ينضح الخطاب المعلن للمكتب السياسي للحزب الشيوعي بحماسة شديدة لمقاتلة الاحتلال الاميركي في العراق، ولدعم الشعب الفلسطيني. وتبلغ هذه الحماسة حد الدعوة الى تشكيل <<جبهة مقاومة عربية شاملة ضد الاحتلال الاميركي للمنطقة>>، وصولا الى الرغبة في ارسال متطوعين الى ارضه. وهذه الحماسة مستمرة كما يبدو من مقالة لاحد اعضاء المكتب السياسي في النشرة الداخلية للحزب يدعو فيها الى الانفتاح والحوار مع حزب البعث (العراقي) نظرا لدوره الوطني الكبير في مقاومة الاحتلال الاميركي.
وفي الشأن الفلسطيني، يتكرر الخطاب المؤيد للشعب الفلسطيني وحقه في المقاومة، ولكن لسبب غير مفهوم يبقى هذا الخطاب اقل <<دويا>> مما هو بالنسبة للعراق. ولكنه يرد غالبا في صيغة محددة تركز على <<عدم تخلي لبنان عن دوره في المعركة القومية المشتركة في مواجهة العدو الصهيوني>>، وعدم مغادرة <<خندق المواجهة القومية>>، وعدم الموافقة على اخراج لبنان منه من خلال سعي <<البعض>> لاغلاق بوابة الصراع في الجنوب اللبناني استجابة للضغوط الاميركية.
ولا شك في ان <<المستوى المتقدم والصادق>> لاهتمام بعض اعضاء القيادة الحزبية بالقضية القومية العربية، دفعهم الى انتاج خطاب سياسي داخلي ضد خصومهم التنظيميين يتهمونهم فيه بالتخلي عن المواقف القومية، ومهادنة الاميركيين، والتأثر بالافكار الليبرالية الخطرة على مصالح شعوبنا العربية! ولا تخلو بعض المساجلات الشفهية او المكتوبة، من لهجة اتهامية صريحة او مضمرة مما يعبر عن <<مستوى عال جدا من الصدق والاخلاقية في التعامل الرفاقي>>.
ولا بد من اخذ هذه المواقف على محمل الجد، وبالتالي اعطاء ردود معارضي القيادة الرسمية الحجم الذي تستحقه، من دون مبالغة، خصوصا انه يجب محاكمة الاقوال على اساس الافعال والممارسات، وليس بالاقوال المضادة فقط. فقيادة الحزب الرسمية قد قامت فعليا بالكثير من <<الخطوات العملية>> لوضع دعمها للمقاومة العراقية موضع التنفيذ، وان خطابها لم يكن على الاطلاق من باب المزايدة الاعلامية والمسايرة السياسية فقط! كما ان الموقف من تأييد الشعب الفلسطيني قد وجد طريقه الى الترجمة العملية من خلال مبادرات مستمرة ونشاط سياسي وشعبي داعم للشعب الفلسطيني في فلسطين وفي لبنان باشكال مختلفة، بما في ذلك الضغوط الفعالة التي تمارسها قيادة الحزب لرفع الظلم عن اللاجئين الفلسطينيين في لبنان عندما انتُهكت تكرارا حقوقهم المدنية والانسانية بحجة رفض التوطين، وكذلك عندما بادرت قيادة الحزب مرارا الى اقتراح حل صحيح لقضية المخيمات.
وهذه المبادرات كلها تفند ادعاءات معارضي هذه القيادة بان مواقفها هي من باب الاستهلاك السياسي، وان جوهر موقفها يتمثل في مسايرة الموقف الرسمي السوري اللبناني الموحد ازاء الموضوع، وان وظيفة هذه المواقف الفعلية لا علاقة لها فعليا لا بالعراق ولا بفلسطين، بل لها علاقة بالوضع الداخلي وابعاده الاقليمية، بالاضافة الى علاقتها بالصراع الدخلي في الحزب.
