من كان يقرأ مسامير جاسم المطير قبل الحرب وخلال فترة الاعداد لها، كان يلمس يوميا الجحيم الذي كان يصبه على رؤوس الذين لم يحبوا أن تحتل بلادهم بحجة طاغية ارعن لأن العراق عنوان كبير وضخم وأكبر بما لا يقاس من وحش جبان عاف قصره وعائلته في النهاية وهرب.
لم يكن المطير يعرض ـ لا أقول يطرح لأن المرحوم الشاعر الحصيري غضب مني يوما لأن الطرح للحامل! ـ وجهة نظر ولا يناقش فكرة، بل كان حرفيا يرقص لرحيل الطائرات وقاذفات الموت وهي في الطريق الى الوطن مثله مثل أبناء جيله الجيل الثلاثيني الشيوعي الذين ولدوا في عام ولادة الطاغية أواخر الثلاينات وتلك مفارقة تحتاج الى مؤسسة دراسات كي تستخرج الدرر والرموز والتجارب التي انتهى اليها هؤلاء جميعا.
والمطير واحد من هؤلاء الذين حلموا بعراق سعيد ونظيف وجميل وراق وعادل ومدهش لنا ولأطفالنا. لكن مشكلته هي في الاسلوب وهي مثل مشكلة أقرانه الذين تفرقت بينهم السبل بين قتيل وهارب وشهيد وجاسوس وزمار يبحث عن دور في أسواق عكاظ الجديدة حيث لا أحد يشتري الماء اليوم في حارة السقايين، فهناك جموع من المثقفين الراجلين والراكبين والجالسين ليل نهار في انتظار الفرج السياسي ومنهم من ينتظر الفرج ـ بكسر الراء!
ليست المشكلة في حلم المطير، ولا في نوع الوسادة وهي لا شك من الحرير النظيف، ولا في طريقة النوم، وأنا لا اظنه ينام على طريقة الأبالسة، بل المشكلة هي اسلوب الحلم.
لا أحد يلوم المطير ولا احد يحق له أن يلوم غيره على حلم فردي، لكن حين يصبح هذا الحلم حفلة جلد، ومختبر دواجن للجماهير في كل حقبة، يصبح ارهابا وبيعا وشراءً ومزايدة، ولا أحب أن أقول خيانة وأنا شخصيا معجب بحياة وتجارب المطير وان كانت انتهت جميعا الى نهايات ماساوية من حلم الثوري المسلح، إلى حلم الروائي ، القاص، وإلى صاحب محل لبيع المسامير التي انتهت إلى مسامير في تابوت الوطن والمستقبل كما تقول مساميره الجديدة!
ومن يطلع على مسامير المطير الجديدة يعجب من القدرة، ليست قدرته وحده، بل قدرة جيله الشيوعي الثلاثيني، على سرعة تغيير الادوار والاستدارة مع أن دماء الناس لم تنشف من الشوارع وهي تسيل كل لحظة.
إن مسامره هذه الايام تدق خيبة وحزنا وأسفا إلى ما انتهت اليه الامور، ليس امور الوطن فحسب، والمطير يحب وطنه لاشك مثل أي صرصور أو خروف أو سنونوة أو نملة تعتز بثقبها، وأعطاه الكثير من الحب والذل والعرق، بل هو يرثي ما انتهت اليه أموره هو حين سافر باكرا الى الوطن من اجل دور وهذا حق وشرف ولكنه انتهى خائبا (مخروعا) وصدم بما رأى فلم يجد الدور ولا وجد الوطن!
وبدل أن يراجع نفسه وأدواته ويعتذر للجماهير أو حقول الدواجن التي مارس هو وجيله الشيوعي الثلاثيني كل الأدوار عليها، وذبحوها ودمروا قراها في برامجهم التي لا نهاية لها، وأشبعوها ذلا وعذابا، إلا أنه نسى ـ هو العارف جيدا أننا شعب بلا ذاكرة !ـ دوره في هذه الخاتمة الملهاة.
ومن حقه أن ينسى، بل هو حقه المقدس أن ينسى، أو يتناسى، لأنه من سلالة مارست كل أنواع الموت على هذا الوطن دون ان يجرؤ أحد أن يقول لها على عينك حاجب يا سلطان!
