دارَ الزمنُ على علماءِ العراق حتى وجدناهم يضطرون للحفاظ على حيواتهم وحيوات أبنائهم وعوائلهم يركبون البحار السبع بحثاَ َ عن الأمان والطمأنينة! وحتى وجدناهم من أجل لقمة عيشهم ينسحقون لا بين كتبهم ومراجعهم العلمية ولا بين أدوات مختبراتهم ومعامل تجاريبهم؟ بل بين ماكنات غسل الصحون وأدوات العمل في حقول بلاد الغربة ومزارعها (وليس في حدائق منازلهم ولا حتى في بساتين الآباء والأجداد) ! كلُّ ذلك جاء في عهد الحكم الأسْوَد.. ولكن هل كانت ظروف الغربة أرحم عليهم من الدوائر التي حلَّت بالوطن يوم انقلب المجن على شعبنا من ثلاثة عقود؟
معلوم لعراقيي المنفى كيف تعاملت دول مختلفة مع القادة السياسيين؛ ومعلوم بشكل أوضح وأكثر استفزازا كيف تعاطت تلك الدول مع علمائنا ومفكرينا.. إذ استقبلتهم جميعاَ َ بوصفهم (كائنات) بائسة بحاجة للإطعام والإيواء ليس غير! وبشكل سافر حذّرَتْهم من ممارسة أيِّ نشاط سياسي أو فكري وكانت في لحظة الاستقبال تبلِّغُهم بمنعهم من ممارسة فعل الكتابة والبحث وهي كذلك تمنعُهم من مزاولة العمل بخاصة العلمي أو التخصصي ومنه في الأطر الأكاديمية والهندسية والطبية وغيرها.. وما كانوا يحصلون عليه جاء بعد نضال عنيد وإصرار كبير على تحقيق الذات عبر العمل الإبداعي الذي حملوا فيه أعلى الشهادات وأفضل الكفاءات.
دار الزمن مرة أخرى ودارت الدوائر على مَنْ أبعدهم عن الوطن وعن الحياة الحقيقية بين أبناء الرافدين.. فهل حانت لحظة العودة إلى الوطن وإلى الحياة؟ وما محدِّدات تلك العودة؟ ونحن هنا نستخدم كلمة (محدِّدات) لتجنُّبِ استخدام مفردة (شروط) .. لأنَّ أبناء البلد لا يضعون الشروط على بلادهم ولا على شعبهم. ولكنَّها سنّة الحياة وضروراتها التي لا مناص من التعاطي معها ...
إنَّ من أولى محدِّدات الحياة المدنية المتحضِّرة احترامها لتقسيم العمل ومن ثمَّ لأهمية مفرداته كافة مع التأكيد على وجود منطق للأولويات وللتراتبية والتسلسل الموضوعي لسلَّم المعرفة والتدرّج في مستوياتها, وعدم الخلط بين جاهل وعالم لأنَّ الأول وجه معروف بـِـمالِهِ الذي ملَكَهُ من غيرِ جَهْدِ ِ ولأنَّ ذاك العالم مغمور بين أدواتِ خلق الحياة وتوفير ما يخدم الإنسانية ويجعل مناخها صحوا رائقا, في وقت لا يجد هو من محيطه إلا الطقس العاصف.. ولكن "هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون"؟!!
إنَّ أولوية احترام هذا التسلسل على أساس تقدّم العارف العالم على غيره تظلّ الأساس الحيوي الذي يعطي علماءنا ما يؤشِّر أولاَ َ وجود أرضية احترام العلم والعلماء في إطار التقاليد والأعراف الاجتماعية .. فبالأمس كانت الناس تحفظ القول المأثور:
[قمْ للمعلِّمِ وفِّهِ التبجيلا ـ كادَ المعلِّمُ أنْ يكونَ رسولا]
وكان الناسُ يحتفلون بميلادِ شاعرِ ِ أو خطيب أوعارف؛ وكانوا يحتفلون بإنجازاتهم العلمية وظلوا يتبعونهم فيما يقولون, ويأخذون حركاتهم وسكناتهم بوصفها أقوالا مأثورة ودرراَ َ من حِكَمِ منثورة. وشهد جيلنا كيف كانت علاقة التلميذ بأستاذه بل عائلة التلميذ بأستاذ ابنهم وما للأستاذ من حقوق على أبنائهم وعليهم, فكيف بالعالم الفيلسوف.. لقد كان إجلال العلم والعلماء سلوكا حصيفا وتأسيسا لخلق أصيل كريم في نفوس عراقيينا. ولم نجد يومها أنَّ إجلال العلماء مثلبة لوجاهتنا ولكرامتنا بل وجدنا ذلك تعزيزا لتلك الوجاهة واحتراما لهاتيك الكرامة.
