ا أعظم عليا ؟.
وأعظم ما فيه ، صدقه في القول والعمل ، وتطابق كلامه مع أفعاله ،لم يأمر الناس بمعروف قبل أن يسبقهم إليه ، ولم ينه رعيته عن خلق أو باطل قبل أن ينتهي عنه ، كان لا يقول ما لا يفعل ويفعل ما لا يقول ، ولذلك فهو قدوة وأسوة ، ولا غرابة في ذلك ، لأنه ربيب الصادق الأمين ، الذي شهد له رب العزة والجلال بعظيم خلقه ، فقال عنه في محكم كتابه الكريم ـ وانك لعلى خلق عظيم ـ ، وانه نفس رسول الله بنص الآية القرآنية الكريمة ـ فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم ، فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ـ ، وهو القائل يصف علاقته برسول الله ؛ ـ وقد علمتم موضعي من رسول الله بالقرابة القريبة ، والمنزلة الخصيصة ، وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره ، ويكنفني في فراشه ، ويمسني جسده ، ويشمني عرفه ، وكان يمضغ الشئ ثم يلقمنيه ، وما وجد لي كذبة في قول ، ولا خطلة في فعل ، ولقد قرن الله به من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن أخلاق العالم ، ليله ونهاره ، ولقد كنت اتبعه إتباع الفصيل اثر أمه ، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما ويأمرني بالإقتداء به ، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة ، واشم ريح النبوة ـ .
انه النموذج الذي يجب أن نتلمس طريقه لبناء عراق جديد ، يصون إنسانية المواطن ، وكرامته وحريته وإرادته وحقوقه ورأيه .
إنه نهج الديمقراطية الذي تضرج بدمه شاهدا وشهيدا في محراب الكوفة في 19 رمضان سنة أربعين للهجرة النبوية الشريفة ، ليكون أول ضحية للإرهاب والعنف والتعصب الأعمى ، الذي لم يتسع للرأي الآخر .
لقد رفض الإمام علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ أن يكون سببا لتمزق الأمة وتشتت أمرها ، فآثر الانسحاب من المشهد السياسي والسلطوي المباشر ، عندما أحس بان إصراره على انتزاع حقه الطبيعي والشرعي في الخلافة بعد رسول الله ـ ص ـ سيؤجج نار الفتنة وربما الاقتتال الداخلي ، فسكت عنه ، مع علم الجميع بأحقيته وأفضليته في هذا الأمر ، وهو القائل ؛ ـ أما والله لقد تقمصها فلان وانه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحا ، ينحدر عني السيل ، ولا يرقى إلي الطير ، فسدلت دونها ثوبا ، وطويت عنها كشحا ، ..... فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجا ـ ، فلم يشأ أن يكون جزءا من المشكلة ، بل كان الحل كله ، مكتفيا بأداء دور الرقيب والناصح الأمين والمستشار المؤتمن، يبادر إلى مساءلة الحاكم كلما بدر منه خطأ ، ويرفع صوته بوجه الباطل كلما هدد كيان الأمة ، ويسارع إلى تقديم النصح والمشورة كلما طلب منه ذلك وهو القائل ؛ ـ لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري ، ووالله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ، ولم يكن فيها جور إلا علي خاصة ، إلتماسا لأجر ذلك وفضله ، وزهدا فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه ـ .
ولما عصفت الفتنة أخيرا بالأمة التي وصلت إلى طريق مسدود ، لا تعرف كيف تهتدي إلى طريق الحق والصواب ، انثالت على الإمام علي تطالبه بالتصدي لأمر الخلافة ، باعتباره آخر الخيارات لحل الأزمة ، والرجل الوحيد القادر آنئذ على أن يأخذ بيدها إلى جادة الأمان ، بالإضافة إلى انه الخيار الوحيد الذي يمكن أن تجتمع عليه كل الأمة ، إثر الزلزال السياسي الرهيب الذي ضربها ، فرفض أولا هذا الأمر ، ولم يبد تهالكا على السلطة ، بل أبدى استعداده في أن يكون مواطنا عاديا في ظل الدولة الإسلامية ، إذا كان ذلك أسلم له ولامته ، وهو القائل ؛ ـ دعوني والتمسوا غيري ، فإنا مستقبلون أمرا له وجوه وألوان ، لا تقوم له القلوب ، ولا تثبت عليه العقول ، وإن الآفاق قد اغامت ، والمحجة قد تنكرت ، واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما اعلم ، ولم أصغ إلى قول القائل ، وعتب العاتب ، وان تركتموني فأنا كأحدكم ، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم ، وأنا لكم وزيرا،خير لكم مني أميرا ـ .
