قبل أسابيع قليلة من مغادرتي واشنطن، رافقت زوجتي في رحلة قصيرة إلى كامبردج. كان عليها أن تمضي سحابة اليوم التالي في الجامعة التي انتقلت إليها حديثاً، وكان عليّ أن أجد لنفسي ما يشغلني ويفيدني. ولم يكن الأمر عسيراً، فقد كنت منذ فترة طويلة أحلم بزيارة مدينة بليموث القريبة جداً من كامبردج والتي تعتبر مسقط رأس التاريخ الأميركي. على شاطئ هذه المدينة رست السفينة الأسطورية مايفلور (عام 1620) بمجموعة من المستوطنين الإنكليز الذين يطلق عليهم التاريخ الرسمي لقب الحجاج. وبالطبع فقد وصلوا إلى العالم الجديد في حال تثير الشفقة، وكان الجوع وبرد الشتاء قد أودى بحياة عدد منهم. ولولا مروءة أبناء شعب وامبانوغ الذين قدموا لهم الطعام والشراب والمأوى لاختفت مستعمرة هؤلاء القديسين، ولربما كان للتاريخ الأميركي مسيرة مختلفة.
وقد كان هؤلاء الحجاج يعتبرون أنفسهم عبريين (أو مستعبرين Hebriests)، ويسمون هذا العالم الجديد بكل الأسماء التي أطلقها العبرانيون على بلاد كنعان. وما يزال التاريخ الأميركي إلى الآن يضفي عليهم قداسة طوباوية ويعتبرهم أول أنموذج للاستثناء الأميركي الذي فضله الله على العالمين وأورثه ما أورث بني إسرائيل من قبل، وجعل العهد الذي عقدوه مع الله على متن سفينتهم الأسطورية Mayflower من اللحظات النادرة الخالدة في التاريخ الإنساني كما يقول الرئيس الأميركي جون أدامس، فعهدهم مع الله جبَّ عهدَ الإسرائيليين القدامى، وتأسيس مستعمرتهم الأولى على صخرة بليموث ضاهى تأسيس الكنيسة على صخرة بطرس.
قصة هؤلاء "الحجاج" هي الأصل الأسطوري لكل التاريخ الأميركي ومركزيته العنصرية. و مايزال كل بيت أميركي يحتفل سنوياً في "عيد الشكر" بتلك النهاية السعيدة التي ختمت قصة نجاتهم من ظلم فرعون البريطاني و"خروجهم" من أرضه، و"تيههم" في البحر، و"عهدهم" الذي أبرموه على ظهر سفينتهم مع يهوه، ووصولهم في النهاية إلى "أرض الميعاد".
بليموث مدينة فقيرة، ليس فيها إلا أشباح هؤلاء الحجاج ورسومهم وتماثيلهم وعادياتهم (هياكل سفن، سيوف، كراسي منخورة الخشب، وسجلات أكلتها الأرضة) إضافة إلى الشوارع والفنادق التي تحمل أبرز أسمائهم. وهناك بالطبع الصخرة الأسطورية على الشاطئ التي يقال إن هؤلاء الحجاج حطوا أقدامهم فوقها عندما نزلوا من سفينتهم، وهي صخرة تحاط الآن بأعمدة من المرمر، وترفرف فوقها أعلام أميركا. هناك أيضاً كل هذه العترة الطاهرة في متحف الشمع، كما أن هناك سفينة مبنية على هيئة سفينة مايفلور؛ يحج إليها السياح بيضاً وصفراً ويلتقطون الصور التذكارية. المدينة تعج بتفاصيل كثيرة كلها تمجد وصول المستوطنين الإنكليز، وتضفي عليهم صفات النبل والطهارة وكل المقبلات اللازمة لهضم فكرة أميركا: فكرة استبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة. ولكن ليست هناك إشارة واحدة إلى إبادة شعب الوامبانوغ على أيدي هؤلاء المستوطنين المتعطشين للثورة والأرض والدماء.
وبالتأكيد لم أكن بحاجة إلى هذه السفرة الطويلة المرهقة لأصل إلى هذه النتيجة التي تصدم العين في كل مكان من أميركا. العاصمة واشنطن نفسها تجسيد حي لفكرة أميركا: (فكرة استبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة). فالبيت الأبيض ومبنى الكونغرس و"قلعة" البنتاغون ومعظم متاحف المدينة وصروحها مبنية فوق مقبرة جماعية كانت في يوم من الأيام مدينة هندية تدعى "نكن شتنكة". وكانت هذه المدينة مركزاً تجارياً زاهراً لشعب "كونوي Conoy" الذي أباده الغزاة عام 1623.
إنني ما زلت أحتفظ بالدليل السياحي الذي اشتريته من المطار يوم وصلت هذه المدينة لأول مرة قادماً من هدسن/أهايو، وما زلت أذكر أن صفحته الأولى تحمل صورة الرئيس واشنطن بنظراته الناعسة المتكسرة وابتسامته الموناليزية وبعض المعلومات "التاريخية" عن المدينة، وأولها أن واشنطن "أجمل عواصم العالم انبثقت من مجاهل مستنقعية Marshy Wilderness"!
كل أطفال أميركا يتعلمون في مدارسهم- على غرار السياح المغفلين- كيف أن جورج واشنطن – أحد ما يسمى بـ "الآباء العظام" للأمة الأميركية- اختار موقع العاصمة في أرض عذراء على ضفاف نهر بوتومك، وكيف أنه طاف بنفسه في مجاهلها البكر واستحسن موقعها المفتوح على خيرات نهر أهايو، متوسطاً مجاهل الشمال ومجاهل الجنوب. ليس هناك من طفل أميركي يتعلم شيئاً عن تلاعب "التاريخ المنتصر" بالوقائع والأحداث؛ عما لا يعرفه إلا الموتى؛ عن أعضاء واشنطن السفلى؛ عن مدينة نَكن شَتَنكِه وشعب كونوي المدفون تحت "عاصمة الدنيا" والآخرة.
في عام 1975، وفي زمن الرئيس جيرالد فورد، بينما كانت تكنولوجيا الحداثة تحفر مسبحاً داخل حديقة البيت الأبيض للترفيه عن سيد القصر وجد علماء الآثار ما وصفوه يومها بأنه "آثار ورمم بشرية تعود إلى مدينة نكن شتنكة وشعب كونوي". وسرعان ما انعقدت الألسنة الطويلة وأهيل التراب على جثة الفضيحة. وعلى مسافة قريبة، ما بين البيت الأبيض ومبنى الكونغرس, كشفت الحفريات أيضاً عن مقلع للحجر الصابوني Steatite تحيط به مواقع صناعية مختلفة كان حرفيو شعب كونوي يصنعون فيها الأطباق والغلايين والجرار والقدور من هذا الصخر الصابوني الناعم. ومن هذه "المجاهل المستنقعية" التي أقيم فوقها الآن- للإمعان في السادية- "متحف الهولوكست اليهودي" كان شعب كونوي ينشط في تجارته مع شعوب "يوهاتان" و "توسكارورا" و"مونتوك" و"نانتيكوك" وأكثر من أربعمائة أمة وشعب سُلخت من أسمائها وأبيدت ودفنت مدنها وحواضرها وقراها تحت ما صار يعرف أولاً باسم "إسرائيل الله الجديدة Israel God s New" ثم باسم الولايات المتحدة الأميركية. هذه المدينة التي نصبت عرش عولمتها فوق مقبرة جماعية هي التجسيد الحي لفكرة أميركا، وهي فكرة "استبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة".
سأضرب مثلاً ثالثاً على أميركا وعلى ما يقترفه تاريخها المنتصر من تلاعب بوقائع التاريخ وأحداثه، وذلك من واقعنا الذي عشناه بعد أحداث أيلول الماضي. فلكي يفهم المرء هذا الهلع العصابي الذي أصاب أميركا مع ظهور حالة "الجمرة الخبيثة" , عليه أن يكون "زنبوراً". والزنبور WASP اصطلاح مؤلف من الحروف الأربعة الأولى لأربع خصال عرقية وأخلاقية استثنائية تميزت بها العترة الأرستقراطية "المختارة" التي أطلقت فكرة أميركا وصنعت تاريخها وأسست أساطيرها. ففي كل الطبقات الجيولوجية لذاكرة هؤلاء الزنابير (البيض، الأنكلو- سكسون، البروتستانت) مناجم غنية بمشاهد الحروب الجرثومية. بدونها لم تكن فكرة أميركا- فكرة استبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة- ممكنة. هناك علاقة استثنائية بين هذه الزنابير التي تستمد حياتها من نسغ الموت وبين الهلع الهستيري الذي ملأ ليلهم بكوابيس الخطيئة الأصلية لفكرة أميركا، واكتشف في كل ذرة من جيولوجيا الذاكرة "جمرة خبيثة".
فجأة رأت ذاكرة الزنابير صورتها في المرآة تطاردها أشباح 112 مليون إنسان ينتمون إلى أكثر من أربعمائة أمة وشعب كانوا يملأون "مجاهل" العالم الجديد بضحكة الحياة (لم يبق منهم في إحصاء مطلع القرن العشرين سوى ربع مليون)، وتلوح لعينيها مشاهد 93 حرباً جرثومية شاملة أتت على حياة الملايين من هذه الشعوب. هذه الإبادة الجماعية الأعظم والأطول في تاريخ الإنسانية، والتي حاول التاريخ المنتصر محو ذكراها من وجه الأرض، أيقظتها حالات "الجمرة الخبيثة" بكل أهوالها في مخيلة الزنابير التي بدأت ترى مستقبلها في صورة ضحاياها الذين أبيدوا بجراثيم الجدري في العالم الجديد، أو بمبيد الأعشاب البرتقالي وغاز الخردل واليورانيوم المستنفد في الفيليبين وكوريا وفيتنام وما بين الرصافة والجسر.
لم تعترف الولايات المتحدة أبداً بعدد "الهنود" الذين أبيدوا في الشمال الأميركي. والكتب المدرسية تؤكد أن تاريخ الإنسان في مجاهل الشمال الأميركي لم يبدأ إلا مع وصول الإنسان الأبيض في أواخر القرن السادس عشر. أما تلك القلة الضئيلة المشاغبة من المتوحشين الهنود الذين لم يتجاوز عددهم يومها المليون فقد حفروا قبورهم بأيديهم في حروب متكافئة شفافة كانوا هم مسؤولين عن إضرام نارها وحصد أضرارها، أو إنهم "ماتوا" قضاء وقدراً بالأمراض التي حملها الأوروبيون معهم دون قصد. وفعلاً فإن الكتب المدرسية التي تجيش بالعواطف الإنسانية تصف هذا الموت القدري بأنه "مأساة مشؤومة يؤسف لها", "غير مقصودة"، "لم يكن تجنبها ممكناً" بل هي أحياناً مجرد "أضرار هامشية تواكب انتشار الحضارة".