واذا كان المطير نموذجا، فهو ليس الوحيد الذي عاش تقلب الادوار والأحلام ومختبرات الفئران وأدخلوا الجماهير إلى حقول الدواجن وراحوا في كل حقبة يجربون عليها: فإن أخطأوا وتشرد الناس، وانتهكت اعراض، وخربت بيوت، تسللوا من النوافذ أو الأبواب الخلفية وظهروا في النهاية القصوى للأرض بصفة مناضلين ثورين على جماهير تحولت الى جثث!
ولو كان هؤلاء في أي بلد آخر، حتى ماليزيا، مثلا، أو المكسيك، ولا نقول في السويد، لسيقوا إلى محاكم عادلة كي يواجهوا ضحاياهم الذين دفعوا ثمن الارتجال والنزق والصبيانية والعمى العقلي والتخلف السياسي والأمية الفكرية.
ولو كانت هذه الأخطاء بلا دم ولا اهدار ثروة لقلنا عفا الله عما سلف، لكن جيل المطير في كل حقبة له برنامج ورؤية وتصور وفي النهاية يدفعون الناس إلى التهلكة ويفرون ويصيرون مناضلين في غرف الدخان والعتمة!
ومن بين الرموز أيضا السيد عزيز الحاج كي لا يبدو المطير وحده في القفص الذي يتسع لنا جميعا حسب الأدوار والمواقف والظروف، فهو توأمه ورفيق نضاله وصاحب معلقات مثله، ومثل المطير في كل حقبة له مشروع وقضية ومنهج وطريق حتى أننا لم نعد نعرف بأي رجل نرقص معه ولا مع غيره من المتقاعدين والعاطلين عن العمل والوعي والمتخصصين بإنتاج العطب إلى إشاعة الوعي المحارب!
وليس مفارقة ايضا أن يكون مسؤوله يوما في مشروع التغيير المسلح، وأن ينتهيا مع الاسف إلى نفس المصير في السجن ويخرجان منه حطاما وهشيما على أحلام عادلة نظيفة لا شك في ذلك.
لكن نظافة الحلم ليست مبررا لدفع الجموع تموت في الشوارع والمعتقلات ويخرج هؤلاء من المصيدة من خلال مقايضة الجلد بموقف آخر!
وقد يكون الفرار بالجلد حلا فرديا للمواطن العادي الذي لا تكلف قرارته الناس أثمانا باهظة، لكنه مأزق خطير لرجل الحزب وقائده ـ لا أقول جريمة! ـ وعضوه المركزي!
هؤلاء هم صنف من آخر أنماط المثقفين الدعاة. وكنا نعتقد أن هؤلاء انسحبوا الى الظل من التعب والارهاق والتزحلق على دماء الجماهير لكنهم يظهرون، في نهاية كل حفلة دفن وتاريخ، ومأتم نقيمه لهم، من صندوق الفرجة بين حرب ومجزرة للعلب أدوارا جديدة لا تليق بهم من ناحية العمر، ومن ناحية احترام الجموع التي غفرت لهم، حتى نست لفرد طيبتها( وشعوب غيرها كانت ستقطعهم في الشوارع!)، كيف انهم دفعوها مرات للتحالف مع الفاشية، ثم صاروا خدما لها، ثم انقلبوا عليها، ثم أعلنوا الكفاح المسلح، ثم ، وثم، و"آخ!" من هذه الثم صاروا من أبطال زمن التحرير، وثم وثم انتهى الحلم بولادة فأر!
ولكي يضفوا طابع الرصانة والجدية على مواقفهم، ودفعهم الجموع إلى حقول الدواجن في كل حقبة، أو تحويلها إلى حقول تجارب سياسية لمشاريع تجريبية،وبدل الاعتذار للضحايا( وهو أتفه شيء) أو الصمت في الأقل وحفظ ماء الوجه يلجأون إلى نفس التقنية التي ادمنوا عليها وهي: اعلان العصيان على النظام الجديد، ليس لأنه ليس وطنيا، أو فاشيا، بل لأنه لم يحجز لهم تذكرة ودور!
إنه صراع أدوار واشتباك كلام وليس صراعا عقائديا أو ثقافيا أو فكريا، على رأي استاذنا المفكر عبد الاله بلقزيز وهو يصف هؤلاء في كتابه القيم ( نهاية الداعية).
