*هل حقا ان العالم يتقسم الى اديان وطوائف وقوميات؟ *حين نطلب التضامن العربي او الديني، نجد ان تضامنا حقيقيا آخر، وأقوى، يأتي من جهات لا تنتمي الى هذه الفئات *هل حقا ان ما يقود تضامن الشعوب مع بعضها هو الانتماء القومي والديني* ... الخطوة الأولى تبدأ في قاموسنا عباراتنا*
* يتسلل الى خطاباتنا السياسية يوميا عبارات ومصطلحات إن دققنا فيها فهي بعيدة فكريا وايديولوجيا عن نظريتنا كأصحاب فكر ماركسي لينيني، إذ بات، وحسب هذه العبارات، اننا نعيش في عشرين عالما وحتى مئة، فهناك من قسم لنا العالم الى عالم عربي وعالم انجليزي، وعالم اسلامي، وعالم مسيحي. وإن استرسلنا في هذا فقد نجد انه في داخل العالم الاسلامي، هناك عالم شيعي وعالم سني، وفي داخل العالم المسيحي تجد عالما ارثوذكسيا او عالما كاثوليكيا، وعالما بروتستانتيا. ولا ننسى ان هناك عوالم اخرى، فذاك عالم هندوسي وآخر يسمى عالم بوذي....
إن عالمنا هو عالم واحد، وقد اثبت التاريخ والحاضر والمستقبل ان ما يحرك العالم هو شبكة علاقات اقتصادية، وتشابك والتقاء مصالح اقتصادية، وليس علاقات اثنية او دينية، وغيرها. وعلى الرغم من نفي اصحاب المصالح، والمنتفعون من وراء التقسيمات الدينية والقومية، فإن هذا الأمر يثبت نفسه يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة، ولا يتوقف الامر عند الانظمة، بل ايضا عند الشعوب انفسها، التي غالبا ما تتأثر بأنظمتها.
فمثلا ما كانت الولايات المتحدة الامريكية تستطيع ان تشن هجومها على افغانستان بهذه السهولة وهذه السرعة، لولا الموافقة الايرانية الصامتة، وهي الثانية، إذ سبقتها الموافقة على شن الحرب على العراق في العام 1991، فها نحن امام حالة فيها أشد الدول التي تنتهج الدين، ظاهريا، كأساس لحكمها ونظامها، وهذا عدا التقارب الجغرافي، والى حد ما قومي، بالنسبة لافغانستان.
ولم نشهد الدول العربية تقف وقفة "رجل واحد" ضد الحرب على العراق "العربي"، بغض النظر عن طبيعة النظام الاجرامي الذي كان قائما هناك، فعلى الاقل توجد الآن قوات الاحتلال لا اقل اجراما على المستويين العراقي والعالمي. والحال يسرى طبعا إزاء ما يجري في فلسطين الجريحة، التي اصبح فيها نبأ سقوط شهيد وشهداء مجرد خبر عابر في الفضائيات وفي الصالونات البيتية والسياسية.
وكذا الأمر في اوروبا، فقد شاهدنا الحلف الاطلسي، الذي يوحد عددا كبيرا من دول "العالم المسيحي"، ليشن حربا على دولة "مسيحية"، يوغسلافيا، قال من قال انها شنت حربها على اقلية في داخلها باسم الدين.
وعلى صعيد الشعوب، فهل حقا اننا شهدنا الهبة ضد ما يجري في الشرق الاوسط تاتي فقط من قبل الشعوب العربية، والشعوب التي تنتمي غالبيتها للديانة الاسلامية، ام أننا شهدنا حالة عالمية انتشرت في معظم دول العالم، وطبعا، لا يوجد بينها رابط ديني أو قومي؟.
يسارع البعض لدينا، وبعد كل مظاهرات عابرة في عدد من الدول العربية الى ان يزف لنا بشرى "نهضة القومية العربية"، هذه النهضة التي نسمع عنها فقط حين تنهض ولا يبلغوننا متى "تكبو"!!، وهناك من انشد لنا حكاية "الأمة العربية"، وان "ثورة" قد انطلقت، باسم هذه القومية، ولن تتوقف حتى النصر. فأين هي الآن؟!.
لا حاجة لنا في الدخول في مسألة تعريفات "الأمة"، وفحص ما إذا التضامن الحاصل هو على اساس قومي وعرقي وديني، فما يجري على ارض الواقع يثبت زيف هذه الادعاءات.
فعن اي أمة يتكلمون، وعن اي وحدة حال يتكلمون، لقد خرجت مظاهرات في بعض الدول العربية بمبادرة من حركات المعارضة وسرعان ما قمعتها السلطات، وهي نفسها خمدت امام اول عملية قمع سلطوية. وفي دول عربية أخرى قاد النظام ذاته تلك المظاهرات، ولكنها كانت عمليا مظاهرات تمجيد للرئيس "المفدى"، حامي "القومية العربية"، و"الامة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة"!، فهذا ما شاهدناه في سوريا والسودان والعراق والاردن، حين بادرت السلطات ذاتها الى مظاهرات التنفيس، وفي تلك المظاهرات كنا نجد صور الرؤساء العرب الحاكمين، ولم نكن نرى صورة واحدة لذلك الرئيس المسجون بحصار احتلالي، الرئيس ياسر عرفات، ويرفض ان يخضع او يستسلم. وحتى التضامن المعلن من قبل تلك الانظمة، كان تضامنا فئويا موجها، وفي غالبيته طعن في الظهر لمن لا يتوافقون مع عروشهم الرئاسية والمكلية.