الأرقام الرسمية لم تتقلص وتُختزل بهذه الشراسة إلا لأن الكشف عن حقيقة عدد سكان أميركا عند وصول الإنسان الأبيض سيعرّي أسطورة "الأرض العذراء" التي اخترعها الزنابير أو "الأرض الفارغة" التي نسجت من خيوطها كل أكاذيب التاريخ الأميركي. هناك مئات الكتب التي وضعها التاريخ المنتصر لما أسماه بالعامل الطبيعي أو بعامل الأرض Disease Factor، وهناك مئات الأبحاث والدراسات التي تسخر من فكرة إبادة سكان أميركا بالأسلحة الجرثومية، فالجدري والتيفوئيد والخناق والحصبة وغيرها من أوبئة العالم القديم هي التي قفزت خفية إلى سفن المستوطنين، ووصلت سراً إلى شواطئ العالم الجديد، ثم تسللت إلى أرواح الهنود في قراهم ومدنهم قضاء وقدراً.
بهذا المنطق يؤكد التاريخ المنتصر أن حرب الإبادة الجماعية التي أفرغت العالم الجديد من سكانه وقضت على أكثر من أربعمائة شعب وأمة وقبيلة كانت تنتشر في الشمال الأميركي فوق مساحة أكبر من القارة الأوروبية بنصف مليون ميل مربع، وكل ما واكب هذه الإبادة من فظائع كانت مجرد "مأساة غير مقصودة". وبهذه العنصرية التي تسللت بكل ساديتها إلى مملكة الموت أقيم متحف الهولوكست في واشنطن على أنقاض السوق التجارية لمدينة نكن شتنكة الهندية وفوق رمم شعب الكونوي الذي أباده الزنابير الغزاة في عام 1623. هنا على ضفاف نهر البوتوماك دشن الزنابير في تلك السنة أول حروبهم الشفافة عند مفاوضاتهم مع القبائل التي كان يعيش بعضها حيث يقام متحف الهولوكست اليوم. كان الزعيم الهندي تشيسكياك يتولى المفاوضات. وقد افتتحها الغزاة بدعوته هو وحاشيته لشرب الأنخاب تعبيراً عن "الصداقة الخالدة بين الأمتين". وكانت أنخاب الإنكليز كالعادة مسمومة طرحت الزعيم تشيسكياك تحت أقدام مفاوضيه، وقتلت معه أسرته ومستشاريه ومئتين من حاشيته.
لدينا اليوم أكثر من دليل على أن حصاد ملايين الأرواح بعامل الأمراض أو بالعامل الطبيعي لم يكن طبيعياً, وأن الزنابير أرادوا متعمدين، عن سابق نية ومعرفة وإصرار، شن الحرب الجرثومية التي استمرت في زمن "السلم" وزمن الحرب، مع المحترفين ومع الهواة، وبشكل جماعي منظم تتولاه الجيوش، أو بشكل فردي يتولاه المستوطنون. أما الادعاء بأن إبادة 112 مليون إنسان كان مجرد"مأساة مشؤومة"، "غير مقصودة" و"أضرار هامشية تواكب انتشار الحضارة"، وأن هؤلاء الذين نسبوا هذه الإبادة الجماعية الأكبر والأطول في تاريخ الإنسانية إلى "العناية الإلهية" أو إلى العامل الطبيعي هم أتقياء أبرياء لم تكن لديهم المعرفة العلمية الكافية فهو ادعاء يفتقر إلى البراءة ويتنكر أول ما يتنكر للمعرفة العلمية.
منذ أيام الطاعون الأسود كان الأوروبيون يعرفون هذا السلاح الجرثومي، وكانوا في حروبهم يستخدمون المنجنيق في قذف جثث الموتى بالطاعون أو جيف الحيوانات الموبوءة إلى داخل المدن التي يحاصرونها. ومنذ السنوات الأولى للحج إلى بليموث اعترف الحاكم وليم برادفود في يومياته بأن هداياهم من الأغطية الملوثة بجراثيم الجدري هي السبب في انتشار هذا الوباء بين الهنود.
في أواخر ما يسمى بالحرب الهندية الفرنسية ظهرت أول وثيقة دامغة تثبت استخدام الزنابير للسلاح الجرثومي عمداً، وتؤكد أن إبادة الهنود بالسلاح الجرثومي كان سياسة رسمية. ففي سيناريو كلاسيكي منقح لقصة تسميم الزعيم تشيسكياك ومن معه بأنخاب "الصداقة الخالدة" على ضفاف نهر البوتوماك، كتب القائد الإنكليزي العام اللورد جفري إمهرست (عام 1736) أمراً إلى مرؤسه الكولونيل هنري بوكيه يطلب منه أن يجري مفاوضات سلام مع الهنود ويهديهم بطانيات مسمومة بجراثيم الجدري "لاستئصال هذا الجنس اللعين To Extripate This Execrable Race . وقد أجاب بوكيه لاحقاً "سأحاول جهدي أن أسممهم ببعض الأغطية الملوثة التي سأهديها إليهم، وسأتخذ الاحتياطات اللازمة حتى لا أصاب بالمرض". وببطانيتين وبضعة مناديل تم تلويثها في مستشفى الجدري- يقول ناشراً الوثيقة فاغنر وآلان ستيرن- انتشر الوباء بين أربعة شعوب هندية وأتى على أكثر من مئة ألف من أبنائهم وبناتهم. هناك وثيقة أخرى تتحدث عن إهداء أغطية مسمومة بجراثيم الجدري لهنود المندان Mandan في فورت كلارك. وقد نقلت هذه الأغطية يوم 20 حزيران 1837 من محجر عسكري لمرضى الجدري في سان لويس فحصدت كذلك أكثر من مئة ألف ضحية.
بعد حوالي 15 سنة كانت الولايات المتحدة تتساءل عن أفضل وسيلة للقضاء على هنود كاليفورنيا. فمع الاستيلاء على هذه الولاية الغنية من المكسيك وجدت فكرة أميركا نفسها أمام مهمة جديدة وصفتها صحيفة دايلي ألتا Daily Alta (6 آذار 1853) كما يلي: "إن الهنود هنا جاهزون للذبح وللقتل بالبنادق أو ... بالجدري. وهذا ما نفعله الآن".
مع استحالة استخدام هذه التقنيات الفظة في العصر الحديث ابتكرت الولايات المتحدة أساليب جديدة للتغلب على التكاثر "الخطير" الذي رفع عدد الهنود من ربع مليون في أول القرن العشرين إلى ما يقارب المليون في نهاية الستينات، لعل أبرزها أسلوب التعقير أو العقم القسري. في منتصف سبعينات القرن العشرين اكتشفت الطبيبة الهندية كوني أوري بالمصادفة إحدى هذه التقنيات الحديثة لإبادة الهنود وكشفت عن فضيحة التعقير الإجباري لأكثر من 30بالمئة من نساء شعب نافاهو, وكلهن دون الثلاثين. وقد أغمضت الدولة عن هذه الجريمة إلى أن أثارها السناتور جيمس أبو رزق. فجأة رأت ذاكرة الزنابير صورتها في المرآة كما رأتها بعد ظهور حالات الجمرة الخبيثة, وامتلأ ليلها بكوابيس الخطيئة الأصلية لفكرة أميركا، فكرة استبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة.
طقس العنف
مثل هذه الفكرة الاستيطانية (استبدال شعب بشعب) والعنصرية (استبدال ثقافة بثقافة) لا يمكن تحقيقها إلا بطقس العنف المميت – هذا العنف الذي لازم فكرة أميركا وصنع تاريخها. صحيح أن الزنابير الغزاة استخدموا أسلحة مختلفة لتحقيق فكرة أميركا، من أهمها: (1) العمل بالسخرة،(2) التجويع وتدمير البنى الاقتصادية اللازمة للحياة, (3) الترحيل الجماعي القسري، (4) الحرب الجرثومية، (5) الحرب النفسية لتدمير معنويات الضحايا وتفريغها من معناها الإنساني، (6)الاتفاقيات الملغومة، (7) التذويب الثقافي، (8)الاستعمار الداخلي أو ما يعرف حديثاً باسم الحكم الذاتي، أو السلطة الوطنية.. إلا أن طقس العنف لم يفارق واحدا من هذه الأسلحة الثمانية.
في كتابه عن نظريات الاستعمار الإنكليزي British Colonial Theories يعتقد كلاوس كنور أن الإنكليز أكثر القوى الاستعمارية الأوروبية ممارسة وتعمداً للإبادة، وأن هدفهم النهائي من استعمار العالم الجديد واستراليا ونيوزيلاندة هو إفراغ الأرض من أهلها وتملكها ووضع اليد على ثرواتها. خلال هذه المسيرة التي بدأت بإيرلندا ولم تنته بعد، تحكمت عقدة "الاختيار الإلهي" و"التفوق العرقي" بسلوكهم وبنادقهم، وانتهت بهم إلى بارانويا تأليه الذات انطلاقاً من تلك الصرخة التي أطلقها أوليفر كرمومويل ثم صارت شعاراً وعنواناً لكثير من القصائد الروايات:God Is An Englishman (الإله إنكليزي!) وهذا ما أوهمهم بأنهم هم "شعب الله" وأنهم يملكون حق تقرير الحياة والموت لكل من عداهم، وأنهم في حل من أي التزام إنساني أو قانوني تجاه الشعوب التي يستعمرونها.
كانت قصص اجتياح كنعان في الأدبيات العبرانية تمدهم بالأسس الأخلاقية اللازمة لتماسك هذه السيكولوجيا الاستعلائية ولتبرير عنصريتها وعنفها المميت. وكانوا يقتلون الهنود وهم على قناعة وسعادة صوفية بأنهم عبرانيون أعطاهم الله تفويضاً بقتل الكنعانيين.
