لا تزال لعبة الكر والفر الأميركية مع مقتدى الصدر مستمرة. ويوما بعد يوم تأخذ طابعا أكثر خطورة. ابتدأت اللعبة بإرسال طائرات مروحية لغرض إزالة علم شيعي, لم تحتمل القوات الأميركية وعيونها الأرضية رؤيته يرفرف في سماء حزام الفقر البغدادي! ثم انقلب الموقف الى صدامات مسلحة في مدينة الصدر وكربلاء, وانتهى بهجوم واسع على مكاتب تيار الصدر في أغلب المدن الشيعية الكبيرة.
وفي كل عملية من العمليات المذكورة مارست القوات الأميركية ضروبا متنوعة من الضغط السياسي والعسكري والاستخباراتي, هدفها اختبار طبيعة ردود فعل هذا التيار سياسيا وعسكريا. وتقع ضمن عملية الاختبار هذه مهمة تصعيد وتنويع أساليب المداهمة والاعتقال والمواجهة المسلحة, بهدف استدراج القوى المؤيدة لهذا التيار إلى معارك صغيرة منتخبة ومخططة مركزيا بعناية بالغة. وكما هو واضح, تسعى القوات الأميركية من هذا الى وضع تصور ميداني لسيناريو دموي قابل للتطبيق في مرحلة قريبة قادمة, بعد أن يقوم الإعلام الأميركي بتهيئة المناخ نفسيا وسياسيا لذلك, عن طريق تكرار الأحداث ونشر معلومات تحريضية تدعو الى القتل والاعتقال, كتميهد لتنيفذ الجريمة.
فاحتمال قيام معارضة شيعية لم يكن خارج حسابات القوات الأميركية. إذ أن الخلافات حول الحرب والاحتلال ظهرت مبكرا قبل إعلان قرار الحرب. وإذا كان الأميركيون قد نجحوا في احتواء بعض القوى المعارضة للمشروع الأميركي كالشيوعيين وجزء من حزب الدعوة, فإن جماعات سياسية أخرى لم يتم احتواؤها بعد, لا عن طريق ابتلاعها سلميا بالإغراءات (التحالفية), ولا عن طريق تصفيتها عسكريا. وتشير الأحداث جميعها إلى أن الإدارة الأميركية وحلفاءها المحليين أخذوا يشعرون, ساعة بعد ساعة, أن لحظة المواجهة مع خصومهم السياسيين أخذت تقترب, كلما افتضح أكثر تعثر مشروعهم السياسي والأمني.
فبعد صمت تام وتجاهل حذر لما يعرف بـ (ظاهرة) مقتدى الصدر, أخذ بعض السياسيين يعلنون ما يعتمل في صدورهم. فقد رأى مسعود البرزاني أن مقتدى الصدر شيء لا قيمة له سياسيا. وهو تقييم يشابه تقييم الناطق العسكري الاميركي, وإن كان بألفاظ أكثر تهذيبا. ورغم طبيعة هذا التقييم الإنكارية السلبية الواضحة, إلا أنه ظل غامض المغزى. فلا يعرف المرء أهو تقييم عددي, قائم على حساب حجم القوى التي يمثلها تيار الصدر مقارنة بحجم كل فصيل من القوى المكونة لمجلس الحكم الانتقالي؟ أم أنه يتعلق بتحديد درجة نضج الشعارات السياسية لهذا التيار؟ أو يتعلق بمقدار اقتراب أو ابتعاد هذا التيار من قضية الوجود الأميركي في العراق, التي تشكل نقطة الالتقاء والبؤ رة الرئيسية التي تجمع بين أطراف مجلس الحكم.
أما زعيم المجلس الأعلى للثورة الاسلامية عبد العزيز الحكيم, فقد أظهر, في تقييمه لهذا التيار, قدرا عاليا من الحصافة, وقدرا محسوسا من الحذر والمسؤولية السياسية والمذهبية, معتبرا بروز تيار الصدر شأنا طبيعيا. وقد فسر البعض هذا التقييم على أنه جزء من النبرة التصالحية الهادئة, التي يتحلى بها الحكيم. وهناك من يفسر ذلك على أنه فطنة شيعية نابعة سياسة الأمر الواقع, ومن درجة استشعار الخطر, الكامنة في أعماق الشيعي. فضرب تيار الصدر قد يكون المقدمة المنطقية لهجوم شامل على غير طرف شيعي. فالضغط الأميركي المسلط على المجلس الأعلى للثورة الإسلامية لا يقل عن الضغط الموجه الى تيار مقتدى الصدر. فقد ابتدأ أيضا بمداهمات لمكاتب المجلس الأعلى, وأفضى الى اغتيال الرجل الأول في المجلس الأعلى, وأهم رجل على الاطلاق في المعادلة السياسية العراقية آية الله محمد باقر الحكيم, ثم انتهى الأمر بحل قوات بدر, الذي بدا في ظاهره كما لو أنه قرار داخلي بحت. لذلك لم يعد المجلس الأعلى قادرا على إخفاء حالة القلق والتناقض الداخلية العميقة, التي يعيشها. فهو من جهة لا يستطيع الاستمرار طويلا في لعبة قبول الاحتلال, التي وعد أنصاره, قبل الحرب, بأنها مجرد خطوة محدودة تنتهي بإسقاط الديكتاتور. ومن جهة أخرى لا يستطيع فك تحالفه مع الأميركان وحلفاء مجلس الحكم. الأمر الذي جعله ينظر بقلق الى خطر ظهور منافسين أقوياء قد يقلبون معادلة المناطق (المؤمنة) الأميركية, التي تشكل القوام الأساسي لستراتيجية الاحتلال. ومما يجب ذكره هنا, أنه حتى القيادات الكردية تعرضت الى ضغط سياسي ونفسي أميركي عنيف, عن طريق التهديد بالقوات التركية, لغرض انتزاع المزيد من التنازلات الوطنية.
