هل انقلب الرأي العام الأوروبي على الذين كانوا يسلبونه رأيه من حيث يدري أو لا يدري ؟
هل يعتبر استطلاع الرأي الأخير الذي أجراه الاتحاد الأوروبي بمثابة المسمار الأخير في نعش الهيمنة الاسرائيلية على الاعلام والتفكير والعقول والضمائر في أوروبا ؟
وهل يمكننا القول أن الأنتفاضة الفلسطينية المعمدة بالتضحيات قد أثمرت ونجحت في شطب التفوق الاسرائيلي اعلاميا ؟
وهل الجدار العازل الذي يراد منه عزل الشعب الفلسطيني في غيتووات وكانتونات وسجون كبيرة مغلقة سيكون طلقة الرحمة على زيف الديمقراطية الصهيونية ؟
كل الاحتمالات ممكنة وكل الأشياء واردة وقد تكون معظم تلك التساؤلات طبيعية، خاصة في ظل حالة التراجع القوي التي تشهدها السمعة الصهيونية في الغرب والشرق والشمال والجنوب، وفي كل بقاع العالم، لكن باستثناء بعض الحكام من موظفي الإدارة الأمريكية.
كل تلك الاحتمالات صحيحة ويمكن اعتبارها نتيجة طبيعية للانتصار الفلسطيني الأهم في ساحة الصراع مع الصهيونية العالمية، الممتدة على مدى هذا العالم الممتد بدوره من محارق أوشفيتس في بولندا حتى مذابح جنين و رفح وحي صبرا ومن قبلها صبرا وشاتيلا وقانا وكفر قاسم ودير ياسين وقبية في فلسطين المحتلة وجاراتها من بلاد العرب .
لقد أنتصر العقل على الغيب والجهل ، وأنتصر المنطق على اللا منطق في حرب الحق مع الباطل ، وأنتصر الحجر الفلسطيني المنقول بخبر والمصور عبر الأثير على الأباتشي والفانتوم والفيتو الأمريكي، وهزم قوة اللوبي اليهودي في العالم الكبير الذي أصبح بفضل التقنية الجديدة ولغة الكاميرا والصورة والأنترنت والسييتاليت صغيرا جدا ...
لقد أظهرت سياسة اسرائيل العنصرية الاستعلائية، التي بنيت على اجتثات الضحية واستصالها من الأرض ، بحيث تقوم العصابات الاستيطانية بالتنسيق مع الحكومات الصهيونية وجيش الاحتلال بتهويد أراضي فلسطين والاستيلاء على أملاك الشعب الفلسطيني، ومع أن في ذلك مخالفات قانونية وأساسية للقوانين واللوائح الدولية ، إلا أن الصهيونية التي تسيطر على كيان الاحتلال لا تعير القوانين الدولية أي اهتمام، حيث أنها تواصل سياستها العنصرية كما بدأتها منذ وعد بلفور وما قبله ، مع تعديلات جديدة تتماشى والواقع الجديد.
تعتبر كل الأحزاب الإسرائيلية أحزابا صهيونية مشاركة في احتلال أراضي الشعب الفلسطيني وتهجيره وجعل أهل فلسطين لاجئين داخل وخارج بلادهم فلسطين ، وقد أثبت التجربة في هذه المسألة أن يمين ويسار اسرائيل متفقان على عدم الاعتراف بمسئولية اسرائيل عن تشريد ملايين الفلسطينيين ، كما أنهما لا يعترفان بحقوق اللاجئين ولا يقبلانها بتاتا، وأكثر من ذلك يعتبرانها مشكلة عربية لا علاقة لاسرائيل بها.
على هذا الأساس فهم الرأي العام الأوروبي كيف تتعامل العقلية الصهيونية مع الحقوق الفلسطينية وكيف أن اسرائيل التي خرقت كافة القوانين الدولية ومارست أعمالاً إرهابية ووحشية منظمة منذ ولادتها على أنقاض الكيان الفلسطيني سنة 1948،وتكرس هذا الوعي ومعه الفهم والإحساس في عقول أبناء أوروبا بعد سنوات من التضحيات الفلسطينية تكللت بالنضال الفلسطيني المميز في الانتفاضة الحالية، التي تعتبر امتدادا طبيعيا لكل سنوات الكفاح الفلسطيني بكل أنواعه.
