أخيرا خرج علينا بوق الواشنطن بوست توماس فريدمان من حمام السونا بهذا الاكتشاف المتأخر نصف قرن والذي يعرفه أي وعل أو حصان أو يعسوب ليقول للرئيس الامريكي أنك أخطأت في احترام مشاعر الكبرياء عند العرب والمسلمين، لأن( الانسان المهان يبحث عن كل الوسائل لاستعادة كرامته!).
هكذا حرفيا قالها الراهب فريدمان في موعظة جديدة ليست على جبل كما هي موعظة السيد المسيح عليه ألف سلام، بل في قاعدة عسكرية نووية، أو في مشرب ليلي على انغام التانغو الأخير في بغداد.
وانا حقا من المعجبين بفريدمان لدرجة تصورت أن ما يكتبه احيانا مسروقا مني ليس لقيمته الفكرية العالية، فالرجل صحافي وليس مفكرا، وهو محلل يومي اخباري وليس فيلسوفا كبيرا مثل شومسكي، بل لشجاعته الفائقة في أن يتراجع حالا عن تصورات وتحليلات سابقه له ولمقدرته أيضا في نقد أكبر وأخطر المؤسسات الأمريكية وهو في قلبها دون ان يتهم بالحنين للزمن المكارثي، ولأن العقل الأمريكي والمزاج العام هناك خال من لوثة الوصم والهستيريا وعقد القبيلة والفاشية، وهو في هذه الصفة، صفة المواجهة اليومية الدائمة مع السلطة والمجتمع والمؤسسات، يشبه إلى حد ما، مع الفارق طبعا، الروائي الألماني غونتر غراس الذي يعتبر صداعا يوميا في الحياة السياسية الألمانية لأن هذا الولد المشاكس علامة عافية وتطور وحيوية في المجتمع الألماني.
توماس فريدمان يكتشف اذن لأول مرة ان كبرياء العربي المهان يدفعه للبحث عن وسائل مشروعة أو غير مشروعة لاستعادة سلطته على شعوره وكرامته وهيبته على ذاته.
شكرا توماس فريدمان على هذا الاكتشاف وأتمنى من كل قلبي أن يسمع رئيسك هذه النصيحة وهذه المرة منك من باب خذ الحكمة ولو من افواه المجانين، وأن يجنب الشبيبة الأمريكية الفقيرة هذا الموت الرخيص خاصة جنود البطاقة الخضراء( كرين كارد) الذين لم يحصلوا على الجنسية الأمريكية إلا بعد الخدمة العسكرية أو بعد الموت وهم من اصول لاتينية فقيرة وعددهم اكثر من 50 الف، وكذلك يجنب شعوب العالم هذا الدمار والرعب وشعور القلق بسبب مخاطر وهمية وحقيقية قادمة، فالصراع اليوم في العراق يدور بين جنود أمريكيين فقراء ومعدمين وبين شعب فقير ومحطم بأدوات عسكرية وسياسية إمبريالية.
إنه نوع رث من أنواع الصراع الطبقي المغلف بشعارات الحرية.
ويبدو أن الرئيس الأمريكي بدأ يتعافى حقا هذه الأيام من لوثة المحراب الذي حبس فيه طوال السنوات الأخيرة حتى تصور أنه مكلف بمهمة من الرب. من لا يصدق هذه اللوثة عليه قراءة خطابه الأخير الذي ختمه بعبارة: لينصركم الرب!
وهي كلمة كان الأباطرة والملوك الآلهة والأنبياء الكذبة يودعون فيها جيوشهم الزاحفة نحو العالم من أجل تنفيذ رسالة رب محارب.
أول علامات تعافي هذا الرئيس هو النقد العلني المفتوح الذي وجهه لمجلس الحكم في العراق ووصفه بالحرف الواحد( أن هذا المجلس مشغول بمصالحه الشخصية!).
ومرة أخرى، سيادة الرئيس، نقول لك أن هذا الاختراع والاكتشاف لا يعادله في القيمة والعبقرية إلا اكتشاف السيد توماس فريدمان بوق الواشنطن بوست.