خلفيات الظاهرة
دخل الاحتلال النصف الثاني من عامه الأول ولم يقدم مجلس الحكم الانتقالي للشعب العراقي انجازات مقنعة. ويرى منتقدو المجلس بأنه مشغول في أعمال شكلية دعائية: نزع صور صدام من الكتب المدرسية ومن الشوارع ومن العملة, بينما يبقى الطاغية نفسه طليقا, كما لو أنه لم يكن وحشا كونيا! والانغماس في أعمال تفكيك الاقتصاد الوطني ونهبه علنا على الطريقة الروسية, وتجاهل انعدام الضمانات القانونية للمواطنين, بسبب قانون الحصانة المطلقة, الذي يتمتع به جنود الاحتلال, إضافة الى الضعف المخيف في الجانب الأمن.
ويبدو أن مجلس الحكم استلطف واستعذب حقا الإنجازات الشكلية, المكلف بها. فراح يعلن, في ذروة الاضطراب الأمني, عن إنجازات جديدة: تغيير العلم, تغيير النشيد الوطني, تغيير شعار الدولة, وكنس ساحات الفنادق الكبيرة!
بيد أن هذا لا يخفي أن مجلس الحكم, أو بعض أطرافه, أخذ يرغم على إدراك أن هذه الحصيلة المتواضعة من الانجازات لا تساوي المعاناة العميقة التي يعيشها الناس من جراء حالة الفوضى الأمنية, التي أخذت ترهق حياة المواطنين, وتزهق أرواحهم.
اعتراضات وحلول
ولغرض الخروج من هذه المعضلة, قدم بعض أطراف مجلس الحكم مجموعة من الحلول أثبتت جميعها فشلها. ومن أبرز هذه الحلول العرض الذي تقدم به أحمد الجلبي, النابع من خصائص المجتمع العراقي, كما يعتقد الجلبي, والقاضي بتدمير وجرف المناطق السكنية والزراعية, التي تصدر منها أعمال قتالية موجهة ضد قوات الاحتلال. بالإضافة الى احتجاز نساء المشتبه بهم. وقد مارست القوات الأميركية ذلك بفظاظة عالية عندما شرعت في تجريف مزارع منطقة الضلوعية (الاندبندت اون صندي البريطانية 12-10-2003), وعند مداهمة البيوت واحتجاز النساء, بغية (ثلم شرف من يقاوم الاحتلال!). ولم تلق بالا مقترحات القادة الأكراد باستخدام قوات البيشمركة لغرض حفظ الأمن. كما رفض الأميركيون بشدة مقترح القوى الشيعية المشاركة في مجلس الحكم والقاضي باستخدام أبناء الشهداء في مؤسسات الأمن والدفاع. وفي نهاية المطاف أخذ يبرز الى السطح بقوة مطلب اياد علاوي (الوريث المطلق والوحيد للجهاز الأمني!), القاضي بعودة المؤسسة العسكرية. وقد وجد هذا المطلب دعما من بعض أعضاء مجلس الحكم, خاصة الطالباني, الذي اكتشف بعد أكثر من نصف عام على حل الجيش, أن الجيش العراقي يحوي عناصر شريفة!
عدا هذا, لم يقدم أحد حلا جديا للمشكلة الأمنية. وفي الوقت نفسه لا أحد_ حتى مجلس الحكم_ يعرف ماذا يخطط الأميركان في هذا الجانب. فعدا التصريحات المتناقضة عن تحسن الوضع الأمني, التي يكذبها الواقع بشدة, لم يسمع العراقيون سوى اتهامات موجهة الى دول الجوار والى عناصر أجنبية. وهي اتهامات خرقاء, لأنها لا تهدف الى استئصال جوهر العنف, بقدر ما تحاول إخلاء مسؤولية قوات الاحتلال من مهمة مكافحة الإرهاب, كما لو أن الموطن العراقي الأعزل, المستبعد من عملية اتخاد القرار والمشاركة في المسؤولية السياسية, هو المسؤول عن حماية الحدود, في وطن أضحت حدوده مفتوحة من الجهات أجمع.