لقد صوت المستطلعون في دول الإتحاد الأوروبي بكل حرية، وكانت النتائج مذهلة من حيث النسب ، فقد أكد 59% من الأوروبيين أن اسرائيل تمثل أكبر خطر على السلم العالمي، كما جاءت ولايات بوش الأمريكية في المرتبة الثانية 53% من الأوروبيين قالوا أن أمريكا تشكل ثاني أكبر خطر على السلم والأمن العالميين، هذه النتائج ليست سوى نسخة عن تفكير الشعوب ومواقفها من الدول المارقة التي تشكل عامل لا استقرار في العالم.
هذه النتائج في استطلاعات الرأي تعبر عن تغير كبير في رأي الأوروبيين كما تعني من ضمن ما تعنيه أن أهل أوروبا خرجوا من الوهم الهولوكوستي ، واستطاعوا التغلب على الدعاية الصهيونية التي زرعت في نفوسهم التعاطف مع اسرائيل على أساس أنها دولة اليهود الذين نجوا من المذبحة، وهنا يوجد خطأ كبير وعدم فهم وتعمد في تزوير التاريخ والحقائق، لأن الحركة الصهيونية ليست ممثلا لكل اليهود،وبالذات الذين قتلتهم القوات النازية في أوروبا ومعسكرات الإبادة الجماعية، وهناك من كتب وتحدث عن مشاركة بعض الفصائل الصهيونية في قتل يهود العالم من أجل ترحيلهم الى فلسطين بغية تعزيز الاستيطان الصهيوني هناك ومن أجل احتلال فلسطين وإقامة الكيان الصهيوني على ترابها المغتصب.
المهم أن اهل أوروبا قالوا كلمتهم وكانوا أشجع من حكوماتهم المترددة، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن نسبة الذين صوتوا ضد إسرائيل كانت كبيرة في المعاقل الصهيونية المعروفة، مثل ألمانيا وهولندا وبريطانيا، ومعروف أن مواقف الحكومات الأوروبية لا تتناسب وحجم التعاطف الشعبي الأوروبي مع القضية الفلسطينية، فمواقف الشعوب تدين اسرائيل بشدة وتطالب بمقاطعتها ومحاسبتها وهناك من يريد إخراجها عن القانون وتقديم بعض قادتها لمحاكم جرائم الحرب العالمية ( نذكر قضية تقديم دعوى لمحاكمة شارون وكيف انتهت في بلجيكا)، كل هذا في جهة الشعوب أما على جبهة الحكومات فهناك تراجع أساسي في المواقف، قد يكون بسبب الضعف العربي الواضح والمواقف الرسمية العربية المذلة، وكذلك بسبب التدخلات والضغوط والتهديدات الأمريكية ، وأيضا بفعل اللوبي اليهودي القوي في أمريكا وأوروبا.
قضية استطلاع الرأي الأوروبي تعتبر أهم انتصار فلسطيني وعربي في الساحة الإعلامية العالمية وبالذات الأوروبية، على إسرائيل وأمريكا والصهيونية العالمية منذ قيام كيان إسرائيل في فلسطين، وقد تحقق هذا الانتصار بفضل التضحيات الفلسطينية والعربية ، وليس بفضل الحكومات العربية التي تتسابق على التطبيع مع إسرائيل وعلى تقديم الخدمات للأمريكان.
لقد أثبت نتائج الاستطلاع الأخير أن ملايين الدولارات التي صرفتها حكومة إسرائيل والحركة الصهيونية على خططهما الإعلامية المضادة وخاصة في أوروبا قد أثبت فشلها وسقوطها وعقمها.
إذا كانت قضية الاستطلاع الأوروبي قد قصمت ظهر الصهيونية العالمية وقبل أي شيء الصهيونية الأوروبية ، مما جعلها تقول أن استطلاع الرأي معادٍ للسامية ونتائجه تصب في خدمة هذه المعاداة، مع أن هذا الكلام لم يعد ينطلي على الناس خاصة في أوروبا، فقد ولى زمن الزيف وعصر قتل الناس والقيام بارتداء ثيابهم التي هي ثياب الضحايا، وما تظاهرات ونشاطات التضامن مع الشعب الفلسطيني وضد الجدار العازل الذي يقام على أراضي الفلسطينيين بشكل عنصري سافر ولأسباب عنصرية احتلالية بغيضة، والتي عمت العالم كله وبالذات أوروبا نهاية الأسبوع الفائت ، سوى الصفعة الثانية التي تصفع الصهيونية العالمية خلال أقل من أسبوعين.