|
الأديان وتخدير أحاسيس الإنسان
كامل النجار
الحوار المتمدن-العدد: 2097 - 2007 / 11 / 12 - 13:15
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
منذ البداية عكف كهنة الأديان على تجسيم الآلهة ومعابدها حتى يخلقوا عند الإنسان رهبة روحية من الآلهة وتقديساً مبالغاً فيه للمعابد ثم الكهنة أنفسهم. وقد بدأ اليونانيون القدماء ذلك بنحت تماثيل ضخمة لألهتهم العديدين ثم بنوا لهم معبداً ضخماً مبالغاً في تصميمه وحجمه، على قمة جبل الأولمب بأثينا، وسموا ذلك المعبد "الأكروبولس". وأشاعوا بين العامة أن الآلهة ينزلون من عليائهم إلى مبني الأكروبولس ليتفقدوا أحوال الرعية، ويمكن للرعية الاتصال بهم إذا ما ذهبوا إلى المعبد. وما زالت أعمدة الأكربولس الضخمة موجودة على قمة الأولمب. وتبعهم الرومان في تجسيم الآلهة والمبالغة في بناء معابدهم. ولما جاءت الأديان التوحيدية زعم كهنتها أن إله السماء أنزل الأديان لهداية البشر وتفعيل القوانين الأخلاقية التي تحكم حياتهم. ولما لم يعد من المقبول لهم أن يجسموا ذلك الإله بالنحت، ركزوا على تعاليم الأديان وعلى المبالغة في بناء المعابد، مثل معبد سليمان بالقدس وكنيسة القيامة بنفس المكان. وجعلوا تلك التعاليم الأخلاقية التي اخترعها فلاسفة اليونان قبل الميلاد، وحمورابي في العراق وحكماء الصين في الشرق، جعلوها نقطة الارتكاز التي تدور حولها أخلاق ومُثل الإنسان، وزعموا أن إله السماء أرسل تلك المُثل مع أنبيائه. وعندما اعتنقت الإمبراطورية الرومانية المسيحية، وما زالت مؤمنة بالتجسيم الوثني، عوّض الإمبراطور جستنيان عن تجسيم الإله بتجسيم كنيسته التي بناها في الشام على أنقاض معبد الإله زيوس في نفس المكان، والتي شُيدت في العام 537 ميلادية وعُرفت بكنيسة أيا صوفيا. وقد بلغت تكاليفها 320 رطلاً من الذهب ( ما يعادل 134 مليون دولار أمريكي)، وقد استنفذت خزينة الإمبراطورية البيزنطية كاملة. وقد كانت خير تمثيل للفن التشكيلي البيزنطي الذي تميز بوفرة الألوان ودقة الرموز وغزارة الزينة وقدرة على تهديئة الذهن وتنبيه الروح حتى قيل إن أيا صوفيا كانت بداية الفن البيزنطي وخاتمته في آن واحد (ول ديورانت، قصة الحضارة، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، القاهرة، ج12، ص 264. نقلاً عن النابلسي في لو لم يظهر الإسلام، ص 156). كل هذا الفن والألوان والتجسيم كان الغرض منها إنزال الرهبة في قلوب المتعبدين حتى لا يشتغلوا بالتفكير فيما يقوله الكهنة. وجاء الإسلام بسيطاً في بدايته نسبةً لطبيعة الحياة الصحراوية القاحلة التي نشأ فيها رسول الإسلام، فبني أول مسجد له بالمدينة من الطين وسعف النخيل، وشارك هو بنفسه في عملية البناء. ولأن الرعيل الأول من المسلمين الذين عاصروا الرسول قد تخدرت أحاسيسهم بالاحتكاك مع متسلم الوحي الإلهي، لم يكن هناك أي خوف من إنشغالهم بالتفكير في معقولية ما كشفه لهم الرسول من وحي. ومع بدء الفتوحات وتدفق الأموال واطلاع البدو على الحضارات المجاورة، بدأ بعض الشك يتسلل إلى عقول الناس، فحاربه عثما بتوسيع مسجد الرسول وتفخيمه (تاريخ الطبري، ج2، ص 606)وذلك لتركيز العقول على عظمة المسجد وعظمة خالقه. ثم أمر الخليفة الوليد بن عبد الملك فى عام 88 هجرية بهدم مسجد المدينة لتوسيعه وجعله تحفة معمارية فى عصره. إستلزم التوسيع هدم بيوت ازواج النبي القريبة من المسجد القديم وادخالها فى بناء المسجد الجديد (المنتظم في التاريخ، للمبرد، ج6، ص 137). وحدث هذا رغم أن المدينة أصبحت في عهد الخلافة الأموية بؤرة للمجون والغناء والترف. وكلما بعُد العهد بالمسلمين عن الإسلام كلما زادوا في بناء وتفخيم المسجد النبوي. وحدث نفس الشيئ بالنسبة للكعبة التي كانت عبارة عن بناء من الطوب اللبن والحجارة حتى أصبحت الآن تحفة معمارية تضاء بالأنوار الباهرة ويكسوها الحرير والدمسق وتباهي أعظم عجائب الدنيا السبعة. وبعد أن كانت المساجد بناءً عادياً بدون مئذنة، بدأ معاوية بن أبي سفيان بناء المآذن بمسجد الكوفة، ثم أصبحت المآذن الآن تضاهي في علوها ناطحات السحاب، وأصبح لكل مسجد ثلاث أو أربع مآذن. أما في الأندلس، فبعد أن هدموا الكنائس وأقاموا مكانها مساجدهم، بنوا مسجد قرطبة الذي (يرجع تأسيسه إلى سنة (92هـ) عندما اتخذ بنو أمية قرطبة حاضرة لملكهم، حيث شاطر المسلمون نصارى قرطبة كنيستهم العظمى، فبنوا في شطرهم مسجداً وبقي الشطر الآخر للروم، وحينما ازدحمت المدينة بالمسلمين وجيوشهم اشترى عبد الرحمن بن معاوية شطر الكنيسة العائد للروم مقابل أن يُعيد بناء ما تـمّ هدمه من كنائسهم وقت الفتح، وأمر عبد الرحمن الداخل سنة (170هـ) بإعادة بناء الجامع على أساس وشكل جديدين بلغت مساحته آنذاك (4875متراً مربعاً) وكان المسجد قديماً يُسمى بـ (جامع الحضرة) أي جامع الخليفة أمّا اليوم فيُسمى بـ (مسجد الكاتدرائية) بعد أن حوله الأسبان كاتدرائية مسيحية) (http://arabic.bayynat.lb/maalem/masjed-kortoba.htm). وفي الهند المغولية المسلمة بالغوا كذلك في بناء المساجد وكان قمة معمارهم "تاج محل" ذلك القبر الذي بنوه في شكل مسجد بمآذن وقباب، غير أن محرابه لا يتجه نحو القبلة، ولذلك بنوا على يسارة مسجداً للصلاة. غير أن الداخل إلى المسجد لابد أن تطغي عليه هالة من القداسة عند رؤية التاج محل وقبل أن يدخل المسجد للصلاة. والنتيجة الحتمية هي دخول الهلع الديني إلى نفسية المسلم. وقد عرف حكامنا في العصر الحديث أهمية تفخيم المساجد وزخرفتها في تخدير أحاسيس شعوبهم الجاهلة. ففي الجزائر التي تزداد فيها مستويات الفقر عاماً بعد عام وتنتشر فيها الدعارة حتى بين الأطفال لكي يكسبوا ما يسد رمقهم، قررت الحكومة الجزائرية بناء "مسجد الجزائر الأعظم" الذي سوف يُقام على أرض مساحتها عشرون هكتار، وسوف تكون مئذنته أطول مئذنة بالعالم ويبلغ طولها 300 متراً، وسوف يستوعب 120 ألف شخص. وقد اشتركت في مسابقة تصميمة سبع عشرة شركة معمار عالمية. "وقد زار بوتفليقة معرضا للتصاميم التي أعدتها المكاتب الـ17 واطلع عليها رفقة أعضاء من الحكومة" (الشرق الأوسط 9 أكتوبر 2007). وربما تذكرت حكومة الجزائر قول جارهم القديم فرعون مصر عندما قال لهامان "يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب" (غافر 