هكذا بدأت دعوات الإبادة الشاملة تعلو عندما لم يكن في كل الشمال الأميركي سوى ألفي زنبور. ثم ازدادت هذه الدعوة حدة وجنوناً حين تأكد لهم أن الهنود قد يرحبون بهم ضيوفاً ويكرمونهم بما يكفيهم من الأرض والرزق ويعيشون معهم بسلام، لكنهم لن يتنازلوا لهم طوعاً عن كل بلادهم، ولن يتقبلوا فكرة السخرة والاستعباد. وكانت كل بادرة لمقاومة هذا الجشع والتعصب المقدس برهاناً إضافياً على صدق "رسالة شعب الله في المجاهل" وعلى صدق الدعوى بأن الهنود متوحشون عدوانيون لا تنفع معهم إلا الإبادة. إن حرب التشويه تقوم على منطق بسيط يلخصه ريجنالد هورسمان في كتابه الرائع عن العنصرية بهذا القانون الخالد للبروباغندا الأميركية: " إن اغتصاب أراضي الهنود وإبادتهم فضيلة إنسانية. أما مقاومة ذلك الاغتصاب وتلك الإبادة فوحشية وشر وجريمة عقابها الموت". ومع تقدم الزمن صارت شيطانية الهندي ووحشيته بديهية لا تحتاج إلى دليل مثلما أن إنكليزية الله وتفوق شعبه من البديهيات التي لا تحتاج إلى دليل.
قبل مذبحة " "ووندِدني " Wounded Knee" الشهيرة بأيام كتب فرانك باوم في صحيفته The Aberdeen Saturday Pioneer , ولم تكن عبقريته القصصية قد تفتحت بعد، يدعو إلى الإبادة الشاملة لمن تبقى من الهنود: (إن أصحاب البشرة الحمراء قد أبيدوا، ولم يبق منهم إلا مجموعة صغيرة من كلاب هجينة تعض اليد التي تطعمها ولا تتوقف عن النباح. أما البيض فإنهم بحكم الغلبة وبقضاء الحضارة أسياد القارة الأميركية، وإن أفضل أمن لمستوطنات الثغور يجب أن يتحقق بالإبادة الكاملة لهذه البقية الباقية من الهنود.. إن موت هؤلاء الأشقياء خير لهم من الحياة).
كانت هذه البارانويا العنصرية هي التعبير الصادق عن مزاج الزنابير في نهاية القرن التاسع عشر.فبعد أيام قليلة ارتكبوا مذبحة "وونددني" التي قتل فيها المئات من رجال شعب لاكوتا ونسائهم وأطفالهم. أما الناجون فقد تعقّبوهم وقتلوهم إنساناً إنساناً لاشيء سوى أن بشرتهم حمراء ودمهم هندي وأرضهم كنعانية طيبة.
في مقابل ذلك كانت كل شهادات المستعمرين الأوائل تسخر من مفهوم الحرب عند الهنود لافتقارها إلى عنصرين أساسيين في الثقافة الحربية الكلاسيكية: القتل والتوسع في الأرض. ولأنها كانت أشبه بمهرجانات لاستعراض الشجاعة والبطولة والمهارة البدنية وليس لاستعراض الجثث. أول ما لاحظه أحد قدّيسي فكرة أميركا جون أندرهيل أن "حروب الهنود كانت للتسلية والرياضة البدنية وليست لإخضاع الخصم، فقد يتحاربون سبع سنين دون أن يسقط بينهم سبعة قتلى. إنهم يقاتلون في السهول بالقفز والرقص، وعندما يجرح واحد منهم يتوقف الطرفان عن القتال وينكب المتحاربون جميعاً على إسعاف الجريح". وبالطبع فقد كانت هذه الثقافة الحربية التي لا تؤمن بالعنف المنظم مقتلاً من مقاتل الطالبيين الهنود, وحجر زاوية في حرب الإبادة التي تنتمي إلى ثقافة وأخلاق مختلفتين تماماً. لم يستطع الهندي أن يفهم دوافع الحرب التي يشنها الغزاة والعنف المميت الذي يمارسونه والفظاعات التي تواكب حروبهم. لم يستطع أن يفك ألغاز تقديسهم للملكية وهوسهم باغتصابها من الآخرين. إن نظام قيمه لا يعنى بالتراكم المادي الذي يعبده الزنابير, ولا تستهويه " ثروة الأمم" التي ألهبت خيال المستعمرين وبنادقهم.
لكن التاريخ المنتصر أسقط كل عنفه وفظاعاته الدموية على الهنود. إن مقتل مئة هندي أو حرق قرية هندية كاملة قد تحيله هوليوود إلى مناسبة للضحك والتسلية فيما هي تنسج من مجرد تلويح الهندي بيده في وجه الرجل الأبيض دراما مخيفة تجعلها عنواناً للعنف والوحشية التي تؤهله للموت. وصورة الضحية على الغالب فتاة جميلة شقراء مذعورة، نصف عارية تكشف عن بياضها. وهي لا تختلف عن تلك التي يخطفها كنغ كونغ، وإن كانت هوليوود تضفي على كنغ كونغ بعض المشاعر الإنسانية التي تضن بها على الهندي. إنهم قبل أن يسلبوا الهنود جهودهم وإسهاماتهم في الحضارة الإنسانية ويعروهم من إنسانيتهم أسقطوا عليهم أشنع فظاعاتهم وغير ذلك مما يعتبر لازماً لاعتبار إبادة 112 مليون إنسان من الأضرار الهامشية التي ترافق انتشار الحضارة... وسأكتفي هنا باستعراض تهمتين هما: سلخ فروة الرأس، والتمثيل بالجثث.
يؤكد ريتشارد درينون في كتابه الوثائقي Facing West أن الإنكليز ارتكبوا جريمة سلخ فروة الرأس في معظم حروبهم, وأنه على نقيض ما تروج له هوليوود والرسميون والإعلاميون العنصريون وأكاديميو التاريخ المنتصر فإنهم هم الذين أدخلوا عادة السلخ إلى العالم الجديد وإن أكثر جرائمها من صنع أيديهم. كانت عادة سلخ فروة الرأس متبعة أيام الحروب الإنكليزية الإيرلندية، ففي أواخر القرن السادس عشر لجأ القائد الإنكليزي همفري جلبرت إلى قطع الرؤوس وسلخ فروتها لإثارة الذعر في نفوس الإيرلنديين وقمع انتفاضتهم (1567-1570) في فظاعات أقلها زرع جانبي الطريق إلى مقر زعيم الانتفاضة بالرؤوس المقطوعة. وقبل أن يتوجه إلى العالم الجديد، يحاول مُلكا, خلع عليه البلاط لقب "فارس" اعترافاً ببلائه في نشر الحضارة. ومع أنه عاد خائباً ولم يفلح في تأسيس مستعمرته فإن مسيرته ظلت تتابع نشاطها في العالم الجديد وتمضي على خطاه إلى يومنا هذا، حتى إن الجنرال ألفرد سولي أعاد هذا المشهد بكل تفاصيله بعد حوالي ثلاثة قرون عندما أمرَ بنصب الرؤوس المقطوعة لهنود اللاكوتا على عيدان ضخمة كل رأس على عود, وزرعَهَا على جانبي الطريق المؤدية إلى مقره العام للاستئناس وفرض الهيبة.
ولقطف الرؤوس وظائف أخرى غير الزينة أو فرض الهيبة. لقد استخدم في البداية للتأكد من عدد القتلى, ثم سرعان ما اكتشف أخلاق السوق فيه وسيلة للرزق فاعتمدته وطورته وجعلت منه صناعة مستقلة. ويقول جننغر في "اجتياح أميركا" إن السلطات الاستعمارية رصدت مكافأة لمن يقتل هندياً ويأتي برأسه, ثم اكتفت بسلخ فروة الرأس إلا في بعض المناسبات التي تريد فيها التأكد من هوية الضحية. ولعل أقدم مكافأة إنكليزية على " فروة الرأس" بدلاً من كامل الجمجمة تعود إلى عام 1694. قي 12 أيلول /سبتمبر من ذلك العام رصدت المحكمة العامة في مستعمرة مساشوستس مكافآت مختلفة لكل من يأتي بفروة رأس هندي مهما كان عمره أو جنسه. وتختلف هذه المكافآت بحسب مقام الصياد: خمسون جنيهاً للمستوطن العادي، وعشرون جنيهاً لرجل الميليشيا، وعشرة جنيهات للجندي. ولم تمض عشرون سنة حتى رصدت كل المستعمرات الإنكليزية جوائز مماثلة. ثم تغيرت "التعرفة" في عام 1704 فأصبحت مئة جنيه لكل فروة رأس.
كانت مكافأة المئة جنيه تعادل أربعة أضعاف متوسط الدخل السنوي للمزارع في مستعمرات نيواكلند. وكان بإمكان أي مستوطن عجوز أن يصطاد طفلين وثلاث نساء هنديات سنوياً ويتنعم بما لم يتنعم به جلالة الملك جيمس. هذا ما جعل صيد الرؤوس الهندية وسلخها أسرع طريقة لبناء الثروة, وسرعان ما وجدت "ثروة الأمم" المعادلة الاقتصادية المناسبة لاستثمار بونانزا الأرواح تجارياً. لقد اكتشف شعب الله نفطه في عروق الهنود.
كان الصيادون يتعهدون قرى معينة, يمشطونها قرية قرية ولا يبقون فيها فروة واحدة. ولأن فروة رأس الهندي "الحليف" لا تختلف عن فروة الهندي العدو، ولأن صيدها أسهل, ولأن أخلاق السوق لا تعنيها هذه التفاصيل التافهة فقد ركزت هذه التجارة جهودها على صيد رؤوس الحلفاء. هكذا استغنى كثير من المستوطنين عن البحث عن الذهب ليلتحقوا بمناجم السلخ, وصاروا يتنافسون فيما بينهم ويتباهون بسرعة الصيد وكثرة الغنائم.
ويروي المغامر لويس وتزل Lewis Wetzel أن غنيمته من فروات رؤوس الهنود كانت لا تقل عن أربعين فروة في الطلعة الواحدة. وبدءاً من "وتزل" صار قطع رأس الهندي وسلخ فروة رأسه من الرياضات الأرستقراطية المحببة, بل كان الكثير منهم يتباهى بأن ملابس صيده وأحذيته مصنوعة من جلود الهنود.
