المتناقضين . ان العرب ومن حولهم يعيشون اليوم ارهاصا ليس بايديهم مفاتيحه كما وانهم يحيون تناقضات صارخة لم تمرعليهم ، كما مرت شبيهاتها على آبائهم واجدادهم في مطلع كل من القرنين التاسع عشر والعشرين .. لقد نجحت الولايات المتحدة الامريكية بعد الضربة التي حاقت بها يوم 11 سبتمبر 2001 ان تحّول الكرة الى الملعب العربي والاسلامي بالذات لكي تختفي سياساتها السابقة فجأة والتي اتبعتها طوال خمسين سنة منذ بعيد الحرب العالمية الثانية بدءا بمشروع روزفلت ومرورا بسلسلة الانقلابات العسكرية العربية وانتهاء بمشروع الاحتواء المزدوج .. وبدأت تعلن بأنها ستقوم بمهمة التغيير في بنيويات الشرق الاوسط كاملة ، ولم تنفع صيحات العرب ولا ذبح حناجرهم في شوارعهم او فضائياتهم واذاعاتهم واقلامهم في منشوراتهم وصحفهم من ايقاف الامريكيين باتجاه كل من افغانستان والعراق .. وكانوا من الهشاشة بحيث اعتقدوا ان سبل المواجهة ضد القوى الدولية العاتية سيجعلهم منتصرين ليس في ساحة الميدان عسكريا ، بل سيجعلهم منتصرين في مشروعهم النهضوي والحضاري العربي والاسلامي كما اذاعوا طويلا ! وهم لم يدركوا مخاطر ما جرى في دواخلهم وخصوصا من قام بحرق الاوراق التي يقدسونها ويعتزون بها ازاء انفسهم قبل العالم ، فلقد قام اسامة بن لادن بدور مسيىء جدا في حرق ما يمكن ان نسميه باجندة الاسلام السياسي المعاصر الذي استمر قرابة مائة سنة منذ حركة السيد جمال الدين الافغاني على حساب تجليات الاسلام السامية .. وبنفس الوقت قام الرئيس المخلوع صدام حسين وامثاله بدور مسيىء جدا في حرق اوراق ظاهرة " القومية العربية " التي استمرت سياسيا وايديولوجيا قرابة مائة سنة منذ ولادة ما اصطلح على تسميته بـ " الامة العربية " على حساب نزعة العروبة الاصيلة .
نعم ، ظاهرتان تاريخيتان ولدت اولاهما من رحم الاسلام ومعتقده وولدت ثانيتهما من عمق العروبة وثوابتها . ان العرب اليوم لا يعترفون بحقائق ما يجري على ارض الواقع وكانوا وما زالوا لا يعتقدون بالتغيير الجذري ابدا . ولما بدأت امريكا تعلن عن مشروعاتها لاجراء التغيير ، فان اقصى ما قال به العرب هو " الاصلاح " من دون معرفة النوايا الحقيقية لهم وللمشروعات الامريكية معا ! وكم كنت اتمنى ان ينتبهوا منذ العام 1992 الى متغيرات العالم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي الذي لم تنفع معه مشروعات غورباتشوف في البيروسترويكا ( = اعادة الاصلاح ) والغلاسنوست ( = الشفافية ) وهي مشروعات كانت تجري فعلا على قدم وساق وليست على غرار ما يتغنى به العرب من دون اي نتائج . فهل يزحف التغيير اليوم نحو العرب واحدا واحدا وهم لا يدركون اسبابه ونتائجه ؟؟
لا مناص من التغيير الجذري ايها العرب !