وإذا كان المواطن اللبناني لم يسمع شيئا عن اي من الخطوات العملية او المبادرات الفعلية التي قامت بها قيادة الحزب في الشأنين العراقي والفلسطيني، فهذا يعود الى <<الحصار الاعلامي>> الذي تفرضه وسائل الاعلام اللبنانية على نشاطات الحزب <<الكثيرة جدا>>. وهذا التفسير كاف ومقنع من وجهة نظر القيادة الرسمية، حيث انه لم تدرج العادة في لبنان ان يتقدم <<مواطن عادي>> من قيادة اي حزب او اي زعيم، ليقول له بصراحة: <<انا اتابع ما تقومون به بشكل كاف لكي اعرف انكم لم تقوموا بأي مبادرة او خطوة عملية لتحويل كلامكم الى واقع فعلي!!>>. وهكذا، فإن القيادة مرتاحة وتستطيع الاستمرار بسلوكها نفسه، وهي بصفتها الممسكة ب<<ختم>> الشرعية الحزبية والثورة والنضال ضد الامبريالية، سوف تستمر في وصف خصومها داخل الحزب بالتخاذل وترد بأن اتهاماتهم باطلة، طالما ان الغالبية من الاعضاء الخمسين او الستين في المجلس الوطني المجتمعين داخل قاعة الاجتماع توافق على ذلك (عن اقتناع او مسايرة او قلة اهتمام)، حتى وإن كان أحد خارج قاعة الاجتماع (والاجتماعات المشابهة) لا يصدق كلمة مما يقال، ذلك ان <<سلطة القيادة>> تنبع تحديدا من هذا الفصل بين ما يجري داخل الحزب وما يجري خارجه، وبين ما يجري في اجتماع الهيئات التي يفترض ان تكون قيادية، وما يجري في عموم الحزب.
ويشكل هذا الفصل احدى الركائز الاساسية لتقنية السلطة في المنظومات غير الديموقراطية من النوع الشمولي، وهي تقنية شائعة في الاحزاب ذات الصيغة الستالينية من النمط الثوري، والديني، والقومي... كما هي شائعة في الانظمة والحكومات.
وهكذا، لا تخترق القضايا الكثيرة الخطيرة والمتفجرة التي تجتاح منطقتنا والعالم الحصون المنيعة لهيئات قيادة الحزب. ولذلك وصفة جاهزة صالحة للاستخدام في كل زمان ومكان: <<لا نستطيع مواجهة التحديات او المخاطر الخارجية ما لم نرتب وضع بيتنا الداخلي>>! وبناء على هذه الوصفة السحرية، سوف تعزل القيادة نفسها وتعزل الحزب عن الحياة والمجتمع، و<<تتفرغ>> لمعالجة اوضاعها وامراضها ومشاكلها الداخلية باسرع وقت ممكن، لكي تتفرغ بعد ذلك لمقاتلة الامبريالية والنضال ضد البورجوازية.
اما ترتيب الوضع الداخلي فيتم على اساس معايير داخلية خاصة لا علاقة لها بالمهام التي يزعم التنظيم انه يريد انجازها. وبالتالي لا تجري مناقشة الوضع التنظيمي من منظور خدمته للاهداف السياسية، بل ان مناقشة هذه الاهداف هي امر مؤجل الى ما بعد الانتهاء من الاصلاح الداخلي التنظيمي. ولا يعقد المؤتمر على اساس نقاش سياسي حقيقي وعلى اساس رؤى على قدر من التكامل يناقشها الاعضاء والمندوبون ليرجحوا اتجاها على آخر، ثم يتناقشون في خطط العمل لتنفيذها، ثم يختارون القيادة الامثل لتنفيذها. بل ان العملية كلها مقلوبة، ويكون البعد السياسي هو الغائب الاول عن مناقشات المؤتمر الذي يتحول الى عملية انتخابية بحتة، تجري فيها الاصطفافات على اساس مركّب من <<العصبيات الايديولوجية والمناطقية والشخصية>>. وهذا امر طبيعي جدا لأن الدينامية السياسية مغيبة تماما في الحياة الداخلية للتنظيم، فتملأ العصبيات الفراغ الناجم عن غيابها.
ومن الامثلة على ذلك هذه النقاشات التي تدور منذ ما يقارب الشهرين وعلى امتداد اربعة او خمسة اجتماعات للمجلس الوطني للحزب الشيوعي اللبناني. فكل ما يجري من تطورات سياسية في العالم والمنطقة ولبنان يغيب تماما عن نقاشاته:
فخطاب الرئيس الاميركي بوش الذي يريد توزيع الديموقراطية الاميركية على دول المنطقة لا يستحق الاهتمام رغم عدائنا الشديد للامبريالية الاميركية والتي يكفينا التعبير عن كرهنا لها شر قتالها فعلا!
وتطورات العراق المتسارعة لا تستحق متابعة طالما ان القيادة اعلنت موقفها التاريخي الثابت الذي اثبتت التطورات صحته، منذ اشهر!