مع تأسيس الجيش الأميركي أصبح السلخ والتمثيل بالجثث تقليداً مؤسساتياً رسمياً. فعند استعراض الجنود أمام وليم هاريسون (الرئيس الأميركي لاحقاً) بعد انتصار 1811 على هنود الكريك, تم التمثيل ببعض الضحايا, ثم جاء دور الزعيم تيكومسه Tecumseh. وهنا تهافت صيادو التذكارات على انتهاب ما يستطيعون من جلد هذا الزعيم التاريخي أو فروة رأسه. ويروي جون سغدن Jon Sugden في كتابه عن تيكومسه كيف شرط الجنود المنتشون جلد الزعيم من ظهره إلى فخذه, وكيف إن أحدهم قصّ قطعة من الجلد شرائط رفيعة لربط موسى الحلاقة, وكيف تناهش الآخرون فروة رأسه حتى إن بعضهم لم يحصل على قطعة أكبر من السِِنت (قطعة نقد معدنية لا يتجاوز قطرها السنتمتر) مزينة بخصلة من شعر تيكومسه. وكان الرئيس أندرو جاكسون الذي تزين صورته ورقة العشرين دولاراً من عشاق التمثيل بالجثث، وكان يأمر بحساب عدد قتلاه بإحصاء أنوفهم المجدوعة أو آذانهم المقطوعة, وقد رعى بنفسه حفلة تمثيل بجثث 800 هندي يتقدمهم زعيمهم مسكوجي (رد ستيكس) ففي 27 آذار / مارس 1814, كما يروي دافيد ستانارد, احتفل الرئيس جاكسون بانتصاره على هنود الكريك وتولى جنوده التمثيل بجثث الضحايا من الأطفال والنساء والرجال, فقطعوا أنوفهم لإحصاء عددهم وسلخوا جلودهم لدبغها واستخدامها في صناعة أعنّة مجدولة للخيول.
وفي عام المذبحة اكتشف أحد صيادي الأرواح إمكانية استخدام الأعضاء الذكرية أكياساً للتبغ. ثم تطورت الفكرة المثيرة من هواية فردية للصيادين إلى صناعة رائجة بعد أن صار "كيس التبغ" هذا, مثل الشارِبَيْن, من أبرز علامات الرجولة والفروسية والأرستقراطية الاستعمارية, وصار الناس يتهادونه في أعيادهم وأفراحهم. لكن هذه الصناعة لم تعمّر طويلاً في داخل أميركا بعد أن انخفض عدد الهنود في عام 1900 إلى ربع مليون, وضاق وجه الأرض الأميركية بالسلخ وقطع الرؤوس ولم يعد أمام فكرة أميركا إلا أن تبحث وراء المحيط عن مجاهل جديدة ووحوش طازجة في باناما والفيليبين واليابان وهايتي وكوريا وفييتنام وما بين الحجون إلى الصفا.
في أربعينات القرن العشرين دخلت اليابان أطلس المجاهل وانضم اليابانيون إلى قائمة الشعوب المتوحشة. وسرعان ما صنفت دائرة الأنثروبولوجيا في مؤسسة سميثسونيان الثقافية اليابانيين مع الأعراق المنحطة. ففي رسالة وزعتها على المسؤولين الأميركيين أكدت فيها "أن جمجمة الياباني متخلفة عن جمجمتنا (الأنكلوسكسونية) أكثر من ألفي سنة", بينما قال العسكريون "إن اليابانيين ليس فيهم طيارون مؤهلون قادرون على التصويب في اتجاه الهدف لأن عيونهم مشوهة منحرفة". وكانت حملة "التوحيش" كالعادة, رخصة للتحلل من أي التزام أخلاقي أو إنساني أو قانوني تجاه الضحايا. ويروي مراسل حربي أميركي في مقالة له فيAtlantic Monthly:
(لقد قتلنا الأسرى بدم بارد, ومحونا المستشفيات من الوجود، وأغرقنا مراكب الإنقاذ, وقتلنا المدنيين وعذبناهم، وأجهزنا على الجرحى، وجرفناهم إلى حفر جماعية. وهناك في المحيط الهادي سلقنا لحم جماجم أعدائنا لنصنع منها عاديات تذكارية توضع على الطاولات وتهدى إلى الأحباب, أو صنعنا من عظامهم سكاكين لفتح الرسائل).
وكانت أعظم غنائم المحاربين هي هذه التذكارات التي يجمعها الجنود من جثث الضحايا أو المحتضرين كما يروي جون دوور في كتابه عن ظاهرة العنصرية في حروب الهادي "حرب بلا رحمة". من ذلك الأسنان الذهبية, الآذان, العظام, فروات الرؤوس، والجماجم, وغير ذلك من تذكارات فيتيشية طالما اعتبرها علماء الاجتماع العرقي دليلاً على العقلية البدائية التي تعبد الجماد وتتعلق به مرضياً وجنسياً. وقد لاقت هذه "الدكاكير" ترحيباً كبيراً لدى الشعب الأميركي حتى إن مجلة لايف نشرت في عام 1944 موضوعاً عن الحرب مزيناً بصفحة كاملة لصورة صبية شقراء يفتر ثغرها عن بسمة السعادة والفخار وهي تقف إلى جانب جمجمة يابانية أرسلها إليها خطيبها من الجبهة. ويبدو أن عبادة الدكاكير طقس قديم يعود على الأقل إلى عام 1814 عندما أشرف الرئيس جاكسون بنفسه على سلخ 800 من هنود الكريك، واقترح أن ترسل قطع من تلك الجثث هدايا إلى السيدات الأرستقراطيات في تنسي.
- منذ ترومن حتى بوش, حاول كل رؤساء أميركا الحديثة التوسع في غرب "الغرب الأميركي" وحيثما شاء "القدر المتجلي". لقد حاولوا التصدي للشيوعية والتوسع الصيني وبسط سيطرتهم على منابع النفط العربية. وهم في كل خطوة من هذا التوسع "لم يتخلوا قيد أنملة عن السياق التاريخي العنصري والدموي" كما يوضح دانيال إلسبرغ. لقد تحكمت عقدة الاختيار والتفوق بسلوكهم وبنادقهم فأوهمتهم بأنهم يملكون حق تقرير الحياة والموت لكل من عداهم، وأنهم في حلّ من أي التزام إنساني أو قانوني تجاه الشعوب التي يستعمرونها، لا باعتبار أنها أََعراق منحطة وحسب بل لأنها في الغالب مخلوقات متوحشة لا تنتمي للنوع الإنساني. إن ميتافيزياء كراهية الهنود [لدى الزنابير] – كما يقول هرمن ملفيل صاحب الحوت- استحكمت بطقس "التضحية بالآخر". وهذا ما جعل أميركا تعيش بضحاياها ولا يمكن فهم حروبها وعلاقاتها الدولية إلا بالبحث عن ينابيع طقوسها الخاصة بالتضحية بالآخر.
عندما تحرش القديسون بهنود البيكو في 5 حزيران (!)/ يونيو عام 1637وشووا أجسادهم بالنار قالوا إنهم كانوا يتسلون, وأن ما جرى كان أشبه بحفلة شوي "باربكيو". وبعد مذبحة مايبول Maypole ذلك العام سكر الحاكم برادفورد وسكر معه الحجاج حتى الثمالة, ورقصوا وغنوا أياماً بلياليها، وعاشروا نساء الهنود آخر معاشرة في حياتهن. ومع منتصف القرن السابع عشر "صار صيد الهندي من أمتع رياضات التسلية في نيوإنغلاند، فما أن يتم القبض على هذا الوحش حتى يتم تمزيق جسده أو إطعامه للكلاب. هكذا كان يتم صيد آلاف الهنود سنوياً في ألعاب تسلية كانت تعتبر من الرياضات الشعبية في مستعمرات نيوإنغلاند".
في تلك الفترة التجريبية للتسلي بصيد الأرواح يروي شاهد عيان يدعى جون إيستون قصة اصطياد هندي عجوز لم يعد قادراً على المشي فيقول: "لقد تسلى الجنود بتعذيب هذا العاجز لأكثر من ساعة, ثم قرروا أن يقتلوه. بعضهم ارتأى إطعامه للكلاب.. غير أن الرحماء منهم انتصروا في النهاية واكتفوا بقطع رأسه".
في عام 1968 عندما اقتحمت قوة أميركية شبه جزيرة باتنغن Batangan وراحت تحرق القرى وتقتل فلول الفييتناميين الفارين من أذاها قال أحد القتلة:"لقد أمضينا وقتاً سعيداً هناك وتسلينا". وفي فبراير 1991 كانت الطائرات تطلق النار على طوابير العراقيين المنسحبين إلى البصرة. وفي خبر من على متن Uss Ranger قال أحد الطيارين: "لقد كنا نزجي الوقت في صيد طيور التركي". وقال آخر:"لقد تسلينا. كان قتلهم أشبه بصيد السمك من البراميل". ذلك هو طقس العنف والتضحية بالآخر الذي رافق نشوء أميركا وتاريخها لحظة لحظة, وتلك هي ضحاياها كما يقول الزعيم سياتل في عام 1854: قبيلة تمضي على أعقاب قبيلة، وأمة تلحق بأمة، كأنهم موج البحر.
قبل أن يصدر رمزي كلارك Ramsey Clarc وزير العدل السابق كتابه عن جرائم أميركا ضد الإنسانية في حرب الخليج، كانت الفرقة الجوية القتالية السابعة والسبعين قد أنتجت ووزعت كتاب أناشيد تصف فيه ما ستفعله الفرقة في "الخليج", وتنذر هذا العربي "المتوحش القمىء"..."خدن الأفاعي" بأن يستعد للإبادة فيما ينتهي أحد هذه الأناشيد بخاتمة تقول: "الله يخلق أما نحن فنحرق الجثث Allah Create But We Cremate". و الكتاب كما يصفه كريستوفر هيتشنس في The Nation خليط من السادية والفحش. ومعظمه تشنيع وتشهير وشتائم بذيئة للعرب والمسلمين باعتبار أنهم أعراق منحطة و"حشرات" و"جرذان" و"أفاع". وقد اعترف نورمن شوارزكوف في عدة مقابلات تلفزيونية بأنه كان يريدها معركة فناء، وأشار إلى أنه كان يخطط لأن تكون على شكل معركة كاناي Cannae القرطاجية التي يطلق الطليان على موقعها اليوم اسم "حقل الدم Campo Di Sangue".
هذه الصورة الخاطفة للجرائم الطقسية التي رافقت رحلة الزنابير من مستعمرة بليموث إلى "ماي لاي", ومن قرى البيكو إلى قرى أفغانستان هي العقد الذي ينتظم كل تاريخ أميركا, وهي تفسيرها وعلتها وسبب وجودها Raison D Etre. بدون هذه الجرائم الطقسية تفقد فكرة أميركا معناها (فكرة استبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة)، فوجودها من وجود هذه الجرائم الطقسية وعدمها من عدمها.
