إذا كنت تفكر فى السفر الى لندن مدينة الضباب وعاصمة البلاد التى كانت ذات يوم إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس .. فانى أنصحك لوجه الله ان تؤجل هذا القرار حتى بداية الأسبوع المقبل .
وأنصحك لوجه الله ان تتجنب وضع قدمك فى هذه المدينة بالذات بعد غد الأربعاء والخميس والجمعة ، لان بغداد وكابول – رغم الأهوال التى يشهدانها – ربما تكونان افضل حالاً من عاصمة الإنجليز فى هذه الأيام الثلاثة غير (المفترجة) .
اما سبب ذلك فهو ان الرئيس الأمريكي جورج بوش سيقوم بزيارتها فى هذا الوقت .
وما ان تم الإعلان عن هذه الزيارة ، وهى بالمناسبة زيارة " دولة " بل وأول زيارة دولة يقوم بها رئيس أمريكي الى قصر بكنجهام عن الإطلاق ، حتى غلى الدم فى رؤوس الإنجليز رغم ما يشاع عنهم من انهم من أصحاب الدم البارد .
وقرر تحالف عريض من البريطانيين ، يضم طلابا وجماعات دينية وحركات اجتماعية ومدافعين عن البيئة ومنظمات مناهضة للحرب منها على سبيل المثال ائتلاف " أوقفوا الحرب " Stop the War Coalition وجماعة تطلق على نفسها اسم " قاوموا بوش " Resist Bush ،..، قرر هذا التحالف استقبال الرئيس الأمريكي الاستقبال اللائق به .
و" اللياقة " المقصودة – من وجهة نظرهم – قد عبر عنها ائتلاف " أوقفوا الحرب " فى المنشور الذى غطى العاصمة البريطانية من أقصى الشمال الى أقصى الجنوب وتحمس مئات لشباب المتطوعين لتوزيعه باليد على كل عابر سبيل ووضعه فى ملصقات كبيرة فى الشوارع والميادين ، وهو منشور يحمل على وجهه كلمتين لا ثالث لهما هما أوقفوا بوش وبين الكلمتين المكتوبين باللون الأسود نقطة دم حمراء توحى بان الرئيس الأمريكي متعطش لسفك الدماء وإشعال نيران الحروب .
وعلى الوجه الأخر للمنشور وضع الائتلاف المناهض للحرب أربعة شعارات.
الأول يقول " لقد كذبوا علينا فيما يتعلق بأسلحة الدمار الشامل "
والثاني يقول " لقد تحدوا الرأى العام ليأخذونا الى الحرب "
والثالث يقول " انهم يقوضون الحقوق الديمقراطية للشعب العراق " .
أما الرابع فهو "الآن المتعطشون للحرب جورج بوش وتونى بلير معاً فى لندن".
وتحت هذه الشعارات العريضة قال الائتلاف المناهض للحرب " ان ملايين البريطانيين قد أغضبهم دعوة جورج دبليو بوش الى بريطانيا فى زيارة دولة لمدة ثلاثة ايام وسيتم الإغداق عليه بالطعام والشراب ومعاملته كرجل دولة عظيمة وليس كمجرم حرب بينما هو كذلك بالفعل .
انه من العار ان يقوم تونى بلير مرة ثانية بتجاهل الرأى العام للترفيه على صديقه على حسابنا .
لقد تمت ممارسة الكذب علينا بشان هذه الحرب . ولم يتم اكتشاف سلاح واحد ويعانى العراق من الافتقار الى الاستقرار ولا توجد أى بادرة تدل على اى تحرك تجاه إقامة مجتمع ديمقراطي فى هذا البلد . والحرب غير الشرعية أعقبها احتلال غير شرعى .
ان أغلبية الشعب البريطاني يعتقد الآن ان الحرب على العراق لم يكن لها ما يبررها ، وتدرك انه تم الكذب عليها بشأن هذه الحرب ، وان زيارة بوش صفعه على وجهها .
ان هذه الدعوة يجب إلغاؤها الآن . واذا لم يحدث ذلك فاننا نحيط تونى بلير علماً بأننا ثلاثة أيام من الاحتجاج على هذه الزيارة وان هذا الاحتجاج سيبلغ ذروته فى مظاهرة حاشدة فى لندن يوم الخميس الموافق 20 نوفمبر .
ساعدونا فى تحويل هذا اليوم الى اكبر صيحة غضب ممكنة – ضد سياسات بلير وبوش .
فلنكن هناك لإيقاف بوش عند حده " .
والى جانب هذا المنشور النارى قالت ليند ساى جيرمان إحدى زعماء "ائتلاف أوقفوا الحرب " ان المتظاهرين مصممون على إفساد عطلة بوش البريطانية ، مضيفة ان " افضل ما يمكن ان يحلم به بوش هو ان يقوم بجولة من داخل طائرة هليوكبتر ، او ان يبقى حبيس السفارة الأمريكية وهوايت هول وقصر بكنجهام " .
