اختلط موقف المعارضين السوريين من العلاقات السورية اللبنانية بصورة لا مفر منها بالموقف من الحرب اللبنانية ومن التدخل السوري في لبنان صيف عام 1976. لكن الحديث عن معارضة سورية في ذلك الوقت هو بالفعل مفارقة تاريخية. وهذا لا يعود إلى أن مفهوم المعارضة كان غريبا على تلك التنظيمات اليسارية والعروبية والإسلامية التي كانت تصدر عن إشكالية البديل الثوري والطليعة وما إليهما؛ ولا إلى التعارضات الكبيرة جدا وقتها بين هذه التيارات الإيديولوجية السياسية والتي تجعل المسافة بين بعضها أوسع من المسافة بينها وبين السلطة، وتلغي تاليا شرعية الحديث عنها كمعارضة واحدة؛ ولكن إلى شيء أكثر بساطة هو أنه لم تكن قد تشكلت قوى تعلن بوضوح أنها تعارض نظام الحكم السوري أو تطرح تصورا للدولة والسياسة مختلفا عن تصوره. والواقع أن التدخل السوري في لبنان هو الذي وفر لحظة الانتقال من مواقف معارضة باتجاه سياسة معارضة أخذت تستكمل مقوماتها شيئا فشيئا. هذا يصح على الحزب الشيوعي – المكتب السياسي الذي أعلن وقتها موقفا مناهضا للتدخل السوري معتبرا أنه لا يخدم " القضية العربية ولا النضال الفلسطيني ولن يعزز وحدة اللبنانيين". هذا ينطبق أيضا على رابطة العمل الشيوعي التي سرّع التدخل السوري تكونها كإطار تنظيمي موحد انطلاقا من مجموعات ماركسية متعددة. وقد أدركت الرابطة التدخل بلغة إجهاض الثورة الوطنية الديمقراطية في لبنان وسحق المقاومة الفلسطيينية ومساندة الانعزاليين ضدها وضد الحركة الوطنية اللبنانية وتقوية أوراق النظام في التسوية. ولم يكن موقف الاتحاد الاشتراكي العربي (حزب ناصري ترك الجبهة التقدمية منذ عام 1973) بعيدا عن ذلك، لكنه لم يعلن. وسرع التدخل السوري تكون تنظيم ناصري معارض للسلطة وللاتحاد الاشتراكي في آن معا هو التنظيم الشعبي الناصري الذي رأى أن التدخل السوري جاء بطلب من "الدولة اللبنانية وقوى الجبهة اللبنانية لحماية القوى الانعزالية، فأحبطت فرصة قيام نظام تقدمي تتعايش فيه كل الطوائف من خلال انتمائها الوطني" (الاقتباسات من شمس الدين كيلاني: مواقف النخب السورية من العلاقات اللبنانية السورية، مجلة "الآداب" البيروتية، العدد 1/2 سنة 2003).
وبالنظر إلى الخلفيات الإيديولوجية اليسارية والقومية العربية لأصحاب المواقف المعارضة فقد صدروا في موقفهم من التدخل السوري من اعتبارات تقدمية وقومية وفلسطينية لا من مبدأ السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لبلد أخر. وهذا لا يعود فقط إلى غرابة مفهوم السيادة - بما في ذلك سيادة سورية نفسها- في الثقافة السياسية السورية كما اشار برهان غليون (في حوار أجراه معه كاتب هذه السطور في "الآداب"، العدد نفسه)، ولكن إلى أن الحرب اللبنانية بمكونيها الأهلي والإقليمي وما وراءهما هي في الجوهر انهيار للسيادة اللبنانية وزوال للداخل البناني. وعلى كل حال لم يكن هناك أحد في الساحة البنانية يمثل بصورة منسجمة مبدأ عدم التدخل، أعني أن من كان يرفض تدخل هذه الجهة الخارجية أو تلك قد يستعين هو ذاته بجهة أخرى خارجية أو حتى معادية. ولذلك لم يطرح مبدأ السيادة إلا كعنصر في أجندة انعزالية بحق ومرتبطة بتحالفات معادية للعرب وللفلسطينيين والسوريين.
