|
لبنان والانتخابات الرئاسية في مَهَبِّ الرياح
كميل داغر
الحوار المتمدن-العدد: 2110 - 2007 / 11 / 25 - 11:59
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
في المجلَّد الضخم الذي وضعه العلاَّمة الدستوري، إدمون رباط، باللغة الفرنسية، بعنوان الدستور اللبناني، البدايات والنصوص والشروح، وذلك في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، وبالتالي قبل قيام دستور الطائف بسنوات قليلة، أعطى صورة عن موقع المُمسك بالرئاسة الأولى في النظام اللبناني، مبيِّناً كيف أنه كان يتجسد في شخصه «ليس فقط رمز الدولة، بل الإرادة العليا، الثابتة والفاعلة، التي تحكمها وتحرك نشاطاتها المتعددة». ويشرح ربّاط أن «هذه القدرة المطلقة، التي وُضعت أصولها في الدستور، تتجلى في الظاهرة المميِّزة لما جرت العادة على تسميته العهد، والتي زادت، على حساب الحكومة، من حدة اللامساواة في ثنائية الصلاحيات المسندة إلى كلٍّ من فرعي السلطة التنفيذية». ويضيف أستاذنا الكبير الراحل – الذي تتلمذ على يده رهط واسع من رجال القانون اللبنانيين، في النصف الثاني من القرن العشرين – لإظهار مدى أرجحية ذلك الموقع، أن «الوزراء وكبار الموظفين، وفي الغالب النوابَ الساعين وراء حظوته، لا يمتنعون عن استخدام مصطلح سيد العهد، في معرض الإشارة إلى الرئيس. ونادراً ما يهملون الإشادة بحسناته، وعزو كل المزايا إليه في التصريحات التي لا تحصى التي تتكفل الصحافة اليومية بترجيع صداها. وفي كلٍّ من النشرات الإخبارية للإذاعة اللبنانية، الخاضعة للدولة، يبدأ المذيع دائماً بالعرض الدقيق لنشاطات الرئيس، كتقبل رسائل الاعتماد، وإرسال برقيات التهنئة، والكلمات التي بات معتاداً أن يستهل بها الجلسات الأسبوعية لمجلس الوزراء المنعقد برئاسته طبعاً، وجلسات العمل التي يدعو لانعقادها في القصر الرئاسي، والتي تتم خلالها مناقشة مشاريع القوانين، والخطط المطلوب وضعها، والموازنات، وقضايا الري، والطرقات، ومسائل الطاقة والكهرباء، وذلك تحت إشرافه وبحضور الموظفين والاختصاصيين، وأحياناً في غياب الوزير المعني، وفي معظم الأحيان بعيداً عن رئيس الحكومة وحتى بغير علم منه. وهذا باختصار هو التكافل (symbiose) الكامل الذي يتحقق هكذا على حساب التوزيع الرسمي للصلاحيات، من جانب الدستور، بين السلطات العامة والرئيس» (ص 294 وص 295). بيد أن هذه الصورة تغيرت كثيراً، بعد التعديلات التي جرى إدخالها إلى الدستور، بنتيجة اتفاق الطائف، وتراجعت صلاحيات «سيد العهد» بشكل ذريع. أكثر من ذلك، جاء الانشطار السياسي العميق، الذي أعقب التمديد للرئيس لحود بضغط من دمشق، ومن ثم اغتيالَ رئيس الوزراء الأسبق، رفيق الحريري، وما تلاه من إنهاءٍ لوصاية النظام السوري على البلد، ليحدث تأثيراً سلبياً كبيراً في دور الرئاسة الأولى، ولا سيما بنتيجة المقاطعة الفعلية للقصر الجمهوري من جانب جزء أساسي من الشريحة السياسية، المشاركة في الحكم. وهو أمر يهدِّد بترك انعكاسات سلبية واضحة على موقع الرئيس الأعلى للدولة، حتى بعد انتخاب رئيس جديد، لاحقاً. على الرغم من ذلك، وأيّاً يكن، تبقى هنالك أهمية قصوى للصلاحيات الباقية لموقع رئيس الجمهورية؛ وهي صلاحيات تزداد أهميتها بقدر ما يتمكن الشخص الذي سيحتل هذا الموقع من تفعيلها، سواء بسبب ميزاته الشخصية المحتملة، أو الظروف التي قد تنشأ خلال ولايته، على