عايد سعيد السراج
الحوار المتمدن-العدد: 2107 - 2007 / 11 / 22 - 12:16
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
هل تعدد القراءات في القرآن سببت خلافات إشكالية خطيرة لازال المسلمون يعانون منها إلى الآن وذلك من خلال التصورات المختلفة للهجات التي كان كل من العرب يفهم فيها آياته أم ماذا ؟ سوف نرى ذلك , مع عدد القراءات القرآنية المختلفة 0
(00 من العجائب أنك إذا طالعت ما كتبه علماء المسلمين من كتب التفسير وغيرها مما يتعلق بالأمور الدينية رأيتهم في أقوالهم يعقلون ولا يعقلون في آن واحد ومسألة واحدة, تراهم إذا سلكوا طريقاً للبحث والتحقيق يماشون العقل جانباً إلى جنب ما لم يعارضهم شيء غير معقول مما له علاقة بالدين ولو من وجه بعيد 0 وأما إذا عارضهم في طريقهم شيء من ذلك فإنهم عندئذ ٍ يتركون العقل وراءهم ويمشون خلف غير المعقول , والشواهد على ذلك كثيرة في كتبهم فلا حاجة إلى إيرادها 0
وأعجب كتبهم الإتقان لجلال الدين السيوطي صاحب التآليف الكثيرة في كل فن من فنون العلوم الإسلامية , فإنه في كتابه هذا ينقل لك من الأقوال المتناقضة ما يتركك في حيرة لا تدري كيف تخرج منها , وهو عند ذكر هذه الأقوال لم يبد لك رأياً ولم يقل لك قولاً يهديك به إلى ما تريد من نقلها أو يوجهك به إلى جهة تؤديك منها إلى غاية مقصودة0
فمثلاً يتكلم في الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن فيأتيك فيها بنحو أربعين قولاً لا يوافق أحدهما الآخر, ثم يذكر لك أحاديث وأقوالاً يتفن في صحة أسانيدها وثقة رواتها وكلها تقول لك اقرأ القرآن بألفاظ مختلفة من المعاني المتفقة , فإذا كانت الكلمة أقبل فلا بأس أن تقرأ بدلها تعال وهلم وعجل وأسرع , ويقول لك كل شاف / 1063/ كاف ما لم تخلط آية عذاب برحمة أو رحمة بعذاب (1) , ويردف هذا القول بما أخرجه أبو داوود عن أبيّ قلت سميعاً عليماً أو عزيزاً حكيماً ما لم تخلط آية عذاب برحمة أو رحمة بعذاب , وربما أخرجه عن أبي هريرة أنزل القرآن على سبعة أحرف عليماً حكيماً غفوراً رحيماً , وبما عند أحمد أيضاً من حديث ابن عمر أن القرآن كله صواب ما لم تجعل مغفرة عذاباً أو عذاباً مغفرة (2) , ثم يؤيد شجرة الزقوم * طعام الأثيم ) (3) , فقال الرجل : طعام اليتيم , فردها عليه فلم يستقم بها لسانه , فقال له : أتستطيع أن تقول طعام الفاجر ؟ قال : نعم , قال: فافعل , فقرأ : إن شجرة الزقوم طعام الفاجر (4) 0 وهو في كل ذلك يفهمك أن القرآن هم المعنى وأنه يجوز إن لم تقرأه عذاباً والعذاب مغفرة 0 ثم إنه يأتيك بما يناقض هذه الأقوال ويجعلها هباء منثوراً من دون أن ينقضها أو يرفضها فيقول : إن القرآن هو ما نزل جبريل بلفظه , وأن السنة ما نزل جبريل بمعناه , ولذا جاز رواية السنة بالمعنى , لأن جبريل أداها بالمعنى , ولم تجز قراءة القرآن بالمعنى معاني لا يحاط بها كثرة , فلا يقدر أحد أن يأتي بدله بما يشتمل عليه , ويذكر لك قول من قال من العلماء : من قال: إن الصحابة كانوا يقرأون القرآن بالمعنى فقد كذب (5) 0 / 1064 / فيا للعجب ثم يا للعجب 0