وبسبب عتمة المشهد: الانجازات المتواضعة, التناقضات, الحسابات الأمنية المتباينة, أخذ يتبلور لدى كثيرين موقف يرى أن الإدارة الأميركية رسمت خططها بدقة بالغة, ولا يوجد أدنى خطأ في الحسابات, خاصة الحسابات العسكرية-الأمنية الإقليمية, وما يتعلق بالقضية الشيعية. ففي الجانب الأمني- العسكري يرى كثيرون أن حل الجيش العراقي وفتح الحدود والتهاون في حماية الحدود جزء أساسي من ستراتيجية الاحتلال, التي بدأت بفوضى عارمة وأفضت الى فوضى أكبر, من المشكوك فيه أنها ليست مخططة. أما الهدف النهائي لهذه الخطط فهوانضاج الظروف لدفع الحرب الى خارج الحدود, شرقا وغربا, تحت ذريعة الوقوف ضد الإرهاب. ومن دون شك, سيغدو هذا المطلب أكثر (ديموقراطية) ووطنية, لو أن الشعب العراقي أجبر, تحت وطأة القلق الأمني,على تبني مشروع الزحف العسكري الى الشرق أو الغرب. وهو ما يتمناه ويروج له الأميركان ويسعون اليه.
أما بالنسبة للجانب الشيعي, فإنه يرتبط بالمسألة العسكرية والأمنية ارتباطا مباشرا, وإن بدا شأنا دينيا في الظاهر. فالتقدم الأميركي نحو الشرق أو الغرب يحتاج الى غطاء شيعي في هيئة صمت سياسي باسم (الضرورة) الوطنية, أو ما يعرف محليا بـ (الأمر الواقع), وفق المعادلة البعثية التقليدية,التي أرغم الشعب على ابتلاعها إبان الحرب على ايران وغزو شقيقتنا الصغرى الكويت. إن النسخة الأميركية لمشروع الحرب الإقليمية تقوم على المنطق ذاته, منطق الضرورة والأمر الواقع: الاحتلال سيئ لكن صدام أسوأ, الحرب ضد سوريا أو إيران خيار سيئ, لكنه ليس أسوأ من أمن الوطن وضياع الحقوق الوطنية. هذه المعادلة المشينة, التي لخصتها قناة الجزيرة التلفزيونية أخلاقيا في 22 أكتوبر 2003 على النحو التالي: يقول المتحاور الأول, وهو مصري الجنسية: الأميركان يشترون (الماجدات) العراقيات بمئتي دولار, فيرد عليه المتحاور الثاني, مناصر أميركا, وهو لبناني: كان عدي يغتصبهن بالمجان! أما العراقيون أنفسهم, فلم يسمع لهم أحد تعليقا على قائمة أسعار أمهاتهم وأخواتهم وبناتهم. لكأن الأمر لا يعنيهم, ولا يمس كرامتهم. فهم, حالهم كحال مجلس الحكم, يدركون أن ما يحدث لأخواتهم وبناتهم, وللشعب كله, ليس مجرد حوار تليفزيوني, بل هو حقيقة يستعرضها البعض, على الهواء, كشماتة أوصلف أو استهتار(ضروري), فرضه الأمر الواقع!
ولكن, بين الاغتصابين الضروريين:الاغتصاب بالدولار والاغتصاب المجاني, يقف العراقيون الرافضون لهذه الضرورات اللاأخلاقية, بصبر بدأ ينفد, بانتظار ظهور معارضة وطنية فعالة, تسد الطرق على ستراتيجية الاحتلال والتوسع الى دول الجوار, وتنهي الى الأبد المعادلات الدونية, التي تصاغ على أساس المفاضلة بين جرائم صدام وجرائم غيره من العراقيين أو العرب أو الأجانب, وعلى رأسهم قوات الاحتلال الأميركية.
إن المعادلة الأمنية والعسكرية, وما يتبعها من ترتيبات سياسية وصلت الى آفاق مسدودة: مجلس الحكم يعترف بفشل القوات الأميركية في حفظ الأمن ويطالب بصلاحيات أمنية أوسع. لكنه من جانب أخر يصر على بقاء قوات الاحتلال. وفي الوقت الذي يؤكد مجلس الحكم على انتفاء إمكانية عودة نظام صدام, إلا أنه لا يشعر بثقة ذاتية من إمكانية إدارة العراق بنفسه من دون إسناد أجنبي. وهو أمر قد يفسر بأن مجلس الحكم لا يخشى من عودة صدام ,بقدر خشيته من فقدان دوره المؤقت على يد قوى جديدة, لم تتورط في مثالب التعاون مع المحتل والنظام السابق. تلك هي معضلة مجلس الحكم الأساسية, وهي التربة (الوطنية) التي أدت الى بروز ما يعرف بـ (ظاهرة) مقتدى الصدر, والتي هي في حقيقتها احتمال سياسي واجتماعي هام, في المعادلة الوطنية, تتجاوز الحدود الشخصية أو الطائفية. لأنها احتمال برز كاستجابة طبيعية لما يعتمل في الواقع.