كان يرى السلطة مسؤولية أولا وأخيرا ، ملعون من يتصدى لها وفي الأمة من هو خير منه وأفضل وأجدر وانسب لها ، ولا خير فيمن يتبوأ مقعدها ، وهو يعلم مسبقا بأنه ليس مؤهل لها ، ولا يمتلك ما يكفي من الكفاءة والقدرة والنزاهة ، ليعطيها حقها ، ولولا رغبة الرعية وإلحاحها ، لما قبل بالموقع الذي سيزينه علي دون أن يضيف للإمام شئ يذكر ، ودون أن يغير من شخصيته وأخلاقه قيد أنملة ، وهو القائل ؛ ـ أما والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، لولا حضور الحاضر ، وقيام الحجة بوجود الناصر ، وما اخذ الله على العلماء ألا يقاروا على كظة ظالم ، ولا سغب مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أولها ، ولألفيتم دنياكم هذه ازهد عندي من عفطة عنز ـ .
فلم يكن ليجامل في السلطة ، على حساب إقامة الحق ودحض الباطل ، لا فرق عنده في ذلك ، بين واحد وآخر ، فكل الرعية سواسية عنده ، وهو القائل ؛ ـ الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له ، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه ـ .
وعندما قبل أن يتولى السلطة ، رفض أن تنتخبه زمرة أهل الحل والعقد
فقط ، بل طالب بان تجري البيعة عامة من كل الناس ، وأمام الملأ في المسجد الجامع ، وباختيارهم ومن دون تهديد أو إكراه ، حتى لا يدبر أمر بليل ، ولا يخطط للاستيلاء على السلطة في جنح الظلام ، لأنه لم يشأ أن يكون زعيما للأقلية ، أو أسيرا بيد أصحاب رؤوس المال ، يفرض نفسه وإرادته على أغلبية الأمة ، بالإكراه ، أو يكون في مهب الريح تقود زمامه عصابات المال والدعاية المضللة ، فقال بعد أن بويع للخلافة ، وهو يحاجج معاوية بن أبي سفيان الذي رفض إعطاء البيعة للإمام ، واستأثر بسلطانه في بلاد الشام ، ؛ ـ انه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد ، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار ، فان اجتمعوا على رجل وسموه إماما ، كان ذلك لله رضى ، فان خرج عن أمرهم خارج ، بطعن أو بدعة ، ردوه إلى ما خرج منه ـ .
وان أول قرار اتخذه بعد توليه السلطة عبر الانتخابات العامة ، هو إعلانه عن حقوق الرعية ، لأنه كان يريد أن يحكم امة واعية لمسؤولياتها ، عارفة بحقوقها ، وبما يجب عليها إزاء الحاكم ، ولم يشأ أن يحكم قطيع من الجهلة والإمعات ، فوقف خطيبا ليقول ؛ ـ أيها الناس إن لي عليكم حقا ، ولكم علي حق ، فأما حقكم علي ، فالنصيحة لكم ، وتوفير فيئكم عليكم ، وتعليمكم كيلا تجهلوا ، وتأديبكم كيما تعلموا ، وأما حقي عليكم ، فالوفاء بالبيعة ، والنصيحة في المشهد والمغيب ، والإجابة حين ادعوكم ، والطاعة حين آمركم ـ .
كان واضحا وصريحا مع رعيته ، رفض أن يخدعهم أو يغشهم أو يلبس عليهم الأمور ، لأنه كان يعتقد بان سر نجاح الحاكم في العلاقة مع المحكوم ، هو مدى تفاهم الطرفين ، ومدى وضوح الأمور وحدود الحقوق والواجبات المفروضة على الطرفين ، حتى لا يتجاوز احدهما على حقوق الآخر ، أو يقصر احدهما بواجباته وبالتزاماته تجاه الآخر ، ما ينتج عن كل ذلك علاقة حسنة وطيبة بينهما ، قائمة على أساس الثقة المتبادلة ، تفضي إلى الاستقرار والتنمية والتطور الدائم .
أكثر من هذا ، فقد أوضح لهم ما ينبغي أن يكون عليه الحاكم ، وبعبارة أخرى ، حدد لهم مساحات المساءلة والمحاسبة و ..... شروط إقالة الحاكم إذا إقتضت الضرورة ، فقال لرعيته ؛ ـ انه ليس على الإمام إلا ما حمل من أمر ربه ، الإبلاغ في الموعظة ، والاجتهاد في النصيحة ، والإحياء للسنة ، وإقامة الحدود على مستحقيها ، وإصدار السهمان على أهلها ، فبادروا العلم من قبل تصويح نبته ، ومن قبل أن تشغلوا بأنفسكم عن مستثار العلم من عند أهله ، وانهوا عن المنكر وتناهوا عنه ، فإنما أمرتم بالنهي بعد التناهي ـ .
