|
نقاش بين الباريسي والبدوي في برلين
حامد فضل الله
الحوار المتمدن-العدد: 2104 - 2007 / 11 / 19 - 10:42
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الدكتور جلبير الأشقر أستاذ العلوم السياسية في جامعة باريس الثامنة سابقاً، حالياً مدرسة (كلية) لندن للدراسات الشرقية والأفريقية The School of Oriental And African Studies (SOAS), University of London والسيد أصلان عبد الكريم الذي كان يعمل سابقا بالتدريس في دمشق، حضرا إلينا من باريس بدعوة من اتحاد المثقفين العرب / برلين. الأول مقيم فيها والثاني زائر لها. كلاهما مثقّف عضوي بالمفهوم الغرامشي نسبة للمفكر الإيطالي "انطونيو غرامشي". وكلاهما مغترب، جلبير مغترب فيزيقيا فهو يعيش في باريس منذ العام 1983. وأصلان مغترب معنويا، فهو لم يبتعد عن مكانه، عن وطنه سوريا ولكنه الابتعاد المكاني – الميتافيزيقى إذا صح التعبير. كلاهما متمكن من مادته، مسترسل في عباراته، مجاهد في الدفاع عن أفكاره ورؤياه، متقبّــل الرأي الآخر بسماحة يتطلبها الحوار الموضوعي والنقاش الجاد.
قدم جلبير في الأمسية الأولى كتابه "صدام الهمجيات – الإرهاب والإرهاب المقابل والفوضى العالمية قبل أيلول وبعده". عنوان الكتاب يسير على نفس نهج العناوين المثيرة والمتداولة الآن في مجال الأدب السياسي والاجتماعي، مثل صراع الحضارات (صمويل هنتجنتون)، حوار الحضارات، نهاية التاريخ (فرانسس فوكوياما) الخ. الكتاب يناقش ويحلل ويقارن بين السلفية الدينية المتمثّلة في الشيخ أسامة بن لادن وبين المحافظين الجدد والأصولية المسيحية، وصولاً إلى اليمين المتطرّف، المتمثّل فــي صقور الإدارة الأمريكية الحالية. في فترة قصيرة قدّم لنا جلبير عرضاً وافياً ومكثفّاً في نفس الوقت موضحاً أفكاره وخلاصة استنتاجاته وأحكامه ليفتح المجال في حوار مباشر معه. أدلى البعض بدلوه – معترضاً أو متفقاً، محللاً أو مضيفاً. أما عندما يأتي سؤال منفلت من عقاله أو تعليق ساخر هازئ، فتعلو البسمة شفتي جلبير ثم يصمت، لا هربا من الإجابة وإنما يريد بلطفه – وهو الضيف - أن يجنّب سائله وجع الإجابة. ولعل لسان حاله كان يقول لكل مقام مقال، أو يردد في سرّه مع أبي الطيّب المتنبي:
وكم من عائب قولا صحيحا وآفته مـن الفـهـم الســــقــيم ولكـن تأخــذ الآذان مـــــنه على قــدر القرائح والعــلوم
وفي اليوم التالي كان اللقاء مع الأستاذ أصلان، الذي لم يترك الفرصة لتقديمه وإنما أمسك بناصية الحديث وانطلق كالسهم في كلامه، كانت الأفكار مرتبّة والنبرات متناسقة ومخارج الحروف واضحة، وكنت مندهشا كيف يتحدّث بهذه السرعة وبهذه الفصاحة دون أن يتوقّف ليسترّد أنفاسه، حتى علمت من سياق الحديث بأنه كان مسجونا لفترة طويلة – أكثر من ستة عشر عاما في سجون سوريا. لذا ربما تخيّل أنه لا يزال سجينا أو ربما يعود من جديد إلى الحبس وعليه أن يقول كل ما يريده قبل أن يكمم فمه من جديد. تعرّض أصلان لتجربته في السجن، بما فيها من معاناة وعذاب وإذلال واحتقار. تكلّم أصلان أكثر من ساعة عارضاً أفكاره وقناعته الجديدة دون أن نشعر بجريان الزمن أو الملل – بل كنا ننشد أن يواصل العرض الشيق والمؤلم في الوقت عينه وبشجاعة تكشف عن مكنوناته. ثم بدأ الحوار معه، فبجانب تعليقات قصيرة من بعض الحضور، كان الحوار منصبّا في الأساس بين جلبير وأصلان، فأصلان يقول – هنا باختصار – لا الأيدلوجية الماركسية ولا القومية ولا البرجوازية العربية قادت إلى أي تقدم أو تحديث يذكر للمجتمعات العربية، ونحن نعيش الآن حالة التفسخ والانهيار والخراب المادي والروحي وتتحكم فينا العشائرية والطائفية والعنصرية والدولة التسلطية والشمولية والعسكرية ليصل إلى النتيجة المثيرة: علينا أن لا نتعلق بالأوهام ولن ينقذنا من أنفسنا إلا الغرب: ولعل مقولة كارل ماركس وكأنه يبرر بها الاستعمار لا تزال خازنة في عقل أصلان "لا يستطيعون تمثيل أنفسهم، ولا بد أن يمثلهم أحد"*. هنا ارتفعت حرارة النقاش بما فيه من انفعال وحدة وحماس، فرضتها المواضيع الساخنة التي أثارها أصلان من جهة، وتصدي جلبير مفندّا لها من جهة أخرى. كان