شتى المستويات، الدولية والإقليمية والمحلية، أو التحالفات التي يمكن أن يستند إليها، أو يستفيد منها. وكلُّ ذلك يفسِّر الصراع الحالي المحتدم بين شتى القوى السياسية المحلية، من أجل التحكم بسيرورة انتخاب الرئيس القادم، وبالتالي فرض مجيء رئيس يمثل تطلعاتها ومصالحها، ويخدم البرنامج الذي يأخذ تلك التطلعات والمصالح بالحسبان. وهو صراع مفتوح على كل الاحتمالات، ولا سيما أنه يتلازم مع صراع القوى الإقليمية والدولية على منطقةٍ (هي ما تطلق عليه واشنطن تسمية الشرق الأوسط الأكبر)، من الواضح أن ثرواتها النفطية، من جهة، وموقعها الاستراتيجي الدولي، من جهةٍ أخرى، قد تدفع بالمستفيد الأكبر من السيطرة عليها، عنينا الولايات المتحدة الأميركية، إلى تفجير حروب جديدة قد تتخذ لاحقاً طابعاً كارثياً، وذلك لأجل الإبقاء على تلك السيطرة، وحتى لترسيخها وتوسيعها، مستعينة لهذه الغاية بالدور الذي تضطلع به ضمن هذه الصورة دولة إسرائيل العدوانية، والمدججة بأحدث الأسلحة الأميركية. وبالطبع، على الرغم من أن لبنان لا يعوم على آبار الطاقة، ومن أن إمكاناته الاقتصادية متواضعة جداً، فإنه يتمتع بميزات جيوسياسية خاصة، ولا سيما من خلال موقعه في الصراع العربي-الإسرائيلي، المتمادي، بحيث يمكن أن يلعب دوراً بالغ الأهمية في إعاقة التطلعات الإمبراطورية الأميركية، كما أظهرت ذلك حرب تموز 2006 المعروفة، التي رأت فيها وزيرة خارجية الولايات المتحدة، كوندوليسا رايس، مدخلاً إلى إقامة ما سمته «الشرق الأوسط الجديد»، قبل أن ينقلب السحر على الساحر، وتنتهي تلك الحرب لغير صالح المنظور المشار إليه.
موقع الرئاسة اللبنانية في المشروع الأميركي
ليس الاهتمام الأميركي بهذا الموقع جديداً، بل هو يعود إلى الخمسينيات من القرن الماضي، حين تراجع الدوران البريطاني والفرنسي في لبنان، كما الحال في أماكن كثيرة أخرى عبر العالم، لصالح الدور الأميركي، بحيث جاءت انتخابات الرئاسة في أواخر صيف عام 1958، وبعد نزول قوات المارينز في السواحل اللبنانية إثر الحرب الأهلية المصغَّرة التي اندلعت آنذاك، تعبيراً عن توافق خارجي، قبل كل شيء، بين واشنطن، من جهة، والجمهورية العربية المتحدة بقيادة عبد الناصر، من جهة أخرى. ومذاك بات التأثير الأميركي ملموساً، في شتى الانتخابات الرئاسية اللبنانية، وصولاً إلى تلك المفترض أن تتم في الأيام القليلة القادمة. ومن الواضح أن الانتخابات الرئاسية، هذه المرة، تكتسب أهمية مميّزة جداً، بالنسبة للإدارة الأميركية. وكانت هذه الأخيرة قد سعت، عن طريق القرار الدولي 1559، الصادر في العام 2004، إلى إلغاء التمديد للرئيس الحالي، تمهيداً للمجيء برئيس جديد ينفذ البنود الأخرى للقرار المذكور، وفي مقدمتها نزع سلاح حزب الله. وقد ساهمت بصورة أساسية في فرض مقاطعة دولية وإقليمية ومحلية للرئيس لحود، من دون أن تنجح في إسقاطه. بيد أنها تسعى، بكل ما تملكه من إمكانات، لمنع أي تفاهم بين القوى المتصارعة اللبنانية على مجيء رئيس جديد يعبر عن تسوية في ما بينها. وهي، لأجل ذلك، لا زالت تشجع التيار الموالي لها، في السلطة، كما في الحياة السياسية، اللبنانيتين، المتمثل بتحالف 14 آذار، على تجاوز القيود الدستورية القائلة بضرورة الالتزام بنصاب ثلثي أعضاء المجلس النيابي لأجل انعقاد جلسة انتخاب الرئيس – وهو ما يعجز عن توفيره في غياب اتفاق مع المعارضة –، وبالتالي الاكتفاء بنصاب النصف زائداً واحداً، المتعارض مع الدستور، والذي قد يؤدي اعتماده إلى انقسام السلطة، وظهور رئيس للجمهورية وحكومتين. علماً أن ذلك قد يشكل مدخلاً لحرب أهلية طاحنة. وبالطبع، فإن هذا الموقف من جانب واشنطن لا يتحرك في الفراغ، بل هو يعتمد على وجود قوى سياسية مؤثرة داخل حركة 14 آذار تتبنى الموقف المشار إليه، وسبق أن عبرت عن رفضها القاطع لمبادرة رئيس المجلس النيابي، نبيه بري، التي كان قد أعلن عنها في 31 آب الماضي، وتقضي بإقرار الجميع بنصاب الثلثين لجلسة الاقتراع، وبانتخاب رئيس توافقي يرضى عنه طرفا المعارضة والموالاة في الوقت ذاته. والأهم بين هذه القوى حزب «القوات اللبنانية»، برئاسة سمير جعجع، وكتلة «اللقاء الديمقراطي» ومن ضمنها الحزب التقدمي الاشتراكي بقيادة وليد جنبلاط. وهما يراهنان في موقفهما القصوي هذا على ما يجري الحديث عنه بقوة في الفترة الأخيرة من احتمال نشوب حرب إقليمية دولية تستهدف فيها الولايات المتحدة وإسرائيل كلاً من إيران وحليفيها سوريا وحزب الله، في الأشهر القليلة القادمة، انطلاقاً بشكل خاص من برنامج إيران لتخصيب الأورانيوم واتهامها بالتحضير لإنتاج السلاح النووي. وهي حرب يعتقدان أنها ستؤدي إلى هزيمة المعسكر الأخير. بالمقابل، فإن الطرف الأهم في تحالف 14 آذار، المتمثل في تيار المستقبل بقيادة سعد الدين الحريري، وإن كان غير بعيد في مشاعره وخياراته العميقة عن حليفيه، الأكثر تطرفاً، فهو مضطر لأن يأخذ بالحسبان مواقف الحكومة السعودية، التي ينشَدُّ إليها بالولاء ويحظى منها بالدعم الأساسي، ولا سيما أن الملك السعودي، عبدالله بن عبد العزيز، طلب بشكل واضح وصريح إلى رئيس الحكومة اللبنانية، المشكَّك بشرعيتها، فؤاد السنيورة، خلال زيارة هذا الأخير للمملكة، في أيلول الماضي، التجاوب مع مبادرة رئيس المجلس النيابي اللبناني، وتشجيع التوافق على رئيس جديد للجمهورية. وهو أمر مردُّه إلى معرفة الجناح الأقل التحاقاً بالمخططات الأميركية داخل العائلة السعودية، والذي يمثله الملك – بمقابل الجناح الذي يقوده ولي العهد ولا سيما ابنه بندر بن سلطان، الملتحق كلياً بتلك المخططات – بحقيقة المنعطف الذي يقف عنده لبنان، وبأن انفجار الوضع المحتمل، في الظروف الراهنة بوجه أخص، قد تكون له ارتدادات سلبية كبرى على كامل المنطقة، ومن ضمنها المملكة بالذات. في كل حال، إذا كان وضع البلد ككل يقف الآن، بالتالي، عند منعطف بهذه الخطورة، فإن القوى التي تقف في وجه المشروع الأميركي، وفي الوقت عينه بمواجهة الأدوات المحلية لهذا المشروع ممن لا يجد بعضهم غضاضة في إشهار كونهم «في القلب منه»، كما اعترف بذلك قبل أسابيع قليلة السيد وليد جنبلاط، هذه القوى تمتلك إلى الآن أسلحة كافية للتصدي بنجاح، سواء للمشروع المشار إليه أو لتلك الأدوات. بيد أن نجاح هذا التصدي مشروط بمعرفتها كيف تستخدم تلك الأسلحة، ومن ضمنها الأسلحة القانونية بوجه أخص، وذلك بكامل طاقتها، ومن دون تقديم تنازلات جدية، بهذه الذريعة أو تلك، أو الوقوع في فخ المناورات الدولية والإقليمية الكثيرة التي يتم اللجوء إليها منذ مدة، وتتكثف الآن، تحت عباءة المبادرة الفرنسية المغطاة أميركياً، والمنسَّقة مع الكرسي الرسولي، على ما يبدو، كما يدل على ذلك الدور المتضخم المعطى في الوقت الراهن للبطريرك الماروني في تقرير مصير الرئاسة الأولى.
