هذا الفتى الذي يتردّد اسمه في نشرات الأخبار ، وبكل اللغات ، لا نعرف في أي زنزانة هو الآن ، لكننا نعرف أنه في فلسطين ، في مكان من فلسطين ، تلك التي ملأت قلبه ، ووجدانه ، وعقله ، حين كان في بداية المراهقة ، وهذا ما دفعه لفعل شيء من أجلها .
سمير القنطار _ وهذه مناسبة لنعرّف به _ عربي ، لبناني ، درزي ، من قرية قريبة من عاليه .
قاد عملية ( جمال عبد الناصر ) عام 79 ، في نهاريا . استشهد معه رفيقان ، وأسر مع رفيق من المجموعة التي تشكّلت من أربعة أفراد ، وكانت العملية بقيادته .
كان هدف العملية أسر بعض ( الإسرائيليين) للمساومة عليهم ، لتحرير عدد من الأسرى الفلسطينيين والعرب من المعتقلات ( الإسرائيلية) ، ولكنه أسر بعد أن أصيب ، وكذا رفيقه أحمد الأبرص الذي أفرج عنه في آخر عملية تبادل أبرمتها الجبهة الشعبية / القيادة العامة.
حكم على سمير القنطار ب547 سنة ! .. وهذا يعني أنه عندما يفرج عنه ستكون البشرية في القرن السادس والعشرين ! ...
ترون أن قضاة ( إسرائيل) بهذا الحكم يريدون أن يقنعوا أنفسهم ، وجمهورهم ..أن الكيان الصهيوني سيبقى على أرض فلسطين لقرون ، وأن جيش ( الدفاع) سيبقى معربداً أرضاً وجواً وبحراً ..على كل أمة العرب !..وأن أمريكا ستمسك بمصير البشرية لألف عام قادمة ، وسترعى الدولة المدللة ، الشرسة ، المسلحة بكل ما يلزم لتدمير الوطن العربي !.
لكن سمير القنطار ، الذي أسر وهو في السادسة عشرة ، أصيب في صدره ، ويعاني من مرض (الربو ) _ ناهيك عن متاعب جسدية أخرى _ لا يشارك قضاة ( إسرائيل) وجنرالاتها رأيهم ، ولذا فقد انكبّ على الدراسة ، ونجح في اجتياز فحص الشهادة الثانوية ، ولم يتوقف عند هذا الحد ، بل أصر على الدراسة الجامعية ، ولولا العراقيل التي توضع في طريقه لحصل على شهادة الدكتوراة في الاقتصاد السياسي .هو في كل حال لم ييأس ، ويملك العزيمة ، والذكاء ، والوقت ليفكّر ، ويكتب ، ويدرس ، ويحلم بفلسطين الحرّة ، وهو الذي نزف على ثراها ، وعاش _ ولو في السجن _ على ترابها سنين أكثر مما عاش في لبنان مسقط رأسه .
معيار حزب الله المعلن في قضية سمير القنطار أنه لبناني ، وبراعة مفاوضي حزب الله مع الوسيط الألماني تجلت في وضعهم شرطاً وهو الإفراج عن ( كل ) الأسرى اللبنانيين في سجون ، ومعتقلات ( إسرائيل) .
أمّا والمفاوضات وصلت إلى ما قبل مرحلة التنفيذ بقليل ، فقد ارتفعت أصوات رسمية في الكيان الصهيوني تعترض على إطلاق سراح سمير القنطار بحجّة أنه سفح دما يهودياً ! .
يتناسى العنصريون أولئك أن الجنود الصهاينة الأسرى ، أو القتلى الذين تريد ( إسرائيل) جثثهم ، أسروا على أرض لبنان ، وأنهم قتلوا عرباً لبنانيين ، إي أن المعايير التي يتحدث عنها العنصريون الصهاينة تخص جنودهم ، وضبّاط مخابراتهم ، وكل أسراهم في كل الأحوال ، ولا تنطبق على غير اليهود ، ولا سيّما العرب !.
كالعادة ، يلجأ الصهاينة للمراوغة ، فهم مثلاً أعلنوا عن قرب إطلاق سراح الأسرى الأردنيين خارج إطار الصفقة مع حزب الله ، لحرمان حزب الله من كسب شعبية زائدة في أوساط الشعب الأردني الذين لم يطلق قادة الكيان الصهيوني سراح أبنائه رغم توقيع اتفاقية وادي عربة ، وكل أعراس السلام من بعد! .
يملأ اسم سمير القنطار نشرات الأخبار ، ولا يتوقف الاهتمام بسمير داخل بيته في جبل لبنان ، أو لدى رفاقه ، أقصد من بقي منهم _ بعضهم استشهد على أرض لبنان ، أثناء معركة بيروت عام 82 ، أو في المنافي التي أعقبت معركة بيروت _ ولكن عند كثيرين لم يعرفوا هذا الفتى ذي الإرادة التي لا تقهر .