جلبير يرفع سبابته في وجه أصلان ليس بأسلوب المعلم وإنما ليثير انتباهنا، فقد كان يجلس على البعد من أصلان. كان الحوار نديا وموضوعيا ومفعما بالاحترام المتبادل. فكلاهما انتظما في سن مبكرة في صفوف اليسار العربي بأطيافه المختلفة، عاشا التجربة النضالية والحرب الأهلية اللبنانية المدمرة – أحدهما هجر الوطن إلى الغرب يجر معه أذيال الخيبة والهزيمة ويواصل نضاله سياسيا وأكاديميا. والأخر يلعق جراحه ويعيش مأساة شعبه من وراء القضبان. لا غضاضة في إعادة النظر في القناعات والأحكام والقلق الفكري وإعادة النظر، والتساؤل والنقد والشك في الثوابت من أجل مواجهة الجديد ومسايرة التطوّر. إن الذي لا يتشكك إطلاقا في قناعاته مصيره العزلة والتقوقع والتخلف كما وان الذي يتشكّك دوما من يقينياته ربما يدمر حياته بنفسه. لنقرأ جزء من قصيدة (يؤلمني شكي) للشاعر السوداني الراحل "التيجاني يوسف بشير"، والقصيدة جزء من صراع روحي وحوار مع الذات كاشفاً بهذا الصوت الحزين عن أزمته ومعاناته:
أشك يؤلمني شكي وأبحث عن برد اليقين فيفني فيه مجهودي أشك لا عن رضا مني ويقتلني شكي ويذبل من وسواسه عودي الله لي ولصرح الدين من ريب مجنونة الرأي ثارت حول معبودي إن راوغتني في نسكي فكم ولجت بي المخاطر في ديني وتوحيدي
لا مجال هنا لمناقشة آراء أصلان بعمق، وليس ذلك هو هدف هذه السطور التي كتبت من أجل التعبير ببساطة لما عشناه من متعة ذهنية وقلبية ونفسية وانفعال وتضامن مع خبرة وتجربة إنسانية مثيرة، تدعو للتأمل العميق. ولكن إذا خرجنا بالانطباع أو القناعة بأن أصلان أصبح من المؤيدين للغرب بالإطلاق وأن الرأسمالية الغربية هي آخر الدواء، ونحن نرى نفاق الدول الغربية الكبرى واستخدام المعايير المزدوجة أو الكيل بمكيالين والجشع والطمع من أجل تحقيق المصالح المادية الصرفة والعولمة بصورتها الاقتصادية والثقافية الأمريكية المتوحشة والكاسحة وما تجلبه من دمار للعالم النامي، دون أن نسقط في فخ نظرية المؤامرة. فأننا أذن لن نظلم أنفسنا فحسب بل ظلمنا أصلان، هذا الرجل الأمين. وكما أنه لا يمكن التصوّر بأن الماضي أياً كان كله هباء وباطل وقبض الريح مهما كانت مشاعر اليأس والإحباط والمرارة. أصلان عبد الكريم شأن كثير من المثقفين والمناضلين العرب، قضى زهرة عمره في سجون بلاده بسبب قناعاته ورؤياه وأفكاره وبدافع حب الخير لشعبه، باحثا عن عالم أفضل وأكثر أمانا وإنسانية. عالم تسود فيه العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق بين جميع أفراد وطبقات المجتمع. إنني أردد إلى الحبيس الطليق، إلى الطليق الحبيس أصلان – هذا الشخص النبيــل هذا البدوي الأصيل – مقاطع من قصيدة (مهد الحرية – و - مهر الحرية) لشاعرنا السوداني الفحل أحمد محمد صالح – كتبت القصيدة عام 1945 حينما ضربت فرنسا دمشق الحبيبة بالقنابل. صبرا دمشق فكل طرف باكي لما استبيح مع الظلام حماك وقرأت في الخرطوم آيات الأسى وسمعت في بيروت أنة شاكي صبرا دمشق فكل هم زائل وغدا يلوح مع النجوم سناك ما أشبه اليوم بالبارحة، فلا نزال بعد أثنين وستين عاماً نسمع في بيروت أنّة شاكي ليس من الصلف والبربرية الصهيونية والتواطؤ الأمريكي فحسب بل أيضاً من ظلم وعسف ذوي القربى الذين وصلوا الى السلطة بالوراثة ويواصلون القتل وينتهكون كرامة وإنسانية المواطن السوري واللبناني من أجل السلطة باسم "القومية والوطنية" فتمعن وتعجب وردد معي قول الشاعر السوداني الراحل المقيم صلاح أحمد إبراهيم في قصيدته (نحن والردى):
رُبَّ شمسٍ غَرُبتْ والبدرُ عنها يُخبرُ وزهورِّ تتلاشى وهى في العطر تعيش نحن أكفاءُ لما مرَّ بنا، بل أكبرُ تاجُنا الأبقى وتندكَّ العروشْ ولمن ولىّ حديثُ يؤثرُ ولمن ولى حديثُّ يذكرُ
حامد فضل الله طبيب سوداني مقيم في برلين نوفمبر 2007 * إدوارد سعيد: الاستشراق طبعة أولى 2006 ترجمة محمد عناني.
#حامد_فضل_الله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تحية تقدير واعتزاز للشاعر المبدع عبد الكريم گاصد
-
نحن والردى في تذكر سلطان-ابو رشا
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|