ولكن من هو مقتدى الصدر؟
عدوا لديموقراطية الأول
لغرض رسم صورة متكاملة لمقتدى الصدر, سنعمد الى تجميع ملامح الصورة بوساطة ما روجته الدعاية الأميركية عن هذا الرجل وتياره.
ثلاث صور (مخاوف) أساسية يشيعها الأميركان عن مقتدى الصدر بين صفوف العامة من العراقيين, هي بمجملها صحيحة في ظاهرها الى حد بعيد, ولكنها كاذبة في مراميها الى أبعد الحدود.
الأولى: صغر سن مقتدى واتكاؤه على إرث والده. والثانية: سعيه الى شق وحدة المرجعية الشيعية. والثالثة: خروجه على مبادئ الديموقراطية الأميركية, وعلى شروط اللعبة القائمة:(المناطق المؤمنة).
وقد استقى الأميركيون فكرتهم الأولى عن مقتدى الصدر من ملفات جهاز المخابرات البريطاني ومن الشواهد التاريخية, لا من خلال مراقبة سجل ولادة مقتدى الصدر. فمقتدى الصدر الذي ولد عام 1970 , ابن للشهيد آية الله محمد صادق الصدر. فهو بحق قائد شاب, يستند الى إرث مرجعي لا ينكر. فالصدر الثاني, والد مقتدى, تم اغتياله مع ولديه مصطفى ومؤمل على يد مخابرات صدام عام 1999. وقد رفضت مرجعيات كبيرة الصلاة عليه جبنا أو تقية وتحسبا, بينما أقام أبناء الشعب الصلاة على روحه الطاهرة في مسجد الحكمة في 16-4-2000, تحديا للسلطة, مما دفع الطاغية الى تجريد حملة عسكرية ضد المواطنين بقيادة ابنه قصي, سقط على إثرها مئتا شهيد.
كان الصدر قد اتهم بأنه يقف, خفية, خلف سلسلة من التمردات الشيعية قامت في مدينة الثورة والناصرية والبصرة. كانت حصيلة معركة مدينة الثورة (الصدر حاليا) خمسين شهيدا ومئتي جريح وستة عشر قتيلا من الجيش. أما تمرد البصرة الذي قام في 19-3-1999 فقد اسفر عن قتل محافظ البصرة ومدير أمنها, بيد أنه قمع-كالعادة- بوحشية. ومن دون شك, فإن هذا الإرث لا يشبه إرث بعض القادة, الذين جاء بهم الأميركان على ظهور الدبابات. لذلك يخشى الأميركان أن يتحول هذا الارث الى تيار سياسي يكسر نظرية (المناطق المؤمنة), التي قامت عليها خطة غزو العراق.
فالشواهد التاريخية, التي يعرفها الأميركان جيدا, تؤكد أن اعتماد أبناء المرجعيات الشيعية على إرث آبائهم إنما هو خصيصة أصيلة من خصائص الشخصية الوطنية العراقية عامة والشيعية خاصة. ففي فترة النضال الوطني ضد الاحتلال البريطاني لعب أبناء المرجعيات دورا أساسيا في قيادة المقاومة, وفي أحوال كثيرة بما لا يتماشى مع مواقف آبائهم. فعلى على سبيل المثال لا الحصر, نذكر ثلاثة من أولئك القادة: محمد الصدر, ابن المرجع الأكبر السيد حسن الصدر(أصبح فيما بعد رئيسا لمجلس الأعيان ورئيسا للوزراء), ومحمد الخالصي, ابن المرجع الشيخ مهدي الخالصي, وميرزا محمد رضا, ابن كبير المجتهدين ميرزا محمد تقي. وقد شارك أولئك في تأسيس (جمعية بين النهرين) التي وضعت (تحرير العراق) في أعلى سلم اهتماماتها. ووصل الأمر بهم أنهم اتصلوا بالقيادة السوفيتية و تبادلوا الرسائل مع لينين شخصيا.
إن ظهور قيادات شيعية شابة ليس بدعة, وليس تهمة, بل هو تقليد وطني وشيعي أصيل, يدرك الأميركان وقبلهم البريطانيون خطورته الحقيقية.