ويؤشِّر ثانياَ َ لعلمائنا وجود سند قوي يؤسِّسُ لعدم إغفال القوانين المنتظرة من إدارة السلطة الجديدة أياَ َ كانت توجهاتها السياسية والفكرية يمينا أم يسارا. فمطلوب من الإدارة الجديدة سنّ القوانين التي تضمن لكفاءاتنا العلمية الانشغال بأنشطتِهم المعرفية وتوفير ما يسهِّل حياة العمل والإنتاج عندهم بدلا من إشغالهم بقوت يومهم فكثرما كان علماؤنا ومفكرونا إلى جانب قراءاتهم وكتاباتهم يكدحون ليل نهار من أجل لقمة العيش منشغلين بها!؟
إنَّ قرار عودة الكفاءات ضرورة خطيرة الشأن يتحدَّد في ضوئها طبيعة مسارات التقدم في بلادنا بكلِّ ما أصابها من دمار وشعبنا بكلِّ ما أصابه من خراب وتراجع. فلا إزالة لغمّة الماضي المعتم بغير جهودهم المباشرة. ذلك أنَّنا سنكون بحاجة لعشرات السنوات العجاف العصية لكي نخلق بديلا للكفاءات التي وُلِدت طوال العقود الخمس الأخيرة في حال لم تعُدْ إلى الوطن؛ وهي منتشرة اليوم في الداخل معطَّلة الفعل وفي الخارج في أصقاع الأرض مبعدة عنهُ؛ فلماذا نهدر فرصة وجودهم وإمكان مساهمتهم الجدية الفاعلة في إعادة البناء والإعمار وإعادة مسار عطائنا الحضاري المتطوِّر؟
إنَّ قراراَ َ سريعاَ َ منتظر منه تفعيل تلك الطاقات العلمية فورا في مناحي الحياة كافة فنحن بحاجة للكفاءة الإدارية والهندسية والطبية والاقتصادية ولطاقة كتَّابنا ومبدعينا من فنانين و صحفيين وأكاديميين وغيرهم؛ فكلّ تلك الطاقات مهمة وحيوية في إعادة البناء.. ولكن من غير تطمين الحاجات الحياتية لا يستطيع هؤلاء العمل فهم لا يأتون ليبنوا حائط بستان تهدَّم, ولا ليطلقوا عقيرتهم في مذياع للإعلان الرخيص, إنَّهم يأتون لمهام معقدة تحتاج لصفاء الذهن ولتفرّغ حقيقي وانشغال بما يقومون به وإلا فإنَّ عودتهم لنضعهم من جديد في إطار الكدح في (مساطر العمَّالة) وهو أمر لا يعيب إنسان أنْ يعمل بشرف ولكنَّنا لسنا بحاجة للأيدي العاملة غير المؤهلة معرفيا فهي موجودة ولدينا منها بطالة حقيقية وأخرى مقنَّعة. فليبقوا في أماكنهم حتى لا يأتوا عالة على أهاليهم وعلى وطنهم وعلى الحكومة الجديدة وعلى الحياة الجديدة...
بمعنى واضح لا يمكن لمنطق صحيح أنْ يطالب بعودة الكفاءات في ظل الظروف والمحدِّدات القائمة بغير أمان حيث تهديد قوى الشرِّ والظلام لكلّ عنصر تقدم وتطور, وبالذات العلماء! وبغير أمان مرة ثانية حيث الفقر والحرمان وانقطاع موارد العيش أو عدم كفايتها مقابل القيمة الكبيرة التي يقدمونها للحياة الإنسانية ولإعمار بلادنا اليوم. وبغير أمان مرة ثالثة حيث لا ضمان لعودتهم لأعمالهم أو لأماكن تخصصهم العلمي. وبغير أمان مرات أخرى لأنَّهم فقدوا مساكنهم فباتوا اليوم إذا ما عادوا بغير مأوى .. فبماذا ينشغلون إذا ما عادوا أبعلمهم وحاجة البلاد إليه؟ أم بزاد وجودهم و وجود عوائلهم وما تحتاجه حيوات الأبناء من صحة وتعليم و.. و.. و...!؟
لا فائدة ترتجى إذن من عودتهم ولا جدوى إذا لم تتوافر التطمينات الضرورية لهم من سكن وعمل محدد في تخصصاتهم الحقيقية المؤهلين لها... ومَنْ يدفع بهم إلى أتون عودة بغير ذلك إنَّما يقصد مواصلة إلغاء شخصياتهم العلمية المنيرة. حيث تعاملت قوى في دول مختلفة على إبعادهم عن التواصل مع تخصصاتهم هذا فضلا عن مختلف الضغوط الحياتية التي مورست عليهم ليفقدوا ذاكرة المعرفة وطاقة الإبداع وجذوته.. وهذه القوى بحجة: اذهبوا لبناء بلادكم هي بحاجة لكم .. إنَّما تقول ذلك لأنها حجة تظل مجرد في إطار عبارة أو جملة حق يراد بها باطل؛ فعلماؤنا أعرف من غيرهم بحاجة بلادهم وشعبهم وهم أخلص من أنْ يحرضهم أحد على العودة ولكن أيّ عودة يمكنها أنْ تخدم فتضعهم في مسار إعمار البلاد؟
فلعودة ناجعة مفيدة ينبغي أنْ تتغيَّر صورة التعامل أولا معهم بوصفهم علماء ومفكرين وبناة حضارة ساهموا بإصرارهم على التحصيل المعرفي التخصصي العالي في توفير كفاءات وطاقات خطيرة الشأن يمكن بتوظيفها التوصل لإشراقة جديدة في حياة شعبنا ووطن الرافدين. ولابد لعودة علمائنا من مساهمة أطراف ثلاثة في العملية:
1. الشعب العراقي و حكومته الوطنية..
