كتب السيد مصطفى بكري في جريدة الأسبوع المصرية يوم 10/11/2003 مقالا تحت عنوان (الخطر يتحول إلى واقع والعرب غائبون) استهله بقوله " هذا الكلام ليس فيه أي قدر من المبالغة..إنها معلومات على جانب كبير من الخطورة." والمقال في جملته تحذير للعرب من "التوغل الإسرائيلي في شمال العراق" وقصده في ذلك (جنوب كردستان) والنيل من الكرد ومن سمعتهم الوطنية وما أثبتوه من أخلاق عالية بعيدة عن الانتقام والثأر حين استعادتهم سيطرتهم على المدن والأرياف الكردية التي أفرغها البعث فيما مضى منهم وحاول تعريبها بكل ما أوتي من بطش وسلطان ، ورغم كل ما فعله الطاغوت الدموي الرهيب بهذا الشعب من مذابح يندى له جبين التاريخ الإنساني وما انتهكه من حرماتهم وما عمل فيهم من تقتيل وتشريد، فإذا بالكرد يؤكدون على الوحدة الوطنية بعد الإنفصال، وعلى التآخي بدل التناحر وعلى العيش المشترك بدل التنافر القومي...
الكاتب مشهور بعدائه لشعب العراق ودفاعه المستميت حتى الآن عن طاغوت العصر صدام حسين في مداخلاته ومقالاته ومناقشاته، وكأني به كان موظفا لدى دوائر الاستخبارات العراقية الخارجية – قسم الإعلام والدجل، ولكنه زاد في الآونة الأخيرة من هجومه على الكرد والإدارة الكردية لدرجة اتهامهم بالعمل على إقامة "دولة يهودية ثانية في شمال العراق"... وهذه أسطوانة قديمة تعود إلى زمن محاربة البعث المجرم للثورة الكردية في عهد قائدها الخالد مصطفى البارزاني الذي كان البعث يتهمه بأنه "ملا أحمر" وفي نفس الوقت " عميل للصهيونية والامبريالية واسرائيل".. والعالم كله كان يدري بأن الثورة الكردية حتى خيانة وزير الخارجية الأمريكية هنري كيسنجر والشاه الإيراني لها عام 1974- 1975 وبالتالي انهيارها كانت تحمل شعار "الديموقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان العراق" . ثم مضت الأيام وانكشف للناس من كان عميلا للإمبريالية والصهيونية ، إذ لمع نجم صدام حسين في الحرب على إيران كجندي في الخندق الأمامي للولايات المتحدة وحلفائها ضد دولة مسلمة جارة أغلقت السفارة الإسرائلية وفتحت عوضا عنها سفارة فلسطين...
لا بد من القول هنا بأن ما حققه الكرد من إنجاز وطني كبير في جنوب كردستان لم يكن هبة أمريكية بل جاء نتيجة تضحيات دامت عقودا من الزمن وحروب عصابات طبعت كردستان بطابع ثوري خاص وشهد العالم كله بطولات البيشمركه ضد جحافل الجيش العراقي في معارك غير متكافئة واستمرارهم في القتال رغم كل الحملات الشرسة التي أقدم عليها البعث ومنها حملات "الأنفال القذرة" التي طالت حياة مئات الألوف من الكرد ، واستخدم السلاح الكيميائي ضد الشعب العزل كما حدث في وادي باليسان وبهدينان وحلبجة عام 1988... كما أقدم الجيش العراقي على تهجير مئات الألوف وتدمير آلاف القرى الكردية وصب اليانبيع بالإسمنت وجلب العرب من الجنوب العراقي ووسطه وأسكنهم في مساكن الكرد في شريط عريض يمتد من الحدود الإيرانية حتى الحدود السورية ويشمل كل المناطق القريبة من منابع النفط ...