36). وقد قصد أسباب السماء، حتى يرى إله موسى. ويبدو أن حكومة الجزائر تتوقع أن يحدث العكس وأن ينزل إله السماء ليسكن في ذلك القصر المنيف الذي ينازع قصور المقبور صدام في الزخرفة والتنميق. وبمناسبة ذكر المقبور صدام الذي أزهق من الأرواح البريئة أكثر مما أزهق كل الحكام العرب مجتمعين، كان قد أصدر في آخر عشرة أعوام من حكمه البغيض عدة أوامر تصب في مصلحة بناء المساجد رغم أن أطفال العراق كانوا يموتون بالآلاف من سوء التغذية. فقد أصدر قراراً بإسقاط الضريبة عن أي تاجر يبني مسجداً، كما أمر ببناء مسجد في كل محافظة في كل عام مرة كهدية منه لكل محافظة في عيد ميلاده، كما قام بإلزام أعضاء حزب البعث ببرنامج عملي، حيث أمرهم بأداء الفروض الخمس جماعة في المسجد. وقد كان في مدينة البصرة منتزهاً يُسمى "منتزه لبنان" ، تم تحويله إلى مسجد يصلي فيه الناس الجُمع والجماعات ، وقد سمي مسجد صدام الكبير ، وهو الآن أكبر مساجد البصرة فعلاً (http://www.raeds.com/falsafat/?p=140) وفي اليمن الذي (أكدت العديد من التقارير المتخصصة لعدد من المنظمات العاملة في مجال الحقوق والحريات الدولية من خلال رصدها للحريات والأوضاع العامة للعام الماضي 2005م أن اليمن من الدول الفاشلة التي يغيب فيها تطبيق القانون ويسيطر عليها الفقر والجهل والمرض "وهي الثالوث الرهيب الذي قامت ثورة سبتمبر 62م لمكافحتها والقضاء عليها في اليمن", مشيرة إلى أنه تم تصنيفها في عداد الدول المعرضة للانهيار. وكانت مؤسسة دعم السلام وضعت اليمن ضمن أسوأ 10 دول من بين 60 دولة في مؤشر الدول الفاشلة) (محمد الخامري، إيلاف 7 يناير 2006) قرر رئيسها الهمام بناء أعظم مسجد في المنطقة، يُسمى "مسجد الرئيس علي عبد الله صالح" يتكلف إنشاؤه ملايين الدولارات. ويمكن مشاهدة الصور المجسمة لهذا المسجد على الموقع التالي: (http://www.ecstudents.com/forum/viewtopic.php?f=6&t=4659). وفي تركمنستان، قرر رئيسها لمدى الحياة صفرمراد نيازوف، (قذافي آخر) الذي سبق ان طبع صورته على معظم جوانب الحياة في بلاده، نقش عبارات من كتابه «روحنامه» الى جانب الآيات القرآنية على جامع جديد يجري بناؤه في العاصمة، الامر الذي من شأنه ان يغيظ أكثر مسلمي بلاده. وقال نيازوف «اذا كتبنا على هذه الجدران باللغة العربية فقط لن يفهم كثيرون ما نكتبه». وسبق لنيازوف، ان جازف باثارة غضب شعبه عندما أمر بوضع نسخة من كتابه «روحنامه» الى جانب نسخة من القرآن الكريم في جميع المساجد التابعة للدولة. يذكر ان كتاب «روحنامه» هو، كما يراه الرئيس نيازوف، دليل روحي للشعب التركمانستاني ويشكل جزءا اساسيا من مناهج التعليم ((الشرق الأوسط 4 يونيو (حزيران) 2004)). وإذا تركنا شرقنا الأوسط واتجهنا إلى أوربا وتوقفنا في روما التي وعد الرسول بها خير أمةٍ أخرجت للناس، نجد مجمع مركز روما الاسلامي (المعروف باسم جامع روما الكبير) على هضبة قريبة من نهر التيبر في شمال شرقي العاصمة الايطالية. وتبلغ مساحته قرابة 30 ألف متر مربع على أرض تبرعت بها الحكومة الايطالية خلال