وقالت ان بوش وبلير لن يجدا جماهيراً تصفق لهما ، بل سيجدان معارضة ضخمة لسياستيهما .
واختتمت تصريحاتها بانتقاد السلطات البريطانية لإنفاقها " مئات الآلاف من الجنيهات من المال العام لحماية مجرم حرب " .
وقال بيتر بومونت فى صحيفة " الاوبزيرفر " ان الشيء الوحيد المؤكد هو ان جورج بوش سيلقى تحية عمودها الفقرى تصاعد المشاعر المعادية لأمريكا بصورة لم يشهدها العالم منذ حرب فيتنام " .
وليس هذا مجرد كلام .. فكل التقديرات – هنا فى العاصمة البريطانية – ان عدد المتظاهرين الذين سيتدفقون على الشوارع فى قلب لندن لن يقل عن ستين ألفاً ، وربما يتجاوز المائة ألف . وفى كل الأحوال ستصاب لندن بالشلل التام ، خاصة وان الأجهزة الأمنية ستشدد تدابيرها بصورة صارمة من اجل حماية الضيف القادم من الضفة الأخرى للمحيط الأطلسي .
بل قيل اكثر من ذلك ان الجانب الأمريكي طلب إعطاء أجهزة الأمن الأمريكية صلاحيات كبيرة لتأمين سلامة الرئيس وان أجهزة الأمن البريطانية قد رفضت هذا الطلب واعتبرته إهانة لها .
وقيل أيضا ان أجهزة الأمن الأمريكية طلبت إغلاق المنطقة التى سيتواجد بها بوش ، وهى قبل لندن من الناحية الفعلية حيث يوجد قصر بكنجهام ومجمل حى وستمنسر . وتسبب هذا الطلب فى إثارة غضب السلطات الأمنية البريطانية التى تحدث بعض كبار مسئوليها علناً وقالوا ان " إنقاذ الرئيس الضيف من الإحراج الذى قد يسببه المتظاهرون له ليس من بين مهامهم " . وحاول بعضهم الأخر تذكير نظرائهم الأمريكيين بان المملكة المتحدة هى اعرق موطن للديمقراطية ،وبالتالى فان متطلبات توفير الحماية للرئيس الأمريكي لا يجب ان تتعارض مع حق الناس فى التظاهر والتعبير عن آرائهم .
والملفت للنظر بهذا الصدد ان سلطات الأمن البريطانية دخلت فى مفاوضات مع قيادات المنظمات والجماعات الرئيسية الداعية الى التظاهر والاحتجاج على زيارة بوش . وان هذه المفاوضات تركزت على المسار الذى يجب ان تلتزم به المظاهرات المرتقبة والشوارع والميادين التى ستسير فيها . وبينما تحاول السلطات إبعادها قدر الإمكان عن أماكن تواجد الرئيس بوش تصر القيادات الشعبية على حقها فى الاقتراب منه الى أقصى حد من اجل إسماعه صوت الغالبية الساحقة من البريطانيين .
ورغم ان هذه المفاوضات لم تحسم نتيجتها بعد – حتى لحظة كتابة هذه السطور – فان المتحدث باسم " تحالف أوقفوا الحرب " قال ان موقف السلطات الأمنية هى افضل شهادة للمعارضين لسياسة بوش وبلير ، واعتراف صريح بان هذه السياسة لا تحظى باى تأييد شعبى . بل ان زعماء هذه الحركة الاحتجاجية يرون ان محاولات إبعاد المتظاهرين عن موكب بوش وبلير هى فى حد ذاتها انتصار للمتظاهرين.
ودليل إضافي على ان غضبهم فى محله ، خاصة وان هذا ما حدث للرئيس بوش أثناء زيارته لاستراليا منذ فترة وجيزة يؤكد نفس الاستنتاج ، بحيث خرجت المظاهرات الرافضة لسياسات الإدارة الأمريكية وحاولت الحكومة الأسترالية إبعادها قدر الإمكان عن ركب الرئيس بوش فسار فى شوراع مهجورة وخالية من البشر .
وقالت ليند ساى جيرمان بغضب :" لماذا يكون بإمكان الرئيس الذى شن الحرب متحدياً أغلبية الرأى العام العالمى إغلاق أجزاء من عاصمتنا ؟! " . وأضافت قائلة ان " البرلمان وهوايت هول و10 داوننج ستريت – مقر الحكومة البريطانية – هى رموز للديمقراطية فى بريطانيا ويجب السماح لنا بالتعبير عن معارضتنا لسياسة بوش وبلير خارج هذه الأبنية وأمامها ".
وقالت اننا نريد مساراً للمظاهرة يقودنا الى قلب لندن .
