إسهاماً في النقاش الجاري في صفوف الحزب الشيوعي اللبناني قبيل مؤتمره التاسع (الذي أعلن عن تأجيله مرة ثانية)، وجه القيادي في الحزب غسان الرفاعي دعوة الى <<حوار من اجل صياغة رؤية سياسية ماركسية>> في كتيب أصدره قبل ايام. وتقوم الدعوة التي حملت عنوانا فرعيا <<مناقشة نقدية لمشروع الموضوعات السياسية للمؤتمر الوطني التاسع>>، على تقديم تصور قال في مدخل الكتيب انه قد تم تجاهله في جولات سابقة من النقاش في الهيئات الحزبية.
وتنشر <<السفير>> اليوم أجزاء مختصرة من القسم الثاني من الكتيب الذي جاء تحت عنوان <<الوضع اللبناني>>، ولعل من المفيد الاشارة إلى ان النص الوثيقة يندرج في سياق الحوار الدائر في هيئات الحزب والذي لم ينته بعد بإقرار توجه سياسي وتنظيمي عام للمؤتمر المقبل.
في ضوء مناقشتنا النقدية لمشروع الوثيقة، وما توصلنا إليه من استنتاج عام من ان الوثيقة لم تستطع ان تعكس المستجدات الحاصلة على الصعيد الدولي وتأثيراتها العميقة على مجرى التطور في بلداننا العربية، وفي لبنان بصورة خاصة، أسمح لنفسي بطرح مشروع هيكل عام يحاول ان يحيط، بقدر الإمكان، بما هو أساسي من العوامل الاقتصادية والسياسية ذات الفعل المباشر على تطور بلداننا استنادا إلى التحليلات والتقديرات التي طرحتها في سياق مناقشة مشروع الوثيقة. وهذا المقترح، بحكم كونه هيكلا عاما، أوليا، مطروحا للنقاش امام الحزب كله، وأمام القوى الديموقراطية والجماهير الشعبية، من أجل إكماله، عن طريق نقده، واقتراح التعديلات عليه في المحتوى وفي تركيب هيكليته، وإضافة أفكار ومواقف لم يلحظها، وحذف أفكار ومواقف قد لا يكون من الضروري الاحتفاظ بها. فليس ثمة ادعاء بأنه مشروع كامل.
ولا بد من الاشارة إلى ان الهيكل الذي نطرحه ليس هيكلا بديلا لمشروع الوثيقة الذي ناقشنا (وإن كان يستند الى الافكار النقدية التي تضمنها نقاشنا للوثيقة والبدائل التي طرحناها). إنه أساس لصياغة البديل عبر الحوار والنقاش الجماعي داخل الحزب، بمشاركة جميع الرفاق الذين يرون ضرورة في إسهامهم بهذا الجهد الذي نريده في الوقت نفسه جهدا لبلورة القواسم المشتركة لاستعادة وحدة الحزب، وكذلك بمشاركة قوى وأفراد من خارج الحزب.
سيقتصر طرحنا على الوضع اللبناني وحده، تقديرا منا أن صياغة القسمين الدولي والعربي يمكن القيام بهما استنادا إلى المادة التي يحويها نقاشنا للعنوانين.
مقدمة أولية:
لا شك في أنه كان للعامل النفطي العربي (أو المال النفطي) أثر كبير في تحديد وظيفة لبنان الاقتصادية منذ خمسينيات القرن الماضي:
طبيعة ظاهرات النمو التي ولّدها...
مع إظهار ان ذلك التطور كان كميا بالدرجة الاولى في سياق تطور رأسمالي تابع.
هذا التطور قضى بحدود ما على الاشكال التقليدية في الاقتصاد اللبناني (...)
هذا التطور المتفاوت بين القطاعات (كمياً ونوعياً)، والتفاوت في الدور في ما بين هذه القطاعات (على أساس السوق المحلية او على أساس الاطار الاقتصادي الاقليمي العربي) قد فككا البنى الاجتماعية التقليدية بصورة مميزة (أي بخصائص متناقضة)، وبدأ بتكوين بنية اجتماعية جديدة لم تكتمل.