لم تعد لهؤلاء شرعية وجود كما كانت في الخمسينات وحتى نهاية السبعينات لا في الحزب السياسي ولا في الدولة التي تغولت وصارت غولا. ولو كان يمكن للجموع أن تغفر لهم الأخطاء الكارثية على أساس أنهم كانوا تحت رحمة سلطة وحشية في الداخل، فكيف يمكن أن تغفر لهم وهم خارج السلطة وخارج الوطن؟!
هؤلاء في تلك المراحل المنقرضة كانوا يؤسسون للحزب شرعيته السياسية في الوسط الجماهيري ويكذبون على الناس من اجل الكسب الحزبي وليس من اجل الحقيقة فهذه آخر ما يحترمون أو في الأوساط الفكرية الدولية، وكانوا يسوغون برامج الحزب واخطاء القيادة حتى لو انتهت الى حمام دم كما حصل في كل مراحل بؤسنا في القرن العشرين.
لكن الحزب الثوري والطبقي والتاريخي والاصولي والقومي والاخواني، على راي بلقزيز كذلك، لم يعد يستمد شرعيته من تسويغ وكتابات هذا المثقف المهزوم دورا وفكرا وجسدا، بل صار هذا الحزب في طبعته العلنية الجديدة( بعد تغير العملة!) يستمد هذه الشرعية من المقاول والتاجر وصاحب المصرف المتبرع، ومن الجنرال، ومن التحالفات داخلية وخارجية، ومن خيانات متواصلة تقام بعناوين جذابة مراوغة مثل ميزان القوى وعدم تكافؤ المعركة والظرف الحرج وتفويت الفرصة على الأعداء وهلم جرا والخ والى ما لانهاية !
بعض هؤلاء انتهوا خدما في صحف خليجية وصاروا وشاة لرؤساء تحرير كانوا يعدونهم أعداء طبقيين قبل ساعات من اليوم مثال: الشيوعي عبد المنعم الاعسم الذي انتهى الى وضع كل حياته في خدمة سعد البزاز الشخص المرشح لدور قادم مبطن هو تقسيم العراق وهو نوع من (الزرع) البعيد مع منحه مساحة للتحرك ونقد التحالف لأن هذا من طبيعة الدور والسيناريو والمشهد!
لم تعد في جعبة المثقف اليساري الحزبي والمهزوم أي شيء عدا الفراغ والصكوك وكيس التتن وبعضهم لجأ الى الأدب تعويضا عن فشل وبحثا عن دور جديد لكنه كما وسخ السياسة وسخ الأدب وبعض هؤلاء لا يحمل إلا البوم الصور القديم عن الشرطة والسجن يعود إليه، في حنين رمزي عاطفي، كما تعود العاهرة إلى أيام الحجاب والحج!
لماذا لا يكف هؤلاء عن هذه الأدوار المدمرة ويتركوا الجماهير تقرر مصيرها وهي أوعى واثقف منهم بلا أدنى شك حيث دفعوها عشرات المرات الى الفتنة بعد ان خلقوا( وعي الفتنة) من كثرة البرامج والعقائد وعمليات تبديل الجلد لكنها أثبتت قدرة على ضبط النفس حين تكتشف أن هؤلاء الربابنة هم فزاعات حقول وليسوا بحارة سفن في العواصف!
البحار الشريف والشجاع يطلق النار على نفسه لو سبب خطأ واحدا أدى إلى موت ضحايا، وهؤلاء في كل حقبة يسوقننا إلى مختبرات التجريب لدور جديد كما لو أننا فئران تجارب، وإلى مجزرة جديدة يخرجون منها في النهاية أبطالا ونخرج منها خونة أو قتلى!
ولكي لا يقال أن هذا راينا نلبسه على هؤلاء المساكين البؤساء لسبب ما أو آخر ، نذهب إلى مثقف ومفكر عربي قرأ أدوار ونهايات هؤلاء لأنهم ظاهرة عربية وليست حكرا على بلد وليست هي مشكلة شخصية كما يحب للبعض من هؤلاء أن يتوهم!
بعض هؤلاء، حسب مفكر كتاب( نهاية الداعية) صاروا خدما (للنفطيين) كما أسلفنا ونسوا اليسار ومشاكله ونسوا الطبقة وجرذانها، وانخرطوا في نوبة بكاء مرير على التاريخ وصاروا سلالة جديدة من التائبين عن أي شيء؟
عن الوطنية واليسار والثورة وتخلوا عن " أوهام!" العروبة والاشتراكية بعد أن تبين لهم ان الهوية اكذوبة واننا من فصيلة حشرات!