أما الصورة الثانية لمقتدى الصدر, كمفرق لشمل الإجماع الشيعي, فهي بلادة عقلية محضة, معادية لجوهر المرجعية الشيعة, لا لمقتدى الصدر وحده. فالمرجعية الشيعية قامت وتقوم دائما على مبدأ تعدد الأقطاب, وليس على سيادة القطب الواحد. ولا نعرف إذا كان الأميركيون يريدون تعديل هذه القاعدة واستبدالها بقاعدة صهر المرجعيات, التي لم يفلح صدام فيها من قبل. لذلك, فإن ظهورتيار مقتدى الصدر إنما هو تعبير عن ظاهرة واقعية, نابعة من تقاليد الفكر والممارسة الشيعية. وهو تأكيد على تنوع الجدل والاجتهاد وحريته وحيوته في الفكر الشيعي. ولكن, بقدر ما تكون ظاهرة التنوع والتعدد المرجعي الشيعي ايجابية, فإنها في الوقت عينه ظاهرة محفوفة بالمخاطر. فقد تستغل في بعض الأحوال, كما حدث في تاريخ العراق مرارا, وكما يحدث الآن, لصالح قوى معادية للشعب وللشيعة أنفسهم. فمن المعروف أن البريطانيين استخدموا هذا الأمر لغرض تمرير بعض مشاريعهم السياسية في الأوقات العصيبة. فاستعدادا لإعلان نتائج معاهدة بورتسموث, التي هي تجديد مبطن لشروط معاهدة الاحتلال المبرمةعام1930, سلمت حكومة نوري السعيد مقاليد الحكم عام 1947 الى صالح جبر. ليكون أول شيعي يتقلد رئاسة وزارة العراقية. وصالح جبر رجل يجيد أمرين وحيدين: خدمة مصالح المحتلين ومعرفة أقصر الطرق المؤدية الى المواقع الدسمة. وقد حرص أبناء هذه العائلة من كبار السياسيين على توارث تلكما الخصلتين حتى يومنا هذا. ولكن قيام وثبة كانون المجيدة في 1948, التي أسهمت فيها الحركة الوطنية العراقية المعادية للاحتلال كافة, واحتل فيها الشيوعيون رأس الحربة, أدى الى هروب صالح جبر الى بيت أسياده في لندن. فأضطرت سلطة الاحتلال, بالاتفاق مع الوصي على عرش العراق, الى تنصيب شيعي بارز هو السيد محمد الصدر, أحد قادة ثورة العشرين, رئيسا للوزراء. وقد وصف القائد الشيوعي يوسف سلمان فهد تنصيب الصدر بأنه محاولة لامتصاص نقمة الشعب وتزييف إرادته.
وفي ذروة النشاط القومي الشوفيني, الذي قاده العسكريون والبعثيون والقوميون ضد ثورة تموز, لعبت بعض المرجعيات الدينية دورا لا ينكر في إنعاش التطرف القومي الشوفيني بالباسه لبوسا دينيا. وما نسب الى المرجع الديني الكبير آية الله محسن الحكيم, من تكفيير للشيوعيين, خلق قاعدة دعائية عظيمة الأثر, استخدمها البعثيون والعسكريون ضد القوى اليسارية والديموقراطية عامة. فقد تلقفت أياد سياسية بارعة فتوى الحكيم, واستخدمتها بمهارة في اختراق الجدار الاجتماعي لفقراء الشيعة. فالفقراء هم داعمو المرجعيات في التقاليد الشيعية. والمرجعيات الحقيقية زاهدة متقشفة دائما, تبني قوتها الروحية من خلال دعم الفقراء لها. وقد منحت تلك الفتوى- سواء صحت أم لم تصح- جرعة من القوة للعناصر القومية على حساب مصالح الشعب عامة ومصالح فقراء الطائفة الشيعية. ومن المعروف أن قطاعا كبيرا من فقراء الشيعة يميلون بسبب وضعهم الاجتماعي وتهميشهم التاريخي الى صف القوى الداعية للتغيير الاجتماعي الجذري والقوى المعادية للنزعات الاستبدادية والعرقية والعسكرية. ولا بد من الإشاره هنا الى أن هؤلاء المهمشين الجنوبيين الفقراء, لا يجدون ترحيبا تاما من قبل الجميع. فأنصار بعض المرجعيات يرون فيهم فئة أقل منزلة من غيرها, لأسباب عرقية واجتماعية وتاريخية. وهذه واحدة من الثغرات, التي لعبت عليها قوى سياسية عديدة, في أوقات مختلفة, يسعى الأميركان الى استثمارها الآن لصالح استمرار الاحتلال.
ولم يتوقف الأمر على هذا, ففي لقاء عبد الكريم قاسم بالحكيم أثناء مرض الأخير, وضع الحكيم أمام قاسم مطلبين ملحين: منع المجلات الخلاعية والأفكار الشيوعية, فصب مزيدا من الزيت على نار العنف القومي.
ولم يكن عبد الكريم قاسم غافلا عن تلك اللعبة, فعقب إنقلاب الشواف عام , 1959 وفي ذروة تصاعد المد الشيوعي قام عبد الكريم بتعيين العميد الشيعي سيد حميد سيد حسين قائدا للفرقة الأولى, المشرفة على جنوب البلاد. وقد أثبت هذا أنه أكثر من عمل بحزم في مجال مقاومة واضطهاد الشيوعيين والقوى المعادية للمشروع القومي الفاشي.