وقد سمى السيوطي كتابة هذا بالإتقان وليس هو بالإتقان بل جمع كل ما قيل في القرآن , ببرهان 0 أما نحن فلا نضيع الوقت في التوفيق بين هذه الأقوال المضطربة بل نقول ما قلناه فيما تقدم غير مرة : إنهم كانوا يقرأون القرآن بالمعنى , فكل ما صحّ به المعنى فهو قرآن عندهم , ولا ننكر أن في القراءات ما هو توقيفي , بمعنى أن النبي قرأه فرواه عنه من سمعه من الرواة , ولكن هذا قليل جداً بالنسبة إلى ما قرأه الناس من القراءات الكثيرة التي كانوا يقرأونها بحسب المعنى لا بالتوقيف 0
وقد ذكرنا فيما تقدم عند الكلام على جمع القرآن منا رواه البخاري عن أنس : أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق , فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة , فقال لعثمان : أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى, فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف (1) إلى آخر الحديث0
فلماذا أفزع حذيفة اختلافهم في القراءة لو كانت توقيفاً , ولماذا بادر عثمان إلى استنساخ المصاحف وإرسالهم إلى الأقطار لكي يجمع الناس على قراءة واحدة, وعلامَ كل هذا الخوف إن كانت القراءات كلها توقيفية 0 وقد ذكر صاحب الإتقان نفسه نقلاً عن ابن التين وغيره الفرق بين جمع أبي بكر للقرآن وجمع عثمان , فقال: إن جمع عثمان كان لما كثر لاختلاف في وجوه القراءة حتى قرأوه بلغاتهم على اتساع اللغات , فأدى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعض , فخشي من تفاقم الأمر في ذلك فنسخ / 1065/ تلك الصحف في مصحف واحد مرتباً لسوره واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش محتجاً بأنه نزل بلغتهم (2) 0
فهل من كلام صراحة أكثر من هذه الصراحة الدالة على أنهم كانوا يقرأون لا بتوقيف ولا بتعليم , بل يقرأ كل منهم بلغته فيبدلون الألفاظ ويغيرونها بحسب لغاتهم مع المحافظة على المعنى 0 فعثمان لم يجمع القرآن بل نسخه في مصاحف بلغة قريش وحدها, وأرسل تلك المصاحف إلى الأقطار ليجمع الناس على قراءة واحدة0
على أن الداعي إلى تعدد القراءات واختلافها لم يكن اختلاف اللغات فحسب بل هناك دواع ٍ أخرى دعتهم إلى قراءة القرآن بالمعنى كما سيتضح لك عند ذكر القراءات 0 أفلا يستحي بعد هذا من يقول : " من قال إنهم كانوا يقرأون القرآن بالمعنى فقد كذب " (3) , وهو بكلامه هذا قد كذب على الله والحقيقة والتاريخ 0
وها نحن نذكر ما تيسر من القراءات على اختلاف أنواعها , وكلها شواهد على ما نقول , وقد نظرت فيها فتمكنت من حصرها في الأنواع الآتية :
أنواع القراءات (*)
(1) قراءة بزيادة 0
(2) قراءة بتقديم وتأخير 0
(3) قراءة ناشئة من اختلاف اللغات0
(4) قراءة بتبديل كلمة بأخرى بمعناها0
(5) قراءة بتبديل كلمة بأخرى ليست بمعناها 0 / 1066/
(6) قراءة بإدغام حرف في حرف 0
(7) قراءة بفك الإدغام 0
(8) قراءة المفرد بالجمع 0
(9) قراءة الجمع بالمفرد 0
(10) قراءة بنقص 0
(11) قراءة بتغيير الإعراب 0
(12) قراءة المثبت بالمنفي 0
(13) قراءة الجمع السالم بالمكسر0
(14) قراءة المصغر بالمكبر0
(15) قراءة المكبر بالمصغر0
(16) قراءة المؤنث بالمذكر 0
(17) قراءة بتغيير صيغة الكلمة إلى صيغة أخرى0
غير أننا نبدأ من جميع أنواعها بما يدل دلالة واضحة على أنهم كانوا يقرأون القرآن بالمعنى فنقول:
(1) قال السيوطي في الإتقان وفي فضائل أبي عبيد من طريق عون بن عبدالله : إن ابن مسعود أقرأ رجلاً : ( إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم ) (1) , فقال الرجل: طعام اليتيم, فردها عليه فلم يستقم بها لسانه , فقال له : أتستطيع أن تقول طعام الفاجر ؟ قال : نعم , قال: فافعل (2) , اه 0 لما كان الأثيم هو الفاجر الكثير الآثام وكان الرجل لا يستطيع أن يقول الأثيم , بدلها له ابن مسعود بالفاجر التي هي بمعناها ولم يخل ذلك بكونها من القرآن , غير أن الزمخشري في الكشاف (1) رواها عن أبي الدرداء لا عن ابن مسعود , وقد مر ّ ذكرها آنفاً , ولكنني أشك في أن الرجل / 1067/ كانت في لسانه لثغة لا يستطيع بسببها أن يقول الأثيم فإن اللثغ ( بفتحتين ) المعروف والمسموع من ألسنة اللسُغ ( بضم فسكون) هو أن يتحول اللسان من الثاء إلى السين , ومن الراء إلى الغين, ومن اللام إلى الياء , وأما تحوله من الهمز إلى الياء ومن الثاء إلى التاء فليس بمعروف ولا مسموع وهو مع ذلك غير معقول أيضاً , فغالب ظني أن الرجل محتال في هذه اللثغة وأنه يتعمدها ويتكلفها تكلفاً 0 وسكوت ابن مسعود عنها لا يستلزم كونها طبيعية غير متكلفة لجواز أنه لم يفطن لها , فإن قلتَ : لماذا احتال بتكليف هذه اللثغة ؟ قلتُ : لا أدري ولو كنت ممن رآه وعرفه لجاز لي التظني في كشف مراده منها 0
(2) قال الزمخشري في الكشاف : يروى أن إعرابياً قرأ من سورة الزلزلة (2) قوله : " فمن يعمل مثقال ذرة شراً يره , ومن يعمل مثقال ذرة خيراً يره " بتقديم شراً يره وتأخير خيراً يره , ومعنى الآية واحد لم يتغير بالتقديم والتأخير , فقيل له : قدّمت وأخرت , فقال :
خذا بطن هرش أو قفاها فإنما كلا جانبي هرش لهن طريق (3)
وهرش تثنية في طريق مكة قريبة من الجحفة يرى منها البحر وهي بفتح فسكون مع القصر , ولها طريقان فكل من سلك واحداً منهما أفضى به إلى موضع واحد 0 ويروى أنف هرشي بدل بطن هرشى , والبيت مثل يضرب فيما تيسر الوصول إليه من جهتين 0 وفي معجم البلدان عن أبي جعدة قال : عاتب عمر بن عبد لعزيز رجلاً من قريش كانت أمه أخت عقيل بن علفة , فقال له : / 1068/ قبحك الله ما أشبهت خالك في الجفاء , فبلغ ذلك عقيلاً فجاء حتى دخل على عمر فقال له : ما وجدت لابن عمك شيئاً تعيره به إلا خؤولتي , فقبح الله شركما خالاً 0 وكان صخر بن الجهم العدوي حاضراً وأمه قرشية , فقال: آمين يا أمير المؤمنين قبح الله شركما خالاً , وأنا معكما , فقال عمر : إنك لإعرابي جلف جاف , أما لو تقدمت إليك لأدبتك , والله لا أراك تقرأ من كتاب الله شيئاً , فقال : بل إني لأقرأ, فقال: فاقرأ( إذا زلزلت الأرض زلزالها ) حتى تبلغ إلى آخرها , فقرأها حتى إذا بلغ آخرها قرأ " فمن يعمل مثقال ذرة شراً يره ومن يعمل مثقال ذرة خيراً يره " , فقال له غمر : ألم أقل لك إنك لا تحسن أن تقرأ ؟ فإن الله تعالى قد الخير , وأنت قدمت الشر , فقال عقيل :
خذ أنف هرشى أو قفاها فإنما كلا جانبي هرشى لهن طريق
قال فجعل القوم يضحكون من عجرفته 0
وقيل: هذا الخبر كان بين يعقوب بن سلمة وهو ابن بنت لعقيل وبين عمر بن عبد العزيز , وأنه قال لعمر: بلى والله إني لقارئ الآية وآيات , وقرأ : " إنا بعثنا نوحاً إلى قومه" فقال له عمر : قد أعلمتك أنك لا تحسن ليس هكذا , قال: فكيف ؟ فقال : ( إنا أرسلناه نوحاً إلى قومه ) (1) فقال : ما الفرق بين أرسلنا وبعثنا ؟ وأنشد البيت (2) 0