دور بكركي وخدعة التسمية
لقد كان بين ما أنتجته الحرب اللبنانية الطويلة في الربع الأخير من القرن الماضي – بعد أن كان صعود النضال الوطني والاجتماعي الكبير الذي سبقها قد طرح على جدول الأعمال مسألة علمنة الدولة والمجتمع، ولو تدريجياً – تعميق العصبية الطائفية إلى حدود مَرَضية، وتعزيز البنية المذهبية للبلد ونظامه السياسي. وهو الأمر الذي عبَّر عن نفسه بامتياز ليس فقط في اتفاق الطائف بل أيضاً وبوجه أخص في طريقة وضع هذا الاتفاق موضع التطبيق. وقد كان من تجليات هذا الواقع تراجع مفهوم الدولة بصورة ذريعة لصالح تصور انقسامي وتقسيمي صارخ بات يعبر عن نفسه، على الأقل عملياً، في تحول الرئاسات الثلاث، إلى هذا الحد أو ذاك، إلى مواقع يحدد من يجب أن يتسلمها الوزن المذهبي الذي يتمتع به المرشح إلى كلٍّ منها أو، على الأقل، توافق القوى الأكثر فعالية في مذهب هذا الأخير. وهو ما بدا فاقعاً في الحقبة الأخيرة على صعيد الرئاستين الثانية والثالثة، ويتم الآن تجسيده بامتياز على صعيد الرئاسة الأولى، ولا سيما عن طريق الدور الذي يُعطى حالياً لبكركي والبطريرك صفير. وهو دور كان قد زكّاه طويلاً رئيس المجلس النيابي اللبناني، نبيه بري، وعلى امتداد السنتين الأخيرتين، بترداده لازمة باتت مشهورة، مفادها أنه، أي السيد بري، «وراء البطريرك»، ويلتزم بما يراه مناسباً. وهي لازمة يعمل الفرنسيون، في الوقت الراهن، على توظيفها بامتياز، وكان آخر أشكال ذلك مبادرة وزير خارجيتهم، كوشنير – الذي تتكرر زياراته للبنان، ولا سيما زيارات موفديه، كتعبير عن اهتمام حكومته الشديد بما يمكن التوصل إليه من حلول لمشكلة رئاسة الجمهورية اللبنانية الثانية في هذا الطور من تعمق مأزقها – إلى الضغط على البطريرك الماروني لتسمية عدد من المرشحين الذين يعتبرهم مقبولين مسيحياً (المقصود مارونياً بوجه أخص)، بحيث يتم اختيار أحدهم للموقع الأعلى في البلد. وإذا كان البطريرك تمنَّع طويلاً عن القبول بالتسمية هذه، فقد كان الضغط من الشدة بحيث يقال الآن إنه وافق أخيراً على ما طلب منه، على أن يتسلم الموفد الفرنسي جان كلود كوسران هذه الأسماء منه عاجلاً، وينقلها إلى الثنائي بري- سعد الحريري، لتقديم أحدها أو أكثر إلى المجلس النيابي في جلسة الانتخاب القادمة المحدَّدة في 21 تشرين الثاني الجاري. وبالطبع لا بد من النظر إلى الدور المشار إليه أعلاه من زاويتين أساسيتين: 1. كونه دليلاً فاقعاً على الانحطاط الذي وصل إليه الواقع السياسي اللبناني، المتمثل في مدى تعمق المسألة الطائفية والوزن الذي بات يُعطى للمراجع الروحية في تحديد مصير بلد يقف الآن في مهبِّ عواصف عاتية ليس معروفاً إلى أين يمكن أن تدفع به في الأسابيع والأشهر القادمة. 2. كونه لن يؤدي، على الأرجح، إلى الإسهام بشكل إيجابي في إنتاج ما تتم تسميته بالحل التوافقي. على العكس، فهو مطلوب فقط لأجل تمرير خدعة حقيقية على الأطراف المحلية المواجهة للمشروع الأميركي، الذي يريد المجيء برئيس يلتزم بالتنفيذ الكامل للقرارين الدوليين 1559 و1701، وبصورة أساسية بند نزع سلاح حزب الله (والسلاح الفلسطيني في الوقت عينه)، وذلك عن طريق دفعها إلى تأمين النصاب الدستوري لموعد 21 الجاري، أو أي موعد آخر يليه، بما يُسهِّل عملياً الحصول على هذا الغطاء والمجيء بالرئيس المطلوب أميركياً. وفي حال رفضها تحميلها مسؤولية العواقب التي قد تلي ذلك، والتي ستتلازم سواء مع انتخاب رئيس بالنصف زائداً واحداً، أو اعتبار حكومة السنيورة الحالية تقوم مقام الرئاسة الأولى حتى المجيء برئيس جديد.