ولم يكن صدام جاهلا بهذه اللعبة, فقد مارسها منذ وقت مبكر أيضا, وكانت حصيلتها: إعدام الشهيد محمد باقر الصدر, بعد احتجاز وملاحقات بدأت مند قيام نظام البعث. ويعد الصدر- مؤسس حزب الدعوة عام 1957- أهم المراجع العقلية الدينية في العراق. ألف أول كتاب له وهو في السادسة عشرة, وألف كتابي(فلسفتنا) و (اقتصادنا) وهو في سن السادسة والعشرين والسابعة والعشرين. والكتابان أهم المؤلفات السياسية والفلسفية والاقتصادية في تاريخ العراق الحديث, من منظور إسلامي. شغل الكتابان المجتمع العراقي بأسره, والتفت حول أفكارهما قطاعات واسعة من متنوري الشيعة. وكان للصدر فضل كبير في تحويل تياره الى قاعدة ثقافية دينية واسعة, تجمع بين الشعبية وثقافة النخب في وحدة فريدة. وبذلك كان رائدا في تأسيس ثقافة تملك روحا عصريا, قادرا بجدارة على مقارعة ومحاججة اتحاد الخطابين البعثي والشيوعي على أسس منطقية, وليس وعظية, كما اعتادت المرجعيات أن تفعل. وهو في هذه الناحية يقترب الى حد معين من دعوة تيار مقتدى الصدر, الرامية الى الجمع بين دعم الفقراء السياسي والعامل النظري في وحدة قوية, والذي أضفى على دعوة مقتدى الصدر مظهر الصلابة والتحدي, وبثت الخوف في نفوس خصومه. ولكن, ما زال من السابق لأوانه الحكم على آفاق تيار مقتدى الصدر الثقافية. فما زالت هذه الدعوة تستند, في الأعم, على دعم الفئات الشعبية, وليس على دعم المثقفين,كما كانت حال دعوة محمد باقر الصدر. ومن نقطة الضعف هذه يستمد الإعلام الأميركي تفوقه الكبير على إعلام تيار الصدر المحاصر, شديد الخفوت. وفي ظل غياب المثقفين العراقيين عن دائرة الجدل والحوار الوطني, بسبب غرقهم المزمن في السلبية وفي أمراضهم الشخصية, تتعاظم سطوة الإعلام الدعائي الأميركي وتقوى مقدرتها على تشويه الوقائع.
السجن يوحد المرجعيات
للمرة الأولى في تاريخ العراق يتمكن حاكم من توحيد المرجعية الشيعية وحصرها في وقت واحد, في موقع واحد: السجن. كان ذلك هو صدام حسين, الذي اعتقل عام 1972- حينما كان يفاوض الشيوعيين والأكراد على صيغة (للتحالف) - ثلاثة من أعظم قادة الشيعة الروحيين: محمد باقر الصدر, ومحمد صادق الصدر, ومحمد باقر الحكيم. وقد أعدم الأول في الثامن أو التاسع من نيسان 1980, وفق تقرير منظمة العفو الدولية. وأغتيل الثاني(والد مقتدى) عام 1999, أما الثالث فاغتيل بعد سقوط تماثيل الديكتاتور, وسعى الأميركان الى تحويل هذا الإغتيال المتقن والبشع الى ورقة سياسية لضرب أطراف شيعية أخرى, لكنهم فشلوا في ذلك حتى الآن. بيد أنهم ما زالوا, حتى اليوم, يحتكرون أسرار التحقيق في الجريمة, ويحتفظون بها لساعات الضرورة, كاحتفاظهم بصدام ومساعديه الكبار.
وليس بعيدا عن هذه اللعبة ما اقترفه صدام حسين بحق الصدر الثاني, والد مقتدى. فقد استخدم صدام الأسلوب السينمائي الاستعراضي ذاته, حينما أخرج تمثيلية تلفزيونية بارعة الإتقان, تظهر أن اغتيال الصدر كان خلافا في إطار المرجعيات. وقد أظهر التلفزيون صورا لإثبات ذلك. وهو عين ما بثته قنوات التلفزيون وما لمح له الأميركان واياد علاوي وما أكده محافظ كربلاء بلسانه عند اغتيال الحكيم! إن الأميركان يرثون تقاليد البريطانيين والبعث ويتفننون في طرق استخدامها عند محاربة الشيعة, وفق قاعدة خبيثة تقول: إن الشيعي هو أصلح من يقهر الشيعي. وتلك هي أحط خصال الشيعة, التي يتحلى بها عدد غير قليل من أبناء الطائفة, من دون وعي, بسبب مشاعر الإذلال والاستضعاف التي مورست ضدهم عبر التاريخ. ولكن الواقع المعقد يثبت أن الشيعة لا يرثون الخصام والفرقة فحسب, بل هم لا يكفون أبدا عن توارث خصالهم النضالية العظيمة: مقاومة الاحتلال والاستبداد.