(3) وفي سورة النمل : ( قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها ) (3) , قال الزمخشري (4) : وقرأ ابن كثير سأقيها بالهمز, قال ووجهه أنه سمع سؤق ( جمع ساق) , فأجرى عليه الواحد 0 ومعنى هذا أنه لما سمع الجمع مهموزاً في بعض اللغات قاس عليه المفرد فقرأ سأقيها 0 وهذا صريح في أن قراءة / 1069/ ابن كثير هذه قرئت بالقياس لا بالتوقيف ولم يحدث بها إلا تغيير في اللفظ دون المعنى 0
(4) وفي سورة البقرة قوله : ( فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته ) (5) , قال الزمخشري (6) : والقراءة في هذه الآية أن تنطق بهمزة ساكنة ( من اؤتمن ) بعد الذال ( من الذي ) أو تثبت الياء ( من الذي) وتحذف الهمزة لالتقاء الساكنين وتنطق بالتاء ( من اؤتمن) هكذا الذي أتمن 0 قال: وعن عاصم أن قرأ الذي أتمن بإدغام الياء قياساً على أتسر في الافتعال من اليسر , فإن الأصل فيه ايتسر 0 وفند الزمخشري قراءة عاصم هذه فقال : ليس هذا بصحيح لأن الياء منقلبة عن الهمزة فهي في حكم الهمزة , واتزر عامي , وكذلك ريا في رؤيا (7) 0 وإيضاحاً لكلام الزمخشري نقول : إن قراءة عاصم هذه تكون أولاً بقلب الهمزة التي هي فاء الفعل في اؤتمن إلى الياء لانكسار ما قبلها فيصبر الفعل هكذا أيتمن فتدغم الياء في التاء فيصير أتمن 0 والزمخشري يقول : إن هذا ليس بصحيح لأن الياء منقلبة من الهمزة فهي في حكم الهمزة , والهمزة لا تدغم في التاء , فلا يجوز قياسها على أتسر 0 وقول الزمخشري : " واتزر عامي " جواب لسؤال مقدر , فكأن قائلاً قال: ما تقول في قولهم : اتزر , فإن الياء فيها منقلبة من همزة لأن الأصل ائتزر فقلبت الهمزة ياء فصارت أيتزر فأدغمت الياء في التاء مع أن أصلها همزة, فأجاب الزمخشري بأن اتزر ليست بفصيحة بل هي عامية وكذلك ريا في رؤيا بقلب الهمزة ياء وإدغامها في الياء) يتبع 0
(1) المصدر نفسه – (2) السيرة الحلبية , 1/ 254 – (3) تاريخ الطبري , 4/ 394 و 398 – (1)الإتقان , 1/ 46 – (2) الإتقان 1/ 47- (3) سورة الدخان , الآيتان , 43- 44 0 –(4) الإتقان , 1/ 37 –(5) الإتقان , 1/ 45 – 50 –(1) الإتقان , 1/ 59 – (2) الإتقان , 1/ 59 – 60 – (3) الإتقان , 1/ 47 – (*)اعتمد المؤلف في هذا الفصل على ما في الكشاف للزمخشري ,والإتقان للسيوطي ؛ وانظر النشر في القراءات العشر لابن الجزري , وإتحاف فضلاء البشر في القراءات لابن البنا , والمصاحف للسجستاني –(1) سورة الدخان , الآيتان : 43- 44- (2) الإتقان , 1/ 47 –(1) الكشاف , تفسير الآيتين , 43 – 44- من سورة الدخان – (2) سورة الزلزلة , الآيتان : 7-8 (3) الكشاف , تفسير سورة الزلزلة –(1) سورة نوح , الآية : 1 –(2) معحم البلدان 0( هرشى) , 5/ 397- 398- (3) سورة النمل , الآية : 44- (4) الكشاف , تفسير الآية 44 من سورة النمل – (5) سورة البقرة , الآية : 283- (6) الكشاف , تفسير الآية 283 من سورة البقرة – (7) الكشاف , تفسير الآية 283- من سورة البقرة 0
* من كتاب الشخصية المحمدية للكاتب العراقي معروف الرصافي 0
#عايد_سعيد_السراج (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