وربما ساهم السلوك الامريكى نفسه فى تأجيج هذا الغضب الشعبى فالوفد المرافق للرئيس بوش يشمل 900 شخص منهم 300 رجل امن ، و 150 مستشاراً من إدارة الأمن القومى ، و 200 ممثل لباقى الإدارات ، و50 من مساعدى الرئيس فى البيت الأبيض وفريق من الكلاب البوليسية يتألف من 15 كلباً ومرافقيهم من البشر ورئيس طباخى البيت الأبيض وأربعة من الطباخين المساعدين ، وطائرتان من طراز بوينج 747 وطائرة ثالثة من طراز جامبو وطائرتان هليوكبتر ، وركبان من السيارات يتألف كل منهما من 20 سيارة مدرعة إضافة الى سيارة الرئيس من طراز " كاديلاك ديفيل " وحقيبة " كرة القدم " التى يحملها احد المساعدين العسكرين للرئيس والتى توجد داخلها شفرة إطلاق الأسلحة النووية الأمريكية !
خلاصة القول .. ان زيارة الدولة التى سيقوم بها بوش الى لندن أيام الأربعاء والخميس والجمعة القادمة ، والتى كان الهدف منها محاولة تجميل وجه الشريكين فى قرار الحرب على العراق ، بوش وبلير ، تتحول فى العاصمة البريطانية الى كابوس مخيف للرجلين وربما ستصبح مناسبة جديدة لمحاكمة السياسة التى أصرا على انتهاجها فى تحد سافر للرأى العام العالمى والمجتمع الدولى بما فيه الأمم المتحدة ومجلس الأمن .
بل وربما ستصبح مناسبة للإهانة الشخصية لهما وصفة " مجرم لحرب " هى اكثر الصفات التى تتردد هنا فى العاصمة البريطانية فى معرض حديث الغالبية العظمى عن الضيف الذى سيزورهم .
ولعل أحد المشاهد التى ستعبر عن هذه الإهانة هى تخطيط المتظاهرين لاقامة مراسم لاسقاط تمثال للرئيس الامريكى بربط حبل فى عنقه وسحبه أرضاً ، فى مشهد مماثل لاسقاط تمثال الرئيس العراقى صدام حسين على يد قوات الاحتلال الامريكى فى بغداد .
والفارق بين المشهدين – كما يقول زعماء حركة الاحتجاج الإنجليزية – هو ان نفراً قليلاً من المواطنين العراقيين حضر مشهد إسقاط تمثال صدام حسين ، اما تحطيم تمثال جورج بوش فسيكون على يد آلاف مؤلفة من المواطنين الأحرار وليس جنود الاحتلال .
وليس المهم فى هذه الأحداث التى ستجرى فى قلب العاصمة البريطانية خلال الايام القادمة .. " الشماتة " فى اثنين من رجال السياسة قرارا معاداة العالم بأسره وشن الحرب ظالمة وعدوانية على شعب وبلد دون مبرر حقيقى .
المهم – بالنسبة لنا – انها تعطينا درساً فى الديمقراطية ، وتعيد الينا الأمل فى البشرية وضمير العالم . فبعد الصمت المطبق وحملات الدعاية والتضليل الرهيبة التى شنتها الدوائر الرسمية الأمريكية والبريطانية لخداع العالم وشعوبه من اجل تبرير الحرب على العراق .. ها هو الشعب البريطاني ينتقض ويعلن رفضه بأعلى الصوت لهذه السياسة الاستعمارية .
صحيح ان احتجاج الرأى العام العالمى – الذى عبر عنه الملايين من الناس فى 15 فبراير الماضى – لم يمنع بوش وبلير من شن الحرب ، لكن هذا الاحتجاج ليس كعدمه . بل انه احد العوامل المهمة التى يجب وضعها فى حسابات معادلات صراع الحرب والسلام .
والمهم بالنسبة لنا ايضا فى هذا الحدث الكبير المرتقب انه يقدم الينا دليلاً جديداً على خطأ دعاية أسامة بن لادن ، الوجه الأخر لنفس العملة التى يحمل وجهها الأول صورة بوش وبلير فقد دأب بن لادن على تصوير الصراع الدائر على انه صراع بين " فسطاطين " فسطاط الإسلام وفسطاط الكفر .
وهى دعاية خاطئة ومنافية للواقع . فليس صحيحاً انه صراع دينى بين المسلمين وغير المسلمين بدليل ان الغالبية الساحقة من أولئك البشر النبلاء المعارضين للحرب هم من غير المسلمين فى حين ان بعض أولئك الذين يقدمون الدعم المباشر وغير المباشر للحملة العسكرية الانجلوامريكية هم من العرب والمسلمين!!
والمهم أيضا .. ان تتجنب القدوم الى العاصمة البريطانية أيام الأربعاء والخميس والجمعة القادمة .. اللهم إلا إذا كنت تريد المشاركة فى مظاهرات الغضب والاحتجاج والمساهمة فى جر تمثال بوش وإسقاطه أراضاً فى ميدان "الطرف الأغر " .