قائد حزب الله الشيح حسن نصرالله وفي حفل إفطار رمضاني خاطب أسرتي سمير القنطار _ عميد الأسرى العرب _ وأنور الياسين المحكوم ثلاثين سنة ، وهو من أبطال المقاومة الوطنية اللبنانية ، بأن حزب الله لن يتنازل عن تحريرهما ، وأن الحزب يضعهما قبل أسراه .
اليوم وصلتني رسالة بالبريد الإلكتروني ، من بسّام القنطار شقيق سمير ، وعنوانها : لنشعل شمعة من أجل حريّة سمير القنطار ...
بسّام شاب يقترب من السادسة والعشرين ، مثقف وخطيب مفوّه ، ذو حضور لافت كمتحدث وخطيب رغم حداثة سنّه . ينتمي للحزب التقدمي الاشتراكي ، الحزب الذي أسسه وقاده الراحل الكبير كمال جنبلاط .
عندما قام سمير بعمليته البطولة كان بسّام دون الثانية . وها هو شاب جامعي ، مثقف ، خطيب ، مناضل دؤوب ، وبالتأكيد لسمير تأثير عليه رغم أنه في الأسر ، وأن بسّاماً لم يره ، ولا يتذكّر ملامحه سوى من الصور ، ويتواصل معه عبر الرسائل و..سيرته البطولية .
محاولة قادة الكيان الصهيوني عدم الإفراج عن سمير القنطار ترمي إلى تشويه الانتصار الذي سيحققه الحزب ، والشعبية التي سيضيفها لرصيده بالإفراج عن ( كل ) الأسرى اللبنانيين ، والأسرى المصريين ، والسوريين ، والسودانيين ، والليبيين و..أربعمائة أسير ومعتقل فلسطيني لهم الحق في البقاء على ارض وطنهم ، مع عدم نسيان الإفراج عن الأسرى الأردنيين الذي لن يأتي مصادفةً ، وكرم مفاجيء .
بدون سمير القنطار ستكون عملية التبادل مثلومة ، وناقصة ، وسيتم التقليل من انتصار حزب الله ، إذ سيبدو الحزب كما لو أنه خضع لشروط العدو .
أمّا بتحرير سمير القنطار فسيحقق الحزب ضربة كبيرة ، عملية كبيرة ، مع التذكير بأن العدو خضع من قبل ، رغم كل محاولات التملص والمماطلة ، وأفرج عن مقاتلين أسروا وهم جرحى وعلى ارض المعركة ، في معارك قتل فيها جنود وغير جنود !...
جزء غير قليل من (معضلة) سمير القنطار يندرج في إطار اللعبة السياسية الداخلية في الكيان الصهيوني ، ومقولة المعايير ، وقداسة الدم اليهودي ، تتهاوى عندما يواجه المفاوض ( الإسرائيلي) بمفاوض صلب ، يعرف أساليب عدونا وخبثه ومراوغته ، و..يعرف كيف يتصرف بالأوراق التي في يده ، وحزب الله في يده عقيد مخابرات وجنود قتلى ، أو أحياء ، وعدم عودة هؤلاء لذويهم يفجّر مشكلة داخلية .
سمير القنطار ، الفتى العربي اللبناني ، المعجب ببطل الثورة السورية الكبرى سلطان باشا الأطرش ، والمناضل الكبير المفكّر كمال جنبلاط ، والذي بات وهو يتنقل بين السجون ، والمعتقلات في فلسطين المحتلة ، واحداً من أشهر ( أبناء فلسطين) ، ولذا لم يكن غريباً أن تتبناه أمهات فلسطينيات في مقدمتهن أم جبر وشاح التي حرصت دائماً على زيارته تماماً كما كانت تزور ابنها ، رغم تقدمها في العمر ، ومتاعبها الصحيّة ، والتي في حال تعثّرها في الوصول إلى معتقل نفحة كانت تنتدب غيرها لزيارته .
سمير القنطار اسم جدير بكل هذا الحضور ، هو الفتى العربي ( المنديلاوي ) _ نسبة إلى مانديلا العظيم _ الذي يفيض نور حضوره من عتمة الزنزانة ، ولا تعوّقه الرصاصة المغروسة بجوار رئته عن أن يكون في مقدمة المضربين عن الطعام ، والمحرضين على التشبث بالكرامة في مواجهة الجلادين الصهاينة ...
هناك ، في زنزانة ما ، في سجن ( نفحة) أو غيره _ لا أعرف إن كانوا قد نقلوه إلى سجن آخر _ فتى عربي لبناني اسمه سمير القنطار . اسمه يضيء نشرات الأخبار ويتحول إلى قضية . فتى جدير بالحريّة رغم أنوف سجّانيه . أرجوكم أن تشعلوا الشموع أمام خارطة فلسطين ، وتضعوا أصابعكم على أي مكان منها ، مدينة أو قرية ، و..تهمسوا : يا سمير القنطار ، أيها العربي الشجاع نحن معك ، نعاهدك أن ترى شمس لبنان ، وتملأ رئتيك بهوائه ، أنت الذي أعطى لفلسطين دمه وشبابه ...