مرة أخرى مسألة النصاب
وإنه لمن دواعي الأسف أن يكون السائد تقريباً في فهم القائلين بضرورة الالتزام بنصاب الثلثين من أعضاء المجلس النيابي أن هذا النصاب إلزامي فقط في الدورة الأولى للانتخابات، علماً بأنه يستفاد من روح الدستور اللبناني، والقواعد الدستورية المعمول بها، أنه إلزامي أيضاً في كل دورات الانتخاب، كما يمكن أن نفهم بوضوح من كتابات أحد أهم المفكرين الدستوريين اللبنانيين، الذي سبق أن استشهدنا به في مطلع هذا المقال. ففي كتاب الدكتور إدمون رباط، المذكور أعلاه، انطلق من واقع أن المادة 75 من الدستور تنص بصراحة على أن «المجلس الملتئم لانتخاب رئيس الجمهورية يعتبر هيئة انتخابية لا هيئة اشتراعية...»، ليقول التالي: «يَنْتُج من ذلك أنه في هذا المجال، المستقل بشكل أساسي، حيث تُمارَس إحدى الصَّلاحيات المتعددة للمجلس النيابي، وفي حين كان أمكن الدستور، على غرار دساتير أجنبية أخرى، أن يولي هذه المهمة لهيئات دستورية أخرى، فإن قاعدة النصاب لا يمكن استخلاصها من الخط الذي ترسمه المادة 34، المعدة لتنظيم عمل السلطة التشريعية، ويجب ضمن هذه الشروط تكريسها على أساس أخذ المصلحة العامة بالاعتبار، وإلا يصبح غير قابل للتصور، لا بل خطراً بوجه خاص، أن يكون الخيار الواقع على الرجل الذي ينبغي أن يقود الدولة ناتج الثلثين في الدورة الأولى، والنصف زائداً واحداً في الثانية، من أصوات جمعية ملتئمة في ظل نصاب عادي. (...) إن رئيساً منتخباً، في ظل هامش من الأصوات بهذه الضآلة، قد لا يتمتع إطلاقاً بسلطة مستندة إلى قاعدة برلمانية واسعة كفاية». ويضيف رباط: «بهذا المعنى، فبمناسبة انتخاب الرئيس الياس سركيس، قرر مكتب المجلس ولجنة الإدارة والعدل، في اجتماع مشترك في 5 أيار 1976، أنه لما كانت المادة 49 تشترط حصول المرشح في الدورة الأولى على ثلثي أصوات أعضاء مجلس النواب، فذلك يفترض مسبقاً حضور الثلثين على الأقل من أعضاء المجلس لأجل انعقاد الجلسة ومباشرة التصويت» (ص 305 وص 306). إن ما سميناه «فهماً سائداً» لدى القوى المواجهة للمشروع الأميركي، بخصوص شرط النصاب، وهو فهم يتعارض مع رأي الدكتور رباط، كما رأينا، ويقلص حدود الاستفادة من ذلك الشرط، يجعل منه أشبه بعود الثقاب الذي يستفاد منه مرة واحدة. وإذا كان ذلك يدل على شيء فعلى الخطورة القصوى للتفريط بشكل أو بآخر بهذه الورقة الدستورية الرابحة، ولا سيما عن طريق تأمين هذا النصاب بشكل أو بآخر، وتحت أيٍّ من الذرائع، ومن بينها مناورة التسمية من جانب البطريرك الماروني، وبالتالي الثنائي بري- الحريري! هذا ويجب الاعتراف بأن ثمة وعياً لهذه المسألة، هو ذلك الذي عبر عن نفسه بخطاب الأمين العام لحزب الله قبل أيام، حين اعتبر أن مسألة الرئيس ليست بكافية، وأنه يجب الاتفاق في آن على رزمة من الأمور بينها، إلى هوية الرئيس، مسألة الحكومة التي سيتم تشكيلها بعد انتخابه، والتشكيلات الإدارية التي ستلي ذلك، وبوجه أخص مسألة الموقف من سلاح المقاومة. بمعنى آخر، فعدا إسم الرئيس، ثمة البرنامج الذي سيلتزم به، وتلتزم به معه الحكومة المفترض الإتيان بها.