وما إلى هنالك من وحشية بولبوتية لا مثيل لها في التاريخ... وصحيح أن الكرد استفادوا منذ حرب الخليج الثانية في عام 1990 بشكل جيد من ضعف النظام العراقي البائد ومن الحصار المفروض عليه والحظر الجوي وسحب الحكومة العراقية لإدارتها من كردستان العراق، فتمكنوا من تحقيق كثير من الانتصارات في مجال إعادة الإعمار وتحسين أحوال الشعب بعد إعادة الملايين منهم من البراري والجبال والمخيمات إلى قراهم ومدنهم ومزارعهم، وبنوا سياستهم على أساس الحرية والديموقراطية بحيث غدت كردستان خلال فترة قصيرة تلفت أنظار العالم، رغم كل التدخلات الجائرة من قبل الجيران في شؤونهم وتحريضهم بعض الفصائل ضد بعضها الآخر بصورة فظة ومكشوفة، ورغم الجفاء الذي حدث بين القوى الأساسية للشعب الكردية لفترة من الزمن تحول إلى حروب جانبية مؤسفة. وحرروا في الحرب الأخيرة مدينتي الموصل وكركوك بسرعة فائقة تعجب لها الامريكان أنفسهم وهم لايمكلون ما يملكه الأمريكان من قوات وتعزيزات وخبرات حديثة، في حين أن العرب وأنصار صدام من أحرار العالم العربي ومنهم مصطفى بكري كانوا غائبين أو نائمين... فجاء هذا التحرير بمثابة "مساعدة" للأمريكان لن ينساها الأمريكان بسرعة في حين وقفت تركيا الحليفة لأمريكا موقفا سلبيا من ذلك.. وهذا سيكون له نتائج سياسية أيضا لايمكن إنكارها أو تجاهلها وستعزز العلاقات الكردية – الأمريكية مستقبلا...
الكرد الذين ضحوا بالكثير من أجل حريتهم لن يقدموا وطنهم هبة أو هدية لاسرائيل أو أمريكا أوغيرهما يا أستاذ مصطفى بكري فمن يمنح وطنه للآخرين ؟ وهل يستخف مصطفى بكري هذا إلى هذه الدرجة بنضال الأمة الكردية وكرامتها؟! وهي الأمة التي اعتبرها المرحوم الدكتور كمال الشناوي " رأس الحربة الإسلامية"، أم أنه يرفض أن تكون للكرد في يوم من الأيام دولة، وهم شعب كبير وبلادهم واسعة وثرواتهم عظيمة...؟؟
يحاول بعض المثقفين من أمثال مصطفى بكري الذين صعقوا لمرأى الكرد وهم يحتلون عدة مقاعد في مجلس الحكم الانتقالي العراقي ولجنة وضع الدستور العراقي وفي الحكومة المؤقتة ومن تلك المراكز الحساسة مركز وزير الخارجية الذي كان على الدوام حكرا على الحلقة الأكثر التصاقا بأذيال الرداء الصدامي القذر والملطخ بالدماء إيقاظ مشاعر العداء للكرد عن طريق ربطهم بالمخططات الاسرائيلية...بعد أن نجحوا في تأليب الرأي العام العربي على الشعب الكردي وقادته .كانوا يدعون قبل الحرب بأن الكرد سينتهزون الفرصة ويعلنون دولتهم وانفصالهم عن العراق.. إلا أن الكرد يتصرفون الآن تصرفا معاكسا إلى درجة أن بعض المثقفين الكرد طالبوا القادة السياسيين لشعبهم مؤخرا بعدم تحويل القضية الكردية إلى قضية عراقية وحذروهم من "تعريبها" والتضحية بالكرد من أجل الوحدة العراقية...بل منهم من وجه الاتهام إلى القيادات الكردية بأنها منهمكة في مشروع إعادة بناء العراق أكثر من القيام بواجبها القومي تجاه الشعب الكردي... وهنا ارتبك الإعلاميون العرب ولابد لهم من إيجاد ثغرة أخرى ينفذون منها لاثارة الإعلام العربي...
هنا يجب الانتباه إلى أن تركيا التي خرجت بلا كعكة من الحفلة تريد دس السموم بين الكرد والعرب انتقاما من قادة الكرد الذين رفضوا وجودها العسكري أو قدومها إلى العراق، أي منعوها من اغتصاب "لواء الموصل" كما اغتصبت من قبل "لواء الاسكندرون" ولقد فصلنا الحديث عن هذا في مقالنا السابق (تركيا من ذئب أغبر إلى ثعلب ماكر) ولانريد العودة إلى ذلك هنا... وهاهم بعض المثقفين العرب يضربون على ذات الوتر الذي تضرب عليه تركيا، الذين لاندري هل أصابهم داء جنون البقر بسبب مايرونه من انتصارات كردية في العراق أم أنهم كانوا دائما هكذا بعيدين عن الوقائع والحقائق التاريخية...