هذا الوضع الذي كان يؤسس للتكامل (او للتبعية) مع الوضع النفطي العربي، لم يفلح في ان يؤسس آلية تطور عضوي متكامل لا في إطاره المحلي الخاص، ولا في الإطار الاقليمي، وذلك بسبب عدم الاستقرار الاقليمي وانعكاساته محليا وتفاعلاته مع تناقضات البنية الاجتماعية الايديولوجية السياسية اللبنانية وذلك بتداخل الطائفي الذي ما يزال قويا بالطبقي الذي لم تكمل عملية الفرز التي يمر بها، وبالتالي تأخر مستوى الوعي الطبقي من جراء ذلك... وظاهرات تصادم الطائفي وتناقضه مع القومي... وتداخل الريفي الذي يغزو المدينة بكل تأثيراته التقليدية، المناطقية والطائفية والعائلة، في حين لم تبلور المدينة عوامل تماسكها العصرية (الرأسمالية)، بصورة واضحة، مع بقاء هيكل الدولة من حيث طبيعتها السياسية، الاجتماعية وتركيبتها الإدارية (النظام السياسي الطائفي) محافظا على كيانه التقليدي القديم لما قبل هذه التطورات.
وقد عمّقت الحرب الأهلية الطويلة، ونتائجها السياسية والميدانية، تناقضات هذا التطور الى درجة خطيرة، وذلك على صعيد الظاهرات الرئيسية التالية على الأقل (والتي نطرحها كفرضيات للنقاش):
بالتغيرات داخل البورجوازية <<القائدة>> اقتصاديا وسياسيا، بتراجع فئة منها عن مركز القرار السياسي وفرض تراجع نسبي عليها في المجال الاقتصادي، وحلول فئة اخرى، بهذا الشكل او ذاك، حيث باتت <<الحريرية>> النموذج والمثل الأبرز للفئة الجديدة الموجهة للقرار الاقتصادي والسياسي في البلاد (مع التوقف عند النتائج الطارئة اقتصاديا وسياسيا بنتيجة سياستها).
بانهيار الطبقة الوسطى بوتائر وسمات خاصة في كل منطقة، وحسب طبيعة القطاعات التي تعمل فيها ووتائر انهيار هذه القطاعات. وهذا ما أعطى للانهيار تفسيرات طائفية على الصعيد الايديولوجي والسياسي، مما خلق أساسا لاستغلال بعض القوى التقليدية النافذة ذلك بأشكال مختلفة لتأجيج الطائفية بهدف تدعيم المواقع السياسية للزعامات التقليدية القديمة منها والجديدة.
ولا بد من الإشارة إلى جانب ذلك، الى ان هذه التطورات قد سرّعت في عملية تحول معظم القوى العاملة اللبنانية الى اجراء، بنسبة تناهز 70% من الحجم الإجمالي. وهذا الحجم يشكل الجسم الرئيسي للطبقة العاملة والفئات الوسطى. وتحت ضغط الأزمة الاقتصادية المتفاقمة ازدادت نسبة النساء العاملات في مجمل حجم الاجراء.
من جراء ذلك توقفت الدورة الاقتصادية الداخلية بصورة شبه كاملة، وتعطلت الدورة الاقليمية (دور لبنان الوسيط)، بالاضافة الى الدور الذي لعبه الاطار السياسي الذي وضع فيه لبنان بعد اتفاق الطائف، قد حددا سمات وطبيعة <<المرحلة الانتقالية>> للخروج من الحرب الاهلية وآثارها. إذ إن هذا الواقع عقّد التطور في هذه المرحلة الانتقالية: فلم توضع خطة متكاملة لإزالة العقبات والعراقيل السياسية والاقتصادية التي خلفتها الحرب (...).
أي أفق؟ أي برنامج؟ أي خطة عمل؟
في إطار الوضع الدولي والاقليمي والداخلي بعوامله المتداخلة، المتشابكة والمتفاعلة (التي حاولنا أن نلقي الضوء على بعض مظاهرها وتجلياتها، والتي تتطلب المزيد من المتابعة الجماعية الدائمة من قبلنا)، علينا أن نرسم خطتنا السياسية والعملية. إن تجاهل هذه التطورات الجديدة، العميقة التأثير، تحوّل أي برنامج الى مجرد تمنيات خارج الواقع المعيش، وبالتالي لن يقدم أي توجيه فعليّ للحزب وللجماهير في نضالها المباشر والبعيد المدى.