2. الأمم المتحدة ومنظماتها المتخصصة سواء المتعلقة بالتربية والثقافة والعلوم أم باللجوء والتوطين والعمل..
3. الدولة التي تقيم فيها الكفاءة العلمية العراقية بأية صفة سواء إقامة العمل في التخصص العلمي العالي أم بغيره أم بصفة إقامة مؤقتة (اللجوء مثلا)...
على هذه الأطراف توفير الإقرار الرسمي والاعتراف الشعبي بمؤهلات هؤلاء العلمية والتعامل معهم في ضوء ذلك. وعلى هذه الأطراف بعد هذا الإقرار الاعتراف أنْ يعملوا سويا على توفير الانتقال الإنساني اللائق الذي لا يعتدي على حقوقهم مرة أخرى. ففي المرة السابقة خرجوا في ليل أظلم بغير دليل في متاهات الصحارى المدلهمة وما أنْ صنعوا مستقرا لوجودهم الإنساني حتى وجدوا أطرافا كثيرة تتعاضد على محو ما صنعوه ..
يجب (قطعا) وبالمطلق التعامل مع هؤلاء بوصفهم بشرا يملكون حقوقا وبوصفهم كفاءات علمية تحتاج لظروف موضوعية مناسبة لتقدم عطاءها المطلوب منها.. وعليه فمن الواجب التأسيس للجنة وطنية عراقية تضع الخطط المناسبة لإحصاء شامل لتلك الكفاءات عبر دعوة العراقيين للاتصال بتلك اللجنة بالخصوص ومن ثمَّ تضع برامج مناسبة لأشكال التعاطي مع عودة مؤقتة قصيرة المدى وأخرى متوسطة المدى وغيرها تامة نهائية. وهي أشكال تتكامل في الظرف الراهن والغرض منها الاستجابة للحاجات الآنية والمتوسطة من جهة وللإمكانات الحقيقية المتوافرة اليوم لاستيعاب عودة تلك الطاقات بما تفترضه من متطلبات وحاجات إنسانية طبيعية..
وفي الحقيقة لابد من التفاوض مع المنظمات الدولية وحكومات الدول المعنية للمساعدة في مسائل تخص أمور الاتصال و النقل وتغطية تكاليف العمل وخلق فرصه المناسبة في الداخل عبر دعم الجامعات والمختبرات والمعامل التي تمَّ خريبها أو نهبها وتدميرها.. وفي المساعدة على توفير فرص الخدمات الإنسانية المرتبطة بإعادة التأهيل بخاصة لحالات تغيير كامل في بيئة الأبناء والعوائل ومنهم بالذات الذين وُلِدوا وعاشوا في الخارج في ظلّ سياسة تعليمية وصحية واجتماعية وسياسية مغايرة.
إنَّ عدم احترام هؤلاء وقيمتهم العلمية الأدبية الكبيرة يجب أنْ يتوقف اليوم نهائيا, بعد أنْ صارت لهم دولة يُفترض أنْ تحترم حقوق الإنسان كاملة وأنْ تقف مع مواطنيها وحقوقهم أينما كانوا بخاصة وهم في الغربة, حيث تنشأ اليوم ضرورة التوقف عند مسألة فتح السفارات العراقية سريعا لتدارك ما استجد من حاجات وما ظهر من معطيات تعامل عدد من الدول مع العراقي المقيم في ضوء المتغيرات الأخيرة ..
وبغاية تسهيل تشكيل اللجنة الوطنية للكفاءات المهاجرة والمغتربة يمكن للجمعيات والمنظمات العراقية في الخارج أنْ تنهض ببعض من هذه المسؤولية مؤقتا وأنْ تقدم البرامج التي تخضع للتفاوض مع الجهات الدولية المعنية ومع الأطراف العراقية في الداخل ذلك أنَّ مهماتنا التي يجب أنْ تبدأ ينبغي لها أنْ تبدأ اليوم ومن هنا بالتحديد.. لنتنادى من أجل لقاءات تدارس برامج عملية تخص عودة الكفاءات بشكل صحيح وصحي لائق يحترمها ويوفر لها ما يجعلها قادرة على الإنجاز والفعل .. ولموضوعنا بقية وإجابة عن تساؤلات مطروحة علينا جميعا.