وهذا يسري ايضا على الشعوب العربية والحركات التي قادتها، فالتضامن لم يكن في غالب الاحيان نزيها او موجها لشعب بأسره، بل موجها لشرائح وفئات فلسطينية تلائم سياسيا تلك الفئات المتضامنة ظاهريا، ومحاولة اثارة الصراعات الداخلية في قلب الشعب الواحدة الواقع كله ضحية للاحتلال دون تمييز.
وسرعان ما تحولت مظاهر التضامن الى مهرجانات تشكيك وتضليل وتهجّم على قيادة الشعب الفلسطيني، وعلى فئات اخرى فيه. ومن ضمن هذا ما نراه في "مهرجانات" التحريض في الفضائيات العربية، التي ما زالت مستمرة. ولا تقولوا ان هذه الفضائيات موجهة امريكيا لتريحوا انفسكم من التمعن بمن شارك في هذه "المهرجانات"، لقد كان أولئك دعاة القومية والدين.
ويسترسل دعاة "القوميات" و"الأمم الدينية" في اكتشافاتهم، ويعزون اخماد نار الجماهير الى الانظمة العفنة، ولتصبح هذه الانظمة الجهة الوحيدة التي نلقي عليها كل الهموم والفشل، حتى وإن كانت هذه الانظمة بالفعل انظمة سوء تجاه شعوبها اولا.
ولكي نرى الصورة اكثر وضوحا، فلننظر الى خارطة الدول والشعوب العربية التي تحركت تضامنا مع الشعب الفلسطيني المذبوح، فنراها بالاساس، وبالاساس الكبير هي دول الجوار، لبنان وسوريا والاردن ومصر، حيث التواجد الاكبر للشتات الفلسطيني، والمحرك الاكبر والمبادر لتلك المظاهرات هو بالاساس الجماهير الفلسطينية في تلك الدول، فهي أول نار تهب وآخر نار تخمد. بالاضافة الى ان التقارب الجغرافي وكون هذه الدول قد اكتوت بنار الاحتلال الاسرائيلي، يجعلها تتعاطف وتتضامن مع الشعب الفلسطيني بشكل مميز.
وعدا هذه الرقعة الجغرافية، فاننا لا نجد فارقا من حيث حجم التضامن، الشعبي والسلطوي، مع الشعب الفلسطيني، فهل هناك من يعتقد أن المظاهرات التي انطلقت في المغرب او قطر او تنزانيا او جزر القمر او جيبوتي واندونيسا، هي اكثر من مظاهرات التضامن التي انطلقت في الدول الاوروبية وغيرها من دول العالم، بالطبع لا والعكس هو الصحيح. ولا حاجة للحديث عن المستوى الحكومي، فالمسالة واضحة أكثر. وفقط من يريد ان يوهم نفسه بحكاية التضامن "القومي" و"الديني" سيقول غير ذلك.
واكثر من هذا خطورة، هو حكاية تقسيم العالم على اساس ديني، وهنا قد يلتقي معنا دعاة "التضامن القومي العلماني"، ومن حيث لا يدرون فانهم بهذا التوافق معنا انما يسحبون البساط من تحت ارجلهم، في مسألة التقسيم القومي.
فهناك من يسعى الى فرض الطابع الديني، على الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، وتقسيما كهذا ليس فقط انه يحيد قطاعات واسعة عالقة في الصراع، خاصة اولئك الذي يعتقدون ان الصراع ليس دينيا، وانما، ايضا، يضع حاجزا رهيبا امام عملية اختراق معسكر المعتدي، اسرائيل، وقلب الرأي العام فيه، لما فيه مصلحة الشعبين في هذه البلاد، ويقلل من شأن التحرك والتضامن الدوليين.
لنستعيد الذاكرة القصيرة خلال عدوان "سور واق" (آذار/ مارس 2002)، ولنتأمل في خارطة التضامن مع الشعب الفلسطيني في مأساته، ولنتأمل، ايضا، بأولئك الذي سجنوا انفسهم طوعا مع الرئيس ياسر عرفات خلال الحصار الارهابي الذي فرض عليه، ألم يكونوا انصار سلام من مختلف دول العالم وايضا من اليهود؟.
ولننظر الى الساحة المحلية، لدينا هنا في اسرائيل، فهل يستطيع دعاة "القومية" الادعاء بأن اساس التحرك الجماهيري ضد الاحتلال يرتكز على الانتماء القومي، فكم نشدد على التعاون العربي اليهودي في التحرك الجماهيري. والمثير ان اصحاب مصطلحات العوالم القومية والدينية يدعون بين الحين والآخر الى تجنيد الرأي العام اليهودي.
والتوجه الخاص، في هذا الشأن، هو لنا نحن اصحاب الفكر الذي يشدد على ضرورة تضامن الشعوب وعدم وضع حواجز قومية وعالمية وانغلاقات فئوية مبنية على هذا الاساس، لكي ننتبه، ونضع حدا لصهر مصطلحات نعترض معها فكريا وايديولوجيا، في خطابنا السياسي، وهو الذي اثبت ويثبت نفسه يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة.
العالم عالم واحد، والصراع الاساسي هو بين القلة التي نهبت خيرات العالم وحرمت السواد الاعظم من هذه الخيرات وحولتهم، حولتنا، الى عبيد لا نختلف كثيرا من حيث الجوهر، عما كان في عهدي العبودية والاقطاعية، والفرق هو في الآلية والوسائل وتغيير المصطحات والعبارات، فنحن نتخبط بقومياتنا وادياننا، وهم جميعا امام ناظرنا، متحدين من جميع الاتجاهات والانتماءات، يلتقون ليتباحثوا كيف يبقى العالم، عالم اسياد وعبيد.