كان يبحث لأعدائه عن المبرر ليحقن فيه الدماء ، فكان يقول ؛ ـ لا تقاتلوا الخوارج بعدي ، فليس من طلب الحق فأخطأه ، كمن طلب الباطل فأدركه ـ ، ولذلك لم يكن في ظل سلطانه سجين سياسي ، أو سجناء عقيدة ، حتى الخوارج الذين كانوا من أشد أعدائه قسوة وعنفا ، رفض أن يمنعهم من عطاء بيت المال ، أو الحضور في المسجد ، لازالوا لم يشهروا السيف بوجه الحكومة الشرعية المنتخبة .
كما منع أصحابه من التجاوز على حقوق الرجل الذي إعتدى عليه وهو يخطب في مسجد الكوفة ، عندما قاطع الإمام بقوله ، كافر ما أفقهه ، .
وأكثر ، فعندما تولى السلطة ، بادر فورا إلى إلغاء كل الأحكام الجائرة التي كانت قد أصدرتها السلطات القضائية في العهود الثلاثة التي سبقته ، ضد المعارضة السياسية ، كما ألغى القوانين التي تميز بين المواطنين على أساس ديني أو عرقي ، فأحيا بذلك مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص ، لأنه كان يؤمن بحرية الرأي ، وحق المواطن في أن يعارض الحاكم ، كما كان يرفض مبدأ الاعتقال الاحترازي أو الإداري ، فأطلق سراح سجناء الرأي ، وأجاز لزعماء المعارضة حرية السفر والتنقل بين أجزاء الدولة الإسلامية المترامية الأطراف ، من دون شروط أو تعهدات أو التزام أو رقيب ، من الذين كانوا في الاقابة الجبرية التي فرضتها عليهم السلطات السابقة.
كان يرفض أن يتميز عن عامة الناس ، كما كان يرفض أن يعيش بأعلى مستوى من أدناهم ، فكان يقول ؛ ـ ولو شئت لاهتديت الطريق ، إلى مصفى هذا العسل ، ولباب هذا القمح ، ونسائج هذا القز ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة ، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع ، أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرى ، أو أكون كما قال القائل ، وحسبك داء أن تبيت ببطنة ، وحولك أكباد تحن إلى القد ، أأقنع من نفسي بان يقال ؛ هذا أمير المؤمنين ، ولا أشاركهم في مكاره الدهر ، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش ، فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات ، كالبهيمة المربوطة ، همها علفها ، أو المرسلة شغلها تقممها ، تكترش من أعلافها ، وتلهو عما يراد بها ، أو أترك سدى ، أو أهمل
عابثا ، أو أجر حبل الضلالة ، أو أعتسف طريق المتاهة ـ .
وذات مرة إغتاض من قاضي القضاة ، عندما حاكمه يهوديا أمامه على درع ادعى أنها له ، لان القاضي لم يعدل بينهما عندما كناه وسمى خصمه ، فالعدل في نظر الإمام يجب أن يكون شاملا ودقيقا ، ليس في الحكم فقط ، وإنما حتى في تسمية المتخاصمين عند مناداتهم للمثول أمام المحكمة أو عند توجيه الأسئلة لهم .
لقد كان العدل بالنسبة للإمام أعظم شئ ، فلا خير في حاكم لا يعدل بين رعيته ، ولا خير في سلطان يقيم ملكه على الظلم والعدوان ، ولذلك كان كل همه أن يكون عادلا في كل الأمور ، لا يتجاوز على حقوق أحد ، ولا يعتدي على مواطن مهما كان بسيطا متواضعا ، أو فقيرا معدما ، أو منسيا مهمشا ، فقال لحظة تسنمه مسؤولية الخلافة ، مشيرا إلى العدل كمحور أساس في منظومة سلطانه ؛ ـ والله لو وجدته ، يقصد المال العام الذي وزعته السلطة التي ورث عنها الخلافة بلا حساب ولا كتاب ، قد تزوج به النساء ، وملك به الإماء ، لرددته ، فان في العدل سعة ، ومن ضاق عليه العدل ، فالجور عليه أضيق ـ ، وهو القائل ؛ ـ والله لإن أبيت على حسك السعدان مسهدا ، أو أجر في الأغلال مصفدا ، أحب إلي من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد ، وغاصبا لشئ من الحطام ، وكيف أظلم أحد لنفس يسرع إلى البلى قفولها ، ويطول في الثرى حلولها ؟ ـ .
