لَيْسَ من شك في الأهميةِ الكبيرة للثقافةِ الجماهيرية الواسعة, وما للمعارفِ الإنسانيةِ ولخبراتها من تأثيرِ ِ بالغِ الخطورةِ في تحديد توجهات الحياة العامة في بلاد بعينها. ذلك أنَّ التخلّفَ يشكل مرضاَ َ سببه الأساس افتقاد المعارف الكافية لمعالجة إشكالات الحياة ولخوض تجاريبها المتداخلة العميقة.
وهي إجمالاَ َ لتمهيدنا هذا تمثِّلُ تراكم خبرات البشرية وحركتها التطورية الصاعدة ومسار متغيرات تلك الحركة. فكلّ مرحلة من حياة البشرية هي لبنة معرفية تتضمن قراءة الإنسان لتجاريبه المنقضية وتقويمه الموضوعي لها؛ مثلما تحتوي أُسس اللبنة اللاحقة ومقدماتها الصحيحة.
وأيّ حالة انقطاع في مسار المعرفة أو انفصال بين لَبِناتها مؤداه العودة إلى نقطة الصفر السلبية واختفاء إمكانات التعاطي مع حياة تتقدَّم وتتعقد مع مسار الزمن في وقت لا يلاحق المنقطع عن مسار تجاريب الإنسانية وخبراتها ما يفرضه ذاك التعقيد وما يتطلبه من معارف. فليس يكفي بناء بيوت الطين كلّ خبراتهم وإبداعهم لكي يستطيعوا التعامل لا مع بناء ناطحات السحاب ولكن حتى مع البيوت الحديثة البسيطة.
إنَّ ما ينطبق على الحياة المادية ينطبق على الحياة الروحية ومعطيات الإشكالات الفكرية والسياسية وما إليهما. فكلُّ فروع الحياة الإنسانية في حالة من الصعود والتغير, وهي لا تستجيب لضعف أو فقر الخزين المعرفي وتخلّفِهِ. فإذا ما جئنا بفلاح لحياة المدينة أو بابن بلاد من العالم (الثالث عشر) إلى بلاد صناعية تمارس اللعبة الديموقراطية فهل سيستطيع الفلاح أنْ يعيش حياة المدينة؟ وهل سيتعاطى ابن بلد متخلف مع مفردات الحياة اليومية حتى بأبعادها التكنولوجية المباشرة ولا نقول مع معطيات العمل المؤسساتي العام سواء منه النقابي المهني أم الانتخابي البلدي والبرلماني؟
تقودُنا هذهِ التساؤلات إلى مجريات الأحداث والوقائع في بلادنا في ضوء المتغيِّرات العميقة الحاصلة في طبيعة النظام العام. ففي الوقت الذي تقدَّمت فيه معارف تكنولوجية محدودة في بلادنا (أكثرها كان يخصّ جانب عسكرة الحياة), وفي وقت زادت حالات الأمية الأبجدية والحضارية؛ تندرج حياتنا في نطاق مسار كوني من العولمة التي لا مفرَّ من الانضمام إليها ومن ثمَّ إلى تعقيدات مفرداتها ومعطياتها سواء في سياق حتمية التطور أم في سياق محاولات الإفادة من أشكال التطور هذا لتوفير أفضل شروط الحياة للإنسان العراقي اليوم وغداَ َ.
لقد كان سهلاَ َ أو غير معقد إدارة تطورات الحياة الإنسانية القديمة من دون حاجة لمعارف وخبرات كبيرة متشعبة. وقد يعود السبب إلى طبيعة التشكيلات الاقتصا ـ اجتماعية وبساطة التشكيل الأول بخلاف كثافة وتشابك ما نحن فيه من مرحلة تطورية! وعليه فإنَّنا نجابه أمام مثل هذه الحال مسؤوليات غير طبيعية لمحو الفارق بين درجة التطور المعرفي لدينا على المستوى الجماهيري الواسع من جهة وبين درجة تعقيدات المشكلات الحياتية ومستوى التركيب في بناها التحتية والفوقية.
ونحن اليوم أمام معضلة يمكن أنْ تصغُر إذا ما تعاضدت جهود طبقتنا المثقفة من أكاديميين ومبدعين في مجالات الفنون والآداب والمعارف المتنوعة ومن نابهين أصحاب خبرات حياتية سياسية واجتماعية.. وإذا ما استطاع مجتمعنا توظيف تلك الخبرات ومنحها المكانة التي توفر لها فرص العطاء والتواصل وإذا ما نجح المجتمع في ضوء تلك الشروط الحياتية الضرورية أنْ يجتذب كلَّ الطاقات اللازمة المنتشرة في أراضين لا حصر لها كانت منافي لمعارفنا الحقيقية إلا أرضنا التي كانت المنفى الملكوت لخيمة ظلام الدكتاتورية المعادية لكلِّ اشكال المعرفة والتنوير.