وان الصكوك والمناصب أو انتظارها وحده جعلنا نكتشف أننا كنا عربا بالصدفة أو بالخدعة!
ـ يا لهذا البؤس. عرب؟ من قال أننا عرب؟!
بل أن فصيلا منهم أدعى أنه من" النبوءيين" وان كل ما وقع كان واضحا عنده على حيطان البارات وكان يقرأ الممحو في حزب من المغفلين وهو الديك الوحيد والرائي والاستشرافي والطليعي واليقظ الوحيد في مملكة النائمين على بطونهم حتى شمس الضحى!
وبعض هؤلاء" أجّر لسانه" للسلطان أي سلطان جديد حتى لو كان سلطان احتلال أو سلطان اسطبل أو حقل دواجن أو سلطان الدولة المتغولة لأن هذه الدولة، كما هو الامر المأساوي مع حزبه التاريخي، هذه الدولة لم تعد تستمد "شرعيتها" كذلك من دجل المثقف كما هو الامر في السابق بل من القوة العسكرية، من شرعية العائلة، من الشرعية الدينية فلقد ظهر ان كل هؤلاء الرؤساء هم من سلالات مقدسة، او من شرعية دستورية مشوهة أو شرعية انتخابات شكلية أو في هذه الأيام شرعية العدو والخطر الخارجي!
من يفتح فمه بعد؟!
إنه إذن( إفلاس الدولة والثورة!) لذلك دخل خطاب هؤلاء( عصر ترتيل الندامة والتوبة عن كل شيء. كل شيء!) أما الذين رفضوا بيع أعراضهم الرمزية ـ شرف الكلمة ـ رأسمالهم الأخلاقي، فقد انتهوا هم ايضا إلى أنواع:
منهم أخذتهم المصحات العقلية، ومن لم يجن هناك حفلات الردح والوشاية والتخوين وثقافة الافتراس والكلبية، ومن لم يتب فله المنافي وعليه أن يختار حتى في المنفى منفى وعزلة إضافية ( وصار متهما في العيش في دول الثلج على رأي عمار البغدادي دامت بركاته!) ومن يسبح ضد التيار، مغردا وحده خارج السرب، مصدقا باحتمال واحد بالمليار أن هذا الوطن وهذه الثقافة وهذه المرجعيات وهذه النفوس تسمح بوجود ولو برئ واحد أو زهرة واحدة أو حلم نقي واحد فسيجد نفسه في تقاطع نيران وهو يصرخ مثل راهب رواية( الاخوة الاعداء) لنيكوس كازنتزاكي: المحبة، المحبة!
منذ بدايان القرن الماضي سافرنا مع السياسي العراقي العقائدي في تحولاته وحروبه الصغيرة والكبيرة وانتهى حلمنا الى خراب.
وحين كان يقول لنا اننا على وشك الوصول للاشتراكية كنا نجد انفسنا جالسين على الخازوق، سواء في السجون أو المنافي، واليوم عاش آخر أوهامه المخربة والفتاكة، ولعلها آخر تجاربه على هذا الشعب ، الفأر، حين استبدل الخازوق بالمسامير بعد أن انهار وهمه ـ لا أقول حلمه ـ في المحتل عدوه القديم الطبقي والتاريخي والجنسي والفكري والفلسفي والروحي والنفسي الخ. الخ.
إنه الوهم
ومواصلة الوهم.
ومواصلة الدم وإنتاج العطب.
لم لا؟ فهذا الشعب مسكين وذاهل ومطعون ولا يعرف من يحاسب وعلى أي شيء خاصة وان الرفيق الثوري عاد اليوم إلى الشوارع والمقاهي والبارات التي هرب منها في زمن الدكتاتور ليروي لجماهير جريحة بطولات الوهم والذباب والرياء.
وهذه المثابرة تصبح في عرف هذا السياسي اليائس والبائس والحزين والمثير للشفقة، بطولة ما بعدها بطولة على طاولات الكوكا كولا وعلب الروثمن!
نعم لقد سقط الدكتاتور
لكن لماذا يترنح أشباهه؟!