يجري الحديث في بعض الصحف والمواقع العربية حول الحكومات الإلكترونية. وعلى الرغم من أنّ هذه المهمة طرحت في بعض البلدان العربية منذ مدة ليست بالقريبة، فإنّ الملفت للانتباه عدم تحقيق أي تقدم ملموس على هذا الصعيد.
لمعرفة أسباب قصور الأنظمة والحكومات العربية في تحقيق هذه المهمة من المفيد التعرف بشكل مبدئي على عصر المعلوماتية، ومتطلبات دخول أي بلد بشكل سليم في هذا العصر.
عصر المعلوماتية:
كانت الدول تقارن من حيث الغنى، بمواد الخام والموارد الصناعية والبشرية التي تمتلكها، أما في عصر المعلوماتية فقد أصبح مقياس الغنى الشخصي، أو الوطني، هو كم المعلومات التي يملكها هذا الشخص، أو البلد.
في عصر المعلوماتية تصبح بعض وسائل الإنتاج بهذا الشكل أو ذاك عالمية، وشخصية، في آن معاً.. خاصة بعد تدشين ما أصبح يعرف بجادة المعلومات، أو طريق المعلومات السريع.. informatics superhighway ، وهي الآلية والوسيلة الناتجة عن العمل المشترك لجميع "التقنيات المتوفرة (عالمياً، ومحلياً) على صعيدي الاتصالات والمعلومات، من الهاتف والتلفزيون والكمبيوتر الشخصي والأقمار الاصطناعية والأطباق اللاقطة والموجات الميكروية في منظومة مدمجة، ووضعها بتصرف الأفراد والمؤسسات، والمنظمات للإفادة منها في الحياة العملية والاجتماعية".(1)
تؤمن جادة المعلومات البيانات الضرورية لاتخاذ أهم القرارات، في مختلف مجالات الحياة، الطبية، الهندسية، الحربية.. وغيرها، من قبل مختصين موجودين على بعد آلاف الكيلومترات كل منهم عن الآخر.. وفي ذلك ثورة على صعيد العلم، والمعرفة، والخدمات، فضلاً عن فسح المجال للعمل من داخل المنازل..
وجادة المعلومات ليست حكراً على بلد بعينه، بل يمكن لجميع الدول الاستفادة منها..
ومن أهم الدول التي اهتمت بجادة المعلومات بعد دول العالم الصناعي، دول ما يعرف بالنمور الأربعة (سنغافورة، تايوان، كوريا الجنوبية، هونغ كونغ)، ففي سنغافورة (عدد سكانها حوالي2.8 مليون نسمة)، نفذت شبكة اتصالات أمنت وصول جادة المعلومات إلى أغلب المنازل، مما سهل عمليات التبضع، ومختلف النشاطات الاقتصادية والتصميمية، بدءاً من تصميم البناء، وحتى الألبسة وغيرها..
هكذا تقرب جادة المعلومات العالم، من مفهوم "القرية الإلكترونية". وستحل الثورة الحقيقية في الاستثمار الأمثل لجادة المعلومات، عند إقرار العملة الإلكترونية، وعندما يصبح من الممكن التثبت من صحة ودقة التوقيع الإلكتروني، لتصبح الوثيقة الإلكترونية هي الأصل، والورقية مسودة.
وتزيد جادة المعلومات من أهمية البريد الإلكتروني ، والشاشات المشتركة الصورة، التي ستلغي الحاجة إلى العديد من الاجتماعات، في المؤسسات والشركات... كما سيصبح بالإمكان إحلال وسائل البريد الإلكتروني ومعها الجداول الإلكترونية، وغيرها من المستندات المرفقة، كملاحق محل الاجتماعات المخصصة لتقديم، أو شرح مشروع معين، أو فكرة إنتاجية ما للمشاركين المعنيين، ومن ثم فعندما تتم الاجتماعات المباشرة بين الأشخاص المعنيين، سوف تصبح أكثر فاعلية، بالنظر إلى أنّ المشاركين سيكونون قد أحاطوا جميعاً بالخلفية المعلوماتية من خلال البريد الإلكتروني. وسيصبح ممكناً حضور الاجتماعات والمؤتمرات عن بعد. وسيساعد ذلك في تطوير عمل التنظيمات الاجتماعية والسياسية..