حول البرنامج ودور اليسار
وفي الواقع، لا بد من الحديث في هذا الجزء الأخير من المقال عن برنامجين: أولاً: برنامج حد أدنى يفترض أن يرتبط به «العهد الجديد»، قبل أن يبصر النور، وفي سياق العملية التي قد تؤدي إلى ولادته، وهي ولادة أكثر من عسيرة. ويتضمن العناوين التالية: 1. الالتزام بحماية سلاح المقاومة، على اعتبار أن هذا السلاح لا غنى عنه، ليس فقط لأجل استكمال تحرير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وقرية الغجر، وتحرير الأسرى، بل طالما بقيت إسرائيل قائمة كدولة عدوانية مدججة بأخطر الأسلحة بما فيها شتى أسلحة الدمار الشامل، مع تطلعاتها إلى دور مسيطر في المنطقة العربية والشرق الأوسط ككل، على مختلف المستويات، العسكرية قبل كل شيء، فضلاً عن الاقتصادية والسياسية. 2. إعادة النظر بدور الجيش وطبيعته، بحيث يصبح الغالب على ذلك إنما هو وظيفته كقوة مسلحة وطنية للتصدي للعدوان الصهيوني؛ مع إعادة تأهيله لأجل هذه المهمة. وفي هذا السياق، رفض الاستمرار في تلقي المساعدات العسكرية، على هزالها، من الجانب الأميركي. ناهيكم عن تحديد موقف علني من الإشاعات حول مسألة قواعد عسكرية أميركية محتملة لاحقاً، نحو الرفض المطلق لهذه القواعد، وأي قواعد أجنبية أخرى. 3. إيلاء اهتمام كبير بالمسألة الاقتصادية والاجتماعية. فإذا كان للمشروع الأميركي برنامجه المتكامل على صعيد استتباع لبنان وتصفية دوره الشعبي المتقدم في مواجهة إسرائيل والهيمنة الأميركية، فعدا أن قوى 14 آذار، بمعظمها، تنخرط في هذا المشروع تماماً، فإن لها مشروعها الداخلي الخاص المتمثل بالمزيد من نهب الثروة المحلية، ومضاعفة الضرائب غير المباشرة، أي التي تطول الفئات الشعبية بشكل خاص. إن إحدى النقاط البرنامجية الأساسية التي يجب أن يُربط بها «العهد الجديد» إنما هي رفض الخصخصة، ووقف الاستدانة، والانخراط في سياسة اجتماعية متقدمة لتحسين ظروف الفئات المسحوقة التي تتزايد بلا انقطاع. 4. العمل على إصدار قانون جديد للانتخابات، في مهلة لا تتجاوز الخمسة أشهر، على أساس التمثيل النسبي غير الطائفي ولبنان دائرة واحدة، مع سائر الإصلاحات التي تجعل منه قانوناً متقدماً يؤمّن أكبر قدر من النزاهة والتمثيل الصحيح، ومن ذلك الكوتا النسائية، وسن الثامنة عشرة لحق الاقتراع، والسقف المتدني للمصاريف الانتخابية. ثانياً: برنامج اليسار وبالطبع، لسنا هنا في معرض طرح لبرنامج متكامل لليسار ليس هذا المقال مجالاً له، بل نحاول استشراف النقاط البرنامجية العريضة التي يمكن أن تنسجم مع الظرف الخاص جداً الذي يعيشه لبنان الآن، ومع دور أساسي ومميز يُفترض أن يضطلع به هذا اليسار (ومن ضمنه بوجه أخص الحزب الشيوعي اللبناني)، إزاء تطورات متسارعة قد تتخذ طابعاً كارثياً أو شبه كارثي في المرحلة القريبة القادمة. والنقاط هذه تتناول في آن معاً البنية السياسية العامة للبلد والمسألتين الاجتماعية والوطنية، علماً بأنها تدمج أيضاً نقاط برنامج الحد الأدنى الواردة أعلاه. 