افهم ، لماذا تحرص القيادة السورية على أن تلتقي بمختلف شرائح المجتمع العراقي ، وتستمع إلى اكبر عدد ممكن من الأطراف السياسية ، قبل أن تصوغ مواقفها السياسية من تطورات العراق ، فلقد علمتنا دمشق فن الإصغاء إلى الآخر ، يوم كانت كل العواصم العربية الأخرى لا تصغي إلا إلى الطاغية المعزول ، وترفض الاستماع إلى العراقيين .
وافهم ، كل هذا الخوف من المستقبل الذي تبديه بعد التطورات التي شهدها الجار الجنوبي ـ العراق ـ والتغيير الجذري الذي بدأ يشهده منذ سقوط نظام حزب البعث المنحل .
ولكني ، وبصراحة ، لا أستطيع أن افهم أو استوعب كل هذا التردد ، إلى درجة التخبط ، في السياسة السورية إزاء قضايا العراق .
لقد عودنا الرئيس الراحل حافظ الأسد ، أن نقرأ الحكمة في عناوين سياسته الخارجية ، خاصة فيما يتعلق بالعراق ، فيوم كان الجميع يدعم نظام الديكتاتور صدام حسين ، كان الأسد يسبح عكس التيار بالرغم من كل الضغوط وأحيانا التهديدات التي كان يواجهها ويتلقاها بسبب مواقفه المبدئية الصلبة التي كان يرفض المساومة عليها ، كونه كان يعتبرها من الثوابت التي لا يجوز المساس بها .
ويوم تورط الجميع بدعم وتأييد وتشجيع السياسات التدميرية للنظام البائد ، أو على الأقل التستر عليها وعدم مواجهة الطاغية بالحقائق ، كان الأسد الراحل يتحدث بكل صراحة ووضوح ، مشيرا بإصبعه إلى الخلل الاستراتيجي والخطأ الخطير في العقلية التي كانت تحكم النظام الشمولي في بغداد .
ويوم كانت كل الأنظمة تلاحق العراقيين وتطاردهم وتلقي عليهم القبض ، إما لتسليمهم إلى النظام البائد لإعدامهم ، أو لاعتقالهم وتغييبهم في طوامير السجون والمعتقلات ، كان الأسد يفتح أبواب دمشق الشام على مصراعيها لكل العراقيين ، بغض النظر عن الهوية والقومية والانتماء السياسي والخلفية الفكرية ، فاحتضنت الشام مختلف تيارات حركة المعارضة العراقية ، وفسحت لها المجال لتمارس نشاطها السياسي والإعلامي بكل حرية ضد النظام البائد ، بالإضافة إلى احتضانها للمواطنين العراقيين ممن ضاقت
عليهم الأرض بما رحبت ، ليرموا بأنفسهم على أسد الشام مطمئنين من حمايته .
ويوم كان الجميع يطمع بعطاءات الطاغية صدام حسين المعزول ، ويضعف أمام تهديداته وإغراءاته ، ويسيل لعابه أمام صرره ، كان الأسد يصر على أن يقدم المصلحة العليا على مصالح سورية خاصة ، فرفض كل إغراءات الطاغية ، ولم يقبل عطاياه بالرغم من أن بغداد آنئذ كانت على استعداد لان تقدم إلى دمشق كل ما من شأنه أن يساعدها على استمالتها وإرضائها وخطب ودها وكسب موقفها .
تلك كانت دمشق الأسد الأب ، فما الذي تغير في دمشق الأسد الابن ، الذي ننتظر أن يكون هذا الشبل من ذاك الأسد ، ورث عنه الحكمة السياسية وبعد النظر والدهاء الشامي المتوارث والمعروف ؟ أم أن الشام سلمت ملف السياسة الخارجية إلى من لا ينظر إلى أبعد من انفه ولا يبصر إلا حيث موطئ قدميه ؟ أم تكون قد سلمته إلى عجائز الشام ؟ .
كنا ننتظر من دمشق أن تتميز بموقفها الداعم للعراقيين ، كما علمتنا وكما هو شأنها طوال ربع قرن من الزمن ، أما أن تقف في نهاية الطابور ، وتتخلف عن الركب ، وتتأخر في نصرة اعز جاراتها ، فهذا ما فوجئ به الجميع .
إذا كانت دمشق تتوقع أن توظف مواقفها الايجابية من العراقيين في الفترة الماضية لابتزازهم اليوم ، وتحميلهم أو إملاء عليهم ما تراه هي مناسبا من سياسات ومواقف ، يراها العراقيون لا تصب في مصلحة حاضر ومستقبل بلادهم ، فإنها واهمة بكل تأكيد ، لان حساسية موقف العراقيين وخطورة الموقف ، لا يحتمل المجاملة أو المقايضة فضلا عن الابتزاز ، كما انه لا يحتمل التصرف بالعواطف والأهواء ، انه ظرف حساس وموقف معقد يفرض عليهم أن يتعاملوا بحكمة وتأني بعيدا عن الانفعالات والمجاملات وردود الفعل .