ولكن هل نحن بحق بحاجة إلى تلك الطاقات بالتحديد؟ وهل سيكون لوجودها أثره الخاص في يومنا وفي غدنا؟ للإجابة عن تساؤلنا نستدعي أمثلة أكَّدت عمق أهمية المعرفة والثقافة في حياة البشرية. فالأهمية تكمن لا بالاستجابة للحاجات المادية والأساليب التكنولوجية ولكنّها كذلك استجابة لحاجة تمتع الإنسان بجماليات الحياة الروحية المعاصرة. فليس لأميِّ ِ جاهل علاقة لا بمسرح حقيقي ولا بموسيقا سامية؛ فهو لا يستجيب لاستدعاءاتها الجمالية لأنَّه لا يعرف التعامل مع مكوِّنات المتعة فيها.. فإذا قيل لي بل هناك من يضحك مع عبارة أو موقف أو يستجيب لجملة تبقى ثابتة في ذاكرته؟ قلتُ: إنَّه يستجيب للبناء السطحي في خطاب العرض وللساذج الذي يستهين بقيمة الإنسان وقيمِهِ وهو يستجيب لإيقاعات تعبِّر عن تصوير المَرَضي في حياتِهِ لا عن الإيجابي.
وعبر أمثلة نتوقف عن الاسترسال في ذكر غيرها أو التفصيل فيها.. نتأكّد من الدور الحيوي للمعرفة وللثقافة .. إنَّهما عماد القيم الروحية السامية للوجود الإنساني وهما جوهر التعبير عن مبادئه التي تفصله عن أنْ يكون دابة لخدمة المترفين الذين يستمتعون بخيرات الحياة المادية والروحية؛ في حين يُحرَم منها السواد الأعظم من البشرية المنتجة لتلك الخيرات.
وإذا تجاوزنا الإفادة من خيرات الحياة فإنَّنا نجد تلازماَ َ واضحاَ َ بين درجة الوعي والمستوى الثقافي من جهة وبين درجة الالتزام بالعقد الاجتماعي أو ما نسميه اصطلاحا القواعد والقوانين التي تدير الشؤون العامة. فهل سنخفِّف من مشكلات المرور والجنح والجرائم التي تحصل في إطاره بسبب قلة الوعي! وهل سنخفّف من الجريمة والانشغالات السلبية الخطيرة للعامّة عندما نضع بين أيديهم مشاغل واهتمامات معرفية مختلفة! بالتأكيد تقلّ كل الخطايا مع الارتقاء بثقافة الفرد ووعيه ومن ثمَّ التأثير على مزاجه وذائقته وكذلك اهتماماته وهواياته.
لا مجال للتفكير في الجريمة أو الخطيئة أو الانشغالات السلبية إذا ما امتلكنا مسرحاَ َ يحمل مضامين سامية ويقدم إبداعا فنيا راقيا... لا مجال للأمراض الاجتماعية ولا لغيرها في تربة غنية بالقيم الروحية الصحيحة. وفوق هذا وذاك فإنَّ عودة طبيعة النظام القديم وروحه موفورة في ظلِّ افتقادنا الثقافة الكافية.. حيث لا تحيا خفافبش الظلام إلا في نطاق العتمة. وهي فئات الاستغلال وسرقة ربيع الناس وحدائقهم الغنَّاء.
نحن لا نملك أسلوب القتل والإقصاء ومثل هذا الطريق الديموقراطي يمنح فرصا مؤاتية لتلك الخفافيش أنْ تنشط بخاصة في ظلِّ امتلاك الثروة المادية ومصادرها من وسائل الانتاج وهو ما يرشِّح ثبات سلطانهم لمدة أطول وإنْ بأشكال وتنويعات مظهرية جديدة أو مختلفة ولكنَّ جوهرها يبقى واحدا.
ونحن لا نملك في ظلِّ الديموقراطية إلا وسيلة الاقناع وكيف لنا ذلك في وسط الجهل والأمية! بخاصة أمام وسائل الخداع وتأثيراته المعتمدة على أرضية ذاك الجهل المتفشي. هنا يملك بعض المحللين شيئا من الحق في الخشية من طبيعة استقبال التجربة الديموقراطية في بلادنا ونوعية التعاطي مع المتغيِّرات الجديدة.
إنَّنا اليوم بلا سلطة الطاغية الدكتاتور, ولكنَّنا مع ذلك أمام مؤثرات مخلَّفاته المَرَضية من تركة العتمة واستلاب نور المعرفة وثقافة الحياة الإنسانية الصحيحة القويمة. ولذا فما زلنا في نطاق أرضية تحتاج لتعزيز الجهود وأولها في مناهج التعليم التي تبدأ مع أطفال المدارس بناة الغد الواعد. وكذا مع الشبيبة المتعطِّشة المتطلّعة للتغيِّير الحقيقي.. حيث أنشطة الفن والأدب والندوات العامة وتشكيل منتديات بناء العقول المهذّبة وملتقيات الفرح وكرنفالات الجذب الجماهيري الواسع نحو مثل هذه الأنشطة الإيجابية.