زيارة الملك فيصل بن سعود لإيطاليا عام 1973. واستغرق بناء المجمع في أحد أحياء روما الراقية أكثر من عشرين عاما، ثم افتتحه عام 1995 الامير سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض، ممثلاً الحكومة السعودية التي ساهمت بأكثر من ثلاثة أرباع الكلفة التي فاقت 50 مليون دولار، وحضر الافتتاح رئيس الجمهورية الايطالية آنذاك اوسكار لويجي سكالفارو (الشرق الأوسط 6 نوفمبر 2007). وفي بلجيكا التي لا يزيد حجمها عن حجم مديرية واحدة في أحد الأقطار العربية، بها حوالي 300 مسجد (الشرق الأوسط 22 يونيو 2007). أما في لندن التي تحتوي على أكبر عدد من المساجد في أي مدينة غربية، إذ يبلغ عدد مساجدها 1500 حتى الآن، هناك مسجد في White Chapel في لندن يتسع لعشرة آلاف شخص. ومع ذلك تحاول جماعة التبليغ بناء أكبر مسجد بالعالم في موقع الأولمبياد في لندن. وسوف يتسع هذا المسجد لسبعين ألف شخص وتبلغ تكلفة بنائه مائة مليون جنيه سترليني. هل يمكن أن يجتمع سبعون ألف شخصٍ للصلاة في وقت واحد وفي مدينة بها ألف وخمسمائة مسجد؟ أم أنها مسألة تصنيم المساجد وعبادتها بدل عبادة إله السماء؟ أما في العالم العربي فليس هناك من شك في أن الحكام يخادعون شعوبهم ويخدرون أحاسيسهم بهول المساجد الضخمة حتى يصرفوا أنظارهم عما هم فيه من فقر وجهل. وهذا بل شك يُثبت أن الأديان قد أضرت بالبشر ضرراً بالغاً إذ ساعدت على تكريس الجهل واستغلال الحكام لشعوبهم.
#كامل_النجار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مشيخة الأزهر والموروث الكهنوتي
-
فهمي هويدى ودروس في الكراهية
-
هل كان محمد مرسلاً لجميع البشر؟
-
الجنة وما أدراك ما الجنة
-
من لا يشك ليس إنساناً
-
المال هو قلب الإسلام الحقيقي
-
ماهو الوحي، ولمن يوحي الإله؟
-
رمضان والتخبط في التشريع
-
حوار الأديان وحوار الطرشان
-
حرب الفتاوى تكشف زئبقية الإسلام
-
التعذيب في الإسلام
-
نزهة مع الصحابة
-
لولا كلمةٌ سبقت
-
الإسلام أكبر نكبة أصابت العرب
-
رجال الدين يفسدون الدولة
-
ما أبشعه من إله يذبح الأطفال
-
أطباء خانوا مهنتهم
-
البغض في الله
-
عندما نقتال العقل من أجل النقل
-
بلطجية الأزهر ورضاع الكبير
المزيد.....
-
عمال أجانب من مختلف دول العالم شاركوا في إعادة بناء كاتدرائي
...
-
مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية شرطة الاحتلال الإسرائي
...
-
أجراس كاتدرائية نوتردام بباريس ستقرع من جديد بحضور نحو 60 زع
...
-
الأوقاف الفلسطينية: الاحتلال الإسرائيلي اقتحم المسجد الأقصى
...
-
الاحتلال اقتحم الأقصى 20 مرة ومنع رفع الأذان في -الإبراهيمي-
...
-
استطلاع رأي إسرائيلي: 32% من الشباب اليهود في الخارج متعاطفو
...
-
في أولى رحلاته الدولية.. ترامب في باريس السبت للمشاركة في حف
...
-
ترامب يعلن حضوره حفل افتتاح كاتدرائية نوتردام -الرائعة والتا
...
-
فرح اولادك مع طيور الجنة.. استقبل تردد قناة طيور الجنة بيبي
...
-
استطلاع: ثلث شباب اليهود بالخارج يتعاطفون مع حماس
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|