في مرحلة السباق على السلطة – عبر المؤسسة العسكرية – الذي انخرطت فيه الاحزاب العقائدية طيلة عقدي الخمسينات والستينات في سوريا . كان تحصيلا ان يعتلي احدها المنصة أخيرا، ويمسك بالكأس ، وان يحاول الاحتفاظ به الى الابد؟!
يمكن القول ان الرأسمالية السورية المأزومة في حينها – انحباسها داخل المدن ، من جراء عدم قدرتها على حل المسألة الزراعية- تكون قد ارست معالم هذا السباق لتأتي هزيمة 1948 فتطلق شارة البدء فيه.
بهذا المنظار للرؤية يمكن اعتبار العام 1970 خط النهاية في الحالة السورية كما العام 1968 بالنسبة للحالة العراقية ... لكن خط النهاية بمعناه الاقتصادي- الاجتماعي كانت ترتسم ملامحه عند اغلاق ملف الازمة والبدء بحل المسألة الزراعية بسلسلة من الخطوات، (من تخفيض سقف الملكية وما آل اليه من ذوبان طبقة كبار الملاك ، الى دخول الدولة كرأسمالية تجاوزت مرحلة التراكم الوحشي.) وبمقدار ما شكل خطاب العدالة الاجتماعية- القاسم المشترك للأحزاب العقائدية اليسارية – الرافعة السوسيولوجية لها في مرحلة التسابق نحو السلطة فإنه أصبح السبب الرئيسي لانكماشها وانحسار نفوذها الاجتماعي لاحقا ، ومن ثم تحولها الى ظاهرة نخبوية عائمة على السطح السوسيولوجي السوري خصوصا والعربي عموما . وذلك لان الحزب العقائدي – حزب البعث في الحالة السورية- لم يترك من خطاب العدالة الاجتماعية الذي يتقاسمه مع بقية الاحزاب والشخصيات التي فشلت في السباق سوى نتفٍ من هنا ونتف من هناك ، تابعت تلك الاحزاب تسلي السياسي بها ولكن من موقع آخر (معارض).
ان تفحصا للبرامج الاقتصادية والاجتماعية لمجمل الطيف اليساري المعارض ، يكشف انها لم تشكل بديلا جذريا منافسا لبرنامج حزب البعث الحاكم، وهذا الامر باعتقادي يفسر الضعف الاجتماعي لأجنحة هذا الطيف من جهة ، كما انه يكشف من جهة اخرى عن الاسباب الحقيقية للاتساع الصاروخي لنفوذ حزب البعث داخل النسيج الاجتماعي للفئات الشعبية السورية.
لقد أحدث حزب البعث بعيد استيلائه على السلطة عام 1963 كسرا في التراتبية الاجتماعية الموروثة عن المرحلة العثمانية، وفتح الباب على مصراعيه ولعدة عقود من السنين للارتقاء الاجتماعي، وكان التعليم شبه المجاني بمثابة البوابة الرئيسة لهذا الصعود التاريخي للفئات والشرائح الريفية على نحو الخصوص ، والمدينية الى هذا الحد أو ذاك نحو المراتب الاعلى في السلّم الاجتماعي –الاقتصادي السوري!؟... فعلى سبيل المثال كان لتضمين برنامج الحزب الشيوعي السوري –في المسألة الزراعية- مطلب الانتقال من توزيع الاراضي على الفلاحين الى اعادة تجميعها في تعاونيات ، وقعا باهتا في أوساطهم لا بل يمكن القول ان البعث الممسك بالسلطة قد جرب وضع هذا المطلب في التجربة الا ان المزاج العام للفلاحين لم يتحسس أهمية هذه الخطوة آنذاك، بل قامت الجمعيات الفلاحية بالتخندق داخل وظيفة النصح والارشاد، وتقديم القروض الميسرة ليس الا .
عمقت البراغماتية التي طعّم الرئيس حافظ الاسد الايديولوجيا القومية الاشتراكية بها من أزمة اليسار ، اذ انفتحت بمثل هذه البراغماتية الفرصة أمام حزب البعث لأن يستولي وبالتدريج على ما يراه مناسبا وممكن التنفيذ ومتمايزا عن برامج اليسار، وفي نفس الوقت لان يزيح من الحياة السياسية حملت هذه البرامج عبر الاعتقال والابعاد، أي بمعنى آخر انه كان يستجيب للمطلب ويضع الطالب في السجن، او يقصيه عن المعادلة السياسية للبلاد.
هذا التكتيك الذي اتبع حيال الكثير من القضايا المطلبية التي ارتفعت رايتها كان قد فقد ديالكتيكه وظل يتغذّى من عزم العطالة فقط، لقد قصّر ذلك من شوط الحركة كثيرا وبعزم العطالة ايضا بعد ان شلّح البعث معارضيه اليساريين ما أبقته ازمة انحباس الرأسمالية بأيديهم من أوراق.
على أثر انتقال السلطة السياسية من تحالف الملاك العقاريين والبرجوازية، وتخامد حدة الصراع الطبقي فقد اليسار حضوره الفاعل في ميدان الصراع على السلطة وبدأ يخلي الساحة وبالتدريج للخطاب الاسلامي القادر على تسمير الانقسامات العمودية في لعبة الصراع على السلطة ولعل المحنة التي واجهها هذا اليسار كانت حين وجد نفسه مربوطا من حيث يريد او لا يريد الى ذيل الخطاب الاسلامي وقت ان بدأ هذا الاخير معركته السياسية العسكرية مع حزب البعث الحاكم أواخر السبعينات.