اعتقد ان اختيار العراق ليكون صاحب اول تجربة تاريخية عربية في التغيير قد جاء لاعتبارات معقدة كونه صاحب خصوصيات نادرة جدا يمكنها ان تغدو مثلا حقيقيا لتجارب اخرى ربما ستولد لا محالة في السنوات القادمة سواء بتأثيرات داخلية صرفة ام بتأثير قوى خارجية ! ان متغيرات العام 2003 في العراق ، مصيرية وتاريخية ، ولكنني لا اعتقد بأنها ستكون حاسمة في حياة الشرق الاوسط كله . وقد اثبت العراقيون على مدى سبعة اشهر حتى اليوم ان في مقدورهم امتصاص ردود الفعل الداخلية في المركز والاطراف ناهيكم عن امتصاص التأجج الاعلامي العربي بعدم السماح لانفجار حرب اهلية . وكان الخوف يتركز على اجزاء العراق الحيوية قبل غيرها وخصوصا مربع الشمال ومركزيته الموصل قبل مستطيل الجنوب ومركزيته البصرة ، فاقليم الموصل يجمع بمركزيته تنوعات هائلة من انواع البشر بكل تبايناتهم العرقية والدينية والمذهبية والثقافية والاجتماعية بحيث تتعدد فيه الانتماءات والولاءات واللغات واللهجات والبيئات بشكل لا يمكننا ان نجد كمثله في اي مكان آخر من العالم . هكذا كان الامر يستوجب سيطرته على اقليم شمال العراق بكل فسيفسائياته وتشكيلاته القومية والسياسية والحضرية والقبلية والريفية .. الخ
نعم ، كنا نخشى جدا ان تتكرر تجارب تاريخية مريرة لا سمح الله وبنطاق موّسع ، ولكن تغير الحال بغير الحال وكان للمركز قدرته في السيطرة المحلية على الدواخل وتفاهم ابناء الشمال وخصوصا العرب والاكراد والتركمان عموما على مصالح عليا ومصيرية مشتركة ومن اجل تحقيق هدف واحد ساهم كل الشعب بتحقيقه وازالته من الوجود . ثمة سبب ثالث هو هروب كل جبروت النظام السابق وتبخّر المسؤولين عنه والالاف من عناصره التي سحقت الناس من اجل بقاء صدام حسين في السلطة الغاشمة ! وهي لم تزل حتى اليوم تناضل بكل شراسة وعنف مع من يتحالف معها من اجل ارجاع القديم الى قدمه .
التخوفات العربية والاقليمية
يبدو واضحا ايضا ان هلعا شديدا يكتنف عالم العرب والمسلمين قاطبة يبتدىء من قعره العربي باتجاهات وامتدادات جغرافية متباينة ضمن المحيط الاسلامي الهائل في آسيا خصوصا .. فالحكومات تخشى على تقاليدها السياسية الموروثة من اية تغييرات جذرية قد تصيبها في الصميم تحت مسميات تبلورت الان ميدانيا في الديمقراطية والحريات وتناسق الحقوق والواجبات والشفافية في ثورات دستورية تراعي متطلبات المجتمعات قبل طقوس الدولة ، والمعروف ان لكل نظام سياسي عربي طقوسه التي لا يحيد عنها بل وزاد منها ومن طغيانها لحماية نفسه ! لقد وقعت الانظمة السياسية العربية خصوصا بين مطرقة ابقاء اوضاع العراق على ما كانت عليه قبل التاسع من ابريل 2003 وبين سندان المشروعات الامريكية الصعبة التي بدأت مع انهيار سياسات ما سمي بـ " الاحتواء المزدوج " وخصوصا بعد الحادي عشر من سبتمبر العام 2001 . ان جملة من التوافقات غير المعلنة قد تبلورت من خلال حربين اثنتين من اجل استئصال الارهاب في كل من افغانستان عام 2002 والعراق عام 2003 ، ولكن بنفس الوقت تعتقد الحكومات العربية بأن هجمة التغيير تمتد الى كل مكان وان الاعلام العربي اليوم يعبر بوضوح عن خطاب الخوف العربي الذي ترتديه الحكومات وهي تختفي وراء الجماهير التي تعلن ليس عن الاحباط حسب ، بل عن الغضب والكراهية ضد السياسات الامريكية التي تحتكر مشروعات التغيير لنفسها فقط ، وكانت تلك " السياسات " قد اعلنت للملأ منذ احداث مانهاتن سبتمبر 2001 الاعتراف الضمني بنظرية صدام الحضارات .. وعن استراتجيات التغيير ليس السياسية حسب بل كل ما يخلق الارهاب كظاهرة تاريخية جديدة لا يمكن للعرب وغيرهم في العالم الاسلامي من انكارها ابدا .. ولكن السؤال : هل باستطاعة العرب ان يبدأوا بمشروع التغيير الجذري بمعزل عن الامريكيين ؟
