عبد المجيد راشد
الحوار المتمدن-العدد: 2104 - 2007 / 11 / 19 - 01:28
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الحلم الامريكي كان حلما صغيرا، ابتدأ بمغامرة عبر المجهول للبحث عن الثروة، عن الذهب والارض التي ليس لها صاحب، وعندما وجدوا انها بصاحب، تلطخ الحلم بالدم، وتغلبت ساديته ووحشيته ، فصار حلما خائفا متهورا لا يريد من يوقظه على حقيقة ما ارتكب. كبر الحلم وصال وجال، وكان الباب مفتوحا، ما دامت الارض لمن يقتل صاحبها والثروة لمن يسرقها، فتطاير الى كل الاصقاع لا حدود تحده ولا فضاء يمنعه ولا شبع يكفه عن الاستحواذ، كجراد يغزو الارض ويدعي انه رسول مملكة سماوية.
النعيم الامريكي يتوازى مع جحيم المليارات من البشر. وهذا النعيم سينقرض.
فدوام الحال من المحال، لكن النهاية هذه المرة ستكون حتما فاتحة لبداية جديدة لا مكان فيها للاحلام المريضة.
يبدو جلياً - لكل عينٍ خبيرة - فشل المشروع "الامبراطوري" الأمريكي في الشرق الأوسط، رغم كل مظاهر الاحتقان الطائفي والإثني في المنطقة، وتتجلى مظاهر هذا الفشل ابتداءً بالفشل تلو الفشل في العراق وحرب لبنان وتفتيت المنطقة لدويلات..
على عكس أفكار ريتشالد بيرل وولفوفيتز وتشيني المتهورة و المريضة والمتعلقة كلها بإحداث انقلاب في العالم يعتمد على القوة العسكرية لواشنطن (وكأن قوتها كونية فعلاً)، كانت نظرية زيجنوف بريجنسكي في كتابه "رقعة الشطرنج" تتسم بالواقعية والذكاء الاستراتيجي حيث أنه حدد العدو الأساسي ووضع الخطط لمجابهته، وهو روسيا، تلك الدولة العظمى التي نجحت ثلاث مرات تاريخياً في دحر الطامحين للهيمنة على العالم (التتار، نابليون، هتلر) لذا فإن أميركا لا ينبغي أن تسمح لنفسها بترف المخاطرة بانبعاث روسيا، وانبعاث فكرة أوراسيا معها. فوضع بريجنسكي توصياته المتعلقة بتطويق روسيا لأنها تبقى العدو الأول للولايات المتحدة وقد اعتبر أن الخطر الثاني هو حقيقة الصين (ولكن مع الدعم الروسي لها) على المدى المتوسط، أي عام 2050. ولدرايته بعلم الجيوبوليتيك عرف أن روسيا تمثل مركز ثقل استراتيجى للعالم ونواة توحد أوراسيا، فوضع خطة تطويقها، وذلك بالإبقاء على الأحلاف الأساسية مع أوروبا بل واسترضاءهم ومعاملتهم كشركاء وليس كأتباع، بإعطائهم دورا مركزيا في القرارات الدولية، وتوسيع دور اليابان الإقليمي ومكافأتها بمقعد دائم في مجلس الأمن، ومسايرة الصين وعقد أحلاف اقتصادية معها لمنعها من أي تقارب مع روسيا، فخطرها ما يزال بعيدا، وعدم فتح جبهة مع إيران، بالتالي تطويق روسيا من كل الاتجاهات.
هذه الخطة الواقعية لم تنفذ منها واشنطن إلا ما وجدته يسيراً عليها أما الأجزاء الصعبة الأساسية في اللعبة فقد تعامت عنها، وظنت إدارة الصقور أن بإمكانها حكم العالم بعد أحداث 11 أيلول بالإنفراد والسيطرة على منابع الطاقة لتطوق أوروبا، فقامت بمجازفتها القاتلة في العراق.
في مؤلفه المهم بعنوان صعود وانهيار الامبراطوريات الكبري في العالم, صاغ عالم التاريخ الأمريكي الشهير بول كيندي ما يمكن وصفه بأنه قانون سياسي حاكم للتوازن بين القدرات والالتزامات بما يضمن استمرار الدولة قوية ومتماسكة وقادرة علي مواصلة الصعود, ولكن عندما تتجاوز الالتزامات ومستويات الانفاق العام( داخليا وخارجيا) القدرات( المادية والعسكرية والمعنوية), فإن الدولة أو الامبراطورية في تلك اللحظة تضع قدميها علي طريق التراجع والانهيار. و يبدو أن هناك فجوة واسعة بين المعرفة بالشيء وإدراكه والوعي به, أو فلنقل أنه مكر التاريخ وإغراءاته, فالأمريكيون افتقدوا بأسرع مما كان متصورا درس التاريخ في الاتحاد السوفيتي, وبأسرع ما يمكن أيضا قفزوا إلي المنحدر باختيارهم متجاوزين أيضا درسا شديد القسوة تعلموه في حربهم ضد فيتنام, حيث صاغ الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون المبدأ السياسي الحاكم للسياسة الخارجية الأمريكية في عهده والذي حمل اسمه أي مبدأ نيكسون.