1. في البنية السياسية. إن كل يوم يمر يظهر مدى مواصلة إنتاج البنية الطائفية للصعيد السياسي للبلد شروط الاقتتال والحروب الأهلية، التي تزداد الآن خطورة بتراكبها مع تناقضات مستجدة، على المستوى المذهبي، وهو ما يدفع باتجاه أن يلعب اليسار من الآن وصاعداً دوراً طاغياً في التعبئة لأجل تجاوز هذا الواقع نحو العلمنة الشاملة للدولة، والمجتمع أيضاً. وهو مطلب يتجاوز المسألة الاجتماعية السياسية البحتة إلى التداخل بعمق مع المسألة الوطنية، حيث أن مشروع الانفجارات الطائفية والمذهبية في لبنان (والمنطقة العربية أيضاً) هو مشروع تغذيه وتدفع باتجاهه بقوة، وبصورة داهمة جداً، في سياق المأزق الراهن المتعلق بالاستحقاق الرئاسي، كل من إسرائيل والإدارة الأميركية. ما يجعل النضال لأجل العلمنة يندرج في الوقت نفسه في النضال ضد الهيمنة الإمبريالية. من جهة أخرى، إن الاستعصاء الراهن يكشف مجدداً الدور الطاغي للعامل الخارجي في الحياة السياسية اللبنانية، ولا سيما حين نلاحظ إلى أي حد تصل التبعية للمشروع الأميركي، والارتهان المباشر لدى الجزء الأكبر من أعضاء المجلس النيابي اللبناني بهذا المشروع، وبالتوجيهات المذلَّة للسفير الأميركي الجوَّال...جداً. الأمر الذي يعطي صورة عن المستقبل قاتمة للغاية، ولا سيما إذا بقي إنتاج الرئاسة الأولى من مهمات المجلس المشار إليه. وهو يكشف تالياً مدى حاجة الحالة اللبنانية لنقل عملية إنتاج هذا الموقع إلى المواطن العادي مباشرة. إن مطلب انتخاب الرئيس من القاعدة الشعبية بات مسألة بالغة الأهمية؛ وهو مطلب يجب أن لا يبقى حكراً على قيادات دينية أو طائفية، بل على العكس ينبغي أن تضطلع بالتعبئة لأجله قوى اليسار بشكل أساسي. والنجاح في تحقيق هذا المطلب، حتى وإن طال وقت المخاض به، يؤدي وظائف عدة، ضمن الواقع اللبناني الخاص، في مصلحة الخروج من استعصاآت النظام القائم، ولكن أيضاً في مصلحة التقدم والتغيير. فهو عدا أنه يسحب ورقةهامة من أيدي القوى الخارجية المعادية لشعبنا، ويساعد في إنتاج حظوظ حقيقية لتحويل مؤسسة الرئاسة إلى مؤسسة وطنية، إنما يساعد أيضاً على المزيد من تسيُّس المواطن العادي وتدخله المباشر في الشأن العام وعملية التغيير. 2. في المسألة الاجتماعية. وهنا أيضاً يصبح دور اليسار جوهرياً للغاية في الدفاع عن مستوى معيشة أوسع الفئات الشعبية، ولا سيما عبر الدفاع جدياً، وبصورة دائبة، عن مطلب السلـَّم المتحرك للأجور، بعد أن بات يشهد البلد تدهوراً كبيراً في القوة الشرائية للعملة المحلية في السنوات، ولا سيما الأشهر والأسابيع الأخيرة، في حين يبقى الحد الأدنى للأجور هو نفسه منذ النصف الأول من التسعينيات؛ ولكن أيضاً الدفاع عن القطاع العام المهدد بالبيع بأبخس الأثمان، مع تنظيم أوسع مواجهة لما سمي الورقة الإصلاحية لحكومة السنيورة، المشكّك بشرعيتها، هذه الورقة التي مررت الحكومة المذكورة مجموعة واسعة من القرارات في الأشهر الأخيرة لوضعها موضع التنفيذ، وتصارع الآن لخلق شروط استمرارها في السلطة، سواء عبر استلام صلاحيات الرئاسة الأولى، بعد 24 الشهر الجاري، أوعبر المجيء برئيس يتكفَّل بتسهيل عودة الفريق نفسه الذي تتشكل منه، وذلك لأجل الاستمرار في تطبيق الورقة المشار إليها ونهب البلد حتى نخاعه الشوكي. 