عن الاستيطان والاتفاقيات الملعونة
قبل أن يبني عاصمته فوق ما أسماه بالسباخ أو المستنقعات الخاوية Marshy Wilderness والتي تبين لاحقاً أنها جزء من مدينة هندية عامرة على ضفاف نهر البوتوماك، أمضى جورج واشنطن حياته في الاستيلاء على أراضي الهنود والمضاربة بها وبناء ثروة هائلة وضعته على قمة هرم أغنياء العالم الجديد. ومن خلال هذه القرصنة العقارية الفريدة بنى واشنطن معظم ملامح سياسته الهندية التي هيأت بعد ذلك لقانون الترحيل القسري. لقد طوّر أعظم آباء أميركا هذه التجربة الشخصية الناجحة في مشروع قرار يسمح للدولة الفيدرالية الفتية بأن تستولي على أراضي الهنود بسهولة أكبر وكلفة أقل. وفي عام 1782 وافق الكونغرس على مشروع واشنطن الذي يتلخص بخردقة الأراضي الهندية بالمستوطنين واستدراجهم باستمرار إلى كمين الموت. فالمعروف أن المستوطن في مستعمرات نيوإنغلاند كان بحاجة إلى خمسين هكتارا من الأرض لنفسه وخمسين هكتار آخر كمجال حيوي. وبما أن هذا المجال الحيوي يتحول بسرعة إلى مُلك فإن هناك حاجة لا تنتهي إلى مجال حيوي جديد للمجال الحيوي القديم. هكذا امتد المجال الحيوي الاستيطاني من شواطئ الأطلسي في القرن السابع عشر إلى شواطئ الهادي في منتصف القرن التاسع عشر, وكان كل مجال حيوي جديد يحتاج إلى نشاط طقس العنف.
كانت حرب ما يسمى بالاستقلال قد وضعت أوزارها وصار متقاعدوها عبئاً اقتصادياً واجتماعياً. وكانت خطة واشنطن ترمي إلى إقطاع أراضي الثغور لهؤلاء المحاربين المتقاعدين, واستثمار طاقتهم القتالية اقتصادياً وسياسياً بحيث يستمر التوسع داخل أراضي الهنود دون الحاجة إلى الجيوش والحرب الشاملة. ومضى الرئيس الذي يشع وجهه من الأيقونة المقدسة لورقة الدولار يذكّر أعضاء الكونغرس بأن هؤلاء المستوطنين ليسوا رجالاً عاديين بل إنهم أبناء الحروب والمعارك وأصحاب تجربة عسكرية وحنكة قتالية تمكنهم من ترويع الهنود وإنزال الرعب في قلوبهم ودفعهم إلى الفرار. إنهم يستطيعون إخماد مقاومة الهنود إذا اختار الهنود طريق المقاومة, ويشكلون ميليشيا ممتازة للدفاع عن "استحقاقات" الولايات المتحدة في بلاد أوهايو.
في هذا التقليد الإنكليزي العريق الذي يقول ما لا يفعل ويعد بما لا يفي اقترح واشنطن عقد سلسلة من الاتفاقيات مع الهنود بهدف الاستيلاء على الأراضي الغنية والمناطق الاستراتيجية اللازمة لأمن المستوطنين في مقابل...وعود... بعدم المساس بما تبقى لهم من الأرض. ومن هذه الوعود التي يقدمها المتفاوضون للهنود أن الولايات المتحدة ستفعل ما في وسعها للحيلولة دون قيام مواطنيها بالصيد أو الاستيطان في أراضيهم.
هذا يعني أن الأب الأعظم للولايات المتحدة في خطته الرامية إلى تعزيز الاستيطان يقر رسمياً بأنه يريد أن يكذب على الهنود قبل أن يفاوضهم, وأن الهدف الأول هو خداع الهنود وكسب ما يمكن كسبه على طاولة المفاوضات في مقابل "وعود" يقرر سلفاً وعلناً بعدم الوفاء بها. ولضمان ذلك يوصي واشنطن بأن تكون وعود المفاوضين شخصية وغير ملزمة للحكومة الأميركية. لقد أحلته عقدة الاختيار والتفوق من أي التزام إنساني أو قانوني وأوهمته بأنه يملك حق تقرير الحياة والموت والرزق لهذه الكائنات التي لم يستطع أن يراها ألا كما يرى الذئاب. إنه في رسالته إلى جيمس دواين يؤكد على أن "التوسع التدريجي للمستوطنات" يقتضي(أن يفر الهنود المتوحشون على أعقابهم كما يفعل الذئاب، فالذئاب والهنود كلهم وحوش مفترسة وإن اختلفوا في المنظر). وقد تم إقرار خطة واشنطن بإجماع أعضاء الكونغرس الذين قال بعضهم إن هذا الأسلوب من الاتفاقيات لن يبقي للهنود في النهاية سوى منعزلاتهم. أما الذين سيحاولون الوقوف في وجهها فإن مصيرهم التهجير القسري أو الإبادة. إن الهندي، كما يقول إدموند مورغن في كتابه المذكور عن "العبودية والحرية في أميركا" لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، لأنه لا يملك حقاً يدافع عنه. يكفى أن يفكر في أن يكون له حق حتى يصبح معتدياً وحتى تنطلق عفاريت التدمير والقتل من قمقمها.
لم يكن للاتفاقيات مع الهنود إلا هدف واحد هو خرق هذه الاتفاقيات. فحين يطمئن الهنود إلى أن الاتفاقية قد كفتهم شر القتال وهمّ الحذر والحراسة؛(عندها [كما يقول مجلس ولاية فرجينيا] يتوجب علينا أن نغتنم الفرصة فنفاجئهم ونتلف محاصيلهم ونحرق حقولهم ونطردهم من أراضيهم أو نقتلهم).
إن شهوة التوسع الجائعة أبداً إلى أرض الهنود الطيبة، والعطشى أبداً إلى دماء الهنود الزكية جعلت الحكومة الفيدرالية تضرب رقماً قياسياً في نقض معاهداتها. فأميركا التي وقعت371 معاهدة مع الهنود لم تحترم واحدة منها. لقد نقضتها كلها. وهذا ما عبر عنه الزعيم الهندي "رد كلاود Red Cloud" بقوله: "لقد عاهدونا ووعدونا بالكثير مما لم أعد أحصيه ولا أتذكره, لكنهم لم يحترموا من كل عهودهم ووعودهم إلا واحداً. قالوا بأنهم سيأخذون بلادنا منا وقد نفذوا ذلك فعلاً".
وحين كان الوزير جيمس باربور James Barbour يتفاوض مع الهنود على معاهدة جديدة قال:
"إنهم يرون بأعينهم أن إعلاناتنا ثرثرة فارغة, وأن وعودنا كاذبة, وأن طمعنا في الأرض يجعل حياة الهندي عندنا ضحية رخيصة مبتذلة. إننا نقول للهنود الآن إن لهم أن يختاروا ما يشاءوا من الأرض لأنفسهم. ولكنهم يسألوني: كيف سنثق بأنك لن تنفينا من جديد عندما تشتهي امتلاك تلك الأرض. إنهم يعرفون أن مد الإنسان الأبيض قد فاض وأنه لن يتوقف إلا عند شواطئ المحيط الهادي".
كان نقض المعاهدة القديمة مقدمة جديدة لاستلاب المزيد من الأراضي وقتل المزيد من البشر وتهجير المزيد من هؤلاء الأشقياء الذين يضطرون بالقوة والإرهاب إلى توقيع معاهدة جديدة سرعان ما ينقضها الأميركيون في حلقة دموية لم تبق من 112 مليون هندي أميركا الشمالية- بحسب التقديرات الأركيولوجية، أول هذا القرن- سوى 250 ألفاً يعيشون في معسكرات تعذيب وموت بطيء ذليل لا يشبهها شيء على وجه الأرض إلا مناطق الحكم الذاتي في فلسطين المحتلة.
هذا ما عبر عنه الزعيم الهندي بيابو Piapot بقوله: "لكي نصير وحدنا أسياد أرضنا فقد حجزونا في مناطق صغيرة مثل راحة يدي، وأغدقوا علينا وعوداً طويلة مثل ذراعي. لكن وعودهم صارت في السنة التالية أقصر, ثم مع توالي السنوات صارت تقصر وتقصر إلى أن صارت الآن أصغر من أصبعي، ومع ذلك فإنهم لم يحترموا نصف هذه الوعود".
هكذا أدركت الاتفاقيات من الهنود ما أدركته الأوبئة والحروب المتواصلة, فلم تمض فترة طويلة على خطة واشنطن حتى كان الشمال الشرقي للولايات المتحدة قد تطهر من الشعوب الهندية, وبدأت عيون "القدر المتجلي" تتطلع بعيداً, إلى الغرب من نهر الميسيسيبي حيث انهارت فكرة تخصيص هذا الغرب وطناً للهنود. في أقل من 75سنة ابتلعت هاوية الاتفاقيات ما يعرف اليوم بولاية ميزوري, وأركنصا, وإياوا, وأتت الاحتياجات على الباقي,فما لم يغتصب بالسيف اغتصب بالاتفاقيات. وكان الغزاة في أثناء ذلك قد اجتاحوا تكساس، وضموا أورغون, وأيداهو, وواشنطن التي تخلى عنها البريطانيون بعد حرب الاستقلال لأعدائهم الثوار ورفضوا أن يعطوها لحلفائهم الهنود الذين حاربوا إلى جانبهم وبذلوا دمهم في سبيل تاجهم. وفي عام 1848 عندما اجتاحت الولايات المتحدة المكسيك وسلخت نصف أراضيها واستولت على كاليفورنيا وأريزونا ونيفادا وأوتاوا ونيومكسيكو وجنوب كولورادو صار غرب الميسيسيبي أقتل من شرقه, وأطبق الحصار على هؤلاء الأشقياء من كل جانب.
المعنى الإسرائيلي لأميركا
بعد أربعة قرون من مواكبة "العناية الإلهية" لحركة التوسع الاستيطاني نحو الغرب أعلن فردريك تيرنر Frederick Jackson Turner أحد أبرز فلاسفة "الثغور" أن "الجبهة القارية" داخل أميركا نفسها انتهت ووضعت أوزارها، وبانتهائها ختمت الولايات المتحدة حقبتها التأسيسية اللازمة للتوسع وراء المحيط ولبناء إمبراطوريتها الكونية. وعندما نشر كتابه"مشكلة الغرب The Problem Of The West أكد على أن التوسع والحرب كانا أساس النماء الاقتصادي الأميركي, ولابد لاستمرار هذا النماء من استمرار التوسع وعدم إطفاء نار الحرب. ودعا تيرنر إلى شق قناة لهذا التوسع عبر المحيط والاستفتاح بضم الجزر والبلدان القريبة. إنها حتمية الولادة الأبدية للثغور التي تتقدم باستمرار, وحتمية الولادة الأبدية للحياة الأميركية على هذه الثغور والجبهات التي ستصل الغرب بالشرق لتكمل شمس الحضارة الأنكلوسكسونية دورتَها حول الأرض.