بين المثقفين والسياسيين السوريين انفرد المرحوم ياسين الحافظ بموقف أقل سلبية حيال التدخل السوري في لبنان استنادا إلى تحليله للحرب اللبنانية كحرب طائفية قذرة بين فلقتي أمة، ومنحه الأولوية لوقف الحرب لا لانتصار اليسار اللبناني الذي رأى أنه قشرة سطحية على عمق مفوت، فيما اعتبر المقاومة الفلسطينية متورطة. ورأى الحافظ أن الحرب تعاقب لبنان على ديمقراطيته ودوره كنافذة ثقافية للعالم العربي على العالم الواسع.
في الإطار العام بقي الموقف من العلاقات السورية اللبنانية يمر بالضرورة من الموقف من الحرب متقلبة التحالفات الدائرة في لبنان من جهة، ومن الموقف من الوجود السوري متقلب الشرعيات والمرجعيات والتحالفات أيضا من جهة أخرى، ومن جهة ثالثة من موقف المعارضين من السلطة السورية نفسها، وخصوصا بدءاً من أواخر السبعينات حيث شهدت البلاد أعلى ذرى المواجهة السياسية (والعسكرية بالنسبة للإسلاميين) بين المعارضة والسلطة. ولم يكن غياب لبنان بحد ذاته عن خطاب المعارضين السوريين إلا انعكاسا لتمزق لبنان بتأثير حالة الاستقطاب الحاد والمتفجر بين الفرقاء اللبنانيين وحلفائهم، أي عن خلو لبنان من "لبنان بحد ذاته".
بدءأ من أوائل الثمانينات أخذت فكرة إنهاء الحرب بأي ثمن تتقدم في نهج الحزب الشيوعي المعارض باعتبار أنها حرب عبثية وطائفية يدفع الشعب اللبناني ثمنها. وثابر على المطالبة بالانسحاب السوري استنادا إلى المفعول السلبي للوجود السوري في لبنان، ولكن أيضا في سورية ذاتها حيث تنتج الهيمنة السورية في البلد الشقيق الضعيف وضعا ليس في مصلحة التطور الوطني. وكان موقف الاتحاد الاشتراكي الناصري الشريك في التجمع غير بعيد عن هذا الموقف، لكنه تميز كالعادة بأنه أكثر دبلوماسية، وغاب عنه مطلب الانسحاب السوري، الأمر الذي قد يعكس تاثير بعض القوى الناصرية اللبنانية عليه. ولم يعد لمطلب الانسحاب السوري الأولوية في توجه حزب العمل الشيوعي أيضا، وهو ما يعود على الأرجح لتأثير منظمات يسارية فلسطينية وأطراف من الحركة الوطنية اللبنانية. أما الإسلاميون فكان موقفهم العنيف من الوجود السوري في لبنان استمرارا لموقفهم من السلطة السورية، وتركيزه ينصرف إلى عوامل فلسطينية ومذهبية ودينية.
وحتى بعد انفكاك التحالف السوري مع "القوى الانعزالية" والتقارب مع منظمة التحرير و"القوى الوطنية" رأى التجمع الوطني الديمقراطي أواخر السبعينات أن التعاطي السوري مع الأزمة اللبنانية يعيد تدوير هذه الأزمة بدلا من حلها جذريا وأنه يعتمد مزيجا من الحلول الأمنية ومن إحداث توازنات مؤقتة تسمح بالإمساك بما سيسمى بعد حين بالملف اللبناني. وفي عام 1982 رأى التجمع أنه مهما تكن المآخذ على النظام اللبناني فإنه "أفضل حالا من كل الامبراطوريات العربية، وكان عليه أن يدفع الثمن غاليا. فالشكل اللبناني للديمقراطية أخاف الحكام العرب من أن تمتد جرثومته إلى أقطارهم وشعوبهم، وكان هذا أحد الأسباب التي دعتهم إلى أن يسوقوه ويسوقوا معه المقاومة الفلسطينية إلى محنة تدمير الذات" (الاقتباس من كيلاني في المصدر نفسه). ونميل إلى أن هذا التحليل يلبي حاجة التجمع إلى تأكيد هويته الديمقراطية أكثر مما يشخص مخاطر عدوى "جرثومة" "الشكل اللبناني للديمقراطية" إلى "الامبراطوريات العربية".