كان يرفض الباطل ويحذر منه مهما كان مصدره ، وكان يقبل بالحق ويدعو إليه أيا كان مصدره ، لم يهتم بالهوية ، ولم يحاسب على الزي ، إنما كان هاجسه الحق والعدل ، ولذلك ، فعندما كان يرفض باطلا ، لم يكن مهما عنده هويته أو زيه ، إنما المهم ذات الباطل ، فيتصدى له بكل قوة من دون أن تأخذه في الله لومة لائم ، فكان يقول ؛ ـ ألا من دعا إلى هذا الشعار ، الباطل ، فاقتلوه ، ولو كان تحت عمامتي هذه ـ ، لعلمه بمن سيأتي من بعده من المزيفين والدجالين الذين يتخندقون بعمامته ويتحصنون بزيه أو بهوية الانتماء ، للإضرار بالأمة ، والإيقاع بين أبنائها ، من تجار الدين وزيه .
كان يدعو إلى المساواة في الحقوق والواجبات ، من دون تمييز بين المواطنين ، وان التفاضل فيما بينهم ، يكون على أساس الأداء فقط ، وليس على أساس الاسم أو الزي أو الانتماء ، أو القومية ، فكان يقول ؛ ـ أما بعد ، فقد جعل الله سبحانه لي عليكم حقا بولاية أمركم ، ولكم علي من الحق مثل الذي لي عليكم ، فالحق أوسع الأشياء في التواصف ، وأضيقها في التناصف ، لا يجري لأحد ، إلا جرى عليه ، ولا يجري عليه إلا جرى له ، ولو كان لأحد أن يجري له ولا يجري عليه ، لكان ذلك خالصا لله سبحانه دون خلقه ، لقدرته على عباده ، ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه ـ .
كان يرى ضرورة إشاعة المعلومة الصحيحة بين الناس ، وعدم احتكارها أو حجبها عنهم ، لان الوعي لا يبنى من دون معلومة ، أو بمعلومة خطأ ، كما أن الموقف الصحيح توأم الوعي الناضج ، الذي يولد بالمعلومة الصحيحة ، ولذلك لم يشأ أن يحجبها عن رعيته ، وكان يحرص على استشارة أصحابه ، ليحملهم المسؤولية إلى جانبه ، فلم يكن مستبدا برأيه أبدا ، فكان يقول ؛ ـ من شاور الرجال شاركهم عقولهم ـ و ـ من استبد برأيه هلك ـ و ـ ما تشاور قوم ، إلا هدوا إلى الصواب ـ ، كما كان يدعو قواده إلى الثبات على الأسلوب الصحيح ، دون الاغترار بنصر يصيبونه ، أو نجاح في إنجاز ، حتى لا يتكبروا على من دونهم ، ولا يشمخوا بأنوفهم على من تحت أيديهم من الناس ، فكان يقول ؛ ـ أما بعد ، فان حقا على الوالي ألا يغيره على رعيته فعل ناله ، ولا طول خص به ، وان يزيده ما قسم الله له من نعمه دنوا من عباده ، وعطفا على إخوانه ، ألا وان لكم عندي ألا احتجز دونكم سرا إلا في حرب ، ولا اطوي دونكم أمرا إلا في حكم ، ولا أأخر لكم حقا عن محله ، ولا أقف به دون مقطعه ، وأن تكونوا عندي في الحق سواء ، فإذا فعلت ذلك ، وجبت لله عليكم النعمة ، ولي عليكم الطاعة ، وألا تنكصوا عن دعوة ، ولا تفرطوا في صلاح ، وان تخوضوا الغمرات إلى الحق ـ .
لم يتربص بإخوانه ، ولم يعد عليهم زلاتهم وهفواتهم ، ولم يحتفظ بأسرارهم وفضائحهم لابتزازهم بها عند الحاجة ، ولم يكن يتصيد بالماء العكر للإيقاع بهم أو التخلص منهم ، بل كان يمكنهم من اجل أداء أفضل وإنجاز أحسن ، فكان يوصي القوي بالضعيف ، والناهض بالساقط ، والقائم بالجالس ، والمقتدر بمن كبا لسبب من الأسباب بقوله ؛ ـ وأي امرئ منكم أحس من نفسه رباطة جأش عند اللقاء ، ورأى من احد من إخوانه فشلا ، فليذب عن أخيه بفضل نجدته التي فضل بها عليه،كما يذب عن نفسه،فلو شاء الله لجعله مثله ـ .