أزمة الأيديولوجيا والحكومات والبنى القاصرة في عصر المعلوماتية:
من ميزات اقتصاد مرحلة عصر المعلوماتية "التنوع، والتخصيص، ونزع الطابع الجماهيري عن العمل".(2)
يفرض عصر المعلوماتية أموراً جديدة على المجتمعات البشرية، لا بد من أخذها بعين الاعتبار عند سن التوجهات السياسية لكل بلد، منها: تخطي الحواجز القومية ليس فقط عند نقل المعلومة والخبر، وإنما عند اتخاذ بعض القرارات التي تمس الحياة الاقتصادية، والشؤون الاجتماعية للدول، والحياة الخاصة بعصر الكمبيوتر، وغزارة المعلومات وسهولة الوصول إليها، وسرعة التغير، وحرية المعلومات.. وغيرها من المسائل التي تعزز الحاجة إلى الديموقراطية.
إذا أجرينا مقارنة بين البنى السياسية للمراحل الاجتماعية المختلفة، لوجدنا أنّه، "في المجتمعات الزراعية السابقة، كان عدد الأفراد المساهمين باتخاذ القرارات السياسية أو الاقتصادية الأساسية، ضئيلاً جداً..
(أما الثورة الصناعية، فقد ترافقت) مع ثورات وإصلاحات ديموقراطية متفجرة تصب كلها في توسيع المساهمة. فالتصنيع هو الذي خلق ما نسميه بالديموقراطية(بالمعنى العصري للكلمة)"(3).
إذا كانت تلك هي الحال في المراحل الزراعية والصناعية، فكيف ستكون في عصر المعلومات؟
إنّ إدارة المجتمع في عصر المعلومات، تحتاج إلى إعداد قرارات أكثر مما يتطلبه المجتمع الصناعي، بمعنى أدق تحتاج إلى أوساط وقوى أوسع لاتخاذ القرار، وهذا الأمر يتطلب مزيداً من الديموقراطية.. فهل الأنظمة العربية قادرة على تلبية هذه (المعجزة)، وتحقيق قليل من الديموقراطية الحقيقية ، وغير المزيفة في مجتمعاتها؟
في عصر المعلوماتية، تزداد بنية المجتمع تنوعاً، وتعقيداً، وتمتاز بالتغير المستمر.. ولفهم آلية التطور داخل المجتمع علينا استخدام مناهج جديدة، تعد المعلومات أساسها.. فالمعلومات تتأثر بالسلطة وبالسياسة وتؤثر بها..
في الوقت الذي يتبجح فيه البعض بنعم الثبات والاستقرار، ويهابون فكرة ولفظ التغيير، فإننا نجد علاقة عضوية ومتبادلة بين التنوع والتغيير في عصر المعلومات، والتغيير والتنوع شرطان ضروريان من شروط التطور في عصر المعلوماتية، ومن لا يقر بهما، سيبقى خارج هذا العصر..
التنوع يتغذى من ذاته، ويرفع باستمرار مستويات المعلومات التي يتطلبها النظام.
والتغيير ناجم عن ضرورة تحرك الأشياء بسرعة في هذا العصر.. بالتالي كل تنوع يؤدي إلى التغيير، والتغيير يفضي إلى التنوع..
انطلاقاً من هذه المعطيات علينا بناء سياستنا في عصر المعلومات..
في بعض البلدان يريدون الاستفادة من حسنات عصر المعلوماتية ، لكنهم لا يستطيعون فتح الأبواب للتنوع والحرية الحتمية لتطويره. "ولمحاولة حل هذا المأزق، اشترى السوفييت (على سبيل المثال) تكنولوجيا جديدة من الخارج، (كانت تلك) محاولة ساذجة (لدخوا عصر المعلومات) .. فالتكنولوجيا غير قادرة وحدها على خلق عصر المعلومات. يتطلب اقتصاد عصر المعلومات، ثقافة عصر المعلومات، والكادر السياسي لعصر المعلومات".(4) إن لم تتحقق هذه الشروط، ـ التي تؤكد ضرورة إجراء إصلاحات سياسية حقيقية ـ فلا دخول سليم إلى عصر المعلوماتية؛ وتبقى المهام التي تطرح: كالحكومة الالكترونية، وغيرها ذراً للرماد في العيون..