ويبدو ان العرب اضعف من مواجهة الارهاب في دواخلهم كما ويبدو ان الارهاب يتحول شيئا فشيئا الى ساحة العراق بعد التاسع من ابريل 2003 لتصفية الحسابات مع الامريكان وبمباركة الشارع العربي والاعلام العربي ، فالعرب اليوم امام خيارين احلاهما صعب جدا ولا ثالث لهما ، فأما ان يقفوا مع التغيير الجذري الذي حدث في العراق والذي قاده الوجود الامريكي ، واما ان يقفوا مع قوى الارهاب العاصفة ضد الوجود الامريكي في المنطقة .. اذ يبدو ان كلا من الطرفين لا يمكنهما ان يتلاقيا ابدا .. فهل من طريق من نوع آخر ؟ انني اعتقد بأن اي طريق ثالث سيجده العرب مسدودا بوجههم .. وبذلك فهم يحرقون اصابعهم ويقدمون اسبابهم لتغيير الواقع باي ثمن وعلى طبق من ذهب ! فهل يدرك العرب اين الخطر؟
نداء من اجل المستقبل
لقد عاني الجميع في مشارق العرب ومغاربهم من الاساليب الفاشية وعمليات الدمار الممنهج وتكريس التخلف والعزلة وزرع الخوف والرعب . وان جملة من التقارير الواقعية التي تصدرها الامم المتحدة تفزع العالم كله عندما نقرأ اوضاع دولنا ومجتمعاتنا وتأخر العرب في كل الميادين بشكل يثير الشفقة والحزن ، وما وصلوا اليه من الاحوال السيئة في كل مرافق الحياة مقارنة بغيرهم من الامم وبسبب ليس زعمائهم وسياساتهم بل بسبب تفكيرهم الصلد في مسألة التغيير واعادة استكشاف انفسهم من جديد ازاء العالم . ويكفي مضي كل هذه السنوات عجافا وتبدد كل الثروات هباء لكي تبرز اتجاهات جديدة على الارض ليس من شقوقها الضيقة المعتمة بل من فضاءات العالم المتسّعة ! نعم ، ليعترف كل الخطائين باخطائهم او مساهماتهم في انتاج الاخطاء او تقديس الخطايا وخير الخطائين التوابون وان الاعتراف بالخطأ فضيلة .. وليدرك الجميع بأن الواقع العربي المعاصر بكل اثقاله يفرض علينا ان نتمسك بثوابتنا السامية وتجلياتها وان يغّير الناس قناعاتهم المثالية والطوباوية والشعاراتية التي تصطدم لا محالة بواقع مليىء بالدمامل وافواه الجراحات .. ان من اهم الاسس ابعاد كل قيمنا الدينية السامقة بتجلياتها الرائعة عن المستنقعات السياسية الاسنة . وليدرك ابناء العراق قبل ضياع الفرصة التاريخية من ايديهم ان ليس امامهم الا تنفيذ الاستحقاقات واعادة بناء العراق .
واخيرا : هل من كلمة ختامية اقولها ؟
ربما لا يتقبل بعض الناس مثل هذه الافكار وقد ينزعجون مني كما تزعجهم مفاهيم جديدة يعتبرونها مضادة ومتصادمة مع قيم يعتبرونها نبيلة وهم على خطأ في ما يتصورون ، فما نريده ونحلم به شيىء وما يريده الواقع ويتطلبه شيىء آخر . وعليه ، فان العلاج يكمن في التغيير من اجل اهداف سامية تقربنّا من بعضنا البعض بعيدا عن التعصب وعن التطرف وعن الغلو والتزمت ومن يريد ان يبقى على غلوائه وافكاره فليبقى اذ ستكنسه عجلة التاريخ وتفرمه مراوحه السريعة نحو المستقبل مما سيؤخر فعلا مسيرة الاجيال الجديدة .. واقول بأن التاريخ والمستقبل ليس ملكا لنا وحدنا حسب ، فالاجيال القادمة لها استحقاقات علينا ، ولابد ان نفكر منذ الان في حمايتها من كل الهزات والتصدعات والكوارث والمصائب .. ونحترز على اساليب نظيفة في توظيف زمننا وثرواتنا وتفكيرنا وتجاربنا من اجل مصالحنا الحيوية في عالم يعج بالمصالح المتنوعة . فهل نحن فاعلون ؟ وهل سيفتح العرب ابوابهم للمستقبل ؟ فاما ان نشعل قناديلنا المشتركة من اجل ذلك واما نبقى في دوامتنا البليدة الكئيبة مائة سنة اخرى .. دعوا طريق المستقبل يجيب على ذلك