وسنحتاج اليوم إلى أغاني الحياة ومعزوفاتها وإلى ريشة الرسام ويراع الكاتب وصوت الخطيب في المعبد وكلمة الفيلسوف وحكمته في فصله والأكاديمي الباحث في جامعته.. وعلى هؤلاء جميعا تجنّب تأثير الاستجابات الأولية غير المؤاتية وتحمُّل الاعتراضات والمصاعب التي سيشتبكون مع قواها. حيث تحتدم بين قوى الظلام والنور معارك شرسة, اليد الطولى على المدى الاستراتيجي فيها للثقافة والتنوير بمعنى وجود ارتفاع لقوى الظلام ولكنه يظلّ مؤقتا وإنْ طاول في اعتدائه وتخريبه مساحة شاسعة من الحياة.
إنَّ شكل التوازنات في الصراع بين الثقافة والجهل يفرض علينا البحث عن آليات جدية فاعلة للوصول إلى عقلية عشعشت فيها أمراض التقاليد والعادات البالية مما يتحصَّن خلف قوة تكلَّست حتى صارت حديدية المتانة بل للتخلّف آلية تفريخ دفاعات عن بقائه تكمن في سطوته على مزاج الفرد بكآبته وبالعتمة التي يضعها على عينيه حتى يمنع عنه سلطان النور! لكنّنا نمتلك أيضا فرضا مؤاتية في مسائل صدأ ذاك الحديد وتفتّته أمام معاجات ضياء الثقافة.
ومن الطبيعي أنْ يكون لقوة الإبداع وتمكنه من أدوات الاتصال بالناس وقدرته على اجتذابهم وعلى التعبير عن أحاسيسهم وتصوراتهم, من الطبيعي لهذا أنْ يدعِّم تسريع إزاحة ظلام الجهل. وبالتحديد هنا أؤكد على حقيقة خلق الإبداع لجمهور متجانس اجتماعيا. فنحن لا نقول عن زائر طارئ للفرجة المسرحية واحدا من جمهور المسرح؛ ولكننا نتحدث عن جمهور مسرحي متجانس المزاج ومن ثمَّ في قيمه الجمالية وحاجاته وبعده مؤثرات ذلك على معالجاته وقراءاته الفنية والمضمونية لمعطيات مسرحه.
ومثل الجمهور المسرحي ما تثيره الأغنية من استجابات ومن دواعي واعتبارات روحية ومثلها الموسيقا وتأثير القيمة البصرية في اللوحة من حركة وضربات الألوان وما إليها. وبغير قليل أهمية تأثير التجربة البشرية المختزلة في الرواية أو القصة الطويلة أو القصيرة وفي جميعها نجد معايشة معرفية تغني القارئ ليس روحيا وجماليا فحسب بل تدفع كلّ تلك القراءات البصرية والسمعية إلى معرفية ثقافية وطيدة.
وهنا تتحقق قيمتان الأولى تتمثل في خلق الإنسان الذي يشارك مجتمعه عبر التزام بالعقد الاجتماعي بخياره وليس بالاكراه والقسر, إذ أنَّ خلق الطبيعة الاجتماعية للفرد وتعزيزها لا يوجد ولا ينمو في ظلّ مجتمع يستلب حرية أبنائه.. أما القيمة الأخرى فهي بتوفير ثقافة كفاية بشرية لمجابهة متطلبات الواقع الجديد بكل متغيراته التكنولوجية والإدارية والسياسية.. فتكنولوجيا الأمر واضح ولكن إداريا وسياسيا تظل المسألة في نطاق من التجاذبات والرؤى ليس في حدود التنوع وإنَّما فيما هو أوسع حيث الصراع لإطفاء جذوة الحياة الإنسانية ونور منطقها العقلي.
في كلمة اختتام لا ترى هذه المقالة إمكانية لإنسان بالمشاركة الاجتماعية الواسعة والجوهرية المفيدة بغير وعي ومعرفة وثقافة.. وهي لا ترى إمكان توجيه مسار حياتنا المستقبلية باتجاه مستقيم وسليم بغير الثقافة الحرة.. ولا ترى إمكان الانخراط في عالمنا المعاصر والاستجابة لمحيطنا الإنساني المتطور بغير تغيير ما بأنفسنا من رواسب الماضي. ذلك أنَّ التعارض تام مطلق يقع بين ما نسعى إليه في إدارة دولتنا إدارة تستجيب لمصالح الشعب وهو ما يتطلب معارف متقدمة وبين ماضِ ِ من أمراض الجهل والعتمة وهو ما قد يمتد لأطول فترة من الانقطاع عن الحياة الإنسانية الجديدة إذا ما خيَّمت آثاره في الأنفس بحجج واهية من الاستسلام لدواعيه .. ولنبدأ بقراءة تجارب هاتيك الإدارة وأفضليات ما نختار لأنفسنا وكيفيات تلك الخيارات وآليات العمل فيها ولنتعرّف عن كثب على أعماق التجاريب التي نقرأ أو نختار وما اعتراها من نواقص ومثالب وما كان لها وما كان عليها.. في تلك اللحظة سندرك لماذا الثقافة مؤثرة بشكل جوهري خطير على خياراتنا ومستقبلنا.