3. في المسألة الوطنية وأخيراً، وليس آخراً، لا بد من أن يضطلع هذا اليسار بدور مميز، ليس فقط في إحباط المساعي الأميركية المحمومة لاستخدام الاستحقاق الرئاسي والمعركة المحتدمة حوله ونتائج ذلك المحتملة، ضد المقاومة وسلاحها، بل أيضاً في تصليب هذه المقاومة، عبر تنظيم الانخراط مجدداً في العمل المقاوم، من جانب قاعدة هذا اليسار وجماهيره، ولا سيما مع تزايد احتمالات انفجار حرب إقليمية جديدة يكون لبنان أحد أهدافها. ناهيكم عن تنظيم أوسع تحرك لإحباط كل مشاريع الاقتتال الطائفي والمذهبي. أكثر من ذلك، إن عليه القيام بأنشط تعبئة شعبية، منذ الآن، ضد إنزال أميركي محتمل، في الأسابيع، أو الأشهر القادمة، لمساندة القوى المحلية المتذيلة للإدارة الأميركية، وذلك بدعوى دعم «الشرعية» اللبنانية، هذه اللازمة التي يكررها المسؤولون الأميركيون باستمرار، وأحياناً بصورة يومية. لا بل الاضطلاع أيضاً بدور أساسي، في حال حصول ذلك الإنزال، في العمل العسكري والشعبي المقاوم له.
#كميل_داغر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المحكمة ذات الطابع الدولي، أبعادها ومحاذيرها
-
أفكار حول دور آخر ممكن-رسالة إلى غبطة البطريرك الماروني نصرا
...
-
نحو قرار للجمعية العامة بوقف غير مشروط للنار على أساس آلية -
...
-
لأجل أن ينتصر الدم على السَّيف
-
ورقة للإصلاح أم لتشريع الفساد والظلم الاجتماعي؟
-
سياسة حافة الهاوية وافتقاد يسار ثوري فاعل
-
ماياكوفسكي سيكون حزيناً
-
لئلا تنجح خطة تقسيم العراق وتقزيمه رسالة إلى أصدقاء عراقيين
...
-
لبنان: أزمة وطن وأزمة يسار
-
اغتيال الحريري وإطلاق الجن قراءة هادئة لشهر هائج
-
مقدمة الترجمة العربية ل-النبي المنبوذ-، الجزء الثالث من سيرة
...
-
مقدمة الجزء الأول من الترجمة العربية ل -النبي المسلح- الجزء
...
-
رداً على المجلس الأعلى للثورة الإسلامية أليس من خيار غير الن
...
-
كلنا معنيون بمصير الشعب العراقي
-
حكومة الموت وطائر الفينيق
المزيد.....
-
لا تقللوا من شأنهم أبدا.. ماذا نعلم عن جنود كوريا الشمالية ف
...
-
أكبر جبل جليدي في العالم يتحرك مجددًا.. ما القصة؟
-
روسيا تعتقل شخصا بقضية اغتيال جنرالها المسؤول عن الحماية الإ
...
-
تحديد مواقعها وعدد الضحايا.. مدير المنظمة السورية للطوارئ يك
...
-
-العقيد- و100 يوم من الإبادة الجماعية!
-
محامي بدرية طلبة يعلق على مزاعم تورطها في قتل زوجها
-
زيلينسكي: ليس لدينا لا القوة ولا القدرة على استرجاع دونباس و
...
-
في اليوم العالمي للغة العربية.. ما علاقة لغة الضاد بالذكاء ا
...
-
النرويجي غير بيدرسون.. المبعوث الأممي إلى سوريا
-
الرئيس الكوري الجنوبي المعزول يتخلف عن المثول أمام القضاء
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|