الكرد يصرون على أنهم لايعلمون لاقامة دولة كردية وتركيا تتهمهم بالانفصالية ويقلدها في ذلك مثقفون عرب مع الاسف.. قادة الكرد يذهبون إلى الدول العربية ويؤكدون بأنهم يعملون مع إخوتهم العرب على إعادة إعمار العراق وبناء مؤسساته والمصابون بداء جنون البقر لايزالون يصرون منذ عقود على أن الزعماء الكرد متورطون في مشروع سري لاقامة دولة يهودية "اسرائيل ثانية" بالاتفاق مع أمريكا واسرائيل... وهنا لابد من توضيح مسألة هامة:
معلوم أن اسرائيل الحالية تعود بأصول سكانها إلى يهود غربيين أوربيين ومن روسيا وإلى يهود شرقيين وآخرين أفارقة.. ومن اليهود الشرقيين عشرات الألوف من الكرد اليهود الذي نزحوا إلى فلسطين وبخاصة بعد أن اشتد اضطهاد النظام البعثي لهم في كل من العراق وسوريا.. وهذه حقيقة يجب عدم انكارها فنحن كأكراد نعرف جيدا كيف عانى اليهود على أيدي النظام البعثي وأهينوا وحوصروا في حاراتهم القديمة ومنع السكان الآخرون من التعامل معهم ووضعوا تحت رقابة استخباراتية صارمة إلى درجة لاتطاق بحيث أضطرروا إلى الهروب سرا عبر تركيا وايران إلى اسرائيل .. وأتذكر أنني عشت لمدة أربع سنوات أو أكثر في حارة قديمة وسط مدينة حلب كان يسكنها اليهود ورأيت بعيني مرارا ما يعانونه وكأنهم لم يكونوا مواطنين سوريين، بل وصل الأمر إلى درجة أنه بعد إعدام الجاسوس الإسرائيلي إيلياهوكوهين لم يتجرأ جيراني اليهود على الذهاب إلى حانوت يبيع الجرائد والمجلات ليشتروا مجلة عربية كانت قد نشرت صورا ومقالا عن كوهين مما أحزن والدي الذي لم يكن يهتم بالسياسة أبدا فأرسلني لابتاع لهم تلك المجلة ونصحني بأن لا أذكر يوما لأحد بأنها كانت لجيراننا اليهود، مخافة أن يصيب عائلتنا أذى من جراء ذلك... فاضطهاد اليهود العراقيين والسوريين حقيقة لايحق لمن يعتبر نفسه صحافيا أو كاتبا إنكارها لأسباب تتعلق بموقفه الشخصي حيال اسرائيل أو الصهيونية أو لأسباب دينية فالله تعالى يأمرنا بعدم إنكار الحق والحقيقة...
أفلم يساهم البعث بنفسه بهذه الطريقة في تزايد الهجرة اليهودية إلى اسرائيل؟ أفلا يتحمل مسؤولية تقوية الجيش الاسرائيلي والخزينة الاسرائيلية والمستوطنات الاسرائيلية من خلال طرد وتهجير الآلاف من اليهود من سوريا والعراق؟ وهل كان البعث يتعامل سرا مع مخططات الاستيطان التي يدعي معاداته لها علنا؟؟؟ الجواب عند مصطفى بكري وغيره من أزلام صدام حسين..
لقد هجر العراقين العربي والعجمي آلاف من اليهود الذين يتكلمون الكردية أو العربية ويعتزون بكردستان أو بالعراق ولايزالون في اسرائيل يتشوقون للعودة ، وبقيت قراهم وديارهم لمدة طويلة مهجورة في كردستان.. بل سمعنا ورأينا في مقابلات تلفزيونية أن هؤلاء لايزالون يفتخرون بالزي الكردي في أعراسهم ومناسباتهم ويرقصون الدبكات الكردية ويعلنون انتماءهم الكردستاني ويحتفظون بالأغاني والفلوكلور الكردي حتى الآن.. فإذا أراد هؤلاء العودة إلى عراقهم وكردستانهم فهل نمنعهم ؟ في الوقت الذي نرفض فيه سياسة توسيع وتكثير المستوطنات اليهودية في فلسطين..