العراقيون ينتظرون من دمشق أن تتصرف بحكمة اكبر وعقلانية أكثر وحرص اشد ، إذ لا يعقل أن تتعامل مثلا مع المواطنين العراقيين وبأسماء ولافتات وعناوين مختلفة ، انطلاقا من حرصها على العراق وشعبه حسب بما تقول ، وترفض في ذات الوقت أن تتعامل مع مجلس الحكم الانتقالي ، الذي يتمتع جل أعضائه بعلاقات أخوية وتاريخية طيبة معها ، خاصة وأنها كانت قد صوتت على جل القرارات الدولية التي صدرت عن مجلس الأمن الدولي منذ سقوط نظام صدام حسين ولحد الآن ، والتي كان من أبرزها القرار الذي اعتبر القوات الاميركية في العراق هي قوات احتلال ، بالإضافة إلى القرار الأخير الذي أيد ودعم تشكيل مجلس الحكم الانتقالي كخطوة باتجاه نقل السيادة والسلطة إلى العراقيين ، ما يعني قبول دمشق بالأمر الواقع ، فلماذا لا تتعامل مع مفردات هذه القرارات بواقعية وايجابية وبذات النهج السياسي ؟
نتمنى أن لا تتعامل سوريا بطريقة تشعر المتابع وكأنها حولت العراق إلى ساحة لتصفية حساباتها مع خصوم تقليديين مفترضين ، أو كأنها تحس بالندم من سقوط النظام المقبور ، أو كأن مصيرها مرتبط بمصير الطاغية المهزوم صدام حسين ، الفار من وجه العدالة لارتكابه جرائم بشعة ضد الإنسانية اقلها المقابر الجماعية والأنفال وحلبجة وحروبه العبثية المدمرة ضد الجيران .
ألا تعلم دمشق ، أن الحريص على سيادة العراق ووحدة أراضيه ، والمستعجل نقل السلطة إلى العراقيين وإنهاء الاحتلال ، عليه أن يتعامل بايجابية اكبر مع المؤسسات العراقية التي أيدتها ودعمتها القرارات الدولية ؟ ، فتبادر مثلا إلى توجيه الدعوة إلى بغداد لحضور اجتماع دول الجوار باعتبارها الجهة المضيفة له ، أولا وقبل أن توجه الدعوة إلى أية عاصمة مجاورة أخرى ، على اعتبار أن بغداد هي صاحبة الشأن وهي المعنية في الاجتماع أولا وقبل أي طرف آخر ، أما أن تتلاعب بالألفاظ وتماطل وتعرقل حضور وزير الخارجية العراقية لهذا الاجتماع ، فهذا ما لم يكن منتظرا أو متوقعا من دمشق ، التي هي اعز عاصمة عربية على قلوب العراقيين بعد بغداد عاصمة بلادهم ، والتي طالما سماها الأستاذ جلال الطالباني ، الرئيس الحالي لمجلس الحكم الانتقالي ، وطني الأول مكرر ،فلماذا كل هذا الجفاء والتجاهل الذي اعتقد انه سيضر بدمشق قبل أن يضر ببغداد ، وسيسئ إلى الشام قبل أن يسئ إلى بلاد الرافدين ؟.
نتمنى على الشام التي عودتنا الحكمة في التصرف والموازنة الدقيقة في اتخاذ المواقف السياسية ، أن تعيد النظر في قراءتها للمشهد العراقي ، بما يخدم دمشق وبغداد في آن واحد ، وبما يساهم في مد يد العون والتمكين للعراقيين للانتقال إلى المرحلة الجديدة ، وعندها ستسمع دمشق من بغداد وشعبها ، كل خير ودعم وتأييد في مواقفها السياسية ، وصمودها الفريد بوجه التهديدات واحتمالات العدوان .
أخيرا ، أتمنى أن تتخذ الشام خطوات أمنية حقيقية لضبط الحدود مع جارها العراق ، لتمنع من تسلل تجار الموت وعصابات العنف والإرهاب إليه ، فالنار التي تشتعل في بغداد ستمتد آثارها المدمرة إلى دمشق ، إن عاجلا أم آجلا ، ولذلك عليها أن تساعد العراقيين على إطفاء السنة النيران في بيوتهم لتؤمن الحماية لبيوت السوريين .
نريد من دمشق ، أن تبادر لاتخاذ الموقف السياسي الحكيم ، لأننا لا نريدها أن تلجأ إلى ذلك تحت الضغط والتهديد ودبلوماسية الهاتف ، إنها بحاجة إلى الحكمة في هذا الوقت الحساس أكثر من أي وقت آخر ، فالعراق على كف عفريت ، بامكان دمشق أن تساعد أهله لتخطي الأزمة بسلام ، فلقد حان الوقت الآن بالنسبة إلى دمشق لتقطف ثمار مواقفها الايجابية والحكيمة أزاء القضية العراقية في الزمن الماضي ، إذ لم نعهدها تفرط بإنجازاتها ، أم ماذا ؟
قليلا من الإصغاء إلى صوت العقل والحكمة ، وكثيرا من رفض الإصغاء إلى بعض الزوار العراقيين ، خاصة الطائفيين منهم ، سيأتي الموقف السوري صائبا وصحيحا ، كما تعودنا عليه طوال السنين .