ولو كنت عراقيا ، حضرة الرئيس، لقالوا عنك أنك تشعر بالحنين إلى زمن الدكتاتور، وهي صيغة تملص جديدة من حفدة يهودا الاسخريوطي.
وهذا الاكتشاف الذي تطلب كل هذه المعاناة والدماء والهدر في الأموال والضحايا تعرفه أية ربة بيت عراقية تذهب كل يوم إلى السوق وتشاهد المشهد العام وتعود خائفة مرتعشة خالية الوفاض، وتعرفه فلاحة جنوبية أو شمالية من سهول البصرة وحتى سهل نوروز حين تغسل ثوبها على الترعة وتنتظر تحت الشمس أن ينشف بعد أن يتحول جلدها إلى مدبغة سمراء بلون الفحم.
لكن لماذا لم يستيقظ توماس فريدمان قبل هذه الأيام، ولماذا لم يفهم الرئيس هذه الحقيقة الساذجة والبدائية في كون الذئب لا يحتاج إلى تجربة وفاء مع عنزة سمينة مثل خزائن العراق؟!
من المؤكد ان فريدمان ورئيسه يشعران بأن أجل هذا المجلس قد قرب وانه انتهى من الناحية العملية كصيغة سياسية معقولة ليس لأن المجلس نفسه يعاني من خلل عضوي بنيوي فحسب، بل لأن سلطة الاحتلال تعمدت فشل هذه الصيغة حتى في نسختها الهزيلة.
وبات من الواضح للجميع، سلطة احتلال وسلطة مجلس، أن المراهنة هذه الأيام هي على كيفية سرقة أكبر قدر ممكن من الأموال قبل الهرب من العراق يوما لن يطول وقبل فوات الأوان والمنافسة قائمة اليوم بتعبير الرئيس نفسه( على المصالح الشخصية!) فقط، أي أن هؤلاء تركوا العراق وشعبه وانشغلوا بالسرقة!
ومرة أخرى لماذا استيقظ فريدمان هذه الأيام ومعه هذا الرئيس الممنوع من القاء خطاب مرتجل منعا باتا لأنه لا يعرف كيف يتكلم غير اللغة الانكليزية الشارعية؟!
إنه الوحل العراقي!
نعم انه الوحل الرائب الثخين اللزج الذي لا فكاك منه ولا فرار إلا بحل عقلاني هو الخروج من الوحل بعد التخلي عن مشاعر الكبرياء الفارغة وعن سيطرة منطق الشركات ما فوق القومية وأحلام التاريخ الاستعماري.
وليس الوحل العراقي يقترب من الوحل الفيتنامي أو يقل عنه أو حسب آخرين لا علاقة له به، بل أن الوحل العراقي هو أشد خطورة ولزوجة وقسوة من الوحل الفيتنامي.
والذين ينفون هذه العلاقة هم من صنف المكتبيين الذين لم يغطهم دخان معركة إلا معارك السرير والصحف والمقاهي مع أن ضرب الرصاص، بتعبير المرحوم أبو كاطع، ليس هو نفسه رفع الأفخاذ!
ـ بداية المقاومة الفيتنامية لم تجد حتى بندقية واحدة للقتال ضد الاحتلال الفرنسي، ومع الوقت، بدأت عملية التعبئة والحشد من خلال السيطرة على بنادق العدو، ثم جاء الدعم الدولي المعروف.
ـ بداية العمل المسلح في العراق بدأ بأكثر من 50 مليون قطعة سلاح وقوى مدربة وجاهزة ومنظمة.
ـ كان الجيش الأمريكي يجد في حرب فيتنام ميزة لا يجدها في العراق وهي ميزة مهمة جدا: كان الجيش الأمريكي يقاتل معظم الأحيان قتالا جبهويا( على جبهات ) ويواجه جيشا منظما ويمتلك مدافع وهذه المدافع والثكنات كانت عرضة للغارات والمدافع الامريكية الساحلية التي دمرت السدود والمزارع حتى بالأسلحة المحرمة.