من الضروري التمعن في التحليل، الذي يرى البعض بموجبه، أنّ أحد أسباب سقوط الاتحاد السوفيتي، نجم عن عجز حكومة السوفييت في الاستمرار في تضليل شعبها، في عصر المعلومات..
عن أية حكومة إليكترونية تتحدثون؟! سامحكم الله!:
إلى أي مدى يستطيع العرب شعوباً وأنظمة تلبية متطلبات عصر المعلوماتية؟
إنّ للكمبيوتر وشبكة المعلومات انعكاسات متعددة على النظام السياسي. فإذا كانت الكومبيوترات الشديدة المركزة تعزز سلطة الدولة على الفرد، فالكمبيوترات غير الممركزة، يمكن أن تعزز بالمقابل سلطة الفرد.
ومع ازدياد دور التكنولوجيا في حياة المجتمعات البشرية، ونمو نزعتي التنوع والتغيير فيها، تزداد أهمية التطوير في الحياة السياسية للمجتمعات.
وهكذا نجد أنّ عصر المعلوماتية يتطلب، على الصعيد الداخلي، إعادة توزيع عبء اتخاذ القرار ، لتعطى في بعض الحالات، المستويات الدنيا من التراتيبية سلطة قرارية أوسع. وعلى الصعيد الخارجي، تتداخل عوامل جديدة، تجعل بعض القرارات التي عرفت تاريخياً إنّها من اختصاص الدول، وعنوان سيادتها، تعتمد من قبل أجهزة وهيئات تتخطى الحدود القومية(5).. ويتكرر السؤال الجدي : إلى أي مدى يستطيع العرب ، شعوباً وأنظمة تلبية هذه المتطلبات، والقيام بالإصلاحات السياسية الحاضنة لها؟!
على الصعيد الشعبي يتستر البعض وراء الخصوصية المفتعلة، ليس فقط لكبح أي تقدم عربي حضاري، بل وتصل الأمور ببعضهم تحريم الاستفادة من إنجازات الحضارة العالمية، ونذكر على سبيل المثال الشواهد التالية: " اعترض البعض على طباعة القرآن الكريم ، فكيف يسمح لاسم الجلالة أن يكتب بحبر الزفر.. عند بدء البث الإذاعي اعترض بعض أهل الدين في مصر على إذاعة القرآن الكريم.. رفض عبد الناصر طلب حسن الهضيبي بإغلاق أبواب المسارح والسينما.. حرمت هوائيات البث الفضائي في بعض البلدان العربية، وأطلقت النار على الصحون اللاقطة في بعضها الآخر.."(6)
وعلى صعيد الحكومات والأنظمة، نجد أغلب الأنظمة والحكومات العربية ترفض التغيير بحجج مختلفة، وتتشبث بالبنى القديمة البائدة، كل ذلك يعرقل تأمين متطلبات الدخول في عصر المعلوماتية..
من كل ما تقدم تتبين جسامة التحديات المنتصبة أمام شعوبنا في عصر المعلومات.. والخطوات الوجلة الخجولة التي نحاول أن نخطوها.. وإذا أردنا البحث في أسباب هذا القصور، والسبيل السليم للسير في طريق الحضارة ولكي نجد لأمتنا مكاناً في عصر المعلوماتية، من الضرورة بمكان إعادة بناء العلاقة السليمة بين منظومة الثقافة ومنظومة السياسية: آخذين بعين الاعتبار أن من أبرز ملامح العلاقة الثقافية المعلوماتية إعادة طرح المفاهيم الأساسية للديموقراطية والعدالة الاجتماعية وحماية الخصوصية الفردية.