وعلى قاعدة الأخذ بعين الاعتبار لهذه المعطيات المستجدة جميعا، يمكن استنتاج ما يلي:
أولا: أن يكون المحور الوطني اللبناني القومي العربي، الى جانب الديمقراطية: بمفهومها السياسي والاقتصادي والاجتماعي الواسع، توجها ومعيارا أساسيا تبنى في ضوئه مواقفنا الملموسة من مختلف التطورات الجارية والمحتملة. إن مضمون هذا التوجه الوطني والقومي إنما يتحدد أساسا وقبل كل شيء في التصدي والنضال ضد الهجمة الاميركية الاسرائيلية، خاصة بعد الاحتلال الاميركي للعراق وما يجري في فلسطين، لحماية ما تبقّى من مكاسب ذات طابع وطني وقومي، وللدفاع عن الحقوق الوطنية والقومية، في الارض والسيادة المغتصبة في فلسطين وسائر البلدان العربية، ومنع إعادة تركيب الخريطة السياسية للمنطقة وفق المصالح الاميركية الاسرائيلية، ومقاومة الشروط والاملاءات الاميركية والاسرائيلية على جميع الصعد التي يراد فرضها سواء على الفلسطينيين او على سوريا او على لبنان اللذين يتعرضان لضغوط متزايدة... الخ.
لا شك في أن ثمة مفهوما خاصا للوطنية اللبنانية عند بعض الفئات حيث توضع الوطنية اللبنانية في مواجهة او في تعارض مع القومية العربية. وهذا يغذي، واقعيا، الحذر بالدرجة الاولى تجاه سوريا بحكم وجودها السياسي والعسكري في لبنان، ويضخّم السلبيات والتجاوزات الموجودة فعلا في الممارسات السورية وانعكاساتها على العلاقات اللبنانية السورية. ومن المعروف أن لهذا الخلل في مفهوم الوطنية اللبنانية أسبابا تاريخية. لكن الممارسات التي أعقبت اتفاق الطائف خصوصا، سواء من الجانب السوري او من جانب الحكم اللبناني، قد فاقمت السلبيات في هذا المفهوم الخاطئ، لأنها أثارت وأججت العامل الطائفي وفعله في تعقيد وتعميق الأزمة على هذا الصعيد.
من هنا يمكننا ان نفهم تجدد الملابسات الدورية التي تولدها الميول والأوهام، على الصعيد السياسي، للمراهنة عند بعض الأطراف على استخدام العامل الخارجي، بصورة مباشرة او غير مباشرة، كلما استأنست هذه الفئة او تلك بأن سوريا باتت في موقف الضعف. وبالتالي فإن تصحيح العلاقات اللبنانية السورية، وإرساءها على أسس ومبادئ قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة وعدم التدخل في الشأن الداخلي... الخ لا يعزز وحدة الموقف والعمل المشترك ضد أخطار الهجمة الاميركية الاسرائيلية فقط، بل يساعد ويقوّي الجهود المبذولة لتعزيز التماسك الشعبي اللبناني الداخلي.
ثانيا: وعلى قاعدة التوجه الوطني القومي الذي نقترحه (في البند أولا)، يمكن أن نرسي الأساس لسياستنا وأسلوب تعاطينا بواقعية مع الانظمة العربية المختلفة على صعيد التكتيك المباشر في مجابهة الهجمة الاميركية الاسرائيلية مستفيدين من التمايزات القائمة في ما بين مواقفها، او التمايزات المحتمل بروزها، بسبب تفاوت حجم ووتائر ممارسة الضغط الاميركي الاسرائيلي على هذا الطرف منها او ذاك. وهذا التوجه التكتيكي الخاص هو أحد أوجه التعامل المرن المنفتح الذي تتطلبه الظروف الصعبة التي نمرّ بها لتحسين شروط النضال الوطني والقومي. ومن الطبيعي ان ذلك لا يتعارض مع التوجهات العامة لبرنامجنا النضالي المتكامل، ولا يتعارض مع نضال القوى الوطنية والقومية والديمقراطية في البلد المعني. وخصوصا أنه لا يتعارض مع نضالها من أجل تغيير نظامها بالوسائل التي تراها مناسبة، حين تنضج ظروف هذا التغيير.