إن الكرد لن يمنعوا أكرادا من العودة إلى بلادهم لمجرد أنهم غير مسلمين أو أنهم يفضلون الحياة في العراق على الحياة في اسرائيل التي تشهد كل يوم تفجيرات وسط المدنيين.. أو لأنهم يحبون الحياة في جبالهم التي فارقوها رغما عن أنوفهم؟!!
طبعا العقلية الكردية ليست كعقلية من أصابه جنون البقر، فكردستان كان مجتمعا مفتوحا على كل العقائد والاثنيات .. وهناك حقيقة تاريخية تؤكد بأن كثيرين من العوائل العربية وغير العربية ومنهم اليهود اتخذت لها اللغة الكردية لغة أساسية واندمجت في المجتمع الكردي لأنه مجتمع يتسم بضعف العقلية الشوفينية العنصرية لأبنائها.. ولا أعتقد بأن هناك كردي واحد ، مهما كان متدينا أو قوميا ، يرفض عودة اليهود الكرد إلى أرض آبائهم وأجدادهم .. والذي يعود إلى أرضه له الحق في شراء الأملاك وفتح المتاجر وبناء القصور وفتح البنوك أيضا.. فالحياة الاقتصادية يجب أن تكون مفتوحة للجميع دون استثناء في مجتمع حضاري، بل ذلك أساس لتقدم المجتمعات.. ولا أدري لماذا لايرى مصطفى بكري تغلغل الرأسمال اليهودي في الدول العربية عبر اللافتات الأمريكية ولايرى العلاقات القوية بين بلاده واسرائيل، وكأن العالم العربي خال تماما من التواجد اليهودي سوى الجزء الكردي من العراق... هل نحرق اليهود الكرد أو نزجهم في معسكرات اعتقال إذا ما أثبتوا أنهم كانوا في الاصل من سكان كردستان، أو العراق العجمي، ومنهم عراقيون بغداديون لايستطيع أحد إنكار عراقيتهم وبغداديتهم.. فماذا نقول لهم: إذهبوا إلى فلسطين فتلك هي بلادكم وأرضكم؟!! حسنا ما رأي الفلسطينيين في ذلك وهم يقولون صباح مساء: هؤلاء جاؤوا من هنا وهناك واحتلوا أرضنا...
أما مسألة أن شارون ينفذ مخططا لأسرألة كردستان بالاتفاق مع القادة الأكراد مقابل منحهم "دولة" فهذه أسطوانة البعث المهترئة والصدئة التي لاتصدر سوى صوت نشاز .. قادة الكرد لم يطالبوا بدولة حتى الآن وهم أثبتوا عراقيتهم أكثر من غيرهم، على الرغم من أن ذلك قد يجلب عليهم غضب شعبهم أو يؤدي بهم إلى مهالك ... وشارون محاط بمشاكل لا تعد ولاتحصى .. والكرد ليسوا أتباعا له أو منفذين لمخططاته، بل أقرب الناس إليه زعماء عرب ، من أبناء عمومته الساميين الذين يستقبلون سفراءه بحرارة ويعقدون معه الاتفاقيات ويعملون معه جنبا إلى جنب في مجالات عديدة في السر والعلن.. أفلم يذهب محمد أنور السادات رئيس جمهورية مصر بنفسه إلى اسرائيل ليلقي في الكنيست كلاما عن السلام والتعارف والتعامل؟!
فاتركوا الكرد وشؤونهم يا أبناء مصر العزيزة، التي للكرد فيها ذكريات تاريخية حبيبة، وأنظروا حولكم وفي العالم العربي عسى أن تمنعوا التوغل اليهودي لديكم قبل أن تهاجموا الكرد وتتهموهم بأنهم يعملون من أجل "اقامة دولة اسرائيل ثانية" ...فلا أحد سيتمكن من إعادة صدام حسن وزمرته العميلة المأجورة المنهارة لحكم العراق من جديد ولن يفلح أحد في إثارة فتنة بين العرب والكرد في العراق بعد اليوم. وسؤالي الأخير هو: - أين كان العرب يوم سقطت القنابل عند الفجر على بغداد؟ أكانوا غائبين أم نائمين..؟!