ـ في العراق يواجه الجيش الأمريكي حرب عصابات مدن، تشبه من الناحية التقنية تجارب التوبامورس، والجيش الأيرلندي السري، بل أكثر قوة وقسوة من ناحية التجهيزات العسكرية.
ـ في حرب فيتنام كانت هناك قاعدة خلفية حليفة هي فيتنام الجنوبية وتمتلك جيشا وسلاحا وتقاتل مع الجيش الأمريكي.
ـ في العراق لا وجود لهذه القاعدة باستثناء أقلية من الجحوش المستعدة في كل الأزمنة للحرب مقابل ثمن. إنهم بنادق للإيجار!
ـ في فيتنام يمتلك الجيش الأمريكي أغلب الوقت قدرة المناورة بالقوات والحركة السريعة إلى ساحة المعركة وخوض معارك قوية بسحب العدو أو استدراجه إلى منطقة قتل.
ـ في العراق لا توجد ساحة معركة محددة وواضحة، وكل الساحات معارك، والعدو العراقي ـ ونحن هنا ندرس ظاهرة عسكرية بحيادية قدر الامكان ـ يمتلك ميزة العدو الشبح الذي يظهر ويختفي دون أي أثر.
ـ الجيش الأمريكي في فيتنام كان يمتلك صيغة فرض معركة بالضغط العسكري( هجوم جوي أو مدفعي أو قوات خاصة الخ) واخراج العدو من الوكر.
ـ في العراق هذه الميزة ليست معدومة فحسب، بل أن العدو العراقي هو من يملك ميزة جر العدو إلى معركة بشروطه هو وليس شروط العدو الأمريكي.
ـ في فيتنام كان لدى الأمريكان شبكة استخباراتية واسعة. وفي العراق شبه معدومة خاصة وانهم اكتشفوا في الفترة الأخيرة ان النماذج التي استعانوا بها كانت تعمل مع الطرفين لأن الامريكان يصرحون كل يوم أنهم لن يبقوا في العراق أكثر من سنة أو سنتين والجغرافية هي الحقيقة الوحيدة الثابتة على الأرض وكل شيء زائل!
ـ في فيتنام واجه الجيش الأمريكي معارك غابات وأدغال ومستنقعات وكان يجد رغم المصاعب فرصة لقتل العدو أو تدمير أعشاشه.
ـ في العراق لا غابات ولا أدغال( فشلت خطة تدمير أشجار شارع المطار!) بل حرب عصابات يومية مدمرة من كل الثقوب والأماكن. وكل شيء مرشح للانفجار.
ـ في فيتنام قاتل الأمريكيون خارج المدن معظم المعارك والأوقات. في العراق معارك مدن وشوارع.
ـ في فيتنام كانت ثكنات الجيش الأمريكي محصنة وخارج المدن، وفي العراق في قلب المدن وهي تتعرض لقصف يومي من ضواحي بغداد مثلا دون قدرة الجيش الأمريكي على الخروج لقتالها في هذه الشوارع آخر الليل حيث السيطرة على المدن مفقودة.
ـ الذين يقارنون عدد قتلى الحرب الفيتنامية ينسون أنهم يقارنون الأرقام في أعوام الحرب الأخيرة وليس في الشهور الأولى.
في السنوات الأولى خسر الأمريكيون أعدادا قليلة جدا:
53 جنديا عام62
118 جنديا عام 63
و206 عام 64.
مع الوقت تصاعد العدد إلى مئات القتلى يوميا، وخسائرهم في العراق وكأنها معدلات شهرية وليست سنوية رغم التحصينات والمعدات الثقيلة.
ويمكن المضي قدما في مقارنات كثيرة لكننا نكتفي بهذا القدر المهم ونجيب الآن على السؤال: لماذا استيقظ فريدمان هذه الأيام وطرق الباب على رئيسه النائم وأخبره بالخطأ القاتل في إهانة مشاعر العرب والمسلمين؟!
والجواب هو الوحل.
ليس الوحل العراقي هو الجديد
بل الجديد هو وعي الوحل الذي غطس فيه كلب الراسمالية المتوحش النابح على العالم!