كما أننا بحاجة إلى مراجعة شاملة لأمور حياتنا ، بما فيها الفكرية والثقافية:
علينا الإقرار بمحدودية الفكر القائل بأنّ "الإسلام دين ودنيا، وبناء على ذلك فهو يحتوي الثقافة بأسرها في عباءته،.."(7) وما نجم عن ذلك من دعوة لأسلمة العلوم، وضع حواجز أمام العلم والثقافة العربية، وحرمانها من مسارات وآفاق ضرورية للنمو والتطور، ألا وهي مسألة التراكم: "لم يمارس الفكر النظري لدينا، بما فيه الديني، التراكم الذي مارسه الفكر الغربي، الذي تنقل بحرية من محورية الميتافيزيقا ومفهوم الألوهية، إلى محورية الإنسان، ومن عقل يسيطر عليه الدين إلى عقل يعلن انفصاله عنه".(8)
ومن المفيد والضروري الاستفادة، من مختلف المؤسسات الخاصة والرسمية العربية، ومؤسسات المجتمع المدني ، لتضافر الجهود في هذا المجال..
والمفتاح الحقيقي لذلك كله يكمن في إصلاح البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية في بلادنا.. فإلى أي مدى نحن مستعدون لذلك..
إن الإصلاح السياسي هو المفتاح الحقيقي لمعالجة مشاكلنا ، ومن دون هذا الإصلاح السياسي، من دون تأمين متطلبات عصر المعلوماتية وثقافتها، وكوادرها التقنيين والسياسيين، فإن تكديس أجهزة الكومبيوتر، وهدر الأموال على الاحتفالات الكرنفالية حول تدشين الحكومات الإلكترونية لن يدخلنا عصر المعلوماتية بشكل صحيح.. وإنني أقول لمن يبحث مشكوراً في مسألة الحكومات الإلكترونية في بلداننا، ولأولئك الذين تدفعهم الغيرة على مصلحة بلادهم، وشعورهم المهني والوطني السليم بضرورة عدم التأخر عن ركب الحضارة العالمية، فيضعون خططاً وبرامج محددة وملموسة وصائبة على الصعيد التقني والنظري.. أقول لهم: إن لم نحقق متطلبات الدخول السليم إلى عصر المعلوماتية، من ثقافة معلوماتية صحيحة، وليست مفتعلة أو كرنفالية مبتذلة، ومن كوادر تقنية وسياسية، وإصلاح سياسي ديموقراطي ينسجم مع مناخ عصر المعلوماتية، فإننا سنهدر عقوداً من الزمن ونحن نكرر نفس الشعارات والأحلام حول الحكومة الإلكترونية، كما هدرنا عقوداً قبلها، ونحن نكرر شعارات مشابهة، ولم نحصد إلاّ ضعف النمو الاقتصادي، ومزيداً من الفساد، والخوف من المستقبل..
إن مصلحة بلداننا وشعوبنا، في التقدم والنمو، وإيجاد موقع صحيح لنا بين الشعوب المتحضرة، تقتضي عدم الإبطاء في تحقيق التغيير السياسي الديموقراطي السليم الذي يؤمن معالجة أزماتنا ومشاكلنا المتراكمة، ويحقق متطلبات الدخول الصحيح في عصر المعلوماتية..
طرطوس 18/11/2003 شاهر أحمد نصر
[email protected]
الهوامش، والمراجع:
(1) أنطون بطرس ـ كتاب العربي أبريل/نيسان 2000 ـ الكويت ، ص114
(2) الفن توفلر ـ وعود المستقبل ـ تعريب فارس غصوب ـ دار المروج ـ بيروت ـ 1986 ص19
(3) نفس المصدر ، ص27
(4) نفس المصدر ص 108
(5) نفس المصدر ، ص 107
(6) د. نبيل علي ـ الثقافة العربية وعصر المعلومات ـ سلسلة عالم المعرفة 2001 الكويت، ص413
(7) Hanafi Hassan , 1995 , Islam in The Modern World , The Anglo – Egyptian Bookshop , Cairo
(8) د. نبيل علي ـ الثقافة العربية وعصر المعلومات ـ سلسلة عالم المعرفة 2001 الكويت، ص426