كان هذا المبدأ يقضي بمنع الولايات المتحدة من التورط في أية حروب خارج الأراضي الأمريكية, وعدم إرسال أي قوات أمريكية إلي الخارج إلا في حالات الضرورة القصوي التي عرفها نيكسون في كتابه الفرص السانحة بـ المصالح الحيوية, ودعا وقتها هذا المبدأ إلي الاعتماد علي قوة أقليمية صديقة يجري تسليحها وتدريب قواتها لتقوم بمهمة الدفاع عن المصالح الأمريكية في الاقليم الذي تنتمي إليه هذه القوة, وقد حدث هذا مع إيران في الخليج عندما تحولت في عهد الشاه, وابتداء من عام1971 أي بعد الانسحاب البريطاني الرسمي من الخليج, إلي ما عرف بـ شرطي الخليج الذي يملأ فراغ الانسحاب البريطاني ويدافع عن المصالح الأمريكية ضد كل مصادر التهديد حينذاك خاصة الاتحاد السوفيتي والحركة الشيوعية العالمية والقوي القومية الراديكالية( الناصرية والبعثية).
الآن الأمر يبدو مختلفا تماما, وشتان بين حال الجنود الأمريكيين وقت دخولهم العراق, وهم في انتظار الورود التي سوف تتناثر فوق رؤوسهم, وبين حالهم الآن بكل مأساويته التي يعبر عنها قادتهم أنفسهم, وبالذات بعد فشل آخر أوراق الرئيس الأمريكي جورج بوش( الابن) في العراق وعلي الأخص استراتيجيته العسكرية التي دخل بسببها حربا مع الكونجرس لاقناعه بتمويل تكاليف زيادة عدد القوات الأمريكية في العراق, وهي استراتيجية عسكرية بحتة تعطي الأولوية للقتل أو الاعتقال وفق شعار اقتل أو اعتقل وترفض الاستجابة لتوصيات لجنة دراسة مستقبل العراق التي كان قد شكلها الكونجرس برئاسة كل من جيمس بيكر وزير الخارجية الأسبق ولي هاميلتون عضو مجلس النواب السابق وفي مقدمتها وضع جدول زمني لانسحاب القوات الأمريكية من العراق, وإجراء حوارات مع كل من ايران وسوريا لتأمين انسحاب آمن للقوات الأمريكية مع ضمان الاستقرار في العراق. الآن اضطرت مراكز البحوث والدراسات الأمريكية إلي الانهماك في البحث عن خيارات بديلة افضل من الوضع الراهن .
فوفقا للتقرير الذي نشرته صحيفة أوبزرفر البريطانية نقلا عن عسكريين عاملين في العراق يقول علي لسان مسئولة التوجيه المعنوي: جيشنا منهك ونحن نحتفظ في مسرح العمليات بجنود فعل فيهم الإعياء أفاعيله. لكن يبدو أن الإعياء لم يفعل أفاعيله فقط في العسكريين بل وايضا في السياسيين والعقول الاستراتيجية الأمريكية.
مؤسسة راند كوربوريشن, وهي من أهم مراكز الفكر الأمريكية, أعدت دراسة تحت عنوان خيارات العراق: إعادة تقويم, قدمت خلالها ثلاثة حلول للأزمة الأمريكية في العراق من أجل تجنب الحل الأهم وهو الانسحاب الكامل وتمكين العراق من استقلاله الوطني. هذه الحلول هي: استعمال المزيد من القوة العسكرية, أو الحل التقسيمي أو اختيار منتصر في حرب أهلية باتت تفرض نفسها ودعمه, أي الانسحاب من خارج المدن وانتظار من يخرج منتصرا من الحرب الأهلية ثم الانحياز إليه ودعمه, ومواصلة السيطرة علي العراق من خلاله.
وعلي نفس السياق من فكر اللاوعي أعد مركز الشئون الدولية في جامعة نيويورك دراسة تحت عنوان العراق بعد2010 طرح خلالها ثلاثة سيناريوهات رأي انها محتملة في العراق: أولها, سيناريو إيجاد ديكتاتور قوي يمتلك القدرة علي توحيد العراق ويفرض الاستقرار( هنا تتردد فكرة انقلاب عسكري ضد حكومة نوري المالكي بتدبير أمريكي لتمكين قائد عسكري من السيطرة علي البلاد باسم الأمريكيين بغض النظر عن اخلاقية أو عدم اخلاقية مثل هذا الحل الذي يتعارض تماما مع المزاعم الأمريكية التي بررت غزو العراق بالقضاء علي الديكتاتور وإقامة حكم ديمقراطي بعد الفشل في إثبات امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل). وثانيها, العمل علي احتواء الفوضي في العراق عبر أدوار تقوم بها دول الجوار العراقي بدافع من مخاوفها من انتشار الفوضي العراقية إلي بلادها. وثالثها, سيناريو عرقي يري أن الفوضي والانهيار والحرب الأهلية هي التي ستفرض نفسها علي العراق وستمتد حتما إلي دول الجوار.