في المرحلة التي أعقبت الاستقلال خفّت عملية توظيف الانقسامات العمودية في الصراع السياسي تحت ضغط عاملين
الاول: ارتفاع وتيرة الانقسامات الافقية بفعل تكلس التراتبية الاجتماعية الاقتصادية الموروثة عن المرحلة العثمانية .
والثاني: هو التأثير المتنوع للانتداب الفرنسي ( فمن تنامي المشاعر الوطنية في مواجهته، الى رعايته لسيرورة اجتماعية وسياسية أفضت وبالتدريج الى الانفكاك عن السيرورة الاستنقاعية لنمط الانتاج الخراجي ، والى المساهمة في نمو الجنين البرجوازي من ظهور الاحزاب السياسية، الى التطعيم المتزايد للفضاء الثقافي الاسلامي بعناصر العيش التفكير الحديثة.). الا ان انهيار الشرعية الدستورية لمصلحة الشرعية الثورية بعد حين أدى الى قطع طريق هذه السيرورة، وأوجد البيئة المناسبة لاستعادة النموذج الخلدوني لمفهوم السلطة – سلطة العصبية الغائبة- . كان لزجّ واستخدام مؤسسة العنف في الصراع السياسي الدور الاساس في ازاحة نموذج الدولة الليبرالية الموروثة عن المرحلة الكولونيالية بسلطاتها الثلاث، وصحافتها الحرة وأحزابها المتنافسة تحت سقف الدستور، وفتح الطريق أمام توالد ونمو العصبيات المناطقية والدينية والعشائرية لكي تتصارع فيما بينها ،علانية او مواربة، في لعبة الامساك بالسلطة. احتاجت سوريا لاقل من عقدين كي تصل الى لحظة أصبحت فيها الانقسامات العمودية من جديد دينمو الجدليات الاجتماعية والسياسية في حراكها، ولم يكن تصدر الاخوان المسلمين للمعارضة- العنفية والسياسية- لحزب البعث في مرحلة الثمانينيات الا تعبيرا صريحا عن مقطع هابط في سيرورة الانفكاك من الشروط القروسطية لممارسة السياسة.
بهذا المنظور يمكن لنا ان نرى عمق الازمة التي أفضى اليها الخيار المدعوم من قِبل اليسار قبل نصف قرن، حيث برجوازية دولة عاجزة عن حل أزمة اتساع قوى الانتاج بإمكاناتها الذاتية ، وقوتها ليست ناتجة عن موقعها في عملية الانتاج الاجتماعي، بل من درجة امساكها بمؤسسة العنف، وهذا الامر يدفع الى مزيد من التأثيرات السلبية على عملية توسع نمط الانتاج الرأسمالي، فهي لا تقبل أو تقتنع بما يسمى – اسلاما سياسيا-، وبالتفحص لسلسلة المراسيم الاشتراعية الصادرة في العقد الاخير، يتكشف لنا أن لا قرارا او نية لدى السلطة بالتوجه نحو التعددية السياسية الحقة، وهو القرار الذي تنتظره وتسعى اليه بورجوازية السوق كما تضعه شرطا مسبقا لقبولها " الاستثمار والتوظيف" وفق صيغة التعددية الاقتصادية المطروحة من قِبل السلطة. اذا فالازمة الراهنة للتطور الرأسمالي في سوريا، مفتاحها في السياسة كما كانت قبل نصف قرن، وفي اصدار برجوازية الدولة على موقفها الراهن ، ما يشبه اصرار كبار الملاكين العقاريين على عدم حل المسألة الزراعية – والتي كانت عنوان أزمة الرأسمالية انذاك لجهة النتائج التي تفضي اليها-.
"كل أزمة اجتماعية ستبحث عن حل بواسطة العنف ان لم تجد حلا لها في السياسة " كما يقول كلادزفيتز، وخيارات العنف " الانقلابات العسكرية ، والشرعية الثورية " قد خفتت قوتها ، في ظل التبدل الكبير الذي طرأ على فاعلية الاصطفافات الأفقية لمصلحة الاصطفافات العمودية ، وهو الشيء الذي ينذر بنتائج وخيمة.
قبل نصف قرن وفي ظل فاعلية أفضل للاصطفافات الافقية أسقطت الصيغة الليبرالية للدولة لمصحلحة الصيغة الشمولية ، وهو ما أدى الى جملة أزمات ونتائج نعيشها ، لكن الان فإن السماح للازمة الراهنة باعتماد خيار العنف في ظل النمو الواسع للاصطفافات العمودية قد يطيّر الدولة بقضها وقضيضها ، والمثال اللبناني شديد الفصاحة في التعبير عن مثل هذ الخيار في ظل مجتمع مقسوم عموديا .
هنالك حالة من النكوص الحاد عن سيرورة تعميق الاصطفافات الافقية تعيشها سوريا التي كانت قد خطت خطوات واسعة في هذا الاتجاه طيلة العهد الكولنيالي والعقدين اللاحقين له ، ومثل هذ سيجعل من أزمة انحباس الرأسمالية الراهن مركزا لتشغيل الجدليات ما قبل الرأسمالية (طائفة ،عشيرة، مناطق، .. وغيرها). ولعل ما نراه من تراجع ملحوظ في نفوذ الاحزاب السياسية لصالح التعبيرات الدينية والعشائرية داخل النسيج الاجتماعي السوري ما يعبر وبفصاحة عن المسار المأساوي الذي قد تضي اليه الازمة الراهنة.
أخيرا .. فإن وعي الازمة لا يعني حلّها ، بل هو المقدمة النظرية لذلك والحل يبقى برسم الجميع.
الراي