ثالثا: في ضوء التطورات والتغيرات جميعا، وفي ضوء التوجه السياسي العام (الوطني والقومي) الذي حددناه، يمكن اعتماد قضية الديمقراطية والحرية شعارا توجيهيا أساسيا في سياستنا الداخلية كتوجه تكتيكي الى جانب قضية التحرير والاصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والدفاع عن مصالح ومطالب فئات الشعب اللبناني المختلفة ذات الطابع المطلبي الديمقراطي المباشر... وصولا الى طرح شعار التغيير الديمقراطي للنظام السياسي وتبريره نظريا وسياسيا كشعار مرحلي استراتيجي: وهذا يعني طرح البديل الديمقراطي الذي يرتكز، سياسيا، على تجاوز الطائفية، وعلى الدفاع عن الحريات، وطرح قضية السلطة تحت شعار: حكم تحالف القوى الديمقراطية وخوض الانتخابات على أساسه في إطار أوسع تحالف سياسي شعبي، مهما كانت طبيعة قانون الانتخابات، مع طرح اقتراحنا لقانون انتخاب ديمقراطي على قاعدة النسبية ولبنان دائرة واحدة، والمتخفف تدريجا من القيد الطائفي، والنضال من أجل إقراره... الخ. ولا بد، الى جانب ذلك، من التأكيد على فكرة الأفق الاشتراكي لنضالنا كهدف، انطلاقا من ان الرأسمالية لا تحمل حلا لمشاكل شعبنا وأمتنا، كما للبشرية جمعاء.
رابعا: في إطار كل التعقيدات السياسية اللبنانية التي يعمل الحزب ضمنها، وتحت تأثير جملة العوامل والتأثيرات المتناقضة والمتحركة، نحتاج الى بذل جهود استثنائية لرسم خط سيرنا في السياسة الداخلية والخارجية (الوطنية والقومية والدولية) كي نؤمن شرطين أساسيين لنهجنا: فمن جهة أولى أن يكون نهجا مبدئيا، وطنيا وقوميا وديمقراطيا، مستقلا حقا من حيث هو نهج لحزب معارض تغييري، ثوري، يحرص على أن لا يفسّر أي موقف يتخذه او نشاط يقوم به على أنه في إطار صراعات أهل الحكم او المعارضة السلطوية، ويخدم أحد أطرافها. ومن جهة ثانية، ينبغي ان يتّسم هذا النهج بأوسع انفتاح سياسي كي يستفيد من كل الامكانيات لتطوير الحركة الديمقراطية الشعبية الضاغطة. فهذا الجمع بين مبدئية نهجنا والانفتاح السياسي يتكاملان، لأنهما يأخذان بعين الاعتبار الواقع السياسي والشعبي الموضوعي. فلا يجوز باسم مبدئية مزعومة ان نخنق الانفتاح والإسهام الفعّال والمبادر في الحياة السياسية، ولا، بطبيعة الحال، أن نضحي بمواقفنا التكتيكية والاستراتيجية المبدئية باسم الانفتاح. فرؤية الجديد والمتغيرات تسمح بتقدير أثر كل من هذه العوامل على مختلف الفئات والشرائح بشكل جديد. في هذا الضوء يجب أن نفهم التموجات في مواقف الكثير من القوى الأخرى. فانتفاء اللقاء او التفاهم في مسألة ما لا يعني بالضرورة انتفاء أي إمكانية للتعاون في مسألة جزئية اخرى، كما ان اللقاء او التعاون، مع اي طرف سياسي في إطار السياسة الوطنية والقومية والديمقراطية لا يلغي التباين، وحتى التعارض، في قضايا سياسية اخرى وأيديولوجية، وبالتالي لا يلغي حقنا في نقد المواقف التي قد نراها ذات تأثير سلبي على النضال الوطني القومي الديمقراطي. ومثل هذه المواقف إنما تتحدد عبر النقاش الداخلي في هيئات الحزب في سياق النضال اليومي للحزب. وعلى هذا الاساس يمكن، بل يجب، صياغة برنامج تفصيلي ملموس يحدد الخطوات التنفيذية لتوسيع الصلات وبلورة نقاط اللقاء في السياسة وفي إمكانيات العمل السياسي حسب تقديرنا، مع كل طرف، في ضوء الامكانيات المتاحة لمثل هذا العمل معه.
حاولت أن أعرض بعض الآراء والمقترحات التي أراها محاور قد تكون أساسا للحوار، لبناء توافقات تخدم قضية استعادة الوحدة في الحزب. ومن الطبيعي أن لا أتناول في نقاشي مضمون التقرير عن نشاط الحزب المرفق بالوثيقة السياسية لأنه، في طريقة عرضه للوقائع والتقديرات المستنتجة منها، يثير كثيرا من الاعتراضات لعدم موضوعيته. وبالتالي فإن نقاش هذا التقرير قد يثير توترات اضافية نحن في غنى عنها في عشية المؤتمر.
() قيادي في الحزب الشيوعي اللبناني.
©2003 جريدة السفير