ظل الغرب الأميركي يفر أمام زحوف الزنابير ويتراجع إلى أن لم يبق أمامهم من غرب، وإلى أن صار عليهم أن يخترعوا لزحفهم غرباً آخر وراء المحيط. تلك هي "جبهة القتال"؛ أثبتُ ثوابت التاريخ والنماء الأميركي كما رآها أحد أبرز مؤرخي الولايات المتحدة في القرن العشرين. إنها الآية التي ورث بها شعب الله أرض كنعان, وإنها التجربة الحية والمستمرة لفكرة أميركا؛"فكرة استبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة".
وأميركا... في النهاية, ليست إلا الفهم الإنكليزي التطبيقي لفكرة إسرائيل كما عبّرت عنها الأدبيات العبرانية. هذا الاعتقاد بأن هناك قدراً خاصاً بأميركا وأن الأميركيين هم الإسرائيليون الجدد و"الشعب المختار" الجديد يضرب جذوراً عميقة في الذاكرة الأميركية. وما يزال صداه يتردد في اللغة العلمانية الحديثة أو ما صار يعرف بالدين المدني Religion Civil . إنه اعتقاد يتجلى لعينيك في معظم المناسبات الوطنية والدينية. وفي كل خطابات التدشين التي يلقيها الرؤساء الأميركيون مفاده أن "إرادة الله, القدر، حتمية التاريخ... الخ" اختار الأمة الأميركية(الانكلوسكسونية المتفوقة) وأعطاها دور المخلّص (الذي يعني حق تقرير الحياة والموت والسعادة والشقاء لسكان المجاهل).
ولطالما كانت فكرة "الاختيار الإلهي" محركاً لولبياً في التاريخ الأميركي والأساس الميتافيزيقي لمعظم الممارسات العنصرية في التاريخ القديم والحديث. ولشد ما أشعلت النيران في الحماسات والمشاعر والبواريد وفي القرى والمدن والجثث في أكثر من أربعين دولة اجتاحتها أو قصفتها الولايات المتحدة, وعززت القناعة بأن لأميركا قدراً أعلى من كل أمم الأرض, وأنه مهما حل بإسرائيل فوق أرض فلسطين فإن إسرائيل الأميركية تبقى القلعة المحصنة لإعادة بنائها ولقيَمها ومبادئها وأخلاقها. إن يهود الروح الذين يمثلهم هؤلاء الزنابير هم الذين يحملون رسالة "إسرائيل" التي تخلى عنها اليوم يهود اللحم والدم, وهم الذين أعطاهم الله العهد والوعد, وهم الذين ورثوا كل ما أعطاه الله تاريخياً ليهود اللحم والدم (ومعظمهم من ألد أعداء السامية).
منذ الفترة الاستعمارية الأولى كان أطفال القديسين يتعلمون أن مسيرة التاريخ التي ترعاها يد الله الإنكليزي ونعمته أعطتهم دوراً خلاصيّا على مستوى العالم. وكانت هذه الافتراضات تقترن بإيمان قيامي مزدوج الهدف: تجميع يهود العالم في فلسطين للتعجيل بمجيء المسيح, وتدمير قوى الشيطان التي كانت تتمثل يومئذ بالعثمانيين والكاثوليك والهنود الكنعانيين. وبالطبع فقد وجد بعض السياسيين الإنكليز في استعمار العالم الجديد فرصة لتحقيق ما عجزوا عن تحقيقه في وطنهم. وبذلك تأكد لهم أن خروجهم من جزيرتهم يضاهي الخروج الأسطوري للعبرانيين من أرض مصر, ولم يساورهم الشك في أخلاقية استعمارهم وحقهم في إبادة الهنود ومقارنة ذلك كله باجتياح العبرانيين لأرض كنعان وتأييد السماء لإبادة أهلها.
كل أدب المستعمرين الأوائل يؤكد على هذه القدرية التاريخية التي نالت ذروة إبداعها في سيرة وموعظة جون ونثرب, أول حاكم لمستعمرة ماساشوستس. أما السيرة فوضع لها مؤلفها كوتون ماذر عنوان "نحميا الأميركي Nehemias Americanus" تأسياً بنحميا الأسطوري الذي قاد الإسرائيليين في "عودتهم" من سبي بابل إلى أرضهم الموعودة ونظم الكثير من موجات الهجرة من بابل إلى يهودا, وأشرف على انتشال أورشليم من أنقاضها وأعاد بنائها مدينةً على جبل City Upon A Hill. وكانت الأجيال اللاحقة قد صنفت هذا الحاكم مع يعقوب وموسى وداود, غير أن اختيار نحميا, بطل إحياء إسرائيل, هو الذي طغى في النهاية. والواقع أن كل سيرة نحميا الأميركي هي مثال على إصرار المستعمرين الإنكليز- إنسان عين الله كما يصفهم ماذر The Apple Of God S Eye – على التماهي بين تجربتهم في العالم الجديد وما يرويه العهد القديم عن تجربة العبرانيين في العالم القديم، أو بتعبير صموئيل فيشر Samuel Fisher في "شهادة الحقيقة The Testimony Of Truth":" لتكن إسرائيل ...المرآة التي نرى وجوهنا فيها". وأما الموعظة فهي التي ألقاها ونثرب في الحجاج على متن السفينة الأسطورية أربيلا وأكد فيها على العهد الجديد بين الإسرائيليين الجدد وبين يهوه, وعلى الرسالة التي يحملونها إلى مجاهل أرض كنعان الجديدة:"إننا سنجد رب إسرائيل بيننا عندما سيتمكن العشرة منا من منازلة ألف من أعدائنا، وعندما سيعطينا مجده وأبهته، وعندما يتوجب علينا أن نجعل من [نيو إنغلاند] مدينة على جبل City Upon A Hill [وهذا التعبير رمز لأورشليم (ولصهيون أيضاً), ومايزال يستخدم إلى الآن للدلالة على المعنى الإسرائيلي لأميركا. وقد سمعت بأذني آخر أربعة رؤساء أميركيين يستخدمون هذا الرمز في مناسبات مختلفة: ريغان, بوش الأب, كلينتون، بوش الإبن]".
في منتصف القرن السابع عشر, ساد الاعتقاد بأن الله عاتب على شعبه الجديد وأن هناك بوادر خصومة عبّر عنها ميخائيل ويغل وورث Michael Wiggl Worth أحد أكبر شعراء عصره في قصيدة ملحمية بعنوان "خصومة الله مع نيو إنكلند God’s Contrversy With New England" ندب فيها فشل المستعمرين في أداء واجبهم الرسالي. وتبدأ الملحمة بمقدمة طويلة تصف شيطانية الهنود وظلاميتهم ووحشيتهم وكيف أن هؤلاء العماليق والكنعانيين الملعونين تنطحوا لمحاربة رب إسرائيل ثم انهزموا مذعورين أمام جنوده. وهناك عشرات المحاولات لتقليد هذه القصيدة الملحمية من قبل شعراء ثانويين, كلهم ردوا غضب الله إلى خيانة العهد معه ودعوا إلى تجديده كما فعل العبرانيون القدامى.
ومع انطلاقة ما يسمى باليقظة الكبرى The Great Awakening في منتصف القرن الثامن عشر تجدد الأمل في أن الله لن يتخلى عن شعبه ولن يهجره, وأن الشمس ستطلع من أميركا لتضيء العالم. وكان جوناثان إدواردس أحد أعظم فلاسفة الاستعمار الأنكلوسكسوني في القرن الثامن عشر قد وضع الأسس الفكرية لهذه اليقظة التي ستكون بداية "التجديد الإلهي" لكل الإنسانية. وأكد إدواردس على المعنى الإسرائيلي لأميركا وعلى ضرورة أن تصبح أورشليم الأرض (مدينة على جبل City Upon A Hill) حتى لا تفقد روحها ومعناها. وقدم تفسيراً طوبولوجياً للتاريخ البشري حاول أن يفسر فيه لماذا ستقوم "مملكة الله" في أميركا ولماذا سينتشر نورها قريباً في أنحاء العالم.
وعلى الرغم من أن "اليقظة الكبرى"جددت فكرة المعنى الإسرائيلي لأميركا، وأكدت على أن أميركا هي أرض الميعاد فإن ولادة الجمهورية- على غير المتوقع- أعطت تصديقاً جديداً لهذا الاعتقاد. "إن آلام ولادة الثورة التي أدت إلى الاستقلال أيقظت أبناء المستعمرات على رسالة جديدة في المجاهل". كان انتصار الثورة آية على مباركة الله للطموحات الأنكلوسكسونية. لقد تحولت إسرائيل الله إلى جمهورية, وصار القدر الاستعماري قدراً وطنياً متجلياً. (وكلمة "وطني" أو "قومي" في الولايات المتحدة تعني إجماع الجماعات العرقية والطبقات الاجتماعية المختلفة على ما يريده الزنابير "البيض, الأنكلوسكسونيون، البروتستانت", وما تقتضيه مصلحة "ثروة الأمم". ليس هناك إجماع وطني أو قومي على قضية لا تخدم الزنابير أو تفيد ديناصورات وول ستريت).
في كتابه:الولايات الأميركية التي تضطلع بدور بني إسرائيل في المجاهل... The American States Actes Acting Over The Children Of Israel In The Wilderness, يقدم نيكولاس ستريت Nicholas Street صورة عن لهفة أنكلوسكسون عصره إلى التوسع الاستعماري بعد النكسات التي أعاقتهم عن نشاطهم الأول. إنه يعيد إلى الأذهان ما كتبه ميخائيل ويغل وورث في معلقته "خصومة الله مع نيوإنكلند" حيث أكد بلهجة الوعاظ على أن ما لحق بالنشاط الاستعماري من فتور هو نتيجة حتمية للخطايا والآثام ولإخلاف الوعد مع يهوه. ونبه ستريت إلى أن ظلم فرعون لندن يجب أن لا يحجب العيون عن شرور إسرائيل الله الأميركية, فما لم يتواضع شعب الله لربه, ويتب إليه, ويحافظ على عهده فإنه لن يتحرر من القيد البريطاني ويعبر البحر الأحمر إلى الأرض الموعودة ويحقق استقلالها.