لم يكن يحب أن يخالف قرارالاغلبية ، فكان يكره أن يحملهم ما يرفضون ، أو يجبرهم على فعل ما لا يطيقون ، وهو القائل ؛ ـ لقد كنت أمس أميرا ، فأصبحت اليوم مأمورا ، وكنت أمس ناهيا ، فأصبحت اليوم منهيا ، وقد أحببتم البقاء ، وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون ـ ، ولذلك ، كان يبذل قصارى جهده من اجل إقناع الرعية بما يراه صحيحا ، ثم يترك أمر الخيار والاختيار إليهم ، فإذا اجمعوا على الخطأ مثلا ، كما في صفين وفي قضية التحكيم ، كان يشعرهم بالمسؤولية التي يجب أن يتحملوها ويدفعون ثمن الخطأ الذي ارتكبوه ، من دون أن يتهربوا منه ، ليعيشوا تأنيب الضمير ويتحسسوا جسامة نتائج الخطأ ، فيتعلمون منه ما يصيبون به الحق في المستقبل ، وتلك هي ضريبة الديمقراطية .
حرم أن يكون سببا لإراقة دماء المسلمين ، مهما عظم الخطب ، فأوصى أهله بقوله بعد أن طعنه عدو الله تعالى ، ابن ملجم ، بسيفه المسموم ، الطعنة التي استشهد على أثرها الإمام ؛ ـ يا بني عبد المطلب ، لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضا ، تقولون ، قتل أمير المؤمنين ، ألا لا تقتلن بي إلا قاتلي .
انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه ، فاضربوه ضربة بضربة ، ولا تمثلوا بالرجل ، فاني سمعت رسول الله يقول ، إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور ، ـ .
كان يحرص على معالجة حالات الخطأ في المجتمع من دون النظر إلى هوية الضحية ، فاستنكر مثلا حالة الرجل النصراني العجوز الذي مر عليه في إحدى طرقات الكوفة ، مرميا على الرصيف ، قائلا ؛ ـ ما هذا ؟ ـ ولم يقل ؛ ـ من هذا ؟ ـ ، ففي رأيه أن مثل هذه الحالة ، خطأ لا يجوز أن يشهد مثلها في ظل سلطان القسط والعدل ، ولذلك فهو استنكر الحالة ، بغض النظر عن اسم الضحية وهويته ودينه ، وعندما علم من الناس أن الضحية رجلا نصرانيا عجوزا ، ليس له في المدينة من يعيله ويقوم بخدمته ويقضي حوائجه ، أجابهم ؛ ـ استعملتموه شابا ، ورميتموه كهلا ؟ ـ ، ثم أمر أن تكفل حياته من بيت المال ، كاملة غير منقوصة .
كان على أتم الاستعداد للقبول بتهمة الخصم ، إذا كان ذلك طريقا لدرء الفتنة ، وحقن دماء المسلمين ، فقال للخوارج عندما أحس منهم الإصرار على خوض الحرب ضده ؛ ـ فإن أبيتم إلا أن تزعموا أني أخطأت وضللت ، فلم تضللون عامة أمة محمد بضلالي ، وتأخذونهم بخطأي ، وتكفرونهم بذنوبي ؟ ـ .
أخيرا ، لم يشأ أن يبادر خصمه بإعلان الحرب عليه أبدا ، إلا بعد أن يلقي عليه الحجة كاملة ، بالحوار والمنطق والخطاب والبيان والمراسلة والرسل والمفاوضين ولجان التحكيم والشهود ، فإذا لمس منه إصرارا أعمى على خوض الحرب ، خاضها بكل شجاعة وعزيمة لا تلين ورجولة وإقدام ويقين ، من دون تردد أو خوف أو وجل ، في إطار الأخلاق والمناقبيات الإلهية الربانية ، وهو القائل لأصحابه ؛ ـ لا تقاتلوهم حتى يبدؤوكم ، فإنكم بحمد الله على حجة ، وترككم إياهم حتى يبدؤوكم حجة أخرى لكم عليهم ، فإذا كانت الهزيمة بإذن الله ، فلا تقتلوا مدبرا ولا تصيبوا معورا ولا تجهزوا على جريح ولا تهيجوا النساء بأذى وان شتمن أعراضكم ، وسببن أمرائكم ـ .
ما أعظم عليا ؟ .