أما الصورة الثالثة: عدو الديموقراطية الأميركية, فهي صورة صحيحة تماما كالصورتين السابقتين. ومن أجل إثبات صحة هذا الاتهام, نقول بأن تيار الصدر بادر منذ اللحظات الأولى للاحتلال بالتوجه الى المواطنين من أجل ضبط حالة الفوضى, التي خلقها الجيش الأميركي والبريطاني بوعي تام وتخطيط مدروس. وقد حميت وأديرت كثير مناطق العراق بوساطة تيار الصدر طوال الأشهر العصيبة الماضية. لذلك لم يكن بروز هذا التيار وليد اللحظة الراهنة, كما يشاع زورا. إن الإدارة المدنية الشعبية, لا قوات الاحتلال, هي التي أشرفت على تنظيم الحياة في مدن الجنوب كافة, وما زالت تفعل ذلك. وما نظرية (المناطق المؤمنة)الأمريكية سوى اعتراف ضمني بهذا الدور, رغم أنه اعتراف مشوه وخادع, يدعي بوجود اتفاق ضمني بين الشيعة الأميركان, على غرار الاتفاق الكردي الأميركي. وربما يكون هذا الادعاء مجرد أمنية لا أكثر. لأن أمن الجنوب جزء من فطنة الجنوبيين, وليس جزءا من لعبة يريد الأميركان الإيهام بوجودها. ذلك هو الشكل التطبيقي لديموقراطية الاختلاف والمعارضة, الذي مارسه أبناء الجنوب, والذي لا يحظى بقبول الأميركان, الذين أخفقوا في تقديم ما يضاهيه في مناطق انتشار قواتهم.
إن الديموقراطية, حتى بالمفهوم الاميركي, لا تتحقق في ظل الاحتلال. لذلك يبدو خيار الجمع بين الديموقراطية والاحتلال مجرد ادعاء عبثي, لا يصدقه احد حتى مرددوه. فاستتباب الأمن يعني, من الناحية المنطقية, انتفاء الحاجة الى وجود قوات الاحتلال. وإذا كان بمقدور مجلس الحكم إدارة أمن البلاد بنفسه, فإن الشعب سيرغمه على فك ارتباطه بسلطة الاحتلال. بيد أن مجلس الحكم لا يستطيع إدارة السلطة من دون وجود قوات الاحتلال. كما أن قوات الاحتلال تفضل أن يظل مجلس الحكم عاجزا مقزما, كي يظل أمد بقاء الاحتلال مرهونا بمشيئتها. إن هذا المأزق قد يجد حله عن طريق تخلي مجلس الحكم عن السلطة لمن هم أقدر منه, أوعن طريق توسيع دائرة المشاركة في إدارة الحكم على أساس شعبي, يمنح أوسع فرصة للمواطنين كي يمارسوا حقوقهم ووظائفهم السياسية, غير منقوصة. بيد أن القوى المعادية للاحتلال, ومنهم تيار الصدر, لا تخفي رفضها الاشتراك في معادلة الديموقراية الأميركية واحتمالاتها. فهذه المعادلة فضلا عن كونها من صناعة الغزاة, تقوم على أسس متناقضة, تفتقد الى عناصر التطور الذاتي. فهي ديموقراطية ميتة, لا تملك الدوافع الداخلية للحركة. لذلك هي عاجزة عن التقدم الى الأمام وعن تعميق جوهر السلطة وسبل إدارة المجتمع: فلو سلمت مقاليد الأمن الى العراقيين ستنتفي ضرورة وجود قوات الاحتلال. ولو انتفت الحاجة الى وجود قوات الاحتلال ستتبخر وتضمحل بسرعة البرق أعداد كبيرة من عناصر وقوى مجلس الحكم, وربما سيضطر بعضهم, بدافع الخيبة, الى رفع شعارات معادية لوحدة الوطن, لتأكيد وجوده. ومن هنا نرى أن أي تقدم في العملية الديموقراطية لا يتحقق ما لم يقدم مجلس الحكم على اتخاذ قرارات جذرية تتعلق بالموقف من الاحتلال ومن مشاريع السيطرة على السيادة والثروات. لذلك يبدو- في المحصلة النهائية- أن مجلس الحكم بتركيبته الراهنة, وبممارساته وصلاحيته الفقيرة, ومقدراته المحدودة, هو العقبة الأساسية أمام تطور العملية السياسية في العراق باتجاه ديموقراطي. إن مجلس الحكم لا يرحم ولا يريد لرحمة الله أن تنزل. في هذا المناخ أضحى ضروريا أن تظهر قوى جديدة ذات خطاب سياسي مغاير وحلول مختلفة, لكي تعدل من مجرى المعادلة السابقة, وتدفع عملية التطور السياسي الى الأمام. ولكن هذا يصطدم بإرادة الأميركان, الذين يصرون على حصر وتجميد الممارسة السياسية ضمن شروط اللعبة الأميركية, القائمة على وجود مناطق (مؤمنة), هي المنطقة الكردية والمنطقة الشيعية, إضافة الى منطقة (إرهابية), أسموها خبثا بالمثلث السني.
من هنا نرى أن القوى المؤيدة للاحتلال وضعت العراق في دائرة شريرة, لا منفذ فيها يقود نحو النور: فإزالة صدام لن تتم إلا بالاحتلال, والاحتلال يقود الى الفوضى وانعدام الأمن, والفوضي وانعدام الأمن تقود الى إعاقة قيام الديموقراطية وإعادة الإعمار, وانعدام الأمن وغياب الديمقراطية والإعمار تؤدي الى بقاء الاحتلال, وبقاء الاحتلال يقود الى بقاء الفوضى وانعدام الأمان, وانعدام .... هكذا يرسم مجلس الحكم دورة الديموقراطية الأميريكية المقفلة.