وكان وضع الدستور قد شجّع على تأصير المعنى الإسرائيلي لأميركا كما كتب رئيس جامعة هارفرد صموئيل لانغدون Langdon Samuel في رائعته "جمهورية الإسرائيليين: نبراس للولايات الأميركية The Repulic Of The Israelites An Example To The American States ". وهي في الأصل خطبة ألقاها في المحكمة العليا. إن قارئها لن يشك لحظة في أنه يقرأ مقاطع من سفر الخروج أو التثنية, بل إن لانغدون فعلاً يفتتح كلامه عن ولادة الدستور بهذا المقطع من سفر التثنية:"لقد علمتكم فرائض وأحكاماً كما أمرني الرب إلهي لكي تعملوا بها في الأرض التي أنتم داخلون إليها لتتملكوها. فاحفظوا واعملوا، فتلك هي حكمتكم وفطنتكم في عيون الشعوب الذين سيسمعون عن هذه الفرائض ويقولون: ما أعظم هذا الشعب وما أحكمه وأفطنه!..." والواقع أن كل هذه الرائعة شرح واستطراد وتعليق وقياسات تمثيلية بين شريعة موسى والدستور الأميركي وبين الإسرائيليين والأمة الأميركية. فالدستور مناسبة للتأكيد على وجه الشبه بين ما نزل على قلب واضعي الدستور. وهي مناسبة للتذكير بأن إسرائيل القديمة والجديدة أمة مختارة, باركها الله قديماً بشريعة ليس لها مثيل وجعلها "فوق كل الشعوب" نبراساً للعالم عبر كل العصور, ثم أكرمها حديثاً بدستور ليس له مثيل وجعلها "فوق كل الشعوب" مثالاً يحتذى عبر كل العصور, فإذا تعلم الناس منهم (طريقتهم في الحضارة) رفعوا من شأنهم، وإذا استكبروا وأبوا جرّوا على أنفسهم الدمار والخراب (والأضرار الهامشية). هذا نرجس الأعمى مرة ثانية يحدق في مياه النهر فتلتبس عليه إسرائيل التاريخية بإسرائيل الأميركية, وما جرى في كنعان الفلسطينية بما يجري في كنعان الأميركية. وهاهو يدير أسطوانة الخروج والعبودية لفرعون مصر وفرعون لندن, ويتذكر بأن الأمتين المختارتين لم يكن لديهما جيش لحظة الخروج لكنهما بعد اجتياز البحر الأحمر والمحيط الأطلسي أعانهما رب الجنود على دخول كنعان وتملكها وتدمير أهلها."هذا شعب... لا ينام حتى يأكل فريسة، ويشرب دم قتلى" (سفر العدد 23:24). إن تأسيس مجلس الشيوخ أيضاً ليس إلا استمراراً لما فعله موسى عندما اشتكى إلى يهوه أنه لا يطيق الحكم وحيداً فأمره باختيار سبعين رجلاً من الحكماء والرتباء. ولم يجد لانغدون حرجاً من القول بأن حكومة موسى كانت "جمهورية" وقائمة على المبادئ الجمهورية وأن قبائل إسرائيل كانت تحكمها حكومات محلية لا مركزية لا تختلف عن الحكومات المحلية للولايات الأميركية.
ولم يكن الآباء المؤسسون للدولة الأميركية مثل جفرسون، وآدامس, وفرانكلين, وباين- أصحاب الإتجاه العقلاني والمذهب الطبيعي- بأقل حماسة للمعنى الإسرائيلي للأمة الأميركية من الحجاج والقديسين. ومعروف أن فرنكلين وجفرسون كليهما أصر على صورة "الخروج الإسرائيلي" من مصر إلى كنعان كمثل أعلى للنضال الأميركي من أجل الحرية. وفي الرابع من تموز / يوليو1776(عيد الاستقلال)عهد الكونغرس لفرانكلين وجفرسون أن يضعا تصميماً لخاتم الولايات المتحدة. أما فرانكلين فاختار رسماً لموسى رافعاً يده, والبحر الأحمر منفلق, وفرعون في عربته تبتلعه المياه مع شعار رائج في تلك الفترة:" التمرد على الطغاة طاعة لله". وأما جفرسون فاقترح رسماً لبني إسرائيل في التيه يرشدهم السحاب في النهار وعمود النار في الليل. وكان الرئيس جفرسون من أبلغ من تحدث عن المعنى الإسرائيلي لأميركا...بل إنه ختم خطابه التدشيني لفترة الرئاسة الثانية بتعبير يشبه الصورة التي اقترحها لخاتم الجمهورية:(إنني بحاجة إلى فضل ذلك الذي هدى آباءنا في البحر كما هدى بني إسرائيل وأخذ بيدهم من أرضهم الأم ليزرعهم في بلد يفيض بكل لوازم الحياة ورفاه العيش).
في القرن التاسع عشر صار المعنى الإسرائيلي للأمة الأميركية يتمحور حول التوسع باتجاه الغرب وبسط السيطرة على جيران كنعان "وراء النهر" الميسيسيبي: المؤابيين والحثيين والأموريين والفرزيين والحوريين واليبوسيين والصيدونيين والميديانيين وبني إسماعيل الذين أسرعت إليهم العناية الإلهية فأنبتت في رؤوسهم الريش وسمتهم جميعاً بالهنود وأعطت أرضهم وأرواحهم لشعب الله. كل هذه الشعوب الهندية وراء النهر كانت تضم بين جنباتها مهاجرين أو لاجئين من هنود كنعان الجديدة, وكان معظمها متحالفاً مع البريطانيين ومطمئناً إلى وعودهم وصداقتهم, ولم يكن يدور بخلد فرد منهم أن سيوف شعب الله قاب قوسين أو أدنى من رقابهم.
لم يبدأ التوسع باتجاه الغرب إلا بعد أن اشترى الرئيس جفرسون أراضي لويزيانا من نابليون عام 1803. فهذا التملك ضاعف مساحة الأراضي التي يستعمرها الإنكليز, ووفّر الشروط الآمنة للملاحة في الميسيسيبي. وفتح الشهية لاجتياح الغرب الأقصى. وكانت وسعة "المجاهل" الجديدة وغناها بالثروات قد عززت القناعة بمواكبة العناية الإلهية لتوسع شعب الله، وأن هذه البلاد ما خلقت إلا لكي يتملكها بنو إسرائيل الجدد. ومع تقدم المستوطنين بالبندقية والبلطة والمذابح، واقتضامهم الغرب ميلاً بعد ميل، تضاعف الاعتقاد بالمعنى الإسرائيلي لأميركا وبالاختيار الإلهي للزنابير. وقد عبّر ريتشارد نيبر Helmut Richard Niebuhr عن ذلك في كتابه "مملكة الله في أميركا The Kingdom Of God In America" بقوله: إن الفكرة القديمة عن شعب الله الأميركي قد أعطت دورها لفكرة الأمة الأميركية المختارة والمفضلة عند الله. ولطالما تناول أدب القرن التاسع عشر توسع أرض كنعان إلى ما وراء الميسيسيبي باعتباره خطوة لا بد منها لتصحيح مسار رحلة كولومبس إلى الهند الحقيقية المنتظرة منذ زمن طويل، وباعتباره أول قطف لثمار بستان العالم Garden Of The World. لقد صار على غرب الميسيسيبي أن يستعد لاستقبال "الأضرار الهامشية" للحضارة وعاداتها عادات الأنكلوسكسون وثقافتهم أو ما صار يصطلح عليه بعد ذلك باسم "طريقة الحياة الأميركية".
وكانت عقيدة القدر المتجلي Manifest Destiny التي سادت منذ أربعينات القرن التاسع عشر قد أدت إلى بعض الجراحة التجميلية للمعنى الإسرائيلي لأميركا. فالاصطلاح كما يعرفّه ألبرت وينبرغ Albert Weinberg في كتاب بعنوان "القدر المتجلي" يعبّر عن الثقة المطلقة بالنفس وبالطموحات التي أقرها القدر نفسه بآيات واضحة جلية, بدءاً بآية السفينة التي حملت الحجاج إلى بليموث وانتهاء بالتوسع غرب الميسيسيبي الذي رعته العناية الإلهية. ومن أبرز مبررات هذه العقيدة ما يسمى بنظرية الجغرافيا الحيوية التي تزعم بأن "المكان الجغرافي للدولة المتفوقة كائن حي ينمو باستمرار (ولا يموت طبعاً)، ونظرية "القضاء والقدر الجغرافي", أو الزعم بأن يد القضاء هي التي ترسم الحدود الجغرافية للأمم (لا تعترف الولايات المتحدة, كإسرائيل، إلى الآن بحدود جغرافية لها, وليس في دستورها إشارة إلى ذلك). ومنذ أن أطلق جون أوسوليفان هذا الاصطلاح في مقالة له بعنوان "التملك الحق" تحول "القدر المتجلي" إلى عقيدة سياسية مفادها أن هذا العالم كله "مجاهل" وأن قدر أميركا الأنكلوسكسونية الذي لا ينازعها فيه أحد أن تتملك منه ما تشاء من أرض لأن ذلك حقها الطبيعي, ولأن إله الطبيعة والأمم هو الذي أورثها هذه الأرض, وجعلها- مثلما جعل ألمانيا النازية بعدها- كائناً حياً لا يتوقف عن النمو.
مع اجتياح الفيليبين وهاواي وغزو كوبا في سنة 1898, ومع سعار التوسع "القدري" وراء البحار كتب جوسيا سترونغ Josiah Strong أشهر كتبه الرائجة "بلادنا Our Country" وأشار فيه إلى الارتباط العضوي بين القدر المتجلي وبين الأنكلوسكسون. وعلى طريقة نوستراداموس أكد سترونغ أن تصميم الله لمستقبل الإنسانية يعتمد كلياً على الأنكلوسكسون. وبرز ذلك بأن الأنكلوسكسون هم الذين قدموا الفكرتين المتلازمتين: الحرية المدنية والمسيحية الروحية الصافية. ولأن الفرع الأميركي للعرق الأنكلوسكسوني هو الذي أعطى هاتين الفكرتين صورتهما الكاملة فقد صارت أميركا هي المؤهلة لأن تمسك بمصير الإنسانية. ولكي يحقق الله لأميركا هذه السيطرة على مصير الإنسانية فقد أوكل إليه سترونغ مهمة العمل على جبهتين: في الجبهة الأولى يغدق الله على شعبه الجديد, العرق الأنكلوسكسوني, كل ما يحتاجه للإمساك بهذا المصير، ويهيئ الميسم الذي سيدمغ به [ظهور] شعوب الأرض, وفي الجبهة الثانية يسخّر الله من يعد [ظهور] شعوب الأرض لتُدمغ بهذا الميسم (طبعاً إن فكرة العرق الأنكلوسكسوني كذبة لا يعترف بها علم الأعراق. وكل الذين أسسوا لها عرقياً كانوا يشيرون إلى ذلك الخليط المهجن للجماعات البشرية التي تسكن الجزيرة البريطانية من الجرمان والسلت والفايكنغ... ثم عمموه –زنبورياً – على تلك الأخوة الضبابية للناطقين بالإنكليزية من البيض...فقط).