وفي أواخر الثمالنينات رأى الحزب الشيوعي- المكتب السياسي أن اتفاق الطائف الذي رعته سورية يعكس مطالب وأولويات النظام العربي والنظام الدولي أكثر مما يلبي مصالح الشعب اللبناني، لكن الرغبة في انتهاء الحرب بأي ثمن غلبت في المزاج السياسي المعارض.
حين انتهت الحرب اللبنانية في التسعينات كانت أطراف المعارضة السورية قد بلغت ذروة إنهاكها، ولم يعد نشاطها - حيثما بقي - يتجاوز البقاء على قيد الحياة. وفي نهاية العقد فقط بدأت الروح تدب في حركة المعارضة. والمحطة الأهم هنا هي الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان في أيار 2000. فقد تضمن البيان الذي صدر بالمناسبة عن التجمع الوطني الديمقراطي، وكان قد بقي الإطار المنظم الوحيد للمعارضة داخل البلاد، تثمينا للمقاومة، ولكن كذلك تذكيرا بمراحل المقاومة السابقة، الفلسطينية واللبنانية، وإعادة اعتبار لتلك المراحل، في إيحاء بالدور السوري في تغليب حزب الله ومنحه احتكار المقاومة.
تشكل مرحلة عام 2000 وما بعد طورا جديدا من أطوار الحياة السياسية في سورية التي افتقرت إلى التراكم طوال ما يقارب العقدين. وإنما في هذا الطور فقط أخذت تلك القوى مختلفة الأنساب الإيديولوجية تعي ذاتها عبر مفهوم المعارضة. وهنا فقط أيضا حقق شعار الديمقراطية انتصاره السهل وبات القاسم المشترك الأعظم بين جميع الناشطين في الميدان العام الجديد، أحزابا وأفرادا ومجموعات. ويمكن للمرء أن يرصد تناسبا طرديا بين محورية الديمقراطية في الخطاب المعارض وبين إعطاء مزيد من الاهتمام للسيادة والاستقلال اللبنانيين. ولا شك أن انتهاء الحرب اللبنانية واستعادة لبنان بعض داخله قد ساعدا على الدفع باتجاه هذا الموقف. ولعل التعبير الأوضح عن هذا الاتجاه نجده عند رياض الترك الذي رأى أن من "واجبنا نحن السوريين أن نتعامل اليوم على أساس احترام سيادة لبنان واستقلاله" ودعا إلى الكف عن التدخل في الشئون الداخلية اللبنانية, معتبرا أن "الشعب اللبناني سيقدر ذلك ولن يسمح للطائفيين المتزمتين بتعميق الشرخ بين الشعبين بسبب عجزهم المزمن عن التمييز بين النظام والشعب في سورية"، وأن "المشترك بين الشعبين هو النضال من أجل الديمقراطية". (من حوار معه أجراه محمد علي الأتاسي في ملحق النهار، 22/12/2002)
وبينما لا يزال يصعب القول إن هناك تصورا نسقيا للعلاقات السورية اللبنانية لدى المعارضين السوريين فإن "تدخلهم" في الشأن اللبناني، وبالخصوص كناشطين ومثقفين، يزداد. وهم يعبرون اليوم عن تصور أولي للعلاقات بين البلدين يقوم على نزع الطابع الأمني عنها لتصبح علاقة تكافل وتفاعل حر ومتناسق (ميشيل كيلو)، أو يتمناها "علاقات من نمط جديد تخدم مشروع التنمية الإنسانية والارتقاء بشروط الحياة في البلدين" (برهان غليون).
دمشق 21/9/2003