وفي لبنان القضايا كثيرة الى درجة انها تتحول الى تفاصيل غير هامة طالما ان القيادة اصدرت حكمها المبرم بأن <<الطائفية هي علة العلل في لبنان، وان علاج كل المشاكل يكمن في القضاء على الطائفية>>، وبالتالي لا داعي لان نتلهى بالتفاصيل!
لذلك، تتحول مناقشات المجلس الوطني ومعها عملية التحضير للمؤتمر الى حلبة للصراع العقيم الذي لا هدف له سوى اعادة انتاج ازمة الحزب في صيغة اكثر خطورة قد تؤدي الى نتائج خطيرة جدا على وضع الحزب وعلى تنظيمه وعلى دوره.
فالاجتماعات عبارة عن <<منازلات ومبارزات>> محكومة مسبقا باستبعاد الضربة القاضية، وحيث <<الفوز>> فيها لمن يسجل العدد الاكبر من النقاط، مع العلم بأن الحكم في هذه المبارزة هو احد اللاعبين الاساسيين في الوقت نفسه. فالاجتماعات الاخيرة للمجلس الوطني للحزب الشيوعي اللبناني، تبحث في التحضيرات الانتخابية للمؤتمر الوطني التاسع من دون غيره من القضايا، وفي عزلة تامة عن كل ما يجري في العالم وفي البلاد.
فهو يبحث مرارا وتكرارا اعادة النظر في قرارات الهيئة الدستورية برغم انه لا صلاحية له في مناقشة او تغيير هذه القرارات، ولكن بما ان لهذه القرارات تأثير على انتخاب المندوبين، فهناك داخل القيادة من يريد تغييرها ولو كان ثمن ذلك القضاء على الهيئة الدستورية نفسها. وليس هذا السلوك مستغربا، ففي التقليد الشمولي فكرة الشرعية الثورية تبرر انتهاك الجانب المؤسسي الشكلي في العملية الاجرائية للديموقراطية باعتبار ذلك مفهوما ليبراليا وطبقيا لا يلزم الثوري باحترامه بالضرورة!
كذلك يوافق المجلس الوطني قبل شهر تقريبا من موعد انعقاد المؤتمر على تعديل لائحة اجراءات عقد المؤتمر في مواد لها تأثير مباشر على الانتخابات ايضا، ولا يرف له جفن عندما يقال له ان لا صلاحية له ولا حق في تعديل ذلك من حيث المضمون لانه مخالف للنظام الداخلي، ومن حيث التوقيت لانه يأتي في ما بعد الاعلان عن المؤتمر وبعد انجاز معظم اعماله.
ويناقش المجلس الوطني ايضا ويقر تقريرا تنظيميا يعجز اللسان عن وصف <<عمقه وموضوعيته>>!! والعجز اشد عن وصف كيف انه تعاد كتابته كما كان بعد ان وجهت له في الاجتماعات السابقة انتقادات جوهرية فقامت اللجنة المكلفة باعادة صياغته كما كان، ان لم نقل اكثر انحيازا واكثر سطحية مما كان عليه في صيغته الاولى!! وهذا الطبع لا يحصل للمرة الاولى، بل ثمة سوابق كثيرة بما فيها اعداد مشروع وثيقة المؤتمر التاسع نفسها، كما يوضح احد اعضاء المكتب السياسي في وثيقة منشورة تناقش وثيقة القيادة الرسمية.
اما الهدف الاساسي لهذا التقرير التنظيمي فهو انتاج نص يتضمن ادانة شاملة للقيادات السابقة المتعاقبة على الحزب الشيوعي، واكمال حلقة الانقلاب الشامل على عملية التجديد الحزبي التي بدأت في المؤتمر السادس للحزب. فما يجري في الحزب الشيوعي اللبناني اليوم، هو في جانب منه تحالف المعارضين لخط الحزب في المؤتمرين السادس والسابع، من موقع <<اليمين>> ومن موقع <<اليسار الاصولي>>، مع مجموعة من العاملين في جهاز الادارة الحزبية، للانقلاب على المؤتمرين السادس والسابع. وهي عملية انقلابية بامتياز مطعمة ببعض الانتقامات من الوضعية الشخصية السابقة لدى بعض اعضاء القيادة، ومن شأنها ان تعيد الحزب الى ما قبل الانعطاف الكبير الذي مثله المؤتمر الثاني للحزب عام 1968 على صعيد المنهج الفكري والسياسي، وعلى صعيد الممارسة السياسية والتنظيم.
انها ببساطة مفاعيل الانهيار العام الذي لحق بالجميع خلال سنوات الحرب، والتي ليس هناك ما يدعو الى الاعتقاد ان الحزب الشيوعي قد نجا منها.