هذا العجز عن إيجاد حل هو الذي يدفع الرئيس الأمريكي إلي المكابرة ورفض الانسحاب, ليس فقط بغرض تجنيب الأمريكيين ما حدث لهم عقب انسحابهم من فيتنام حسب ما أوضح منذ أيام, ولكن أيضا لادراكه أن الانسحاب من العراق سيكون انسحابا من المشروع الأمريكي الامبراطوري كله, وهو ما عبر عنه بصراحة شديدة توني سنو المتحدث باسم البيت الأبيض الأمريكي عندما قال ردا علي مطالب الكونجرس والرأي العام الضاغطة بالانسحاب من العراق بالحرف الواحد: إن انسحاب قواتنا من العراق سيعني امرا واحدا: لن نكون بعدها القوة الأكبر في العالم, وفسر ما يعنيه بقوله: إن ذلك مرتبط بقرار اتخذه الأمريكيون خلال القرن الماضي بتحويل الولايات المتحدة من بلد يقع خلف المحيطات لا قيمة سياسية له إلي قائد للعالم.
ولكن يبدو ان هذا هو المصير أو هي الحقيقة التي لا مفر منها, اي أن تفقد الولايات المتحدة مكانتها التي كانت عليها قبل سنوات أي القوة الأكبر في العالم, وها هي المؤشرات التي تؤكد ذلك أخذت تفرض نفسها, ابتداء من الدعوة الأمريكية إلي تدويل أزمة العراق كحل بديل لـ خيارات العجز الراهن, ولكن التدويل الذي تريده واشنطن هو التدويل المحكوم عبر الأمم المتحدة للحيلولة دون قفز قوي دولية طامحة إلي داخل العراق لاقتسام ما تبقي من الكعكة العراقية وخاصة روسيا والصين وفرنسا وغيرها من القوي الدولية.
المشروع الأمريكي في العراق ، هو الجزء الأهم والأخطر في المشروع الإمبراطوري الأمريكي برمته ، ومن ثم فإن نتيجة هذا المشروع سوف تحدّد إلى حد كبير شكل العالم ، ومن هنا فإن اعتبار الهزيمة الأمريكية في العراق نقطة مفصلية في تاريخ العالم ، بمعنى أننا يمكن في المستقبل المتوسط والبعيد أن نقول : ما قبل الهزيمة الأمريكية في العراق وما بعد الهزيمة الأمريكية في العراق ، وأن نؤرخ بهذا الحادث على أساس أن تغييراً نوعياً وخطيراً في شكل المنطقة والعالم سيعتمد على ضوء تلك الهزيمة .
و هذا بالذات ما ترتعب فرائص إدارة بوش من حدوثه . و رغم إدراكها أن مشروع أمريكا الإمبراطورى ذخل فى أقصى الحالات الحرجة غرفة الإنعاش ، إلا أنها لن تسلم بسهولة . فوفقا لتقرير أمريكي أعدته لجنة رقابية في الكونغرس الأسبوع الماضى أن تكلفة ما يسمى "الحرب على الإرهاب" في العراق وأفغانستان قد تبلغ 2.4 تريليون دولار للأعوام العشرة المقبلة، مما يشير إلى الثمن الباهظ لهذه الحرب من جهة وإلى احتمال استمرارها لعقد آخر من الزمن .
من ناحية أخرى فإن الداخل الأمريكي ذاته بدأً يتحرك ضد الحرب ، ويطالب بعودة الجنود الأمريكيين إلى بلادهم ، وبعد أن كان غزو العراق يحظى بشعبية لدى الرأي العام الأمريكي أظهرت استطلاعات الرأي العام مؤخراً أن نسبة الأمريكيين الذين يرفضون استمرار الحرب ويطالبون بعودة الجنود قد تزايدت عن الذين يطالبون باستمرار الحرب ، وأن النسبة في زيادة مطردة ، ومن جانب آخر فإن أعضاء الكونجرس بما فيهم جمهوريون أصبحوا يطالبون علناً بوضع جدول زمني للانسحاب من العراق ، وبديهي أن المسألة ستتفاقم في النهاية لتصل إلى قرار الانسحاب ، ومن ثم إعلان هزيمة أمريكا في العراق كمقدمة لإنهيار المشروع الإمريكى الإمبراطورى للسيطرة و الهيمنة على العالم .
أو أن تتغابى إدارة بوش و تتغطرس كعادتها و تنقذ مشروعها الإمبراطورى بتدخل جراحى بزعم منع ايران من امتلاكها الأسلحة النووية و هو ما صرح به بوش بأن العالم كله مطالب بأن يمنع إيران من امتلاكها القنبلة النووية و إلا فإن حربا عالمية ثالثة تلوح فى الأفق .
http://rashd-karama.maktoobblog.com
#عبد_المجيد_راشد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