فهل حقا أن مقتدى الصدر هو الذي يعيق تطور الديموقراطية؟
إن نظرية المناطق المؤمنة, التي نادي بها البنتاغون, قد تنطبق نسبياـ في المدى القريب ـ على المنطقة الكردية, لكنها لا تنطبق على المنطقة الشيعية, لأنها منطقة سياسية واجتماعية قبل أن تكون منطقة طائفية أو عرقية. والأهم من هذا أنها منطقة تجسد المركز(البؤرة) السياسي لوحدة الشعب العراقي. على الضد من المنطقة الكردية, التي قد يبحث بعض أبنائها, لأسباب مختلفة, عن منافع وحلول (قومية) و( آنية) وليس عن حلول (وطنية), (بعيدة المدى).
لكل تلك الأسباب اندفعت الى الواجهة قوى أخرى تخالف مجلس الحكم في المنظور وفي سبل معالجة ازمة الواقع السياسي, فبدت هذه القوى, فور نهوضها, كما لو أنها تقف في موضع المنافس لمجلس الحكم. وقد ظهر هذا النهوض في المنطقتين الشيعية والسنية على حد سواء, ممثلا في قوى متنوعة, منها التيار الوطني الديموقراطي ومؤتمر العراق بقيادة الحركة الدستورية وجبهة الدفاع عن حقوق الانسان. وفي الوقت الذي نشطت التيارات المذكورة عربيا ودوليا بإسناد محلي وأجنبي من دون عوائق تذكر, جرى وضع تيار الصدر على لائحة الأعداء الأكثر خطورة, وجرت محاولا ت مستميتة من قبل الأميركان لتطويقه ومقاومته بكل السبل الممكنة.
ومن دون شك, هنالك أخطاء قد تفرض على التيارات المعارضة للاحتلال, وعلى تيار الصدر تحديدا. فهناك أخطاء قد تنشأ بسبب ردود الفعل, أو قلة الخبرة وشدة تعقيد الموقف وقوة وجبروت سلطة الاحتلال. بيد أن ذلك لا يعفي أي طرف من مسؤولية ما يحدث. فعلى عاتق الاتجاهات المعارضة تقع مسؤولية إقناع الشعب, بالأفعال على أرض الواقع, بأنها قوى تهدف الى إقامة عراق وطني , مستقل. عراق لجميع سكانه, يتمتع بسلطته وثرواته وثقافته الوطنية القائمة على تعدد الأديان والأعراق, وعلى حرية تداول السلطة, وحرية التفكير والاعتقاد والممارسة, في ظل دستور وطني يأخذ بنظر الاعتبار الخصوصية الدينية والمذهبية والعرقية, المكونة للمجتمع العراقي.
وسواء أيد المرء تيار مقتدى أم لم يؤيده, فلا أحد يملك مشروعية إخراجه من المعادلة السياسية الوطنية, لا أحد, سواء كان اميركيا أو بريطانيا أو بولونيا أو مأجورا محليا. لأن مقتدى الصدر ابن الواقع العراقي, ووليد الجدل المعتمل داخل جسد المجتمع العراقي, وليس الجدل الدائر في غرف الاستخبارات الأجنبية. إن الجدل الوطني, الجدل في إطار المعادلة العراقية, هو الطريق الوحيد لولادة ديموقراطية عراقية سوية, واثقة, حرة, مستقلة, وأصيلة. أما مشاريع التصفيات الجسدية والاعتقال وإنكار حرية التفكير وحق المواطن في إدارة شؤون الحياة فهي جزء عضوي من ثقافة العنف.
إن مشروع الهيمنة الأميركية ليس سوى امتداد تارخي مطور للمشروع العسكري الروماني. فأميركا تقوم بتهديم البنى الأساسية للمجتمع الخاضع للغزو بالقوة العسكرية, ثم تقوم بالقوة العسكرية أيضا بإعادة إعماره ( أي توزيع ثرواته على مالكين جدد, يكون لها النصيب الأعظم فيها). ولتحقيق الغرضين تنشيء جهازا محليا صوريا لإدارة عملية الهدم و(الإعمار!) باسم وطني. ومن هنا نرى أن ما يحدث الآن في العراق, ما هو إلا سعي لإخراج العراق من مركزية الديكتاتور ومن عسكرية مجتمع الثكنات المحلية وعنف الدولة البعثية, وإدخاله في فوضي الحكم وعسكرة الحياة دوليا مصحوبة بالعنف الأميركي, مضافا إليه عنف الجماعات المستوردة تحت مظلة الغزاة وعنف بقايا النظام المنقرض. إنه تدويل سافر للعنف. تدويل للعسكرة باسم الديموقراطية, وتدويل للاستعباد باسم الضرورة والأمر الواقع.