وكان دخول أميركا الحربين العالميتين أوسع معبر إلى قدر أميركا المتجلي وراء البحار لدمغ ظهور البشرية بدمغة الأنكلوسكسون الحضارية, أو ما صار يسمى في الاصطلاح الأميركي بنظام العالم الجديد. وكالعادة في كل حرب فإن الرئيس الأميركي (وكان يومها وودرو ولسون) خرج على مواطنيه ليعلن عن ظهور مجاهل جديدة ووحوش جدد هم "الهون الذين خلقوا الشيطان" وليقول إنه لم يورط أبناء الولايات المتحدة في الحرب إلا للدفاع عن الحضارة ضد الهمجية وللدفاع عن" طريقة الحياة الأميركية". (بينما كان الجنود الأميركيون يقاتلون للدفاع عن طريقة الحياة الأميركية كان تحت طاولة الرئيس ولسون مصاصتان مثل ماريا لوينسكي، هما ماري بيك وإديث غالت). وفي الحرب العالمية الثانية أيضاً أعلن الرئيس روزفلت لمواطنيه أن أميركا تدخل الحرب من أجل إنقاذ العالم, ودفاعاً عن الحضارة وعن طريقة حياتها (وأيضاً كان لروزفلت ماريّتان هما لوسي ميرسر وميسي لوهاند).
خلال الحربين كان السياسيون ونجوم السينما والإذاعات والصحف و"الشوبز" كلهم يمجدون الدور الأميركي "الخلاصي" ويركزون على الاختيار الإلهي ووحدة المصير الأنكلوسكسوني وارتهان مصير الإنسانية كلها لمصير العرق الأنكلوسكسوني المختار, كما عبّر عن ذلك رينهولد نيبورReinhold Niebur في مقالته "المصير والمسؤولية الأنكلوسكسونية" قبل قصف هيروشيما وناغازاكي بالقنابل النووية وتدشين عصر الإبادة من السماء.
النازية الأميركية
في مقالته Geopolitics And The United States المنشورة في The Contemporary Review (آب/ أغسطس,1947, يقول W.W.Watkin Davis أن "الولايات المتحدة خاضت الحربين العالميتين لكي تحول دون وقوع مجالها الحيوي الذي يمتد من القطب شمالاً إلى المتوسط جنوباً فشواطئ الصين شرقاً تحت هيمنة غيرها، لأن من يهيمن على هذا المجال الحيوي يهيمن على العالم. لقد أحست أميركا أن أمنها أصبح مهدداً عندما حاولت ألمانيا السيطرة على الجزء الغربي من هذا المجال الحيوي بينما حاولت اليابان السيطرة على جزئه الآخر", ص 17.
أن اصطلاح Lebensraum يعني "المجال الحيوي" الذي تحتاجه الأمة الألمانية لأمن مواطنيها و لنمائها الطبيعي والاقتصادي والسياسي. والواقع أن "المجال الحيوي" ليس إلا الترجمة الألمانية لعقيدة "القدر المتجلي" الأميركية. وعلى الرغم من اختلاف وتباعد البيئتين اللتين صدر عنهما كل من هذين الاصطلاحين فإنهما وجهان لعملة واحدة, وتجمع المؤمنين بهما قناعات وتصرفات وعواطف ومثاليات متشابهة تدل على وحدة القوى النابذة التي أطلقتهما, وهي فكرة الاختيار الإلهي والتفوق العرقي والثقافي والأخلاقي.
وعلى الرغم من أن مؤرخي "المجال الحيوي" لا يريدون العودة به إلى أبعد من كتابات مارتن لوثر, ولايخفون إعجاب هتلر بالتجربة الأميركية, فإن "ميتافيزيقا" عقيدة القدر المتجلي و "المجال الحيوي" تضرب جذورها في أسطورة "الاختيار الإلهي" المنسوبة إلى الفوهرر السماوي الأعظم. لقد أكد كارل ريتر Karl Ritter في كتابه Georgaphical Studies وإدموند والش Edmund Walsh في Total Power على العلاقة بين اصطلاح " المجال الحيوي" وفردانية الشعب الألماني واستثنائيته, وبين البيئة الطبيعية وفكرة الأرض الموعودة.
من أفكار ريتر ونظريته في الطبيعة العضوية للدولة (الكيان الحي) استمد الألماني راتزل Friedrich Ratzel قوانينه السبعة عن النماء الحيوي للدولة وضرورة توسعها الجغرافي. وهذا ما أعطى النازيين مبررات التوسع في مجالهم الحيوي بأي ثمن كان, ولو على حساب حق الشعوب الأخرى في الوجود وحق الدول الأخرى في السيادة على أراضيها. لقد أحلتهم عقدة الاختيار والتفوق من أي التزام أخلاقي أو قانوني تجاه الشعوب الأخرى, وصاغت لهم الأخلاق اللازمة لطقس التضحية بالآخر, وأوهمتهم بأنهم يملكون حق الحياة والموت والرزق لهذه الكائنات التي لم يستطع قديسو الاستعمار الإنكليزي قبلهم أن يروها إلا كما يرون الذئاب.
ومثلما اعتقد القديسون أن نماءهم الاقتصادي يعتمد على توسعهم الجغرافي, كذلك كان النازيون (مع الألماني فريدريك ليست Friedrich List) يعتقدون أن النماء الاقتصادي لألمانيا يعتمد على توسع ألمانيا. وليس غريباً أن هذا النزاع في الحربين العالميتين بين فرعي الدوحة المقدسة لعقيدة الاختيار الإلهي الأنكلوسكسون والجرمان لم يكن إلا صراعاً عائلياً على الهيمنة, وأنه بدأ فعلاً بعد الحرب الفرنسية البروسية وتوحيد ألمانيا عندما اشتد التنافس بين ألمانيا وبريطانيا على الأسواق الخارجية.
برغم التباين في أساليب تطبيقهما فإن اصطلاحي "القدر المتجلي" الأميركي و"المجال الحيوي" الألماني توأمان ولدا من رحم واحدة لا يفرق بينهما إلا التنافس على احتكار "الاختيار الإلهي". إن أسطورة مكيدة "إسرائيل" بأبيه الأعمى لاغتصاب هذا الاختيار من أخيه "عيسو" (الذي تزعم الأساطير أنه جد العرق الأبيض) استحكمت بمعظم حروب الألمان والأنكلوسكون في القرن الماضي.
• كلا الاصطلاحين اعتمد بشكل أو بآخر فكرة النماء الطبيعي. فألمانيا النازية وأميركا كلتاهما آمنت بالحاجة الحيوية لنماء الدولة, وبررت الغزو والتوسع انطلاقاً من ذلك. كلتاهما ساوت بين البقاء وبين التوسع انطلاقاً من النظرية التطورية: البقاء للأقوى؛ (إن إصرار الأميركيين على تجريد العرب من أي قوة لا يمكن فهمه إلا في هذا الإطار).
• ألمانيا النازية وأميركا كلتاهما آمنت بأن الاكتفاء الذاتي الاقتصادي يحتم توسع الدولة, وأن النماء الاقتصادي يتوقف على نماء المجال الحيوي. وكلتاهما ربطت مفهوم الحدود الطبيعية بحدود الاكتفاء الذاتي (الذي لا يكتفي أبداً). وهذا ما جعل استقلال الدول الأخرى خاضعاً للمصلحة الاقتصادية وحقّ الشعوب الأخرى في الوجود مسألة فيها نظر.
• ألمانيا النازية وأميركا كلتاهما اعتمدت على استراتيجية جيوسياسية تؤكد على صلاحية الامتداد المستمر للمجال الحيوي. وكلتاهما آمنت بأن هناك حتمية جغرافية لا تُرسم من منظار الأمن القومي وحسب, بل من منظار ضرورة قيادة العالم.
• إن فكرة التفوق النوردي خلقت لدى النازيين شعوراً بأن توسعهم حتمي بسبب تفوقهم الثقافي والعرقي, وأن هذا التوسع واجب أخلاقي تمليه مصلحة الإنسانية وضرورة تهميش الأعراق المنحطة. وهو ما أدى لاحقاً إلى اعتقادهم بحقهم في التوسع اللانهائي من أجل قيادة العالم، ولخير العالم. وهذا بالضبط ما قدمه القدر المتجلي للانكلوسكسون (الفرع الأميركي, كما سنرى لاحقاً)؛ فهم أيضاً يعتقدون بتفوقهم العرقي والثقافي الذي يمدهم بحق التوسع وقيادة العالم وحق قمع أية مقاومة لهذه القيادة بالحروب والعنف والإبادات. إن أميركا (الانكلوسكسونية) ما تزال تعتبر نفسها الأمة التوتونية الأعلى أو الأقوى The Most Vigorous Teutonic Nation, وهي لهذا: الأمة صاحبة الحق الأعلى في قيادة العالم.
• ألمانيا النازية وأميركا كلتاهما تؤمن بفكرة انحطاط قوانين وأخلاق الشعوب الأخرى وضرورة عدم احترامها عندما تتعارض مع حقها في النماء والتوسع. وكلتاهما تؤمن بأن متطلبات النماء والتوسع (الذي يتم باسم الإنسانية كلها أو المجتمع الدولي) قد تستوجب عدم احترام حق الآخرين (المنحطين عرقياً وثقافياً) في تقرير مصيرهم أو سيادتهم على أراضيهم.
لقد كان من رحمة القدر بالشعوب العربية أن نشأ الاتحاد السوفياتي في بداية القرن وشكل قوة ردع لهذه النازية الأميركية, الأمر الذي ساعد على تأجيل فكرة الاستعباد المطلق لهذه الشعوب أو إبادتها لأكثر من 75 سنة. إن كل ما نراه منذ انهيار الاتحاد السوفياتي إلى اليوم من تدمير وسائل الحياة ومقومات البقاء, ومن احتلال مباشر وغير مباشر, ومن سيطرة على القرار السياسي والمالي والعسكري المصيري لمعظم عواصم العرب, ومن تورط كثير من أنظمة الاستعمار الداخلي العربية في حرب الإبادة الأميركية, ومن ظهور مؤسسات إعلامية وثقافية ودينية لم يعد لها من همّ إلا تزيين وجه الذئب (مع إبادة أكثر من مليوني عراقي وفلسطيني خلال العقد الماضي)سيجعل الناجين من أمتنا, عاجلاً أو آجلاً, يتأكدون من أن أدمى النازيين الألمان والنازيين الصهاينة كانوا- مقارنة بأصدقائنا قيسي النازية الأميركيين- أرحم من ملائكة الرحمة.